المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌في «آخن» عاصمة شارلمان - ذكريات - علي الطنطاوي - جـ ٧

[علي الطنطاوي]

فهرس الكتاب

- ‌الجزء السابع

- ‌افتتاح أسبوع التسلّح في دمشق

- ‌من أخبار العلم والعلماء في دمشققبل نصف قرن

- ‌فتنة التجانية في الشام

- ‌في الكلية الشرعية في دمشق

- ‌حلقة خاصّة في تصنيف العلوم

- ‌في الفقه الإسلامي والأحوال الشخصية

- ‌كيف وُضع مشروعقانون الأحوال الشخصية

- ‌مصر قبل أربعين سنة

- ‌في إدارة التشريع في وزارة العدل

- ‌ترشيحي في انتخابات الشام سنة 1947

- ‌عودة إلى الحديث عن مصر

- ‌حلقة مفردة: وحي صورة

- ‌وقفة استراحة

- ‌بقايا من ذكريات رمضان

- ‌في «آخِنْ» عاصمة شارلمان

- ‌رحلتي من فرانكفورت إلى آخن

- ‌الدعوة الإسلامية في ألمانيا

- ‌في مسجد آخن مع القساوسة والهيبيين

- ‌السفر إلى المؤتمر

- ‌إلى الوزير الشاعر عبد الله بلخير

- ‌صلاة الجمعة في مسجد بروكسل

- ‌أيام لا تُنسى في بروكسل

- ‌في منطقة الآردن

- ‌خواطر في الحياة والموت،في طرق هولندا

- ‌طريق الحج

- ‌الخط الحديدي الحجازي

- ‌في صحبة الحيوان

- ‌كتاب جديدأثار في نفسي ذكريات قديمة

- ‌إلى الأستاذ أحمد أبو الفتح

- ‌عودة إلى ذكريات القضاء

- ‌في محكمة النقض في دمشق

الفصل: ‌في «آخن» عاصمة شارلمان

-198 -

‌في «آخِنْ» عاصمة شارلمان

الآن بعد أن بلغَت الحلقات المنشورة من هذه الذكريات مئة وسبعاً وتسعين أدركت أني لن أفلح في تدوينها، وأني كمن يرسله أهله في حاجة لهم يتعجلون قضاءها، قد حدّدوا له غايته ورسموا له طريقه، فمشى متمهلاً، كلما أبصر جمعاً من الناس وقف عليهم أو سمع متكلمين أصغى إليهم، وبدلاً من أن يمضي في طريقه قُدُماً جعل يسلك ذات اليمين مرة وذات الشمال.

فأنا كلما حزمت أمري واستقمت في سيري جاءني صارف يصرفني. ورد عليّ اليوم من آخن في ألمانيا مطبوعتان: إحداهما نكأت عليّ جرحاً حسبت أنه اندمل، ذكّرتني بأكبر صَدْع أصاب قلبي، ثم لم أستطع أن أسخّر لوصفه قلمي وأنفّس بما أكتب عن نفسي. لقد خانني هذا القلم الذي صحبته ستّين سنة فكان دائماً أسرع مني إلى ما أريد، وكان يشفي الفؤاد ويصيب الغرض، فما له اليوم وقف فما يسير؟ هل أدركه الكبر كما أدرك صاحبَه؟

نعم، ومَنْذا الذي لا يصيبه الهرم؟ النسر الذي لا يرتضي لعشّه إلاّ الصخور العوالي في شُمّ الذرى ويضرب بجناحيه في

ص: 197

جِواء الفضاء وينحطّ على فريسته انحطاط حتم القضاء، يأتي عليه يوم يأوي فيه إلى السفوح ويهون أمام بغاث الطير. والأسد سيد الغاب، يدركه الهرم فيجرؤ عليه صغار السباع. والسنديانة الضخمة يجفّ عودها فتصير حطباً، إن لم تحطمه الرياح نالت منه فأس الفلاح.

ولا يدوم على عظمته وجلاله إلاّ الحيّ القيوم.

