الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
-206 -
في منطقة الآردن
مضى ثلثا الليل ونحن، أنا وزوجتي والأستاذ ظبيان معنا، هائمون على وجوهنا في شوارع بروكسل، وقد خلت إلاّ من أعقاب السابلة وروّاد الليل، من السكارى العائدين بالخزي من الخمّارات والسرّاق والعشّاق، ومن يتيقظ حين ينام الناس كالبوم والحيّات والعقارب وهوام الأرض.
ولكل امرئ أمانٍ يتمناها، وقد تجمّعت أمنياتنا كلها في غرفة لها باب ووطاء وغطاء ووسادة نسند رؤوسنا إليها، حيث نأمن أن يدخل غريب علينا. وأدركت عظمة حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال:«من أمسى آمناً في سِرْبه مُعافىً في بدنه مالكاً قوتَ يومه فقد حِيزَت له الدنيا» . وهذا الذي كنا نطلبه في تلك الساعة من الدنيا كلها. لقد عرفت لماذا اعتدّ (أي عدّ) الله من نعمه على قريش أنه أسكنهم بجوار البيت الآمن وأطعمهم من جوع وآمنهم من خوف.
وذكرت (والذكريات يجرّ بعضها بعضاً) لمّا مررنا في طريقنا من عمّان إلى بغداد ورأينا ما صنع الإنكليز في الصحراء
في محطات النفط، حين أقاموا فيها بيوتاً مثل بيوتهم في بلادهم فجاءت تشبهها أو تذكّر بها. لذلك كان من معنى كلمة «هوم» عندهم أنها السكن، وقد أخذوا المعنى من العربية، فليس «السّكَن» الدار وحدها التي يسكن الجسم فيها ويستريح بل ما تسكن النفس إليه وتطمئن به، لذلك جعل الله لنا من أنفسنا أزواجاً لنسكن إليها.
وكنا قد وصلنا إلى آخر البلد (بروكسل) فقلّت العمارات وكثرت الحدائق، فقعدت على كرسي من كراسيها وقلت: أتمدّد فأسترخي فلم يبقَ لي صبر على النوم، وأنا مسافر منذ الصباح، قطعتُ الطريق من ألمانيا إلى بروكسل ثم طفنا شوارع بروكسل كلها. ويبدو أن أصواتنا علت بالحديث ونحن لا نشعر، وكنا أمام دار واطية لاصقة بالأرض لها نافذة مفتوحة من الحرّ، فبرز منها رجل قد أيقظناه من نومه فأقبل يلومنا، والأستاذ يحاول الاعتذار إليه وتهوين الأمر عليه، وإذا به يقول له: مسيو زابيان؟ وإذا هو يعرفه، وإذا هو يفتح لنا بابه ويخبرنا أن عنده غرفة للإجارة يؤجّرها، وأنه الآن وحده والدار خالية إلاّ منه لأن زوجته في سفر.
وكان يظهر عليه أنه كهل طيّب القلب، طلق الوجه حلو اللسان، فدخلنا إلى شبه حديقة تفضي إلى دار صغيرة فتح لنا بابها وأضاءها، فوجدنا غرفة متسعة من البناء القديم عالية السقف، فيها أثاث نظيف ولكنه من الطراز العتيق، ومعها حمّام كبير، وفيها جرس إذا احتجنا إلى شيء قرعناه. فكان ذلك أكثر مما نطلب.
وودّعَنا الأستاذ وذهب، وعاد صاحب الدار إلى غرفته
فوجدنا النوم الذي كنا نفتّش عنه ينتظرنا على هذا السرير القديم جداً العريض جداً. فما رمينا بأجسادنا عليه حتى هبط النوم علينا فلم نصحُ إلا ضحى الغد وقد فاتتنا صلاة الفجر، بعد أن سألنا صاحب الدار عن موعدها وكلّفناه أن يوقظنا إليها. فصلّيناها قضاء، ومَن نام عن صلاته كان كفّارتها الإسراع في قضائها.
