المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

فهرس الكتاب

- ‌الجزء السابع

- ‌افتتاح أسبوع التسلّح في دمشق

- ‌من أخبار العلم والعلماء في دمشققبل نصف قرن

- ‌فتنة التجانية في الشام

- ‌في الكلية الشرعية في دمشق

- ‌حلقة خاصّة في تصنيف العلوم

- ‌في الفقه الإسلامي والأحوال الشخصية

- ‌كيف وُضع مشروعقانون الأحوال الشخصية

- ‌مصر قبل أربعين سنة

- ‌في إدارة التشريع في وزارة العدل

- ‌ترشيحي في انتخابات الشام سنة 1947

- ‌عودة إلى الحديث عن مصر

- ‌حلقة مفردة: وحي صورة

- ‌وقفة استراحة

- ‌بقايا من ذكريات رمضان

- ‌في «آخِنْ» عاصمة شارلمان

- ‌رحلتي من فرانكفورت إلى آخن

- ‌الدعوة الإسلامية في ألمانيا

- ‌في مسجد آخن مع القساوسة والهيبيين

- ‌السفر إلى المؤتمر

- ‌إلى الوزير الشاعر عبد الله بلخير

- ‌صلاة الجمعة في مسجد بروكسل

- ‌أيام لا تُنسى في بروكسل

- ‌في منطقة الآردن

- ‌خواطر في الحياة والموت،في طرق هولندا

- ‌طريق الحج

- ‌الخط الحديدي الحجازي

- ‌في صحبة الحيوان

- ‌كتاب جديدأثار في نفسي ذكريات قديمة

- ‌إلى الأستاذ أحمد أبو الفتح

- ‌عودة إلى ذكريات القضاء

- ‌في محكمة النقض في دمشق

الفصل: ‌في صحبة الحيوان

-210 -

‌في صحبة الحيوان

دخلنا في ألمانيا حديقة حيوانات ليست كما عرفنا من الحدائق، لا تُحبَس فيها الأسود والسباع في الأقفاص بل تمشي حرّة طليقة، ونبقى نحن محبوسين في الأقفاص تمشي بنا أقفاصنا بين الأسود. وما الأقفاص إلاّ سيارات كبيرة لها عوارض من الحديد تجعل منظرها كالقفص. أو ندخل بسياراتنا مغلَقة نوافذُها مُرخى زجاجها.

وكنا قد ذهبنا في سيارة صغيرة قديمة أدركت عهد ما بين الحربين، فهي عجوز أكل عليها الدهر حتى شبع وشرب بعد الأكل الشاي! وإذا كانت العجوز وكان الشيخ يمشي على ثلاث (لأن العصا للشيخ رجل ثالثة) مشت هي على أربع. وكان سائقها شاباً طيّباً من أبنائنا الطلاب، يبدو أنه لم يكن يُحسِن القيادة، وكنا نمشي في طرق الحديقة، وهي متروكة كما خلقها الله لتأنس فيها الحيوانات وتعيش كما تريد، فاعترضَنا جدول صغير فما طاب للسيارة الوقوف إلاّ وسط الجدول، ويظهر أنها كانت مصابة بالرثيّة (أي الروماتيزم) فحرّك الماء البارد آلامها، فلم تعُد تستطيع المسير ولا تجد قوة على الصعود من عمق الجدول إلى ظهر الطريق.

ص: 345

وجعلت حيوانات الحديقة تمرّ بنا، فمنها ما يُلقي نظرة علينا ثم يمضي غيرَ حافل بنا، ومنها ما يقف علينا قليلاً كأنه يَعجب منا أو يرى فينا مخلوقاً غريباً. وجاء أسد فدنا منا حتى لامس برأسه زجاجَ سيارتنا، واستطعت -من قربه- أن أعدّ شعرات شاربَيه وأتأمل وجهه وعينيه الصغيرتين، فوجدت فيهما رقّة لا أجدها في بعض بني آدم! ووجدته كالقط الكبير. ونحن نحبّ القطط ونألفها، وعندنا قطط فارسية جميلة نُعنى بها ونضعها في أحضاننا، ولكننا لا نحبّ الكلاب والذين يربّونها ويعانقونها ويتركونها تلحس وجوههم وأبدانهم بألسنتها وينامون إلى جنبها ويأكلون معها! والإسلام يكره ذلك إلاّ لمقصد مشروع، كحراسة الحقل وحماية القطيع وتتبُّع اللصوص والمجرمين. أمّا نجاسة الكلب ففيها خلاف، فهو عند الشافعي نجس كله شعره وريقه، وعند مالك طاهر كله شعره وريقه، وعند أبي حنيفة ريقه نجس وشعره طاهر، وقد رجّح ابن تيمية ما ذهب إليه أبو حنيفة.

