الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
-209 -
الخط الحديدي الحجازي
إن قصة الخط الحديدي الحجازي مأساة دونها المآسي الأدبية.
تصوّروا زوجين كل أمانيهما ولد يسعى بين أيديهما، يملأ الدار -كما يُقال- فرحةً عليهما يصل ما قد يتباعد من قلبيهما، فتأخّر وصول الولد، فراجعا كل طبيب وسألا كل دجّال، وجرّبا كل دواء في الصيدلية وكل عشب عند العطّار وكل ما يصفه الصديق والقريب والجار، حتى إذا تحقّق الحلم ووُلد الولد، بعدما ذاقا المرّ وكاد يفرغ منهما الصبر، وكبر الولد وبلغ معهما السعي، وحسبا أن قد تمّت به الفرحة، مات! ما مات على فراشه ولكنه قُتل، وما قتله عدوّ غادر ولا عتيّ فاجر، ولكن خدَعهما شيطانٌ ماكر اسمه لورنس وأسكرهما بمادّة مسمومة سُمّها لا ينفع معه ترياق، يُقال له «القومية» (أعني المخالِفة منها للإسلام).
امتدّ انتظاره دهراً والحمل به عمراً، حملَته أمه ثماني سنين، من سنة 1901 إلى سنة 1908، وعاش بعدما وُلد عشر سنين من سنة 1908 إلى سنة 1918، ثم أصابته علّة مزمنة، فلا هو حيّ فيُرجى ولا ميت فيُنسى.
الخط ممدود ولكن لا يمشي عليه قطار، والمحطات قائمة ولكن لا يقف عليها مسافر. كانت فيها مواقف الوداع والاستقبال تشهد الآلام والآمال، وكان فيها الناس من كل بلد وكل شعب، فأصبحت لا غادٍ عليها ولا رائحٌ منها، ولا مودّع أسيان ولا مستقبل فرحان.
وإذا بكى الشعراءُ الأطلالَ وقالوا فيها الأشعار لأنها هي ذاتها بقايا قصيدة محَتها الأيام، كل جدار من بناء فيها وكل حجر في هذا الجدار كلمات باقيات من تلك القصائد التي جعلها القِدَم والحرمان قصائدَ عبقريات، يذكر الناس بموتها الحياة التي كانت فيها فتفيض لمشهدها مدامعُ شاهديها
…
وإذا كانت بقايا ديار الحبيب الذي راح تُثير كل هذه المشاعر، فأولى بذلك هذه المحطات القائمات وحدها في البراري، محطات الخط الحجازي التي كانت تعجّ بالناس، فما بقي فيها ولا حولها أحد. أفلم يمرّ أحدٌ من الشعراء بهذه المحطات الواقفات منفردات، كالثاكلات على أجداث من مات؟ ألم يُثِر منظرُها في أنفسهم عاطفة ألم يحرّك منها المشاعر؟ ألم تنطلق بوصفها ألسنتهم وأقلامهم؟
كلّ محطة خالية خاوية من محطّات خط الحجاز قصيدةٌ من الجدران والأركان، لا تحتاج إلاّ إلى مَن يترجم عنها بالألفاظ والأوزان. فغطّوا أقلامكم بدموعها واجعلوه مِداد ما تكتبون، فإن كل لَبِنة في كل محطة تبكي، وكل نافذة مخلَّعة المصاريع وكل باب غدا وما عليه باب!
قلت لكم في الحلقة الماضية إن هذا الخط وقف إسلامي.
والأوقاف الخيريّة من أشرف معالم الحضارة الإسلامية: مالٌ مرصود لأعمال الخير، منفعته لكل واحد ولا يملكه أحد، القيّم عليه يجب أن يحفظه، ويجوز أن ينميه أو يزيد فيه ولكن يحرم عليه أن ينقص منه أو أن يفرّط به. وقف أجدادُنا الأموالَ الجِسام على كل عمل من أعمال الخير: على المساجد وعلى المدارس وعلى المشافي، وعلى أمور قد لا تخطر لأمثالنا على بال. هل سمعتم في الشام وقفاً للقطط الضالّة يُطعِمها ويسقيها؟ وللكلاب الشاردة المريضة يداويها ويؤويها؟ يُسمّي العامّة الأول «مدرسة القطاط» وهي في القيمرية الذي كان حيّ التجار في دمشق، والثاني في حيّ العمارة ويسمّونه اسماً غريباً هو «محكمة الكلاب» .