لقد استحييت من كثرة ما بدأت حديثاً ثم قطعته ووعدت أن أعود إليه فشُغلت بغيره، وصرت أكتب وأحدّث في الرائي والإذاعة ببقايا النشاط الذي كان لي يوماً، وإني لأقدّم ما أقدّمه هنا في الجريدة وفي الرائي على استحياء.

وأنا أعلم أن أدباء كباراً يتفضلون عليّ بالكثير من الثناء الذي لا أستحقّه، ينظرون إليّ بعين الرضا التي تكلّ أو تُغضي عن إدراك العيوب. بالأمس كتب عن حديثي «على مائدة الإفطار» الأستاذ تركي السديري في جريدة «الرياض» كلمة أخجلَتني وجعلتني أندم على أني لم أجوّد أحاديث رمضان هذا العام لأستحقّ منه بعض هذا الثناء، ومن قبله كتب متفضلاً الأستاذ عبد الله بلخير الصديق القديم، ومن قبلهما الأستاذان الكبيران أحمد أبو الفتح والأستاذ أكرم زعيتر. وهؤلاء كلهم أعلام يعتزّ من ينال منهم بعض ما نلت، لولا أنني أعرفهم كراماً يُعطون الكثير وأعرف أني لا أستحقّ الأقلّ من هذا الكثير.

لقد أدركت أني لن أفلح في السير في تدوين هذه الذكريات كما يسير الناس، لأني لا ألتزم فيها أسلوباً من الأساليب التي

ص: 198

اتبعها الأدباء، وأني بنيتها على الفوضى لا على الترتيب، وأني على مذهب من قال (وأظنّ ظناً لا يقيناً أنه حافظ إبراهيم):

ولذيذُ الحياةِ ما كانَ فَوضى

ليسَ فيهِ مُسَيْطِرٌ أو نِظامُ

وخير لي لو اتبعت ما قاله الشاعر القديم جداً، الأَفْوَه الأَوْدي:

لا يَصلُحُ الناسُ فوضى لَا سُراةَ لَهُمْ

ولا سُراةَ إذا جُهّالُهم سادوا

* * *

ولكن لماذا لم أكمل ما بدأتُ به من القول وجئت أستأنف قولاً جديداً؟

لماذا أدع مصر سنة 1947 وقد بدأت حديثي عنها لمّا كنت فيها، لأكتب عن رحلتي إلى ألمانيا سنة 1970؟ ولماذا لم أكتب عن هذه الرحلة لمّا كنت فيها أو يوم كانت حوادثها ماثلة في ذهني بارزة بين ذكرياتي، وأتيت أكتب عنها الآن؟ لماذا تركت حصاد قمحي يوم الحصاد، وأبقيته في سنابله ستّة عشر عاماً حتى أكلَت منه الطير وامتدّت إليه أيدي اللصوص، فلما لم يبقَ منه إلاّ الأقل شرعت أجمعه؟ لماذا، لماذا؟ وكل واحدة من هذه «اللماذات» يأخذ جوابه صفحات.

أكتب عن رحلة ألمانيا لسببين: سبب عاطفي حرّك كوامن قلبي، وسبب عقليّ نبّهني إلى واجب يوجبه عليّ ديني. ذلك أنه ورد عليّ مطبوعتان، في إحداهما كلمات وجدوها في أوراق

ص: 199

بنتي التي قتلها المجرمون في بيتها في آخن غدراً وغيلة، وفي الأخرى مختارات لها طبعوها طبعاً أنيقاً. والمطبوعة الثانية فيها بعض ما يصنع المركز الإسلامي في ألمانيا، في المدينة التي يسمّيها الألمان «آخِنْ» ويدعوها الفرنسيون «إكْس لاشابيل» ، والتي كانت يوماً عاصمة شارلمان لمّا كان يحكم غربي أوربا، وفيها قصره وفيها آثاره.

انتزعتني هذه المطبوعات مما كنت فيه وحملتني حملاً إلى سنة 1970، لمّا ذهبتُ إلى تلك البلدة وجلت في البلاد من حولها: في مدن ألمانيا وبلجيكا وهولندا، يأخذونني إلى مجتمعات الشباب فأحدّثهم على قلّة علمي، وأحاضرهم وأجيب على أسئلتهم بمقدار ما يفتح الله عليّ من الجواب.

