المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌في مسجد آخن مع القساوسة والهيبيين - ذكريات - علي الطنطاوي - جـ ٧

[علي الطنطاوي]

فهرس الكتاب

- ‌الجزء السابع

- ‌افتتاح أسبوع التسلّح في دمشق

- ‌من أخبار العلم والعلماء في دمشققبل نصف قرن

- ‌فتنة التجانية في الشام

- ‌في الكلية الشرعية في دمشق

- ‌حلقة خاصّة في تصنيف العلوم

- ‌في الفقه الإسلامي والأحوال الشخصية

- ‌كيف وُضع مشروعقانون الأحوال الشخصية

- ‌مصر قبل أربعين سنة

- ‌في إدارة التشريع في وزارة العدل

- ‌ترشيحي في انتخابات الشام سنة 1947

- ‌عودة إلى الحديث عن مصر

- ‌حلقة مفردة: وحي صورة

- ‌وقفة استراحة

- ‌بقايا من ذكريات رمضان

- ‌في «آخِنْ» عاصمة شارلمان

- ‌رحلتي من فرانكفورت إلى آخن

- ‌الدعوة الإسلامية في ألمانيا

- ‌في مسجد آخن مع القساوسة والهيبيين

- ‌السفر إلى المؤتمر

- ‌إلى الوزير الشاعر عبد الله بلخير

- ‌صلاة الجمعة في مسجد بروكسل

- ‌أيام لا تُنسى في بروكسل

- ‌في منطقة الآردن

- ‌خواطر في الحياة والموت،في طرق هولندا

- ‌طريق الحج

- ‌الخط الحديدي الحجازي

- ‌في صحبة الحيوان

- ‌كتاب جديدأثار في نفسي ذكريات قديمة

- ‌إلى الأستاذ أحمد أبو الفتح

- ‌عودة إلى ذكريات القضاء

- ‌في محكمة النقض في دمشق

الفصل: ‌في مسجد آخن مع القساوسة والهيبيين

-201 -

‌في مسجد آخن مع القساوسة والهيبيين

!

من سافر منكم قبل أربعين سنة من الرياض إلى أوربا أدهشه كل ما يرى: الطرق المعبَّدة المضاءة، واللوحات فيها تدلّ على أسمائها وترشد إلى تفرّعاتها، والسيارات الكبيرة ذات الطبقتين تجري فيها، والأضواء الحمراء والخضراء على مفارقها تتبدّل وحدها تفتح الطريق أو تغلقه، والعمارات الضخمة ذوات العشرين طبقة أو الثلاثين على جوانبها، والسلالم المتحركة التي تعلو بك بدلاً من أن تعلو أنت عليها، والمصاعد وهي غرفة ترتفع بك أو تنزل، فكأنها تأتيك بالدور الأعلى فتضعه أمامك على الأرض!

كان كل ما يبصره، حتى ما نراه نحن اليوم مألوفاً معروفاً ونعدّه شيئاً معتاداً، كان يدهشه إذا قاسه بما كانت عليه الرياض في تلك الأيام، يوم كانت قرية صغيرة ما فيها سيارة ولا شارع تمشي فيه سيارة، ما كانت فيها كهرباء ولا مروحة أو ثلاّجة تسيّرها الكهرباء، ما كان ماء يجري في الأنابيب ولا كان في البيوت أنابيب للماء، ما كان فيها مدارس للعلم ولا حدائق للمتعة، ما كان فيها مطعم للآكلين ولا فندق للمسافرين.

ص: 231

هذا ما كان من أربعين سنة، فما الذي يدهشه في أوربا حين يذهب إليها الآن؟ ما الذي يجده فيها ويفتقده في الرياض؟ ربما كان فيها ما هو أكبر في الحجم وكان فيها ما هو أكثر في العدد وكان فيها ما هو أتمّ أو أكمل في الوضع والترتيب، لكن لم يبقَ فيها شيء لا نعرف مثله أو مشابهاً له في بلادنا.

بل إن عندهم ما ينزل عن الحدّ الوسط مما هو الآن عندنا. لقد وجدت في بون لمّا زرتها بيوتاً ما فيها حمّامات كالتي تجدونها هنا في كل منزل، ما فيها إلاّ مرحاض صغير بين الغرف، فإذا أرادوا الاغتسال ذهبوا فاغتسلوا في فندق أو حمّام عامّ! لم أجد فيها عمارة كبيرة وإنما هي البيوت الصغيرة القديمة ذوات السقف المائل من القرميد ينامون تحته، فإذا وقفوا ودنوا من الشارع كادت رؤوسهم تلصق بالسقوف. ولست أفضّل العمارات الكبيرة على هذه البيوت الصغيرة، بل الفضل لهذه البيوت ولكني أصف الآن ما رأيت.