وقد روى ابن بطوطة في رحلته أنه رأى خادماً صغيرة (وكلمة خادم تطلق على الذكر والأنثى) وهي تبكي، فسألها فقالت: أرسلتني سيدتي أشتري لها عسلاً فوقع الإناء فانكسر. قال: فجعلت أواسيها وأعطيها ما أقدر عليه لتشتري غيره، فمرّ بنا رجل عرف الخبر فقال لها: اجمعي أجزاءه وخذيه إلى ناظر الوقف يُعطِك ثمنه. ذلك أن أحد المحسنين وقف مبلغاً كبيراً من المال لمثل هذه الحال (1).
* * *
وأرجو أن يسامحني القراء لأنني خرجت عن خط هذه
(1) ما يلي هذه الفقرةَ مكرّرٌ بنصه وقد سبق نشره في الحلقة الخامسة والسبعين، وهو تتمة ما حذفته من آخر الحلقة الماضية، وقد حذفته من هنا أيضاً (مجاهد).
الذكريات وسردت تاريخاً ممتلئاً بالأرقام، ذلك لأن هذا التاريخ يجهله أكثر من يقرأ الجريدة ومن الواجب أن يعرفوه. أما ما كان بعد سنة 1954 فتسألون عنه الأخ محمد عمر توفيق، الذي كان وزير المواصلات وكان قُطب رَحى المفاوضات، هو العارف بما انتهى أمره إليه.
أما نحن الأدباء فلا نملك إلا ألسنتنا وأقلامنا. ورُبّ لسان أو قلم جلب نفعاً لأمة من الأمم أو سبّب لها الضرر. فما لأدبائنا لا تجري أقلامهم ولا تنطلق ألسنتهم بالكلام على هذا الخط: بوصف مأساته، بالدعوة إلى مداواته إن وثقنا من استمرار حياته أو رثائه إن تحقّقنا من مماته؟ هل كان الذين قبلنا من أدبائنا أقدر على القول منا أم كانوا أكثر اهتماماً بشؤون أمتنا؟ هذا ابن أَيْبك الصفدي (الذي توفّي سنة 764هـ) يصف في كتابه «حقيقة المجاز إلى الحجاز» الطريق الذي مشى فيه ركب الحُجّاج من قبّة يَلْبُغا في ظاهر دمشق.
ومسجده معروف فيها، في ساحتها الكبرى التي تقوم في وسطها «المرجة» . ولمّا كنت تلميذاً في الابتدائية في أواخر أيام الحرب الأولى كان نصف المسجد الشمالي (وفيه المنارة العالية) قد جُعل مدرسة كنا نتعلم فيها، وتُرك نصفه الآخر مسجداً. وكان يفصل بين النصفين حاجز من الخشب يمرّ من فوق البِركة الكبرى، فكان التلاميذ الصغار ينظرون من شقوقه لمن يتوضأ من البركة، وربما نظروا لمن يُسيء الأدب من الناس فيبول حولها أو يستنجي فيكشف عن العورة (التي حرّم الله كشفها) في بيت الله!
وكان الصفدي كلما نزل منزلاً من منازل الحُجّاج قال فيه شعراً هو في الغالب من الكلام المنظوم، فممّا قاله عن قبة يلبغا:
جئنا لقبّةِ يَلْبُغا
…
والسيلُ فيها قد طغا
وكأنهُ مِنْ دمعِنا
…
صبَّ المياهَ وفرّغا
ثم مشى من حيث يمشي القطار الآن فجاء «الكِسْوة» ، وكان قدومه عليها في الشتاء، وهي على هضبة عالية يشتدّ فيها البرد، فقال فيها:
قاسيتُ في الكسوةِ بَرداً لهُ
…
على توالي ضَعفِنا قسوَه
فقلتُ هذا عجبٌ كيفَ لا
…
يذهبُ شرُّ البردِ بالكِسوه؟
ثم جاء «الصَّنَمَيْن» ، وهي من أدنى قرى حوران وأقربها إلى الشام، فقال فيها:
يا بئسَ يومٍ مرَّ بالصّنمينِ لي
…
جُرِّعتُ فيهِ مَرارةَ الآلامِ
لو كانَ في الصّنمينِ خيرٌ يُرتجَى
…
ما كانَ يُلعَن عابدُ الأصنامِ
وقد نُقل مرة أستاذنا وصديقنا حسني كنعان رحمه الله إلى هذه القرية معلّماً فيها، فكتب عنها مقالات كثيرة وسمّاها «مدينة الأصنام الثلاثة» ، يعني بالثالث نفسه! وله فيها حوادث طريفة جداً ليس هذا موضع ذكرها.
