المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

فهرس الكتاب

- ‌الجزء السابع

- ‌افتتاح أسبوع التسلّح في دمشق

- ‌من أخبار العلم والعلماء في دمشققبل نصف قرن

- ‌فتنة التجانية في الشام

- ‌في الكلية الشرعية في دمشق

- ‌حلقة خاصّة في تصنيف العلوم

- ‌في الفقه الإسلامي والأحوال الشخصية

- ‌كيف وُضع مشروعقانون الأحوال الشخصية

- ‌مصر قبل أربعين سنة

- ‌في إدارة التشريع في وزارة العدل

- ‌ترشيحي في انتخابات الشام سنة 1947

- ‌عودة إلى الحديث عن مصر

- ‌حلقة مفردة: وحي صورة

- ‌وقفة استراحة

- ‌بقايا من ذكريات رمضان

- ‌في «آخِنْ» عاصمة شارلمان

- ‌رحلتي من فرانكفورت إلى آخن

- ‌الدعوة الإسلامية في ألمانيا

- ‌في مسجد آخن مع القساوسة والهيبيين

- ‌السفر إلى المؤتمر

- ‌إلى الوزير الشاعر عبد الله بلخير

- ‌صلاة الجمعة في مسجد بروكسل

- ‌أيام لا تُنسى في بروكسل

- ‌في منطقة الآردن

- ‌خواطر في الحياة والموت،في طرق هولندا

- ‌طريق الحج

- ‌الخط الحديدي الحجازي

- ‌في صحبة الحيوان

- ‌كتاب جديدأثار في نفسي ذكريات قديمة

- ‌إلى الأستاذ أحمد أبو الفتح

- ‌عودة إلى ذكريات القضاء

- ‌في محكمة النقض في دمشق

الفصل: ‌مصر قبل أربعين سنة

-191 -

‌مصر قبل أربعين سنة

أتكلم اليوم عن رحلتي الرابعة إلى مصر، وكانت قبل أربعين سنة كاملة، وقد وصلتُ معكم في الحلقة الماضية إليها ووقفنا في الروضة عند مقياس النيل الأثري.

مصر التي كانت أم الدنيا، كانت الأم ومدائنُ العرب بناتُها، كانت العروس وهنّ وصيفاتها، كانت أوسعَها سعة وأنظفها نظافة وأحسنها ترتيباً وأزهاها رونقاً، ليس للعرب جامعة إلاّ جامعتها، أمّا جامعها الأزهر فكان فحل الجامعات وكان مثابة العلم وكان كعبة الطلاّب، وكان يحمل على عاتقه أمجاد ألف سنة.

الأزهر كان فيها، والمطابع الكبرى مطابعها، والجرائد جرائدها، وأعلام الأدب وأئمة العلم فيها. كانت كبغداد أيام عزّ بني العباس التي قلت فيها (في «الرسالة» عدد 17 رمضان سنة 1358):"يا بلد العلم والتقى واللهو والفسوق، والمجد والغنى والفقر والخمول، يا موئل العربية ويا قبّة الإسلام، يابلداً فيه من كل شيء". كان في مصر المساجد فيها الأئمة القرّاء وفيها المدرّسون الخطباء، وفي المساجد قبور عندها البدع

ص: 105

والمخالفات. وفي مصر الملاهي، وفي الملاهي تكشُّف واختلاط ورقص ومحرَّمات وآفات. فيها دار الكتب والمكتبات الكبار: في الأزهر وفي الجامعة وعند تيمور باشا وأحمد زكي باشا ومحب الدين الخطيب، وفيها آلاف وآلاف لا يقرؤون وليس لهم في عالَم الكتب مكان.