عفواً، لقد غلبَت عليّ صنعتي في أيامي الأخيرة وهي الفتوى.

ووقف الأسد ملياً، فلما رآنا لا نستحقّ الاهتمام لوى وجهه وانصرف عنا غير مودّع لنا ولا آسف كما يظهر على فراقنا. وأحسبه كان يظننا من أقربائه وأنسبائه: أسوداً نحمي غابَنا ونردّ عنه الواغل علينا، فلذلك أقبل علينا، فلمّا علم (وما أدري كيف علم) أننا قد أذهبنا ريحنَا وأضعنا عزّتنا بانقسامنا وانحرافنا عن طريق أسلافنا، زهد فينا وأعرض عنا. وكيف يحسبنا أسوداً وقد غلبتنا على أرضنا في فلسطين الكلابُ؟!

ص: 346

ورأينا الغزلان تمرّ من حولنا تنظر بعيونها إلينا، تلك العيون التي فتنت شعراء العرب حتى شبّهوا بأصحابها الغيد الحسان. وما زال العرب يتتبّعون ما أودع الله من الخصائص والمزايا في غرائز الحيوان فيضربون بها الأمثال: بوفاء الكلب، وصبر الحمار، وإقدام الأسد، واحتمال الجمل، وجمال الغزال، ومكر الثعلب.

ولمّا جاء عليُّبن الجهم بغداد قادماً من بيدائه باقياً على جفائه، مدح الخليفة فجمع فيه من هذه الصفات التي كان يراها مزايا، حتى لم يكَد يدع حيواناً إلاّ شبهه به (كما زعم الرواة)، فأنكر عليه أهل المجلس، ولكن الخليفة رأى فيه جوهراً غالياً ينقصه الصقل، فأمر بإسكانه في أجمل أحياء بغداد يوم كانت بغداد أجمل وأجلّ بلاد الدنيا. فما مضت أشهر حتى غدا عليه بقصيدته المشهورة:

عيونُ المَها بينَ الرُّصافةِ والجسرِ

جلَبنَ الهَوى مِن حيثُ أدري ولا أدري

أعَدْنَ ليَ الشّوقَ القديمَ ولم أكنْ

سَلَوْتُ ولكنْ زِدنَ جَمراً على جَمري

ولمّا كنت أدرّس الأدب العربي في بغداد سنة 1936 سألني طالب عن معنى هذا البيت، لأن الرصافة (وهي الجانب الشرقي من بغداد) متصلة بالجسر، فأين يكون مجال الغيد الحسان بينهما؟ فتردّدت وكدت أقول لا أدري، ثم فُتح عليّ فعرفت المراد، وهو أنها تُرى بينهما، فهي تارة في الرصافة وتارة على الجسر، كما

ص: 347

تقول عن الرجل الصالح المعتزل الدنيا: هو بين بيته ومسجده.

ومن طريف الذكريات أني كنت أدرّس مرة في ثانوية البنات في دمشق (ولم أكن مصيباً في قبول التدريس فيها، وأستغفر الله الآن من دخولي إليها، لأنه لا يجوز في شرع الله ولا في طبع عباده من العرب أن يتولى رجل تدريس البنات البالغات، وأكثرهن سافرات كاشفات، فكيف بأن تدرّس بنتٌ فتياناً؟) وكنت أشرح قصيدة الحُطيئة، فمرّ ذكر «بَغيض» فسخرَت طالبة من اسمه واستقبحته. فسألتها: ما اسمك؟ قالت: مها. قلت: أفلا أنكرتِ اسمك والمهاة هي البقرة؟

فوضعَت رأسها بين كفّيها وانكبّت على المقعد تبكي، وأطالت البكاء. قلت: ما الذي يُبكيك؟ قالت: أبكي لأنك قلت إني بقرة. قلت: إنها البقرة الوحشية، ثم إن أهلك -وهم أعرف بك وأحنى عليك- هم الذين سمّوك بهذا الاسم. فازدادت بكاء، قلت: لك أن تبكي ما شئتِ ولكن لا تُخرجي صوتاً يعطّل علينا درسنا.