وبون كأكثر المدن المجاورة لها: كولن وآخن ودوسلدرف، كلها كانت إلى الحرب الثانية من المدن الصغار. بون العاصمة كانت بُلَيدة، أما «باد كودْسبرغ» التي فيها الحكومة والسفارات (وهي عاصمة العاصمة إذا صحّ القول) ما كانت إلاّ قرية أو ضاحية من الضواحي.

وكلمة «باد» التي تنتهي بها أسماء كثير من المدن في ألمانيا أصل معناها -كما فهمت- المكانُ الذي فيه الماء المعدني الذي يُغتسَل فيه، أي أنها بمعنى الحمّام. كما أن كلمة دام التي نراها

ص: 232

في هولندا (أمستردام، روتردام، فولندام) معناها سد، لأن تلك البلاد تُعرَف في أوربا بالأراضي المنخفضة، لأنها منخفضة عن سطح البحر أو مساوية لها، فهم يُقيمون سداً (دام) ويُلقون الأتربة خلفه فيأخذون من البحر أرضاً! ورأيت مثل هذا في بومباي في الهند في شارع سي فيس، أي شارع السِّيف، أي سيف البحر. بل إنكم ترون مثله في جدة؛ لقد كان القصر من عشرين سنة قريباً من البحر (1) فانظروا الآن كم بَعُدَ عنه؟ حتى صارت شوارع الكورنيش (أي السِّيف، بكسر السين) فرجة للنفس ومسرّة للبصر ومَراحاً للأرواح.

ومن يذهب إلى أوربا الآن لا يجد زائداً عما عنده إلاّ كماليات نستطيع أن نعمل مثلها، فأضواء المرور الأحمر والأخضر والأصفر تجدون عندهم تحتها أرقاماً كهربائية متحركة، من مشى عليها لم يجد أمامه ضوءاً أحمر. وكنت أعجب حين أركب مع بعض الشباب فنصل إلى الإشارة فلا نراها إلا خضراء، لا نقف أبداً، فلما سألتهم قالوا: إن هذه الأرقام الكهربائية المتحركة تحدد للسرعة حداً، فالسائق الذي يسير عليه لا يقف أبداً.

وفي محطات النقل الجماعي لوحات كهربائية فيها أرقام متحركة تخبرك كم بقي على وصول الحافلة (الأتوبيس)، وفي محطات القطار صناديق للحقائب مفاتيحها عليها، لكن لا تُسحَب

(1) يريد قصر الحمراء الذي يقع اليوم على شارع الأندلس في جدة، وقد أدركته أنا يوم كان البحر أمامه ليس بينهما إلا شارع ضيق، وذلك قبل ربع قرن أو يزيد (مجاهد).

ص: 233

إلاّ إن دفعتَ مبلغاً من المال تُسقِطه في شقّ فيها بمقدار المدة التي تريد أن تُبقي الحقائب فيها، فإن دفعتَ أجرة ساعة واحدة وعُدت بعد انقضائها لن ينفعك المفتاح الذي أخذته معك لأن الصندوق لا ينفتح. وصناديق إن أسقطتَ فيها النقد المطلوب وكبست زراً ترك لك ما شئت من أنواع الشطائر (السندويش) ومن الشراب الحارّ والبارد.

ولو كتبتُ هذا المقال قبل بضع سنين لوصفت هواتف العملة التي تستطيع أن تخابر بها مَن شئت من الشارع بقروش تُسقطها في شقّ فيها، فصار عندنا الآن مثل هذه الهواتف. ونحن قادرون على أن نعمل هذا الذي ذكرت كله وأضعافَه معه، بل لقد صنعنا ما هو أكبر منه، ولعلّ الله يقيّض من الموظفين المختصين به من يقترحه على الحكومة اقتراحاً مفصَّلاً معلّلاً، فيتحقق ذلك إن شاء الله.