ثم رحل الصفدي مع الركب إلى بُصرى وقال فيها شعراً. وكانت بصرى على عهد الرومان مدينة كبيرة، وفيها مسرح روماني مدرَّج لا نظير له فيما بقي من مسارح الرومان، له درَج كامل ومعه
بناء كبير بقي سالماً على مر الزمان. ولبُصرى أخبار امتلأت بها كتب السيرة والتاريخ، قدمها رسول الله ‘ المرة الأولى مع عمه ولقي فيها بَحيرا الراهب، ويقولون إنه عرف أنه النبي المنتظَر، مع أنه ‘ هبط عليه الوحي في حراء وقال له «اقرأ» ولم يعرف تماماً أنه النبي المنتظَر.
وما زعموا أن بَحيرا قد عرفه وأن جده عرفه وأن أمه لمّا حملت به قد عرفته، وما جاء في «المولد» (الذي كان يقرؤه بعضُ مشايخنا) من أن الوحوش تباشرت بمولده وعرفَته
…
كل ذلك لم يثبت ولم يقُم عليه دليل، بل إنه ‘ لمّا جاءه جبريل ذهب مضطرباً إلى خديجة حتى أخذته إلى ابن عمّها ورقةبن نوفل. فإذا كان هو نفسه لم يعرف فكيف عرف هؤلاء كلهم؟ والله تعالى يقول له:{ما كُنْتَ تدري ما الكِتابُ ولا الإيمانُ} .
وعلى المسلم أن يحب الرسول عليه الصلاة والسلام أكثر من حبه لأهله وولده ونفسه التي بين جنبيه، ولكنْ حبَّ الطاعة والامتثال لا حبَّ الغزَل والهيام. وله مما أكرمه الله به من المزايا التي لم يُؤتِ أحداً من بني آدم مثلَها ما يُغنيه عن أن نمدحه بافتراء الأخبار المكذوبة عليه.
* * *
وقيل في بُصرى شعر كثير تجدون عند ياقوت مثالاً عليه، كقول الصِّمة القُشَيري وهو شاعر رقيق مطبوع من شعراء العاطفة في الحجاز، وهو صاحب الأبيات الشهيرة:
قِفا ودّعا نجداً ومَن حلَّ بالحِمى
…
وقَلَّ لِنَجْدٍ عندَنا أنْ تُوَدَّعا
بنفسيَ تلكَ الأرضُ ما أطيبَ الرُّبا
…
وما أحسنَ المُصطافَ والمُترَبَّعا
وأذكُرُ أيامَ الحِمى ثمَّ أنْثَني
…
على كَبِدي مِن خَشيةٍ أنْ تَصَدَّعا
ومما قاله في بُصرى:
نظرتُ بطَرْفِ العينِ متّبعَ الهوى
…
لشرقيِّ بُصرى نَظرةَ المُتطاوِلِ
لأُبْصِرَ ناراً أُوقِدَت بعدَ هَجْعَةٍ
…
لِرَيّا بِذاتِ الرَّمْثِ مِن بطنِ حائلِ
ومن أجمل ما قيل في بصرى قول أعرابي ضنوا عليه بذكر اسمه وله هذا الشعر، ودوّنوا سخافات الصفدي التي رويتُ بعضَها. على أنها خير -على كل حال- مما يُنشَر من الشعر الحديث! قال الأعرابي (1):
أيا رِفْقَةً مِن أهلِ بُصرى تَحمّلوا
رسالتَنا لُقِّيتِ مِن رِفْقَةٍ رُشدا
(1) وجدت البيتين الأوّلين (باختلاف يسير) في ديوان يَزيدبن الطَّثَريّة، وهو شاعر أموي توفي سنة 126، أما البيت الأخير فقد رُوي في كتب الأدب (كالأغاني وسواه) بصورتين متقاربتين منسوباً للمرقّش الأكبر مرّة ولعبد اللهبن العَجْلان النّهدي أخرى (مجاهد).
إذا ما وصلتمْ سالمينَ فبلّغوا
…
تحيتَنا مَن ظنّ ألاّ يرى نَجدا
وقولوا لهُمْ ليسَ الضّلالُ أجازَنا
…
ولكنّنا جُزْنا لنَلْقاكُمُ عَمْدا
ومن أراد أن يقرأ أمثال هذا الشعر الذي يحنّ قائلوه إلى نجد رآه في رسالة لي صغيرة طُبعت في الرياض عنوانها «حلم في نجد» (1).
كانت بُصرى قصبة حوران، فلما مرّ الخط الحديدي بدَرْعا أُقيمت المحطة فيها بعيداً عن البلد، فجعلت المحطة تكبر والبلدة يقف نموها فتصغر، حتى صارت المحطة هي المدينة ورجعت المدينةُ الأصلية قريةً تابعة لها.