على أن المها ليس البقر بل هو نوع من الظّباء. فانظروا إلى المعنى الواحد كيف يرفعه أو يخفضه التعبير عنه، كالقائد الذي زعموا أنه رأى رؤيا فدعا بمن يعبرها له، فقال له: ستموت أسرتك كلها. فشتمه وأمر به فأُخرج من مجلسه، ودعا بآخر فقال له: أنت أطول عمراً من أسرتك كلها. فهشّ له وأكرمه.

والمعنى واحد ولكن اختلف التعبير. وصحّت كلمة الجاحظ حين قال: «إن المعاني ملقاة على قوارع الطرق، وإنما يتميز الناس

ص: 348

بالألفاظ». ولعلّه يقصد أن المشاعر الإنسانية متشابهة، فما يموت لأحد حبيبٌ إلاّ حزن ولا تأتيه بشارة أو عطيّة إلاّ فرح، ولكن تتفاوت أقدار الناس في التعبير عن هذا الحزن وهذا الفرح.

* * *

وصُحبتي الحيوانات قديمة، إذ كان من أوائل ما وقعَت عليه يدي في مكتبة أبي كتاب «حياة الحيوان الكبرى» للدَّميري. وهو كتاب عجيب؛ فيه فقه، بل إنه يُعَدّ أقرب مرجع في معرفة ما يؤكَل وما لا يؤكل من الحيوان، وكتاب لغة، فهو يضبط الأسماء، وكتاب أدب، فهو يسرد الأخبار، وكتاب طبيعة، فهو يشير إلى بعض خصائص الحيوانات، وكتاب تاريخ، فهو يلخّص فيه مراحل طويلة من تاريخنا، وهو على ذلك كله مملوء بالخرافات والأوهام والأباطيل وما يدخل العقل وما لا يدخله وما يُفسِده ويعطّله. ثم لمّا كبرت قرأت كتاب «الحيوان» للجاحظ فوجدت فيه تلك الألوان كلها، ولكن الذي فيه أعلى وأغلى، وحسبك أنه من تصنيف الجاحظ.

وكان من أوجع ذكريات الصغر أننا كنا نشتري، أو يشتري أهلنا، كبش العيد، فيبقى عندنا حيناً نُطعِمه نحن الصغار ونُعنى به حتى يألفنا ونألفه، نغسله وننظفه ونمرّ بأكفّنا على صوفه، أو نعانقه أو نكلّمه، نهمس في أذنَيه بما لا يدركه ولا يفهمه من مناغاة الأحبّة ومناجاة أهل الغرام. فإذا جاء يوم العيد وأخذوه لِما اشتروه له، وهو الذبح، أحسسنا ونحن صغار بما يحسّ بمثله من يُقتل حبيبه أمام عينيه فلا يملك له نصراً. وكنا نتصور صوته وهو

ص: 349

يثغو يقول: باغ، ويمدّها، نتصوره نداء مستغيث يستجير بنا، ينادينا، فنشعر بقلوبنا تتمزق حسرة وتفيض من عيوننا الدموع أنْ لا نجد ما نردّ به عن عنقه سكين الجزار!

* * *

أمضينا في هذه الحديقة مع الحيوانات الطليقة ساعات طوالاً، وكنت أراها أول مرة، ما عرفت من قبل إلاّ أسوداً محبوسة في الأقفاص أو محسورة وسط الأسوار، فقلت: أجعل حديثي في هذه الحلقة عن الحيوانات أصحبها فيها، ولعلّ صحبتها أسلم من صحبة كثير من الناس، فهي لا تكذب ولا تغتاب ولا تنمّ، ولا تخون أوطانها ولا تجحد أديانها، ولا تبخس إخوتها مزاياها ولا تدّعي لنفسها من المزايا ما ليس لها.