وكانت مع ذلك أم الدنيا (أعني دنيا العرب) في سعتها وكبرها، في حدائقها التي لم يكن لها في بلاد العرب نظير: حديقة الحيوان يوم كانت متعة الناظرين وكانت فرجة الزائرين، مَن دخلها أمضى فيها اليوم كله ولم يستطع أن يُحيط بكل ما فيها. والقناطر الخيرية والأزبكية. خبّروني اليوم ما حال الأزبكية؟ هل باقٍ لها رونقها وجمالها؟ هل هي على أناقتها ونظافتها؟ هل الكتب القديمة لا تزال معروضة على سورها كما تُعرَض أمثالها على السور الواطي عند نهر السين؟ كنت أجد بين هذه الكتب نفائس نزل بها الدهر فأذلّها حتى قعدَت هنا، ومكانها المكتبات الكبيرة في الشوارع الواسعة. لقد طالما رأيت أدباء وعلماء يفتّشون بينها عن كتاب يشترونه بالقروش وثمنه الحقّ في المكتبات بالجنيهات! وكذلك كان يفعل أناتول فرانس بالكتب المعروضة على كتف نهر السين.

خبّروني عن حديقة الأورمان، عن حديقة المتحف الزراعي التي كانت لنا متنزَّهاً يوم كانت مصر بلد المتاحف: المتحف المصري، ومتحف الآثار العربية في باب الخلق، ومتحف الشمع في طريق قصر العيني، والمتحف الزراعي نفسه وما فيه من تحف نادرة المثال. يوم كانت مصر أرخص المدن، حتى إننا ونحن ثلاث أسر: أسرة خالي وأسرتي وأسرة أخي عبد الغني (وكنا

ص: 106

في دار واحدة) نشتري في الصباح فولاً بثلاث تعريفات (بقرش ونصف) فيُشبِعنا جميعاً وربما فضلَت منه فضلة عنا.

يوم كان الجنية المصري يعدل ليرة إنكليزية من الذهب (أمّ حصان) وفوقها قرش ونصف، لأن الجنيه المصري كان أغلى من الذهب. يوم كانت مصر أغنى بلاد العرب، فما الذي هبط بها وبه؟ ما الذي أذهب بَرَكته؟ إنها اللفحة الماركسية التي لم تدخل بلداً إلاّ أخرجَت منه البَرَكة وأذهبَت منه الرخاء، وأحلّت بأهله الضنك والضيق والشقاء.

* * *

أقمت في مصر سنة 1947 (1366) بطولها وطرفَي السنتين قبلها وبعدها، وكان وقتي كله بين ثلاث: إدارة التشريع في وزارة العدل التي فيها عملي، ودار «الرسالة» التي فيها هواي وإليها يميل قلبي وفيها تحطّ بي الأماني، و «السلفية» وفوقها دار خالي التي كانت المنزل وكان فيها المقام.

وكان رفيقي في هذه الرحلة الأستاذ نهاد القاسم رحمة الله عليه، الذي كان يومئذ مستشاراً في محكمة الاستئناف ثم صار أيام الوحدة وزير العدل المركزي لمصر وللشام، وهو أحد رفاق العمر الذين لم يبقَ منهم إلاّ قليل من كثير، مدّ الله في آجالهم وزادهم حسناً في أعمالهم، كالأستاذ سعيد الأفغاني والشيخ ياسين عَرَفة والأستاذ الشيخ مصطفى الزّرقا والدكتور معروف الدواليبي، وغيرهم ممّن إن نسيت أسماءهم هنا فإن ذكرياتهم ثابتة في القلب لا تُمحى ولا تزول.

ص: 107

أما المطبعة السلفية فالعهد بها قديم والحديث عنها طويل، ولعلّي أوفَّق إلى الكتابة عنها وعن صاحبها، عن سَبْقه في الدعوة إلى إحياء العربية التي أراد الاتحاديون (الدولْمَة) قتلها، عن سبقه إلى تعميم الدعوة الإسلامية في مصر، عن سعيه في تأليف جمعية الشبّان المسلمين التي ضمّت إليها الشبّان الأدباء من أهل التمسّك بالدين. ولعلّي أوفَّق إلى سرد كل ما له عندي، فما يتّسع له استطراد في مقالة. ولقد كتبت عن محب الدين في المجلة التي أسميتُها «البعث» قبل أن يؤلَّف حزب البعث ويسرق مني هذا الاسم بسنين، وكانت أول مجلة إسلامية في الشام، أصدرت منها خمسة أعداد من أكثر من خمسين سنة.