وكذلك الدنيا أقدار وقِسَم قسمها بارئها، فصغير يكبر وكبير يصغر قدره، ونازل يعلو وعالٍ يهبط إلى الحضيض. مرّ الخط قريباً من درعا ولم يدخل إليها فدخلَت البلد كلها في المحطة، وشُيّدت من حولها العمارات وفُتحت الحوانيت. ولو بقي الخط يسير ولم تمتدّ إليه إصبع شياطين الإنس يُغرون أهلَه بقتله لنشأت خلال هذه السنين التي قاربت الآن السبعين مدنٌ كبار في معان والمدوَّرة والعُلا، ومدن صغار في كل قرية يمرّ بها القطار، ولكان هو الطريق المسلوك، لأن السيارات مهما كثرت لا تستطيع أن تسدّ مسد القطار، ولكان الحُجّاج السوريون والأردنيون وحجاج لبنان والعراق وحجاج الترك والعجم الذين يؤثرون أن يمرّوا بدمشق، لكان سفرهم كلهم في هذا القطار، ولكان شريانَ حياة يحمل دمَ
(1) وهي في كتاب «صور وخواطر» (مجاهد).
الصحّة لكل مكان يمر به يأتيه بالخير والمال.
ودرعا معروفة من القديم ولكن باسم «أذْرِعات» ، ولها في التاريخ ذكر وقيل فيها كثير من الشعر، منه قول امرئ القيس الذي لا أحب أن أروي منه إلاّ بيتاً واحداً هو:
تَنَوَّرْتُها مِن أذْرِعاتٍ وأهلُها
…
بِيثربَ، أدنى دارَها نظرٌ عالِ
وامرؤ القيس قمة القمم في الشعر العربي، ما قيّض الله له إلى الآن من يدرس شعره كما ينبغي أن يُدرَس. لا لأنه أول من بكى واستبكى ووقف واستوقف، بل لأنه وضع الأساس لكل فنّ من فنون الشعر؛ فالغزَل مثلاً منه ما هو عاطفي نظيف كشعر قيس وقيس الآخر وجميل وكُثيّر ونصيب وشعراء الغزل بالمدينة، ومنه ما هو قصصي يحكي وقائع المحبين وأخبار الهجر واللقاء كشعر عمربن أبن ربيعة وتلميذه العرجي، ومنه ما هو شعر فاحش (كالأفلام التي قالوا إنها تكشف أدقّ ما يستره الأزواج في مخدع الزوجية) كبعض شعر بشار وبعض شعراء اليتيمة، يتيمة الدهر للثعالبي، وبعض ما قال (وليته ما قال) أحد شعراء هذا العصر! وكل ذلك في معلقة امرئ القيس.
والمقاييس تختلف، فامرؤ القيس بالمقياس الأدبي كبير الشعراء وأستاذهم، ثم إنه رحّالة زار الشام وبلغ القسطنطينية وتنقّل في أرجاء جزيرة العرب، ولكن النقاد لم يوفوه حقه، وقد ذكروه أخيراً فجعلوا من سيرته مسلسلة عرضوها في الرائي في رمضان، فأساءت للتاريخ وللأدب وللفنّ.
* * *
وإذا تتبّعنا الطريق الذي سلكه الصفدي في حِجّته وجدناه يمشي مع سكة الحديد، يبتعد عنها حيناً ثم يعود إليها. فقد مشى بعد بصرى إلى «الزرقاء» وقال فيها شعراً. والزرقاء مدينة كبيرة وقد اتصلَت الآن بعَمّان أو كادت، وقد زرتها مرّات لا أحصيها وألقيت فيها محاضرات، في مساجدها ونواديها وفي النادي العسكري الكبير فيها. ثم إلى زيزاء وقال فيها شعراً (وتجدون هذه الأشعار كلها في كتاب «درر الفوائد المنظمة» ص 453 وما بعدها)، وزيزاء معروفة بهذا الاسم إلى اليوم ويحرّفه بعض الناس فيقولون «الجيزة» . ثم يمضي إلى الكَرَك، والكرك تقوم اليوم على هضبة وإلى جنبها شبه بلدة جديدة، وقد ذهبت إليها مرات وألقيت فيها محاضرات، وللكرك في تاريخ الحروب الصليبية أخبار طوال. ويمضي الصفدي في طريقه يسمّي منازله ويقول فيها هذا الشعر الذي عرفتم نماذج منه، حتى يبلغ معان.