وإذا عض الذئب أو لدغ الثعبان أو افترس الأسد فإنما يفعل ذلك دفاعاً عن نفسه وحفاظاً على حياته، ثم إنه لا يقتل إلاّ فرداً واحداً ولا يستعمل إلاّ نابه وظفره أو قطرة من السم أعدّها الله سلاحاً له، وبعض بني الإنسان يتخذ أنياباً من الحديد والفولاذ ومخالب من البارود والنار، وألواناً وأشكالاً من السموم، ويأتي عدوّه من الأرض ومن السماء ومن جوف البحر ومن فوق السحاب، ويُبيد بضربة واحدة آلافاً وعشرات الآلاف من إخوانه وأخواته، لا يحارب إلاّ قليلاً دفاعاً عن النفس وحفاظاً على الحياة، بل يحارب غالباً لأنه لا يستطيع إلاّ أن يحارب. وأغرب من ذلك أنه جعل القتل بالجملة فناً من الفنون وعلماً من العلوم ووضع له القواعد وفتح له المدارس. فأيهما -سألتكم

ص: 350

بالله- أوحش: وحوش الغاب أم بعض بني الإنسان الذين يدّعون أنهم من المتمدنين؟ وأيهما أسلم عاقبة وأقلّ خطراً: صحبة البشر أم صحبة البقر والجمال والحمير والبغال؟

فدعوني أَجُبْ اليوم معكم في عالَم الوحوش والبهائم وفاء لبعضها ببعض ما قدّمَت إلينا؛ هذا الجمل لولاه ما استطاع العرب العيش في هذه الصحراء: فعليه ركوبهم، ومن شعره ووبره خيامهم، ومن لحمه ولبنه غذاؤهم، ومنه ومما يتصل به جاءت في العربية ألفاظ كثيرة اغتنى بها لسانهم، ولو أحصُيت هذه الألفاظ وشُرحت لجاءت منها رسالة جامعية ينال بها مؤلّفها أعلى الشهادات.

ولمّا ذهبت إلى كراتشي في مطلع رحلتي إلى المشرق التي سُقت لكم فيما مضى طرفاً منها رأيت سيد حيواناتها الجمل، لا الجمل الذي تعرفونه بل الجمل العظيم الذي هو أضخم من جمالنا جثة وأطول عنقاً وأعلى سناماً، والعرب كانوا يعرفونه ويسمّونه «السّنْديّ» ومنه ومن الجمل العربي يولد نوع من الجمال يُسمّى البُخْتِيّ» (وجمعه البُخْت، وفي الحديث: كأسنمة البُخت). والعجيب أنهم لا يضعون أحمالهم عليه بل يتخذونه للجرّ، يُعِدّون العربة التي تعدل في ضخامتها سيارة الشحن ويملؤونها ويربطون بها جملاً واحداً، فيجرّها من غير انزعاج.

وهو على ضخامته أسرع من جمالنا، وهم يتخذون له في ركبتيه جلاجل وأجراساً صغاراً، كلما خطا رنّت فاستطاب صوتَها. والجمل كما تعلمون (أو لا تعلمون، فلست أدري) حيوان موسيقي، لذلك يتخذون له مغنّياً خاصاً يصحب القوافل

ص: 351

يغنّي له الأغنية المحبَّبة إليه، وذلك هو «الحُداء» ، وللشعراء شعر كثير يذكرون فيه الحادي.

ورأيت في كراتشي حميراً صغاراً جداً، وهي قوية وسريعة، لا يجاوز حجمُ الواحد منها حجمَ الخروف الكبير ولكنه يجرّ عربة ويطير بها. ولقد قرأت وأنا صغير كتاباً مترجَماً عنوانه «خواطر حمار» ، تَبيّن منه أن للحمار خواطر وأفكاراً. وقد ترجم بشار من قبل عن عواطف الحمار ووصف غرامه بأتان (أي حمارة): روى محمدبن الحجاج قال: جاءنا بشار يوماً، فقلنا: ما لك مغتمّاً؟ قال: مات حماري فرأيته في النوم فقلت له: لم تركتَني؟ ألم أُحسِن إليك؟ فقال لي:

سيّدي خُذ بي أتاناً

عند باب الأصفهاني

تيّمَتني يومَ رُحنا

بثناياها الحِسانِ

وبغُنْجٍ ودَلالٍ

سلَّ جسمي وبَراني

ولها خَدٌّ أسيلٌ

مثلُ خدّ الشَّيْفراني

فلذا مِتُّ ولو عِشـ

ـتُ إذن طالَ هواني (1)

قال: فسألناه: ما هو الشَّيْفراني؟ فقال: هذا من لغة الحمير، فإذا لقيتموهم فاسألوهم (2).