وخرجنا إلى الحديقة فإذ هي عرصة مهمَلة فيها أشجار كبار محمَّلة بالثمار، وأكثرها من أشجار التفاح الذي ندعوه في الشام بالشتوي لأنه كبير الحجم جداً بطيء النضج، لا ينضج إلاّ في وسط الخريف، لذلك كنا نأكله في الشتاء. ووجدناه مُلقى على الأرض لا يلتقطه أحد وما على الأرض منه يملأ صناديق، فسألنا صاحب الدار، فخبّرَنا أن نفقات جمعه وحمله ونقله لا يفي بها ثمنه الذي يُباع به، فجرّبنا أن نذوقه فإذا هو حامض لم يبلغ حدّ النضج. وسألناه عن الطعام فقال: اطلبوا ما تشتهون أشترِه لكم أو أطبخه أنا. فطلبنا منه فطوراً فأعدّ لنا الفطور من البيض المقليّ والحليب المغليّ والعسل الشهيّ والخبز الناضج الطريّ، فأكلنا وشربنا الشاي.
وجاءنا الأستاذ نديم وقد استرحنا وشبعنا. وكذلك الدنيا: يوم لك ويوم عليك، ويوم يسرّ ويوم يسوء، وما عاش فيها أحد بالسرور الدائم ولا بالألم المستمرّ. ولقد أحصى الناصر (هل تعرفونه؟ عبد الرحمن الناصر باني «الزهراء» ، الذي كان أعظمَ ملوك أوربا في عصره، الذي أنشأ في الأندلس خلافة ثانية مع خلافة بغداد وتَسمّى بأمير المؤمنين، وما ينبغي أن يتسمّى بإمارة المؤمنين إلاّ واحد لأن المسلمين جسد واحد، فهل رأيتم جسداً
له رأسان؟ إن رأيتموه كان من عجائب المخلوقات). الناصر هذا أحصى قبل موته الأيام التي مرّت عليه صفواً بلا عكر فوجدها ستّة عشر يوماً فقط! هذه هي الدنيا:
خُلِقَتْ على كَدَرٍ وأنتَ تُريدُها
…
صَفْواً مِنَ الأقذارِ والأكدارِ
وجاءت زوجتي ترتّب السرير فوجدت سمّاعة تحت الوسادة متّصلة بأسلاك، تتبعناها فإذا هي مربوطة بجهاز تحت السرير ما عرفنا ما هو، فحسبناها آلة تجسُّس علينا! فلما حضر الأستاذ نديم وأطلعناه عليها وسألناه عنها ضحك من جهلنا وقال: إنها تنقل إلينا موسيقى ناعمة لنسمعها فننام عليها.
وقال لنا: إلى أين تحبون أن آخذكم؟ قلت: أنت المقيم في البلد، تعرف متفرَّجاته ومتنزَّهاته ومواطن الجمال فيها وما يستحقّ الزيارة منها، ولكننا قرأنا في التاريخ أن معركة كبيرة بين الألمان والحلفاء كانت في أوائل الحرب الأولى سنة 1914 في منطقة الآرْدِنْ وتكرّرت سنة 1940، وكان مثلها في مكان قريب في حرب السبعين (1870)، فأين هذه الآردن وما هو بعدها عنا؟ وهل ينفعنا أو يمتعنا أن نراها؟ قال: هلمّ إليها فإنها قريبة، نركب القطار إلى نامور (وهي إحدى المدن المعروفة في بلجيكا) ثم نركب إلى قرية دينان القريبة من المكان الذي كانت فيه المعركتان. قلت: على اسم الله.