ومعان بفتح الميم، وبعض المحدّثين يضمّها. وفيها تجمّع جيش الروم الذي نازله المسلمون في مؤتة، وكان جيشاً ضخماً يقول المُقِلّون إن فيه مئة وخمسين ألفاً والمكثرون إنه يزيد على مئتَي ألف، وقفَت أمامه فرقةُ استطلاع إسلامية صغيرة مؤلَّفة من ثلاثة آلاف، استُشهد قُوّادها الثلاثة الذين سمّاهم رسول الله عليه الصلاة والسلام بالقيادة. ثم تسلّمها القائد العبقري، أعظم قُوّاد التاريخ العسكري القديم، خالدبن الوليد، فانسحب انسحاباً كان أعظم من النصر، لأنه أنقذ ثلاثة آلاف من بين مئة وخمسين ألفاً أطبقوا عليهم وأحاطوا بهم. وإذا كان الحلفاء يفتخرون بالانسحاب من دَنْكِرك أيام الحرب الثانية فإن انسحاب خالد أعظم بكثير.
ولعبد اللهبن رواحة أحد القواد الشهداء مقطوعة قالها في مؤتة، ومؤتة معروفة الآن وهي إلى جنوبي الكرك، وإلى جنبها مدافن الشهداء في مكان اسمه اليوم «المَزار» .
ولقد سِرتُ إلى جنب الخط الحجازي كله من المدينة المنورة إلى دمشق، ومررت بمحطاته المهدَّمة، ورأيت ما انتهى إليه حاله. وكان في أوله في دمشق معمل كبير أُنشئ مع إنشاء الخط قالوا إنه يستطيع أن يصنع قاطرة كاملة، وكان في المدينة المنورة محطة كبيرة، وفي تبوك في وسط الطريق تماماً بين دمشق والمدينة محطة مثلها.
وقد كان من أواخر مَن ركب القطار وفدٌ من كبار علماء دمشق بعثَت بهم الحكومة إلى المدينة المنورة، وكان فيهم أبي رحمه الله ورحمهم. وقد أخذوهم كرّة أخرى إلى إسطنبول ليُروهم «جناق قلعة» وتحصيناتها، وكان خطيب الوفد الشيخ أسعد الشقيري، وهو فلسطيني، وهو والد الأستاذ أحمد الشقيري صاحب الخطب المأثورة. وكان الأستاذ أحمد كأبيه خطيباً طلق اللسان صاحب فصاحة وبيان، ولكن الأساليب تتبدّل بتبدّل الزمان، والمبالغات التي كانت تُعجِب يوماً السامعين وتُطلِق ألسنتهم بالهتاف وأكفَّهم بالتصفيق لم تعُد تصلح لهذه الأيام، وهي من باب قول الرافعي رحمه الله عن الطليان في قصيدته المشهورة:
تاللهِ لو انّهمْ جِنٌّ جماجِمُهمْ
…
ذُرى الجبالِ يغطّي هامَها الشجرُ
ومِن رقابهِمُ في الجوِّ أعمدةٌ
…
وفوقَ كلِّ عَمودٍ في السَّمَا قَمَرُ
وكانَ فيزوفُ فوقَ الماءِ بارِجةً
…
وخَلْفَهُ كانَ بركانٌ فينفَجِرُ
وأقبلوا ولَهُمْ هذي القلوبُ لَما
…
صدّوا عدوّاً ولا فازوا ولا انتصروا
شعر حماسيّ قوي، ولكن الحرب باللسان لا تُغني عن السنان وعن المدافع والطيران، وإلاّ انطبقَ علينا نحن ما قاله حافظ إبراهيم عن الطليان في تلك الحرب:
قدْ ملأنا البرَّ من أشلائِهمْ
…
فدَعوهم يملؤوا الدنيا كلاما
لقد صرنا نحن الذين يملؤون الدنيا كلاماً ويحاربون بالخطب والمقالات والمؤتمرات والتصريحات! ويقول حافظ إبراهيم في هذه القصيدة:
باركَ المُطرانُ في أعمالِهمْ
…
فسَلُوهُ: باركَ القومَ عَلاما؟
أبهذا جاءَهمْ إنجيلُهمْ
…
آمراً يُلقي على الأرضِ السّلاما؟
وأقول بالمناسبة إن لديّ أكثرَ القصائد التي قيلت في هجوم الطليان الغادر على طرابلس الغرب، أي ليبيا (التي كان العرب يسمّونها قبل الحرب الأولى «لوبيا»)، وتصلح هذه المجموعة لتكون موضوع رسالة للماجستير، ولكنها في مكتبتي في الشام.
* * *