أمّا ما حبا الله به تلك البلاد من الخضرة والماء والأنهار التي تجري فيها والغابات التي تملأ جبالها، فهذا شيء من صنع الله ما لنا فيه عمل. ومن ساح في الأرض مثلما سحت يرى أن أوربا كلها خضراء لا ترى فيها بقعة مقفرة، وأن آسيا مثلها كلها خضراء فيها الشجر والماء، تغطّي كليهما الأشجار فيهما الأنهار الكبار. ما في الأرض إلاّ نطاق واحد من الصحارى يدور بها، من شمالي إفريقيا حيث الصحراء الكبرى، إلى جزيرة العرب، إلى أرض فارس وشمالي باكستان، ويمتدّ من وراء البحر إلى صحراء نيفادا في أمريكا. نطاق فيه أرض حرَمها الله نعمةً أعطاها غيرَها فلم يكن فيها الخضرة ولا الماء، ولكنه منحها نعمة تقابلها هي النفط في باطن أرضها.

ص: 234

وقد وفّقنا الله مع ذلك فصنعنا العجب. أليس عجباً أن نستخرج من القمح ونحن هنا في صحراء ما يكفينا ويفضل عنا حتى نصدّره إلى غيرنا؟ والبلاد التي كانت مصدر القمح إلى الرومان (حتى دُعيت «أنبار روما») صارت تستورده أحياناً. تلك هي الثمرة المرة المسمومة للاشتراكية التي هي بنت الشيوعية، أو لعلّها أمها فاعذروني فلست خبيراً بأنساب الشياطين! تلك التي ما دخلت بلداً إلاّ أدخلت إليه معها الضيق والضنك ونقص الأموال وفقد الحرّيات وفساد الضمائر والذمم، وأخرجت منه الخصب وسعة الرزق وراحة البال.

* * *

كنت أمضي أكثر وقتي في المسجد، نصلّي فيه وننام في غرف متصلة به ومنفصلة عنه. لا تعجبوا، فلقد جُعِلَت غرفاً مفردة في كل غرفة مرافقها وأمامها ممرّ فيه أبواب، فإذا فتحت الباب صارت الغرفتان معاً فكان منهما دار صغيرة، وإن فتحت باباً آخر اتصلت بهما غرفة ثالثة فصارت داراً من ثلاث غرف.

وفي المسجد مكتبة وتُقام فيه الصلوات الخمس، فإذا جاء يوم الجمعة خطب الخطيب بالعربية وتُرجمت الخطبة إلى الألمانية فقرة فقرة، يسكت الخطيب حتى يتكلم الترجمان، أو ألقيت الخطبة كلها ثم قام مَن يلخّصها باللغة الألمانية.

وجاءنا يوماً ثلاثة من القساوسة الألمان، وهم بروتستانت لا يتخذون القلانس التي يرتديها الكاثوليك وإنما يلبسون ما يلبس الناس، ولكن لهم شارات يُعرَفون بها منها ياقة بيضاء تكون

ص: 235

في أعناقهم في موضع العقدة (الكرافات). وطلبوا مني -وكنت مصادفة في المكتبة- أن أجيب إن سمحت على بعض أسئلتهم.

وكان يوم جمعة، وقد وصلوا قبل الصلاة بساعتين فامتدّ جلوسي معهم حتى أذن الظهر. ولا أستطيع أن ألخّص ما دار بيني وبينهم، ولكن أقول إن الحقّ يعلو دائماً، والله وعد أهل هذا الدين أن يُظهِره على الدين كله ظهور حجّة وبرهان. ووجدتهم علماء ذوي فكر وبيان، ولكن المحامي مهما كان بارعاً لا تنفعه براعته إن كان يرافع في دعوى باطلة، الدليل البيّن عليها لا لها.

وكان مما قالوه لي: ألا تؤمنون بأن الإنجيل منزَّل من عند الله؟ قلت: بلى، ومن أنكر ذلك لم يكن مسلماً. قالوا: فلماذا لا تؤمنون به؟ قلت: هاتوه حتى أؤمن به. قالوا: ها هو ذا. قلت: سبحان الله، هل أنزل الله إنجيلاً واحداً أم أربعة؟ إن عندكم أربعة أناجيل وقد اصطفيتموها من عشرات كانت لكم، فأيها الذي أنزله الله؟ وهل عندكم النسخة الأصلية التي كُتبت في عهد المسيح ودُوّنت يوم نزل به الوحي عليه كما كان يصنع كُتّاب الوحي بالقرآن؟

وكان الترجمان بيننا ضعيفاً في الألمانية، يفهمها -كما بدا لي- فينقل لي كلامهم، ولكنه يعجز عن نقل كلامي إليهم. عرفت ذلك من وجوههم، لأن في بعض الجواب ما يثير خواطر أو أفكاراً كان ينبغي أن يبدو أثرها على وجوههم فما كنت أرى لها أثراً، ثم علمت -بعدُ- أن هذا المترجم كان حديث العهد بالقدوم إلى ألمانيا وكان عاجزاً عن التعبير بها.