وكان مجلس السلفية -لمّا كانت في شارع الاستئناف في باب الخلق- يجمع جلّة من علماء مصر وأدبائها ومن علماء الأقطار الإسلامية الذين يفدون عليها، منهم أحمد تيمور باشا والسيد الخضر حسين والأستاذ أحمد إبراهيم بك والشيخ عبد الوهاب النجّار والأستاذ مصطفى صادق الرافعي، وإخواننا الذين كانوا يومئذ شباباً فصاروا شيوخ الأدب وأعلام العرب: محمود محمد شاكر وعبد السلام هارون وعبد المنعم خلاّف والدكتور الخضيري وأبو شادي الشاعر (الذي كانت السلفية في دار أبيه، المحامي الأشهر على أيامه) والشيخ أطفيش الفقيه الأباضي والأستاذ الغمراوي (أول من جمع جمعاً مُحكَماً بين علوم الدين وعلوم الكون) والأستاذ محمد علي الطاهر صاحب جريدة «الشورى» وكثير من أمثالهم.

وأمّا دار «الرسالة» فكان منزلُها أقربَ المنازل إلى قلبي وجوُّها أبردَ الأجواء على كبدي، قضيت مع الزيات سنة كاملة،

ص: 108

أكون معه فيها في المكتب وأصحبه -بإلحاح منه- إلى الدار، وأراه في مباذله وأعرف جميع أحواله ودواخله. وأشهد ما رأيت منه إلاّ فضلاً ونبلاً، وإذا كان لكل رجل صفة تطغى على الصفات حتى ليُعرف بها أو تكون له -كما يقول العقّاد- مفتاح شخصيته، فمفتاح الزيات الرفق والحياء؛ إن تكلّم فعلى مهل، وإن كتب فعلى مهل. وقد راعه مني أول الأمر صراحتي وثورتي، ثم ظننتُ أنه تعوّدها وإن كان أحياناً كثيرة يضيق بها.

جاء مصرَ رجلٌ اسمه القُمّي، إيراني شيعي حاذق ذكي داهية من الدواهي، ففتح «دار التقريب» ، يدعو فيها إلى التقارب بين الفريقين السنة والشيعة وهو في الحقيقة داعية إلى التشيّع. وفي مصر ميل إلى آل البيت لعلّه باقٍ من أيام العبيديّين (الذين تسمّوا كذباً بالفاطميّين، وما لهم بفاطمة رضي الله عنها صلة ولا يربطهم بها نسب ولا لهم إليها سبب، برئت فاطمة الزهراء منهم ومن كفرهم). أهل مصر يحبّون آل البيت حباً قد يصل أحياناً إلى الغلوّ، تراه عند قبر الحسين وما يصنعون عنده وما يصنعون عند قبر السيدة زينب وما في مصر من مشاهد منسوبة إلى أهل البيت.

والحسين رأسه في المشهد المعروف باسمه في جامع بني أمية في دمشق وجسده موسّد ثرى كربلاء في العراق، وما منه في مصر شيء. ولست أنا قائل هذا الكلام فتُوجَّه إليّ السهام ويُلقى على عاتقي الملام ويجرَّد في وجهي الحسام، ولكن قائله، بل كاتبه الذي أيّده بالدلائل وأقام عليه البينات، هو شيخ الإسلام ابن تيمية. فمَن غضب منه فليردّ على الشيخ لا عليّ، فما لي في الأمر ناقة ولا جمل ولا لي فيه سخلة ولا حمل.