(1) خذ بي أتاناً: أي اطلب ثأري عند هذه الأتان. وثناياها: أي أسنانها. سلّ جسمي: أي أدخله بمرض السل.

(2)

في «الأغاني» أن بشّاراً كان يحشو شعره إذا أعوزَته القافية بالأشياء التي لا حقيقة لها؛ فمن ذلك أنه أنشد يوماً: «غنّني للغَريضِ ياابنَ قَنانِ» ، فقيل له: مَن ابن قنان هذا؟ لسنا نعرفه من مغنّي البصرة. =

ص: 352

وكان عندنا جمعية أعضاؤها من كرام الناس وكبار الأدباء اسمها «جمعية الحمير» ، ألّفوها للتسلية وللمزاح، كتبتُ عنها مقالة في الرسالة في أواخر الأربعينيات من هذا القرن الميلادي، وهي في كتابي «مقالات في كلمات» (1).

ومما يعجب له السائح في كراتشي وفي غيرها كثرة الغربان، فهي لا تزال تحوم حول البيوت وتنعب وتخطف ما تصل إليه من الطعام، وهي آلاف مؤلَّفة لا يُدرِكها العدّ، ولم أرَ بلداً أكثر غرباناً من كراتشي إلاّ كلكتا في الهند.

ولست أدري لماذا كان العرب يتشاءمون بصوت الغراب ويرونه دليل الفراق، ويزعمون أنهم يفهمون معنى هذه الأصوات ويسمّونه غراب البين، مع أن الحقّ في قول من قال:

ما فرّقَ الآلافَ بعدَ اللهِ إلاّ الإبِلُ

وما إذا صاحَ غرابٌ في الديارِ احتملوا

وما غرابُ البَينِ إلا ناقةٌ أو جَملُ

وعلى ذكر كَلكُتّا فإني لم أجد مدينة أشدّ كآبة منها. وهي قديمة كبيرة، كان فيها لمّا زرتها من إحدى وثلاثين سنة

= قال: وما عليكم منه؟ ألكم قِبَله دَين فتطالبوه به أو ثأر تريدون أن تدركوه؟ أو كفَلتُ لكم به فإذا غاب طالبتموني بإحضاره؟ قالوا: وكان كثيراً ما يحشو شعره بمثل هذا، ومنه «الشّيفراني» الذي رواه على لسان الحمير. انظر الأغاني 3/ 157 (مجاهد).

(1)

مقالة «يؤمنون بالحمار» (مجاهد).

ص: 353

(سنة1954) خمسة ملايين ونصف المليون من الناس، أي بمقدار ما كان يسكن يومئذ سوريا ولبنان والأردن معاً. ومن عجائبها أن الناس فيها يجرّون العربات الصغيرة (الركشات) بدل الحمير والبقر، والبقر تمشي في الطريق تختال عجباً لأنها مقدَّسة معبودة! وليس أمر بقرة أو اثنتين أو عشر أو عشرين، بل إنك تلقى كل خمسين متراً بقرة، تمشي كما تريد، تأكل فاكهة البياعين وزهور الحدائق فلا يطردونها بل يتبرّكون بها، وتقطع الشارع الهائل الذي تمرّ فيه كل دقيقة عشر سيارات فتقف السيارات كلها وتنقطع الحركة حتى تجوز البقرة، كأنها حمارة أبي سَيّارة عند العرب قديماً أيام الحج حين كانوا يقولون:

خلّوا الطريقَ لأبي سيّاره

حتّى يُجيزَ آمناً حِمارَهْ

وربما خطر للبقرة أن تُطيل الوقوف في وسط الشارع، فتميل السيارات عن المكان الذي وقفت فيه وتذهب من طريق آخر! ولقد مررتُ مرة بالسينما الفخمة التي أقامتها في كلكتا شركة مترو الأمريكية، وهي تُزري من فخامتها بالقصور، فرأيت بقرة قد قعدت على الرخام الذي يلمع كالمرايا تحت شبّاك التذاكر، ثم تبرّزَت ونامت، فتركوا الشبّاك وفتحوا شبّاكاً آخر احتياطياً ولم يُزعِجها أحد!