* * *
وكنت أحسب أن الله لم يخلق وادياً أحلى من وادي الرّبوة والشاذِرْوان في الشام، فلما رأيت هذا الوادي الذي يجري فيه نهر
الموز أيقنت أن قدرة الله أكبر من أن تحبس الجمال كله بين جبلَي الربوة. وأنت حين ترى المشهد من مشاهد الطبيعة تظن أنه أجملها وأنه لم يُخلَق مثله، فإن رأيت غيره بدّلت رأيك فيه.
انظر إلى من يسمّونهن ملكات الجمال: يختارون من كل بلدة أجمل مَن يجدون من نسائها. وربما أساؤوا الاختيار، وربما كان في البيوت أجمل منها جمالاً وأشدّ فتنة وأخفّ روحاً وأقرب إلى قلب مَن يراها، ولكنهم جعلوا للجمال مقاييس مادية حسبوا أنها هي ميزانه، وما دروا أن الجمال لا يُوزَن ولا يُقاس إلاّ بمقياس أولي الأذواق من الناس. فإذا اجتمعن لم تعُد تدري مَن هي أجمل منهن.
وليس الجمال للنساء وحدهن؛ فالشيخ المشرق الطلعة النوراني الوجه الأبيض اللحية جميل، والعجوز الطيبة القلب الباسمة الفم الحسنة الخلق جميلة، والرياضي القوي البنية المشدود العضل العريض المنكبين جميل. وكذلك الحال في مشاهد الكون ومجالي الطبيعة، فمنظر تراه تحسّ أنه كالفتاة الحلوة، ومنظر كالشيخ الذي له براءة الطفولة، ومنظر الغانية المتبرّجة التي تستهوي النفوس ولا تروق القلوب. وما ذكرت مسابقات الجمال لنصنع مثلها ولا لنقتدي بها، فنحن لا ننظر إلى امرأة طمثها قبلَنا غيرنا، ولا نجعل النساء سلعة معروضة وعلامة نضعها على علب المتاع لنروّجها في الأسواق، ولكن جمال النساء عندنا لأزواجهن.
رأيت هذا الوادي قد جمع الجمالَ من أطرافه؛ نهر كبير يجري فيه، وصخور مُخْضَرّة تقوم على جانبَيه، وقُرى صغيرة
وأبنية أثرية تعلو بعضَ جباله، ولكن وادينا على ذلك كله أحبّ إليّ، ولو عرضوا عليّ المبادلة لَما بدّلت به. هل تُعطي ابنك لغيرك وتأخذ ابنَ غيرك ولو كان أكمل الشباب وأجملهم؟ لقد خطرَت هذه الحماقة يوماً على أذهان قريش حين عرضوا على أبي طالب أن يُعطيهم محمداً عليه الصلاة والسلام ويدفعوا إليه من شاء من فتيانهم، فضحك منهم وقال لهم: أعطيكم ابني لتقتلوه وآخذ ابنكم لأربيه لكم؟ ولا يزال التاريخ يضحك من هذه الجَهالة إلى الآن.
إن الجمال شيء عجيب، إنه من أسرار خلق الله، إن وجوه الناس تتشابه جميعاً في وضع عيونها وحواجبها وأفواهها وآنافها، وما ثَمّ وجه يطابق تماماً وجهاً آخر. والجمال أمر يُدرَك ولا يُعرَف ويُحَسّ ولكن لا يُقاس.
وكذلك القول في مناظر الطبيعة. كنت بالأمس في ترفورين، وهي منا على مرمى حجر، فرأيت جمال الخضرة والظلّ والبِرَك الصافية والنسيم العليل، فقلت: لقد ضمّ هذا المكان الجمال كله! فلما نزلت هذا الوادي رأيته أجمل. وأنا أُقِرّ مرغَماً (وإن كان هذا الإقرار صعباً على نفسي) أن وادي الربوة (الشاذروان) الذي طالما ملأتُ الأسماعَ وسوّدتُ الصحفَ بوصف جماله لا يكاد يباري وادي الموز هذا ولا يقف أمامه، ولا يواجهه بعينه ولا يستطيع أن ينظر إليه.