ص: 109

وكلنا يحبّ أهل البيت الذين قال الله لهم: {إنّما يُريدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عنكمُ الرِّجْسَ أهْلَ البيتِ ويُطهّرَكمْ تَطهيراً} ، وإن كان المراد الأول هنا بأهل البيت أمهات المؤمنين اللائي وُجِّهت الآية إليهن وصُدِّرت بندائهن:{يا نساءَ النبيِّ} . وهذا الكلام أيضاً ليس من عندي، بل هو كلام ابن حزم العظيم الذي كان -لولا ظاهريته- المُفرَد العلَم.

أراد الزيات أن نزور هذا القمي أنا وهو وأخي الأستاذ سعيد الأفغاني. وكان ينويها زيارة مطارحة ومجاملة ونويناها (أنا وسعيد) زيارة مصارحة ومجادلة. وكان عنده العالِم الأزهري الكبير الشيخ محمد عرفة، فخرقنا جدار الصمت (على وزن قولهم عن الطيارة خرقت حجاب الصوت) وسألنا القمّي لماذا جاء إلى مصر ففتح دار التقريب فيها، وكان أولى به أن يفتحها في طهران لأن الفرع الذي أنبت يُرَدّ إلى الأصل، ومن خرج عن الجماعة يعود إلى الجماعة، والقمر الصغير الذي انفصل عن الجرم الكبير إن لم يرجع إليه دنا منه فدار حواليه، وما عهدنا في الفضاء قمراً صغيراً يجذب جرماً كبيراً.

فأراد الشيخ عرفة أن يرشّ الماء البارد على الجمرة التي بدأت تتّقد وأن يلطّف الجو فقال: إن الخلاف على مسائل من الفقه أمرها هين. قلت: بل الخلاف يا سيدي على أمور من أصول الدين، وأنت تكلّم رجلاً عاش في العراق سنين مدرّساً في ثانويّاتها، من سنة 1936 إلى سنة 1939، تنقّل من البصرة في جنوبي العراق إلى شماليها، فقرأ كتب القوم وناظر مشايخهم وعرف ما عندهم. وسردتُ له بعض أوجه الخلاف مما لانفع

ص: 110

للقراء الآن من سرده هنا (1).

وطالما عُقِدت في دار الرسالة، في هذه الغرفة الصغيرة، بحضور الأستاذ الزيات غالباً وغيابه أحياناً، ندوات ودارت أحاديث في الأدب وفي العلم حضرها أدباء كبار وعلماء أجلاّء. وكانت الأحاديث تنساب هادئة كالنهر الرائق الماء الهادئ المجرى، فيها نفع ولا تخلو من نكتة تُضحِك أو طريفة تسلّي، وربما اضطرب الماء وقذف بالزبَد حين تشتدّ المناقشة حتى تكون مُهاوَشة، وكثيراً ما كنت أنا الذي يصنع هذا كله، أعترف الآن به وأرجو من الله أن يسامحني فيما أخطأت فيه.

وأنا أناظر أولاً برفق وأدب، أحاول أن لا أقول كلمة تخدش الخصم أو تجرحه، فإذا صدر منه ما يمسّ ديني أو كرامتي لبستُ جلد النمر ونكّبت عن ذكر العواقب جانباً، ولم أعُد أبصر من غضبي لديني أو لكرامتي مَن الذي هو أمامي، لا أبالي أن يكون كبيراً أو خطيراً. ولقد كان صِدام مرة بيني وبين الدكتور زكي مبارك، وكانت لي به صلة حسنة وأُقِرّ له أنه يملك أجمل أسلوب في هذا العصر. فنطق مرة بكلمة فيها كفر ظاهر وعدوان على الدين أثيم، فنبّهته فما انتبه وحذّرته فما بالى، فزاغ بصري ولم أعُد أرى أمامي الأستاذ

(1) القصة الكاملة للقاء علي الطنطاوي مع القُمّي هذا منشورة في العدد 844 من مجلة «الفتح» الصادر في جمادى الآخرة سنة 1366هـ في مقالة عنوانها: «كيف قابلت هذا القمّي» ، وقد سبقتها بأسبوع واحد مقالة بعنوان «إلى علماء الشيعة» نُشرت في «الرسالة» في الخامس من أيار (مايو) سنة 1947 (وهي في كتاب «فصول في الدعوة والإصلاح» الذي وفقني الله إلى إصداره من قريب)(مجاهد).