ولقد دعتني محطة دهلي العظيمة لأذيع منها أحاديث عن مشاهداتي في الهند، كان منها حديث عن بقرة مشيت قريباً منها لأرى ما تصنع، وسجّلتُ حركاتها وسكناتها ولخّصت فلسفتها في الحياة. أتعجبون أن يكون للبقر فلسفة؟ إن كثيراً من الفلاسفة

ص: 354

الكبار كانوا بقراً. سَجّلوا الحديث ودفعوا لي أعلى قدر من المكافآت التي تُعطى لمحدّث وودّعوني وشيّعوني إلى الباب، ثم لم يُذَع هذا الحديث!

وهم لا يحرّمون ذبح البقرة وحدها بل يحرّمون قتل كل ذي حياة، حتى لقد حدّثوني أن الإنكليز رأوا في الحرب العامّة الماضية كثرة الفئران وفتكها بمخازن القمح، فجعلوا لكل من يقتل فأراً ويأتي بذنَبه خمس آنّات (والآنّة كالهللة (أو الهلالة) هنا والفلس في العراق والملّيم في مصر). فهاجت العامّة وضجّت الصحف وكانت المظاهرات، حتى استجابت الحكومة وأبطلت القرار، وتركت الفئران تأكل من القمح ما تشاء.

ولمّا وصلتُ إلى «لَكْنَوْ» ، ولوصولي إليها قصة لم أكتبها ولم أحدّث بها، تلك أننا أنا والشيخ أمجد الزهاوي رحمه الله كلما جئنا بلداً وجدنا من يستقبلنا ممن يهتمّ بالقضية التي رحلنا من أجلها وللتعريف بها، وهي قضية فلسطين. فلما نزلنا من الطيّارة في لكنَوْ لم نجد في استقبالنا أحداً (1). ولكنو كانت محطّ رجائنا وموضع ثقتنا لأنها بلد أخينا وحبيبنا الأستاذ أبي الحسن النّدْوي، فما عرفنا أين نذهب، فسألت عن الأوتيل (وكلمة «أوتيل» تُفهَم في كل مكان) فعرفنا أن الشركة، شركة الطيران التي حملتنا

(1) سيأتي هذا الخبر بتفصيل أكبر في الحلقة الثانية من «الندوي ومذكراته» ، وهي الحلقة 221، وفيها:"لمّا وصلنا لم نجد في استقبالنا أحداً، لأنهم ترقبوا وصولنا بالقطار وانتظرونا في المحطة، لم يقدّروا أن نأتي بالطيارة"(مجاهد).

ص: 355

من دهلي إلى لكنو، تنزل في فندق كبير في القسم الجديد من المدينة، وهو «حضرت كنج» .

ولكنو ثلاثة أقسام: قسم قديم مسوَّر مُغلَق من كل جهة ما فيه إلاّ بابان متقابلان يصل بينهما شارع واحد، وقسم كبير فيه جلّ المدينة، والقسم الجديد الذي فيه الفندق. وكان يوماً مطيراً تهطل أمطاره كأفواه القِرَب، فأخذنا غرفتين في الفندق، وكان أكبر فنادق البلد، وحاولنا أن نهتف بالأستاذ الندوي فلم نجد إليه طريقاً. والشيخ أمجد رحمه الله يضيق صدره ولكن ينطلق لسانه، فلا يسكت عن النقد وعن الإلحاح عليّ بأن أُخرِجه من هذه الورطة، فأخذت سيارة تحت المطر وجعلت أجول في الطرق لا أعرف أين أتجه، وكلما التفت إليّ السائق يسألني أشرت إليه بأن يمضي. والعداد، عدّاد التاكسي، يسجّل علينا، حتى مررت برجل تفرّست فيه فوقع في ظني أنه من جماعة أبي الحسن، فأخذنا إليه.