وهذا المركز يعمل على نشر الإسلام عملاً عظيماً، إن لم يهتمّ به الناس فأرجو الله أن يجزيهم عليه الثواب. عندهم ندوة شهرية في يومَي السبت والأحد من آخر كل شهر يحضرها نحو ألف من الرجال والنساء والطلاّب والعمال، يأتون إليها من أطراف البلاد، ومنهم من يقطع حتى يحضرها ثلاثمئة أو أربعمئة كيل (كيلومتر). وعندهم درس يوميّ للقرآن بعد صلاة الظهر، ودرس أسبوعيّ للفقه، وجلسة ثقافية يوم الجمعة يحضرها الرجال والنساء منفصلين كما يوجب الشرع. ثم إنهم يهتمّون بالأطفال فيدرّسونهم اللغة العربية لئلاّ ينسوها إذ يقيمون في بلد لا يسمعون فيه من يتكلم بها، والقرآن الكريم والثقافة الإسلامية، وعندهم اليوم 185 طفلاً تركياً و35 طفلاً يوغسلافياً.

ص: 200

ثم إن لهذا المركز نشاطات اجتماعية، فهم يُعِدّون في رمضان مائدة إفطار مشتركة ثم يشتركون بعدها في إقامة الصلاة: العشاءَين والتراويح. ولقد أدركت رمضان مرة عندهم فوجدت جواً روحانياً لا أكاد أجد مثله اليوم في بلد من بلاد المسلمين (إلاّ المملكة فرمضان فيها ما له نظير) وكل من يحضره من الشبّان ومن الشابّات، والشاب الذي ينشأ في طاعة الله أحدُ الذين يظلّهم الله بظلّ عرشه يوم لا ظلّ إلاّ ظلّه. ثم إن هذا المركز يعقد عقود الزواج، ويقيم حفلات التخرّج لشباب المسلمين، ويشارك في كثير من الجمعيات الإسلامية، وله كما علمت لقاءات منظَّمة في أوربا. وفي أوربا اليوم من المسلمين ما يزيد على ستة عشر مليوناً، إن لم يتدارك المسلمون فيها أولادَهم خسروهم وأضاعوهم، لذلك عزم المركز على توسعة بنائه توسعة تزيد أضعافاً على ما هو عليه الآن، وأن تكون فيه مدرسة للبنين ومدرسة للبنات، وأسأل الله أن يُلهِم القادرين مساعدتهم على ذلك.

وأنا قد زرت أكثر البلاد الإسلامية، فما وجدت أزمة بخل ولكن وجدت أزمة ثقة. لقد كثر المدّعون الذين يجمعون الأموال لمشروعات إسلامية وهمية حتى ضاعت ثقة المسلمين بهم وبغيرهم. والقائمون على هذا المركز أعرفهم، ولا أشهد إن شاء الله زوراً إن قلت إنهم أمناء يضعون الأموال في مواضعها، ولست أقول هذا دعاية لأشخاص بأعيانهم فليس الذي يهمّني العاملون وإنما يهمّني العمل، وهذا العمل إن شاء الله عمل إسلاميّ ضروري ونافع.

* * *

ص: 201

فتح عليّ هذا بابَ الكلام عن رحلتي التي رحلتها إلى ألمانيا، وقد دعاني يومئذ اتحاد الطلاّب المسلمين فيها إلى حضور مؤتمر في إحدى المدن الألمانية (في كيسن).

وكنت أخشى السفر إلى أوروبا وأنكر على من يذهب إليها من غير ضرورة تُلزِمه زيارتها، وأتصوّر -لكثرة ما أسمع عن فسادها وفُشوّ المنكَرات فيها- أن الفواحش تُرتكب علناً على حاشية الطرق. فلما بلغتها ودخلت بضع عشرة مدينة من مدن أوربا الغربية لم أرَ فيها كلها مثل الذي كنت أراه في بيروت! على أني لم أعرف منها ولا من بيروت ولم أرَ إلاّ ما يراه الماشي في الطريق، ثم إني لم أنفرد بنفسي في أوربا أبداً، فقد كنت في السفر مع أهلي وفي التجوال مع نفر من الشباب المسلمين يسيرون دائماً معي لا يفارقونني، لذلك لا أستطيع أن أحكم على الخفايا التي لم أطّلع عليها، وأحمد الله على أني لم أطّلع عليها.