ص: 111

زكي مبارك بل رجلاً ينال من ديني ومن عقيدتي، فهجمت عليه هجمة مفاجئة بجُمَل تتلاحق كلماتها كرصاص المدفع الرشاش ضعضعَت أركانه، ثم استفاق من دهشته وتمالك بعض نفسه، وقال لي في بعض ما قال: من أنت وبأيّ سلاح تنازلني؟

قلت: بسلاحَين، أولهما أن الحقّ معي وأني أستنصر الله لأني أناضل عن دينه وأحامي عن شرعه، والثاني أني أعرفك في مصر وأعرف سلوكك في العراق ومجالسك بين كاسك وطاسك، فما الذي تظنّه يُخيفني منك ويمنعني من منازلتك: دينك وتقواك؟ سلوكك واستقامتك؟ علمك؟ وقد حقّقتَ كتاب «زهر الآداب» للحصري وكنا ندرسه مع تلاميذنا في دمشق فما تمرّ صفحة تخلو من زلّة لك تسقط منها فيُشَجّ رأسك أو تُلوى قدمك، أم هذا الكتاب الذي صدّعتَ بذكره الأسماع وجعلتَه معجزة العصر وآية الدهر، «النثر الفني» ؟ إن فيه سقطات لمّا أمسك الدكتور الغمراوي ببعضها وقيّدك بمنطقه وحجّته بقيد من حديد لم تملك معه حراكاً، جعلتَ تقفز من حوله تصرخ وتهدّد ولا تستطيع أن تتحلل من القيد ولا أن تبرّر الغلط؟ وهل تعتصم إلاّ بستار من سبّ الناس إذ تصول وتجول وحدك وتتوعّد وتهدّد (زعمَ الفرزدقُ أنْ سيقتُلُ مِرْبعاً!) ولو كانت معركة أدبية بيني وبينك لتردّدتُ، وربما خفتك أو تَهيّبتُ لقاءك أو آثرت السلامة من قلمك، ولكنها معركة لله أدافع فيها عن دين الله، واللهُ يدافع عن الذين آمنوا، ومن كان الله معه كان هو الغالب.

واشتدّ الأمر وتعالت الأصوات ولم يبقَ إلاّ المواثبة والنقاش بالأيدي، فدخل الزيات بيننا وأخذه جانباً يناجيه. وسمعته يقول له:

ص: 112

ما تشوف اسمه طنطاوي، إنه شامي دماغه ناشف وأسلوبك لايفيد معه، والأزهريون من مدرّسين وطلبة يقرؤون له ويحبّونه، ولمّا كان الخلاف بينه وبين الشيخ أمين الخولي كانوا كلهم معه. وهو يحاربك الآن بسلاح الدين، فما لك ولخصومة أهل الدين؟

فليّن منه بعض اللين، ثم أقبل عليّ يكلّمني فقلت: أنا أحب الأستاذ وأقدّر له سنّه وسبقه وهو أستاذ معروف، وما بيني وبينه خلاف شخصي إلاّ هذه الكلمة التي قالها وسمعتموها، إن فيها كفراً لا يجوز لمسلم أن يسكت عن إنكاره، فإن رجع عنها وتبرّأ منها قمت إليه الآن فقبّلت رأسه، وإن أصرّ عليها فسأتوكل على الله وأخوض معركة معه ربما أنست القرّاء معاركه الأولى مع الأدباء. وما بسيفي أضرب ولكن بسيف الشرع.

فاعتذر من تلك الكلمة وقال إنها كلمة سبق بها لسانه، وراح يؤكّد أنه مؤمن صادق الإيمان وأنه طالما جرّد قلمه للدفاع عن الإسلام وأمثال هذا الكلام، فقلت له: تسمح الآن أن أقوم فأقبّل رأسك، ولكن بعد أن تسرّح شعرك المنفوش! فضحك وضحك القوم وانتهت المعركة بسلام.