ص: 236

ولمّا دنا موعد الصلاة، وكان عليّ أن أخطب في ذلك اليوم وأصلّي بالناس، اختصرت الكلام وشرعت أودّعهم، فكان من قولهم لي مازحين: لكأنك تريد أن تُدخِلنا في دينك! أفلا تخاف أن نسحبك نحن إلى الدخول في ديننا؟ قلت: إن دينكم في الأصل منزَّل من السماء، وعيسى رسول من الله، ولكنكم فيه كالقاضي الذي يحكم بقانون قد صدر ما يعدّله ويُبطِل بعضَ أحكامه، والقانون الجديد أصدره وأمر باتّباعه الذي أصدر القانون القديم الذي تتمسكون به. ثم إني إن اتبعتكم خسرت وأنتم إن اتبعتموني ربحتم. قالوا: وكيف يكون ذلك؟ قلت: إن عندكم موسى وعيسى وعندي أنا موسى وعيسى ومحمد، فإذا اتبعتكم خسرت محمداً، وإن اتبعتموني أنتم بقي لكم موسى وعيسى وربحتم فوقهما محمداً صلّى الله عليهم جميعاً.

* * *

ورأيت يوماً في قلب البلد في الساحة الكبرى جمهرة من الناس من الشبان والشابات، يملؤون الساحة قاعدين على الأرض، ينامون على البلاط، يأكلون ويشربون وهم قاعدون، يتكوّم بعضهم على بعض، يختلط النساء بالرجال على حال لا يرضى بها الدين ولا تُقِرّها الأخلاق ولا يسيغها الذوق، هذه رأسها على كتفه وتلك رأسه في حجرها، وربما أبصرت وضعاً أفدح من ذلك:

وكانَ ما كانَ ممّا لستُ أذكُرُهُ

فظُنّ شرّاً ولا تسألْ عن الخبر

أقذوا العيون بقبح منظرهم وزكموا الأنوف بنتن رائحتهم.

ص: 237

وما ظنك بمن يقعد: بساطه أرض الشارع وسريره بلاطه، ويأكل فلا يغسل يديه ويذهب فيقضي حاجته ويعود فلا يتنظف من آثارها؟ ولا أظلم الحيوانات فأقول إنهم مثلها لأن من الحيوان ما ينظّف نفسَه ولو بلسانه كما يفعل القط، ومنها ما يغطس في الماء إن رأى الماء فيغتسل فيه، ومنها ما يتوارى عن الأنظار إن اجتمع ذُكرانه بإناثه فلا يراه أحد. من رأى فحلاً وناقة وهما في شهر العسل؟

فسألت: ما هؤلاء؟ قالوا: هم الهيبيون، خلفاء قوم آخرين ظهروا في إنكلترا قبلهم يتسمّون باسم الخنافس. والخنفساء أبشع الحشرات اسماً ومن أشنعها منظراً! وقلّدهم ناس منا فأطالوا شعورهم مثلهم، فكانوا كالذي زعموا أنه عاش عمره في القفر لم يرَ الحضر يقترب منه، نزل المدينة يوماً فرآهم يأكلون الزيتون الأسود، فحسبها صراصير، فلما عاد صار كلما رأى صرصوراً أمسك به فأكله. قالوا: ما تصنع ويحك؟ قال وما يُدريكم أنتم؟ رأيت أهل الحضر يأكلونها! وكثير منا ممن يقلد الأجانب بلا علم وبلا فهم مثل هؤلاء

إنهم أكَلة الصراصير!