كنت في عمّان فقطعوا لي تذكرة في شركة الطيران الألمانية (لوفتهانزا)، فركبنا من عمّان، وأنا أجد بحمد الله في كل سفرة -على قلّة سفراتي- مَن يجنّبني مشقّة الزحام في الوصول إلى الطيارة، فيُدخِلني المطار مدخلاً خاصاً ويخرج بي إلى ساحته مخرجا خاصاً ويُركِبني سيارة توصلني إلى سلّم الطيارة.

وكان علينا أن ننام ليلة في بيروت لأن هذه الشركة لا تصل طياراتها إلى عمان. وكنت أعرف من فنادق بيروت فندق الأهرام للحاجّ أحمد المغربي، وقد سبق الكلام عنه، وعلى سطحه غرفٌ نحسّ فيها كأننا في منازلنا، والمجلس مع الحاج ومع من

ص: 202

يكون عنده من خيار المسلمين مجلس إسلامي، والطعام طعام شاميّ، والحاج أحمد أحسن من كان يطبخه في بيروت ويقدّمه في قهوة الحاجّ داود، والشاي الأخضر بالعنبر بعده، والصلاة جماعة وبعد الصلاة مجلس فيه فائدة أو موعظة فيها نفع. ونزلتُ مرة في غيره لأني وجدت السطح مشغولاً، وكان الفندق الذي نزلت فيه معدوداً من فنادق الدرجة الأولى، فما كان مني إلاّ أن ذهبت إلى ساكن السطح الذي ألِفتُ المبيت فيه فأعطيته غرفتي في الفندق الكبير، وأخذت هذا السطح بغرفه القديمة وأبوابه التي لها صرير.

وكنت أنزل تارة فندقاً يطلّ على ساحة البرج على يمين المتوجّه إلى البحر، يوم كان البرج قلب مدينة بيروت وكان فيه ملتقى خطوط الترام ومواقف السيارات وكان مجتمع الناس، وكان معي في تلك السفرة زميلي في المحكمة القاضي الشيخ مرشد عابدين، فقلت لصاحب الفندق: إن الغرفة التي تعوّدت النزول فيها مطلّة على الساحة وفيها ضجيج لا يدعني أنام، فأعطِنا غرفة في الجهة الأخرى. فأظهر الدهشة والعجب وقال: كيف تنزل في تلك الغرفة؟ فما فهمت سرّ سؤاله وحسبت أنه لا يرتضيها لي لأنها من غرف الدرجة الثانية، فأصررت عليها لأنني فضّلت هدوءها الذي قدّرته على فخامة الغرفة الأولى مع ضجيج الساحة. فلما خضع لرأيي ونزلنا الغرفة عرفت سرّ امتناعه؛ ذلك لأن نوافذها تطلّ على عمارات «المحل العمومي» الذي لم نكن نعرفه. وأنّى لي وأنا شيخ وقاضٍ شرعيّ وأنّى لزميلي وهو مثلي أن نعرف هذا المكان؟

ص: 203

فلما أطللنا من النافذة ورأينا ما في تلك العمارات عرفت سرّ محاولته صرفي عن المبيت فيها. ذلك أن وراء صف العمارات القائمة على أكبر ساحة في المدينة حيّ كامل هو حيّ البغاء، فيه كما علمت المومسات وعلى أبوابهن لوحات بأسمائهن والأضواء ساطعة فيه والمنكَرات معلَنة. شيء ما كنت أظنّ أن مثله يكون في بلد من بلاد العرب وبلاد المسلمين (1).