وأنا أعترف بأن زكي مبارك أقدم مني في الأدب قِدَماً وأثبت فيه قَدَماً، ولكن إذا جاء الدين بطلَت المجاملات وعزّ منَ كان معه وذلّ من كان عليه.

* * *

وكنا نحضر في مصر مجالس كثيرة كانت في حقيقتها مدارس بغير نظام ولا منهاج، وكانت نوادي علمية وأدبية بلا

ص: 113

موعد ولا إعلان، وكانت بما يدور فيها من نافع الأحاديث أنفع من الجامعات.

منها: مجلس لجنة التأليف والترجمة والنشر، الذي كان فيه الأستاذ أحمد أمين وكان معه جلّة من أكابر أساتذة مصر وعلمائها. ودار المفتي الشيخ عبد المجيد سليم، العالِم الجليل الذي كان من جلسائه الشيخ شلتوت والشيخ محمد المدني. لقد جئته مرة في الشتاء وأنا متلفّع مُرْتَدٍ المعطف الثقيل وهو حاسر جالس بين نافذتين مفتوحتين يجري بينهما الهواء، فقلت: ياسيدي

فضحك ولم يدَعْني أُتمّ وقال: الله الله، أنتم الشباب وتخافون الهواء؟!

ومن تلك المجالس مجلس العالِم الجليل السيد الخضر حسين، رئيس جمعية الهداية الإسلامية والذي صار شيخ الأزهر. ومجلس الأستاذ محمد علي الطاهر، وهو ندوة سياسية قومية عربية. ومن أوائل هذه المجالس مجلس لأستاذ كان إذا تكلّم بذّ القائلين ولم يدع لأحد منهم مجالاً، على تجويد منه في الحديث ورغبة صادقة منهم في سماعه، يتمنّون لو أفاض وزاد، هو الأستاذ العقّاد. وهو في مجلسه مع جلسائه غيره مع مقالته مع قرّائه، تقرأ فتتصوّره مدرّساً عالِماً نافعاً ولكنه متجهّم الوجه قاسي النظرات يلوّح فوق رأسك بالعصا، وتراه في بيته منبسطاً مبتسماً يضمّ مجلسُه أصنافاً من الناس فيحدّث كلَّ صنف بما يفهمون، يخوض في كل موضوع ويتكلّم في كل مجال، حيثما اتجه الحديث اتجه معه فكان سابقاً فيه. حتى لقد ذكرتُ مرة أمامه الشيخ عثمان الموصلّي، وهو شاعر موسيقي معروف عندنا في

ص: 114

الشام والعراق كان من أذكى العميان، كان إذا صافح إنساناً ولمس يده ثم صافحه بعد عشر سنين أو عشرين عرفه من مصافحته وسمّاه باسمه. وإذا الأستاذ العقاد يعرفه ويروي عنه خبراً لم أسمع به وأنا أجمع أخباره!

ما أعرف مثل العقّاد في هذا إلاّ اثنين: فارس الخوري، وآخر لم تسمعوا به كان شيخ القضاة في الشام وكان آخذاً من كل علم بطرف، وإن كان عمله الأصلي هو القضاء، أعاد فيه للناس سِيَر القضاة الأولين، ولم يكن يقضي إلاّ بما يعلم أنه يُرضي الله ويطمئنّ له ضميره المؤمن ويوافق ما علم من شرع الله، لا يميل مع لذّة ينالها أو منفعة يحصل عليها أو مضرّة من قوي إذا قضى عليها يخشاها، ولا يطمح أحد أن يكلّمه في قضية ينظر فيها، هو مصطفى بَرْمَدا. وكان مجلسه في موعد مجلس العقاد من صدر يوم الجمعة، ولكنه كان إذا دنا موعد الصلاة تقوّض المجلس وذهب أهله كلهم إلى المسجد، فكان رجلاً آمن قلبه وآمن لسانه، وآمنَت جوارحه فظهر عليها أثر إيمان قلبه: امتثالاً لأمر الله وابتعاد عمّا نهى عنه الله.