* * *
نزلنا من القطار في دينان. وهي في وادٍ يمرّ النهرُ، نهر الموز، فيه ويقوم الجبل على جانبَيه. وما تبلغ أن تُعَدّ قرية؛
إنها مجموعة أبنية ما تصل إلى الثلاثين، لكن فيها كل ما يُحتاج إليه: فندق صغير، ودكاكين فيها كل ما تطلبه من مثلها من طعام وشراب، ومتاع مما لا يُستغنى عنه هناك من المتاع، وفيها من التحف ما له بالبلدة صلة فهي تدلّ عليها وتكون ذكرى لك من زيارتك إياها، وفيها كنيسة فخمة ما دخلتُها ولكن ظاهرها يدلّ على حسن بنائها، تقوم عند أقدام الجبل وتكاد تصل من علوّها إلى صدره. وفوق الجبل بناء ضخم لست أدري ما هو، ركبنا المصعد فصعد بنا إليه فرأينا الوادي كله، أي أننا رأينا بعضاً منه، وهو وادٍ طويل يمتدّ ما امتدّ نهر الموز ويكاد يصل إلى آخر القسم البلجيكي من الآردن.
والآرْدِنْ منطقة واسعة أكثرها مع بلجيكا وأقلها مع فرنسا، لمّا نظرت من أعلى أحسست كأني أنظر إلى وادي الربوة في دمشق من عند قبة السَّيّار فأرى جزع الوادي ومنعطفه. وما كنت أراه وأنا على الأرض محجوباً عني انكشف الآن لي، فكأنه المستقبل الذي لا يصل بصرك إليه ولا يحيط علمك به، تراه من فوق فكأن الماضي والحاضر والمستقبل قد اجتمعت لك، فعلمتُ أن ذلك كله نِسبيّ؛ كمن يأخذ جرائد الأسبوع الماضي ليقرأها دفعة واحدة، فما كان حاضراً لقارئها في يومها صار الآن ماضياً عند من يراها كلها، وما كان من حديث الغد في العدد التالي صار عنده الآن من خبر الحاضر.
هل ترونني تفلسفت وأغربت وجئت بشيء لا يُفهَم، كما يفعل أدعياء الشعر الجديد أو شعر الحداثة، أي شعر الحدَث الذي يستوجب الوضوء إن كان صغيراً والغُسْل إن كان حَدَثاً أكبر!
على أن من شعر الحداثة ما لا تذهب بأوضاره ولا تطهّر صاحبَه منه شلالات نياغارا لو وقف تحتها واغتسل بها.
ودعوني أبالغ في التفلسف فأسأل: ما المستقبل؟ وأين أدركه وأنا إن وصلت إليه صار حاضراً وذهبت أفتّش عن مستقبل جديد أجري وراءه؟ وهذا المعنى يشغل من نفسي مكاناً لذلك ما أفتأ أعود إليه وأتكلم فيه.
* * *
سألت الأستاذ (وقد قلت لكم إنه أكبر مني سناً، وأنا أنسى ما كنت أريد أن أقوله فما بالكم به؟ وأرجو ألاّ تخبروه أني اغتبته، فما أعلنت غيبته ولكن كتبتها في جريدة تصل إلى كل مكان). سألته: هل تعرف دينان؟ قال: كيف لا أعرفها وقد قضيت شهر العسل فيها؟ ولم يقُل إن ذلك كان قبل أن يُقتَل أرشيدوق النمسا فتقوم الحرب العامّة الأولى.