ولم أكن أعرف من الفنادق الكبرى الممتازة (كما يدعونها) إلاّ فندق سان جورج، أراه من ظاهره ضخماً متربعاً على الشط لم أدخل جوفه، فلما خبّرونا أن الشركة ستُنزِلنا أنا وزوجتي على حسابها في فندق ممتاز لأننا من ركّاب الدرجة الأولى في الطيارة حسبت أنهم سيُنزِلوننا فيه، وإذا هم ينزلوننا في أخ له لعلّه أضخم منه فرشاً من الداخل، ولكن ليست له هيئته ولا هيبته من الخارج، وقد قال العارفون إنه إن لم يَفُقْه لم ينزل في درجته عنه.

ولم أستطع أن أنام إلاّ سويعات متقطعات، لأن من عادتي أن يطير النوم من عيني إذا كان عندي موعد صغير أفكّر فيه أخاف أن يفوتني، فكيف وأنا مُقدِم على أصعب رحلة في حياتي؟ ولقد رحلت من قبل إلى أقصى الشرق وسلكت الصحراء، ولكني كنت

(1) ومن عجيب ما رأينا لمّا أطللنا من النافذة قبل أن ندع الغرفة، واحدة من نساء المحل (أي من المومسات) بالحجاب الشرعي والخمار الأبيض والسبحة في يدها، لأننا كنا في آخر شهر رمضان. فهي تتوب فيه وتدع ما كانت فيه! فلا ييأس الدعاة إلى الله، فما دام في القلب بقية من إيمان فالإصلاح ممكن.

ص: 204

مَقُوداً لا قائداً، وكان معي من يرتّب لي أمري ومن يُزيح لي علّتي (كما كان يقول الأولون) ويُعنى بي ويهيّئ لي كل ما أحتاج إليه، وأنا اليوم مسؤول عن نفسي وعن زوجتي، أمشي إلى بلد لا أعرفه وليس في فمي لسان أخاطب به أهله. والفرنسية التي كنت أتقن نحوها وصرفها والتي أخذتُ بحظّ من أدبها واطّلاع على أخبار أدبائها (ولا أزال أستطيع أن أقرأ بعض ما كتبوا) تركت درسها من سنة 1929، ثم إني من الأصل أقرؤها ولا أنطق بها، ذلك أن الفرنسيين الذين كانوا يعلّموننا لسانهم كما يعلّمونه أبناءهم في باريس، المناهج هي المناهج والكتب هي الكتب، هؤلاء الفرنسيون دفعونا بحماقتهم عن النطق بلسانهم. ثم إن الذي يحبّ أن ينطق بلغة عليه أن يفكّر بها، لا أن يفكّر بالعربية مثلاً ثم يترجم فكره إليها.

أضرب لذلك مثلاً: أردت في بروكسل أن أركب سيارة أجرة، ففكّرت فيما أقوله له لو كنت في بلدي؛ أقول: خذني إلى محلّ كذا. فلما ترجمت له كلمة خذني ضحك وتعجّب مني، فقلت أكلمه بالفصيح فأقول كما كان يقول أجدادنا الأولون «احملني إلى كذا» ، فلما سمع ترجمة احملني ازداد الخبيث كركرة وضحكاً، ذلك أنهم يقولون للسائق «قُدْني» (conduisezmoi)، لا يقولون خذني ولا يقولون احملني.

* * *

المسافر المُقدِم عادة على البلد المجهول تتنازعه عاطفتان، هذه تشدّه من هنا وتلك تسحبه من هناك: تطلُّع إلى الجديد، وكل جديد له لذّة، ورهبة من الظلام، وكل ظلام مقترن بالخشية. وقد

ص: 205

عرفتُ من قبل طرفاً من إفريقيا لمّا ذهبت إلى مصر، ثم أوغلت في آسيا لمّا سافرت إلى السند والهند والملايا وجاوة، ولكن هذه هي أول مرة أزور فيها أوربا.