أعود إلى ما بدأت به في الكلام عن الحيوانات، وهو الموضوع الذي عقدت هذه الحلقة عليه. لمّا وصلنا إلى لكنو مدينة أبي الحسن قبل أن نلقاه قعدت في شرفة فندق كارلتون العظيم وطلبت شاي العصر، وهو عند الإنكليز من الفرائض، فسمعت جاري الإنكليزي يصيح، فنظرت فإذا القرد قد تغفّله وخطف قطعة الفَرَانيّ (الكاتو)! وإذا السطح كله قِرَدة تثب وتدخل البيوت وتخطف الطعام، وهي مثل القطط في بلادنا، والشجر المحيط بالفندق مملوء بالقردة تتسلّق أغصانَه وتقفز من غصن إلى آخر. ومنظرها من أمتع المناظر، منها الكبير ومنها الوسط، ومنها

ص: 356

ما لا يزيد حجمه مهما بلغ من العمر عن حجم القطة الصغيرة. ولقد أردت أن أشتري واحداً منها فإذا هو غالي الثمن، وإذا الطيارة لا تُركِبه معي إلاّ بصعوبة بالغة وبعد فحوص طبية لا أقدر عليها لنفسي!

وابن القرد يتعلق ببطن أمه متمسكاً بخاصرتيها وهي تثب به الوثبة بعرض ستة أمتار أو سبعة، وهو يقلّد الناس تقليداً يُضحِك الأم الثكلى (كما كانوا يقولون). ولقد رأيت من قبل في حدائق الحيوان في مصر وغيرها من القردة، ولكن القرد المطلَق يفعل ما لا يفعله المحبوس في القفص.

ودخلت غرفتي في الفندق، وهو عادة ساكن هادئ من أجمل ما نزلنا فيه من الفنادق، فسمعت صوت رجل عجوز يتكلم الإنكليزية فيجيب طفل صغير ألثغ ينطق السين ثاء، ثم تعقّب عليهما فتاة بصوت فضّي له رنين، وتكون سكتة ثم يرجع صوت العجوز والطفل والفتاة بالكلام نفسه، وتَكرّر ذلك عشرين مرة، فعجبتُ وخرجت فلم أرَ أحداً، فعُدت إلى غرفتي فسمعت الأصوات ذاتها، فجعلت أفتّش فإذا الصوت من طائر أسود في قفص يشبه الشحرور تماماً، وإذا هو أفصح من الببغاء وأغلى منها ثمناً يقلّد الأصوات كلها، يسمّونه «اليمامة» . ومن المصادفات التي قد لا يصدّق بعض القراء أنها وقعت أنه كان معي في تلك الساعة كتاب «تاريخ الخلفاء» للسيوطي، وهو من الكتب التي أُولِعتُ بها من صغري وأعَدت قراءته أكثر من عشرين مرة، فوجدت فيه خبراً عن مثل هذا الطائر أُهديَ إلى الخليفة يقلّد الأصوات، وأطبقتُ الكتاب وخرجت من الغرفة وإذا بي أجده!

ص: 357

والببغاوات في لكنو وفي أمثالها من مدن الهند الداخلية تطير حرّة كالعصافير، وأجمل منها الطواويس تختال في الشوارع الكبرى والحدائق العامّة مثلما تختال البقر (ولا مشابَهة!) ولا يعرض لها أحد.

ومن أخبار الحيوانات التي رأيتها أن الجواميس في الهند الجنوبية والملايا (ماليزيا) وأندونيسيا هي التي تجرّ مراكب الحمل، وهم يَخرمون آنافها ويضعون لها الأرْسان.