والعجيب أن نفراً من أبنائنا هناك من الصالحين ذهبوا يسألونني أن أجتمع بأربعة من كبار هؤلاء الهيبيين لأنهم طلبوا زيارة المسجد والاجتماع بأحد رجاله. قلت: أعوذ بالله! ما لي ولهم، وما فائدة اجتماعي بهم؟ قالوا: إن في ذلك مصلحة، فإن منهم -على سوء منظرهم وقبح سلوكهم- من يحمل أعلى الشهادات، ومن له قلم وله لسان وله في قومه منزلة، فلعلّه إن عرف طريق الهدى كان من المهتدين ثم يدعو قومه إلى هذا

ص: 238

الطريق. فهَبْهُم من المؤلَّفة قلوبهم الذين يُعطَون من مال الزكاة، ونحن لا نسألك أن تعطيهم شيئاً من المال بل أن تعطيهم نافعاً من الأقوال.

قلت: وهل أذهب فأقعد معهم على الأرض على ما هم فيه من الرجس والنجس؟ قالوا: لا، بل يأتون هم إلى المسجد. قلت: وهذه أسوأ؛ المسجد طاهر نظيف لا يدخله إلاّ نظيف طاهر. قالوا: نشترط عليهم أن يتنظفوا ويغتسلوا ويبدّلوا ثيابهم والمرأة تستتر. قلت: وهل معهم امرأة؟ هل تريدون أن يكون بينهم في المسجد مثل الذي رأيناه في الشارع؟ قالوا: معاذ الله، بل هي طالبة في الجامعة تكتب وتنشر ولها في بلدها قرّاء وأتباع، وهي تأتي بالثوب السابغ والخمار (الإشارب) الساتر. قلت: نعم إذن.

فضربت لهم موعداً، فجاؤوا فيه ما تقدموا عنه ولا تأخروا. وكانوا ثلاثة ورابعهم فتاتهم، وكانوا جميعاً بالثوب النظيف وكانت هي بالحجاب المقبول. وفهمت لمّا عرّفوني بأنفسهم أن واحداً منهم أستاذ في جامعة له مكانة مرموقة وله مصنَّفات، ورأيته قد جاوز ميعة الشباب وكاد يدنو من مطالع الكهولة، والاثنان والبنت من طلاّب المرحلة الأخيرة من الجامعة. ودرت بهم في المركز، واخترت أن نجلس في غرفة الاستقبال على أرائك مريحة حول منضدة فسيحة على جدرانها الكتب، ففضّلوا أن يجلسوا في المسجد على الأرض، وجلست معهم لكنني استندت إلى الجدار، لأنني لا أستطيع أن أقعد طويلاً من غير سناد، لذلك أحمل معي إلى الحرم عندما أنوي إطالة القعود فيه خشبة مطوية طي الكتاب.

ص: 239

ونظروا إلى المحراب وسألوا عنه فخبّرتهم. قالوا: لماذا تتوجّهون إلى الكعبة؟ ولماذا تقدّسونها؟ وفهمت من كلامهم الذي نقله إليّ مترجم يُحسِن الألمانية والعربية، لم يكن كالمترجم الأول، فهمت أنهم يظنون أننا نعبد الكعبة كما يعبد الوثنيون أصنامهم. قلت: الكعبة بناء كأيسر وأبسط ما يكون البناء، حجارة مرصوفة ما فيها نقش ولا زخارف، وليس في داخل البناء شيء. ولقد احترقَت مرة وهدمها السيل مرة، كما يحترق وينهدم كل بناء على الأرض، فأعدنا نحن عمارتها بأيدينا وأقمناها من حجارة الجبل. فلا نعبدها ولكن نتوجه إليها امتثالاً لأمر ربنا أولاً، ولتنظيم الصفوف من حولها حين الصلاة، لأن الإسلام دين للفرد يربط قلبَه بالله، ودين للجماعة ينظمها في طاعة الله. إنها رمز نتوجه إليها، كما يقول الضابط لجنوده أو معلّم الرياضة لتلاميذه: توجهوا جميعاً إلى هذا الجدار أو هذه الشجرة؛ ما يريد تقديس الجدار ولا تأليه الشجرة وإنما يُقيم منها هدفاً لتسوية الصفوف. فنحن لا نعبد الكعبة بل نعبد ربّ الكعبة وربّ كل شيء.