وأصبحنا وذهبنا إلى المطار. وكان مطار بيروت يومئذ أكبر مطار رأيته في عمري، لا تكاد تهبط فيه طيارة حتى ترتفع منه أخرى، ولقد شبّهته يوماً بهذه الحياة الدنيا: نكون حول المائدة نتغذى أو نشرب الشاي، لا ندري متى تقوم طياراتنا بالضبط، فنسمع من المكبّر أسماء ناس منا يُدعَون إلى الطيارة المسافرة إلى باريس وناس إلى التي تقصد كراتشي والثالثة التي تذهب إلى أواسط إفريقيا، أليس هذا هو مثال الحياة الدنيا؟ نجتمع فيها على الطعام والشراب والحديث والعمل، لا ندري متى يُدعى الواحد منا إلى السفرة الطويلة التي لا يؤوب منها والتي لا يدري غايتها، لا يعرف هل يُدعى إلى الجنة والنعيم المقيم فيها أم إلى النار والعذاب الدائم، ونحن في غفلة ننسى مصائرنا، وننسى أن حياتنا على هذه الأرض حياة موقوتة، وأن مردّنا إلى الله، وأن الآخرة لَهي الحيوان، أي الحياة الدائمة الباقية. نسأل الله أن يوقظ قلبي وقلوبكم، وأن يردّنا جميعاً إلى دينه، وأن يحسن خواتيمنا.

وقامت بنا الطيارة في موعدها المحدَّد لها، لم تتقدم عنه دقيقة ولم تتأخر عنه دقيقة. وهذه إحدى صفات المؤمنين، تَخلّينا نحن عنها وتمسّكوا هم بها. أليس من شأن المؤمن ضبط المواعيد؟ أليست مواعيدنا الإسلامية على الدقيقة؟ أليس الذي يفطر في رمضان قبل غروب الشمس بدقيقة يكون قد أفسد صيامه ووجب عليه القضاء؟ أليس الذي يصلّي قبل حلول وقت الصلاة

ص: 206

بدقيقة لا تُقبَل منه صلاته؟ فلماذا علّمَنا الدينُ ضبطَ المواعيد ثم أقمنا حياتنا على الإخلال بها؟ ألم يقُل الرسول عليه الصلاة والسلام: آية المنافق ثلاث، منها أنه إذا وعد أخلف؟ فلماذا يعمّ الخُلف مواعيدَنا؟ مواعيدنا الشخصية، ومواعيد حفلاتنا واجتماعاتنا، ومواعيد دعواتنا وولائمنا؟ ولماذا أخذ هذه الحسنةَ منا غيرُنا وتخلّينا نحن عنها؟

وعلَت بنا الطيّارة فرأيت منظراً عجباً؛ رأيت كأن تحتي خريطة كبيرة مجسَّمة لقبرس (قبرس بالسين لا بالصاد) وطرف إيطاليا، فقلت: لا إله إلا الله، سبحان الذي سخّر لنا هذا وما كنا له مقرنين. سخّر لنا الفُلك تجري في البحر بأمره، وسخّر لنا الخيل والبغال والحمير، وخبّرنا أنه يخلق ما لا تعلمون. من قال لمحمد ‘ -الذي عاش في بلد ما فيه مدرسة ابتدائية والذي لم يتعلم كتابةَ اسمه والذي لم يسمع بأرسطو ومن قبله أفلاطون- أن الله سيخلق غير هذه المراكب التي نراها؟

ثم سرنا فوق البرّ الأوربي فرأينا من تحتنا البلاد والقرى والجبال والبحيرات والطرق، منظر عجب كنت أغمض عيني تارة فأتصور أني أرى ذلك في منام. ألم يرَ كثير منكم في المنام أنه يطير على وجه الريح ويرى الدنيا من تحته؟ لقد حقّق الله هذا الذي كنا نراه بالأحلام! ثم هبطنا في ميونخ (التي يسمّونها مونْشِنْ) لمشاهدة الجوازات والإذن لنا بدخول البلاد، فوجدنا مطاراً هائلاً ومعاملة كريمة وثقة بالغة. ولم تكن يومئذ قد ظهرت بدع خطف الطائرات، ولا كانت مظاهر الإرهاب وإيذاء الركاب.

ص: 207

وعدنا إلى الطيارة. وهنا ذهبَت السَّكْرة وجاءت الفكرة: إن الطيارة ستنزل في فرانكفورت، فأين الطيارة الأخرى التي تحملني إلى آخن؟ وحرت، فأنقذني الله بأن وجدت رجلاً كريماً عرف أني عربي مسلم حائر، وكان عربياً كريماً من البحرين.

* * *

ص: 208