نزلنا من القطار، ولم نقصد شيئاً في دينان مما يقصده السياح ليروه لأن الأستاذ حفظه الله كان قد نسيه، فلم يكن أمامنا إلاّ أن ننتظر عودة القطار. مررنا على الجسر فوق نهر الموز عشرين مرة حتى عجب منا الناس إذ يرون امرأة محجبة، وما عرفوا من قبلُ محجبات إلاّ الراهبات فحسبوها راهبة! والراهبات ربما كُنّ عند بعض الناس غيرَ محبوبات ولكنهن غير مَهينات ولا مزدرَيات، ودينان منعزلة لا يكاد يصل إليها إلاّ قليل من الناس فلا يألف أهلها رؤية الغرباء.
ومن قال لكم إن المرأة المسلمة إن بقيت في أوربا على حجابها سخروا منها أو آذوها فلا تصدّقوه، فما يسخر ثَمّة أحدٌ من أحد. تلك آداب تعلّموها من كتاب الإسلام القرآن ونسي بعضَها بعضُ أهل الإسلام. ولكني أنصح مَن تذهب إلى تلك الديار أن تلبس قريباً مما يلبس النساء هناك حتى لا تنبّههم إليها فتقع الأنظار عليها، بشرط أن لا تكشف إلاّ وجهها ولا تكشف ما أمر الله بستره من جسدها، ولا يكون لباسها ضيقاً يحكي جسدَها ولا رقيقاً يشفّ عنه ولا غريباً يلفت الأنظار. وإن بقيت على عباءتها ولم تفارق زيها في بلدها لم يضرّها ذلك في نفسها بل سبّب الخسارة لها في مالها، لأنهم صاروا يطمعون فينا ويظنّون أن كل قادم من أرض النفط (الخليج) يملك بئر نفط فيزيدون الأسعار علينا. حتى الإنكليز الذين كانت تُضرَب بأخلاقهم الأمثال (حتى ألّف حافظ عفيفي باشا كتابه «الإنكليز في بلادهم») أخذوا هذه الأخلاق وصاروا -كما تسمعون- لا يطمعون إلاّ بالمال، استغلّوا له كل شيء حتى العلم، حتى الطب. فانتبهوا ياأيها الناس.
إقليم الآرْدِن من أجمل الأقاليم، بعضه مع فرنسا وأكثره مع بلجيكا، وهو الباب الذي يدخل الغزاة منه عليهما؛ في حرب السبعين أيام بسمارك ونابليون الثالث، وفي الحرب الأولى سنة 1914 والثانية سنة 1940. أنشأ الفرنسيون خطّ ماجينو الذي قالوا إنه لا يُقتحَم ولا يدخل منه عدو مهما قوي، فكان كقبر جحا في قونية الذي زعموا أنه مؤيَّد بعوارض الحديد وأن عليه من الأقفال ما يزن القناطير فهو لا يُفتح ولا يُكسر، ولكن ليس من حوله جدران فمن شاء الدخول دار فولج المكان. وكذلك فعل الألمان،
دخلوا من الآردن حيث الطريق مفتوح إلى باريس، ولو بقينا في القطار ولم ننزل في دينان لصرنا فيها بعد قليل.
* * *
والكلام عن بروكسل طويل، وهي عاصمة السوق الأوربية المشتركة، أي أنها شبه عاصمة لأوربا المتحدة، لتوسُّط موضعها واتفاقهم على اختيارها. وساحتُها الكبرى من أجمل ما رأيت من مراكز المدن (سانتر)، ومن الساحات هناك ما هو مفروش بالسجّاد، ولكنها ليست سجّاداً من الصوف ولا من الحرير، ولم ينسجها منوال ولا أكفّ النساء ولا الرجال، بل هي بساط من الورد والزهر، ومن حولها الشوارع تطيف بها. وفي طرف الساحة الكبرى ببروكسل بناء عظيم في زاويته منارة مسجد لا تختلف عن أكثر المنارات، ذلك هو بناء البلدية. ومِن خبره الذي حدّثني به ولدي الدكتور عدنان الهوّاري أن المهندس الذي أقامه لحظ بعد تمامه ميلاً في محوره، فاشتدّ ذلك عليه وكبر لديه أن يُنسَب إليه، فصعد إلى أعلاه وألقى بنفسه فمات! وفي الناس عاقل ومجنون، ولله في خلقه شؤون.