ورُبّ كاتب يكتب بقلمه أو يقول بلسانه ما لا يترجم عنه فعلُه ولا يوافقه سلوكه، يُرضي الناس ولا يسعى لما يُرضي الله.

* * *

أمّا إدارة التشريع في وزارة العدل فهي التي قدّمنا لها وأُوفِدنا للعمل فيها.

ص: 115

وكنا نظنّ أن لقاء الوزير سهل كالذي عرفناه في الشام؛ فنحن نذهب إلى الوزير عن موعد أو بغير موعد فندخل عليه رأساً أو ننتظر قليلاً إن كان مشغولاً، بل إن هذه كانت سنّتنا مع رئيس الجمهورية: محمد علي بك العابد (وهو ابن أحمد عزة باشا العابد، أقرب العرب منزلة من السلطان عبد الحميد) ومع هاشم بك الأتاسي الرجل الجليل الذي كان شيخ الوطنيين، والشيخ تاج الدين الحسني وهو ابن شيخ علماء الشام، مَن كان اسمه أكبر من كل صفة يوصف بها وهو الشيخ بدر الدين، ثم مع الزعيم المناضل شكري بك القوّتلي.

وكان السّنْهوري باشا في الشام مدعواً للمشاركة بوضع القانون المدني. وليته ما وُضع، وليتنا بقينا على «المجلة» المنبثقة عن ديننا والموافقة لشرع ربنا والمكتوبة بالعربية لساننا، ولم يأتِنا هذا القانون المدني الذي طالما كتبتُ عنه وعن لغته وكتب أخي الأستاذ الفقيه الشيخ مصطفى الزرقا، الذي هو الآن ركن كل لجنة تنعقد لوضع القانون المدني الإسلامي.

وكان زميلنا الأستاذ نهاد القاسم مع السنهوري في اللجنة وكنت أنا في لجنة قانونية أخرى، فلم يكن يوم لا نلتقي فيه بالسنهوري، في المكتب أو في أحد المقاهي الخلوية على سِيف الغوطة أو على سفح قاسيون، فنشأت بيننا وبينه مودّة أزالت الكلفة لأن الرجل، أي السنهوري -كما بدا لنا في الشام- سمح الطبع حسن العشرة غير مترفع ولا متكبر، فظننّا أن الوزراء في مصر كلهم من هذا الطراز.

ص: 116

وذهبنا (أنا والأستاذ نهاد القاسم) إلى وزارة العدل، وكان الوزير يومئذ خشبة باشا، فسألنا عن غرفته فأخذونا إلى مدير مكتبه، ومدير مكتبه استأذن لنا عليه. وكان معنا كتاب رسمي موجَّه إليه من وزير العدل في سوريا تاريخه 21 جمادى الآخرة 1366 (11/ 5/1947) فحملناه إليه ودخلنا عليه، فهشّ لنا وبشّ في وجوهنا وأحسن استقبالنا، وتهيّأتُ أكلّمه فيما جئنا من أجله فلم يدعْني أتكلّم، بل فاجأني بسؤال ما كنت أقدّر أو أتخيّل أنه سيسألني عنه، قال: الشيخ أبو الخير الفرّا هل تعرفه؟ قلت: نعم، وقد كان جارنا وقد تُوُفّي رحمه الله من عهد قريب. قال: ألا تزال داره آخرَ دار في حيّ المهاجرين تُشرِف على دمشق وغوطتيها؟ قلت: نعم، ولكنها لم تعُد آخر دار، لقد أُنشئَ حيّ كامل إلى الغرب منها حتى بلغ فم الوادي المفضي إلى دمر وصعد فوقها حتى وصل إلى الصخرات الكبار في قمة الجبل.

فسكت متعجباً، فقلت له: تسمح لي ياسيدي أن أسأل معاليك، من أين تعرفه؟ فقص علينا قصّة عجيبة.

* * *

ص: 117