ورأيت في لكنو حيوانين لم يكونا يومئذ في حديقة القاهرة هما «البَبْر» ، أي الأسد الهندي، وهو كما قالوا أخطر من الأسد الإفريقي. ورأيت الكَرْكَدَّن، أي وحيد القرن، وهو بحجم الجاموس العظيم ولكن رأسه أكبر من رأس الفيل على ذمّة ابن بطوطة، وله قرن واحد يبلغ طوله كما رأينا نحواً من نصف ذراع. وكان نائماً فطلبنا من خادم الحديقة أن يوقظه لنراه، فجعل يطعنه برمح له سنان حاد فلا يتحرّك، فخفنا أن يجرحه، فأفهمَنا الترجمان أن جلده لا تؤثّر فيه الأسنّة. والغريب أنه يعيش على أكل الحشيش، فلما قطع له الخادم أوراقاً من الشجرة وألقاها قريباً من أنفه وشمّ رائحتها قام متثاقلاً فأكلها، ثم ألقى نظرة علينا من طرف عيونه الصغار جداً، فظهر لنا أننا لم نُعجِبه ولم يرَ فينا ما يستحقّ النظر، فقلب شفته احتقاراً وحرّك قرنه (أو هذا ما خُيّل إلينا) ورجع فنام.

وأخبث حيوان رأيته هو أني نزلت في دهلي في نُزُل كبير للحكومة يشبه الفندق فيه نحو ستمئة غرفة اسمه «كونْستِتْيوشِنْ هاوْس» . وكنت قد فصّلت في كلكتا قميصاً جديداً ألبسه بدل

ص: 358

الرداء (الجاكيت) لأن الحرّ لا يدعك تُطيق الجاكيت، فعلّقته على كرسي، ورجعت بعد أن غبت ساعتين عن الغرفة فإذا هو مثقَّب ثقوباً منتظمة كالدوائر. ولم أدرِ ما الذي فعل به ذلك حتى دلّوني على حشرة أصغر من الذبابة تقرض الثياب فتُفسِدها، فضاع مني القميص، ولكني جئت أنشر هجاءها الآن على طريقة من قال:«أوسعته شتماً وأودى بالإبل» . وقال هذا أحد الحمقى، ولكنه ينطبق مع الأسف علينا أو على أكثرنا -معشرَ العرب أو المسلمين- في هذه الأيام.

ومن أعجب مشاهد الحيوان التي شهدتُها أن حاوياً (أي مربّي الحيّات) دخل علينا فندق «سي فيس هوتيل» (أي فندق جبهة البحر) في بومباي وعرض علينا بعشرين روبية مشهد معركة بين الكوبرا (وهي أخطر أنواع الحيّات بالدنيا، ليست بالطويلة ولكن رأسها بعرض الكف) وبين حيوان نسيت اسمه الآن (1). نفخ في نايه، حتى إذا استغرق في أنغامه أخرج الحيّة من كيسها فانتصبت قائمة تدور حوله مع النغم، وأخرج حيواناً صغيراً جميلاً جداً ليس له ظفر ولا ناب وهو يشبه السنجاب، فلما رأته ورآها هجمت عليه وهجم عليها، ومات الاثنان في لحظة واحدة. فسألت: ما الحكاية؟ قال: إنهما عدوّان، يلتقط رأسها بفمه الكبير ويطبق عليها فتختنق، وتلدغه قبل أن تختنق فيموت الاثنان معاً. وقالوا إنه لولا هذا الحيوان لفتكت الكوبرا بأهل الهند.

(1) هو النِّمْس، والنُّموس من اللّواحِم الصغيرة. قال صاحب القاموس:"النّمس (بالكسر) دُوَيبَّة بمصر تقتل الثعبان"(مجاهد).

ص: 359

وقد أودع الله في كل حيوان قوة يدافع بها عن نفسه، من مخلب أو ناب، أو قرن ينطح كقرن الثور، أو خرطوم يرفع ويخبط كخرطوم الفيل، أو سم كسم الحية، أو شوك كشوك القنفذ، أو درع كدرع السلحفاة، أو مكر كمكر الثعلب، أو سرعة كسرعة الغزال

ومن أعجب أسلحة الحيوان أن الحُبارى تقاتل بزَرْقها، فإذا رأت حيواناً زَرَقت عليه (أي بالت عليه) فيخرج زَرْقُها حامياً منتناً منطلقاً كالرصاصة فيقتل، ولذلك قالت العرب:«سِلاحها سُلاحها» . أما هذا الحيوان الوديع الأليف البديع الظريف فسلاحه شجاعته، فهو يلتقم فمَ الحية فيقتلها، ولكن هذه الشجاعة تقتله.

الحديث عن الحيوان طويل، فأكتفي منه بهذا الذي قيل.

* * *

ص: 360