وفي الساحة متحف يبيّن تطور بروكسل عبر التاريخ، كالذي يبيّن حال الرياض بين يومها وأمسها والذي يتنقل في البلدان فيلقى الإعجاب في كل مكان. وقد طالما تمنيت واقترحت على أمين العاصمة المقدسة الأستاذ فؤاد، ابن أخي الأستاذ محمد عمر توفيق الوزير الكاتب الأديب، أن يُقيم معرضاً دائماً يمثّل الكعبة والحرم في الجاهلية وفي صدر الإسلام وما زاد فيه الخلفاء على
مدى التاريخ، حتى جاءت الزيادة السعودية ففضلتها كلها وزادت أضعافاً عليها، وآخرها فرش السطح وإعداده للصلاة وإقامة سلّم يصعد هو بالناس بدلاً من أن يصعد الناس عليه. فلو أنهم صنعوا مثل ذلك بمكة المكرمة وجدّة ووضعوه في صورة مجسَّمة ليطّلع عليها مَن لم يعرف كيف كانت هذه البلاد قبل خمسين سنة (كما عرفتها أنا) وكيف صارت الآن.
* * *
وجدت في بروكسل عجباً؛ عادت بي الأيام إلى ما خلّفت ورائي من حياتي فرأيت فيها ما كان في دمشق وفقدناه من أكثر من ربع قرن، رأيت فيها الترام.
والترام قديم في دمشق، جاء به وبالكهرباء أحدُ الولاة المصلحين من ولاة العثمانيين وأظنه ناظم باشا. عمره (أي الترام) من عمري، كان هدفَ كل مظاهرة وطنية، فكان أول ما تقصد إليه عربات الترام تحرقها، لا بغضاً بالحضارة التي تمثّلها ولا لنستبدل بها ركوب الدوابّ وعربات الخيل، بل لأن شركة الكهرباء التي تسيّره بلجيكية. وطالما قاطعناه الأيام والشهور وأعرضنا عنه، رفضاً للاستعمار ولأن بلجيكا التي تملكه هي الأخت الصغرى لفرنسا التي عدَت على بلادنا وحكمتنا بغير إرادة منا وانتدبتنا لتمدّننا، فكان انتدابها قتلاً لرجالنا وتدميراً لمدننا، تدمير المنازل مرتين بالمدافع من القلاع التي نصبوها على جبالنا موجّهة إلينا لا إلى عدوّ بلدنا، وحرقاً للحارات وللأحياء، حتى إن أجمل أحياء دمشق بقيت خرائب أكثر من ربع قرن، ولا يزال اسمها على ألسنة
الناس إلى اليوم، الذي لا يعرفونها بغيره هو «الحريقة» .
أقول إن الترام الذي قلعنا خطوطه وأزحنا عرباته وجدته في بروكسل بذاته، فذكّرني الماضي وأعاد لي ما سلف من عمري.
فنحن لهذا لا نحبّ بلجيكا، ولكن الله علّمنا أن لا يمنعنا ذلك من قولة الحقّ فقال لنا:{ولا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ على ألاّ تَعْدِلوا، اعدِلوا} ، ومنَ العدل أن أذكر مزيّة لبلجيكا تُذكر وتُشكر، هي أنها أول دولة غربية اعترفت بالإسلام ديناً. وهي تبعث فتسأل أولياء التلاميذ أول كل سنة مدرسيّة عن الدين الذي يختارونه لأولادهم، فمن كان من أبناء المسلمين جعلت لهم هم اختيار مدرّس يدرّس لهم دينهم، وأعطته الحكومة مرتَّبه وجعلت له كل حقّ هو لسائر المدرّسين، وقد جرى العمل على أن يختار المدرسين المركزُ الإسلامي.
* * *