فرأيت اثنين من الحاضرين يُسِرّ أحدهما إلى الآخر حديثاً فيعلّق عليه ويضحك منه، فسألت المترجم: ماذا يقولان؟ فكلّمهما ثم قال: ما هناك شيء مهم. قلت: أحبّ أن أعرفه إذا لم يكن يمنعهم مانع من عرضه عليّ. قال: لقد سأل: وما فائدة التنظيم؟ ولماذا لا يُترَك الناس أحراراً في صلاتهم يقومون كما يريدون ويصلّون ويتوجهون حيث يشاؤون؟ فأجبته جواباً عمَلياً بأن أدرت وجهي إلى الجدار وولّيتهم ظهري ثم كلّمتهم من ورائه، فعجبوا وسألوا الترجمان: لماذا صنعت ذلك؟ قلت: وهل

ص: 240

فيه ما تُنكِرونه أو تعجبون منه؟ قالوا: نعم. قلت: ألم يقُل صاحبكم إن النظام لا خير فيه وإن وقوفنا بالصلاة متدابرين خير من أن نقف صفاً واحداً؟

فرأوا في هذا جواباً لهم من غير أن أكلّمهم. ثم قلت للترجمان: دعهم يقولوا ما جاؤوا لأجله. فسألوني أسئلة عن الإسلام أجبت عنها، وتبيّن لي منها أنهم على فهم وعلى اطّلاع ولم تبدُ لي منهم نية سوء، فسألتهم عمّا هم فيه: لماذا يختارون الوساخة على النظافة والفوضى على الترتيب؟ ولماذا يصنعون ما يستقبحه الناس كلهم ويرونه حسناً؟ فتبيّن لي من حوار طويل جرى بيني وبينهم أن هذه الأعمال التي يقوم بها الشباب في أوربا (مما صنعوا سنة 1968 في فرنسا على عهد ديغول، ومن اعتناق كثير منهم الوجوديةَ التي دعا إليها جان بول سارتر، ثم هذه الحركات كالخنافس وغيرها

) تبيّن لي سرّ ذلك كله وهو أنهم لم يعودوا مقتنعين بالدين الذي كان عليه آباؤهم، وأنهم حكّموا فيه عقولَهم فلم تعُد تطمئنّ إليه عقولُهم، ولم يعودوا يستطيعون أن يفهموا بأن واحداً يساوي ثلاثة (أي أن 1+1+1=1)، لذلك انصرفوا عن هذا الدين وأعلنوا خروجهم عليه، وأن هذه الحضارة التي كان يعتزّ بها آباؤهم ويفخرون بها ويستطيلون بها على عباد الله لم تعُد تطمئنّ إليها قلوبهم، لأنها حضارة مادية خالصة والإنسان جسد ونفس وروح، فلا بد له مما يضمن مصالح جسده ومسرّات نفسه واطمئنان روحه، لذلك أعلنوا خروجهم عليها بهذه المظاهر. وإلاّ (يقولون هم) فهل في الدنيا من يكره النظافة أو يفضّل أن ينام على بلاط الشارع ويترك السرير المريح النظيف؟

ص: 241

وأفاضوا في مثل ذلك فعلمتُ سرّ هذه الحركات التي نراها ونعجب منها ولم نكن نعرف الدوافع إليها.

وأقول الآن لمن يقلّدهم من شبابنا أو يحاول أن يسير مسيرتهم إن عذرهم هو ما قدّموه فما عذركم أنتم في تقليدهم؟ إذا كان الدين الذي نشؤوا عليه لم تعُد ترضاه عقولهم فدينكم -يا أيها المسلمون- يمشي مع العقل، بل العقل يمشي معه فلا يختلفان، لأن الذي خلق هذا العقل ووضعه في الإنسان وكان من ثمرته هذا التفكير هو الله الذي أنزل هذا الدين، فلا يمكن أن يخلق لنا العقول ثم يكلّفنا ما لا ترضاه عقولنا.

ولذلك ترون في القرآن الحثّ على التفكير وعلى التعقّل {لقومٍ يتفكّرونَ} . أمّا هذه الحضارة فلا نزال نحن على شاطئها، لا نزال فيما هو الخيّر منها، لم نصل بعدُ إلى لُجّها ولم نتعرض للغرق فيها. على أن لي محاضرة طويلة ألقيتها في الندوة العالمية للشباب المسلم من بضع عشرة سنة بيّنت فيها موقفنا من هذه الحضارة المعاصرة وما ينبغي أن نأخذ منها وما يُطلب منا أن ندع، ولعلّي أعرض لها يوماً (1).

* * *

(1) سبقت الإشارة إلى هذه المحاضرة أكثر من مرة، وهي منشورة في كتاب «فصول إسلامية» ، كما نشرتها دار المنارة مستقلّة في رسالة صغيرة أيضاً (مجاهد).

ص: 242