المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

فهرس الكتاب

- ‌الجزء السابع

- ‌افتتاح أسبوع التسلّح في دمشق

- ‌من أخبار العلم والعلماء في دمشققبل نصف قرن

- ‌فتنة التجانية في الشام

- ‌في الكلية الشرعية في دمشق

- ‌حلقة خاصّة في تصنيف العلوم

- ‌في الفقه الإسلامي والأحوال الشخصية

- ‌كيف وُضع مشروعقانون الأحوال الشخصية

- ‌مصر قبل أربعين سنة

- ‌في إدارة التشريع في وزارة العدل

- ‌ترشيحي في انتخابات الشام سنة 1947

- ‌عودة إلى الحديث عن مصر

- ‌حلقة مفردة: وحي صورة

- ‌وقفة استراحة

- ‌بقايا من ذكريات رمضان

- ‌في «آخِنْ» عاصمة شارلمان

- ‌رحلتي من فرانكفورت إلى آخن

- ‌الدعوة الإسلامية في ألمانيا

- ‌في مسجد آخن مع القساوسة والهيبيين

- ‌السفر إلى المؤتمر

- ‌إلى الوزير الشاعر عبد الله بلخير

- ‌صلاة الجمعة في مسجد بروكسل

- ‌أيام لا تُنسى في بروكسل

- ‌في منطقة الآردن

- ‌خواطر في الحياة والموت،في طرق هولندا

- ‌طريق الحج

- ‌الخط الحديدي الحجازي

- ‌في صحبة الحيوان

- ‌كتاب جديدأثار في نفسي ذكريات قديمة

- ‌إلى الأستاذ أحمد أبو الفتح

- ‌عودة إلى ذكريات القضاء

- ‌في محكمة النقض في دمشق

الفصل: ‌السفر إلى المؤتمر

-202 -

‌السفر إلى المؤتمر

هذا العنوان أستعيره من اسم كتاب قرأته من قديم لشيخ العروبة أحمد زكي باشا، عليه وعلى زميله أحمد تيمور باشا رحمة الله، وإن كانت صلتي بتيمور باشا أوثق ومعرفتي إياه أعمق، ولقد عرفت من أعماله البارّة وخدماته الإسلامية الشيء الكثير.

وأنا أتحسر دائماً على أني لم أدوّن هذه الذكريات يوم كانت مشاهد تُرى لا ذكريات تُروى، وأجيء الآن لأدوّن أخبار رحلة ألمانيا بعد ستّ عشرة سنة، وقد طمس القِدَمُ بعضَ سطورها ومحا النسيان بعضها، ثم أرجع إلى نفسي فأقول: لعلّ الصورة الجديدة التي أكتبها الآن، والتي أصلح الخيالُ منها بعضَ ما انطمس وسطر بعض ما امّحى، لعلّ هذه الصورة كاللوحة الفنّية التي ترسمها ريشة الفنان. هل تعدلون بها الصورة الشمسية (الفوتوغرافية)؟ لو أن متحف اللوفر رضي أن يبيع لوحة جيوكوندا كم ترونهم يدفعون فيها؟ إن من السفهاء من يشتريها بنصف مليون دولار، ولو كان في عصر صاحبها ليورنادو دافنشي تصوير شمسي ووُجدت في ذلك العصر -قبل أربعمئة سنة- مثل آلات التصوير التي نجدها الآن وكان يتقن استعمالها لأخرج بها صورة لهذه المرأة أقرب إلى

ص: 243

الحقيقة وأصدق في النقل، صورة بألوانها ذاتها وتقاطيع وجهها وسمات جلدها تُبدي كل ما يراه الرائي منها، ولكنا لا نجد بعد ذلك من يشتريها بألف واحد من الخمسمئة الألف التي شُريت بها لوحة المصوّر.

ذلك لأن الصورة الشمسية تعرض الحقيقة كما تراها كل عين، وهذه تعرض ما يراه المصوّر بعينه وحدها. وربما كان فيها شيء لا ينطبق تماماً على الواقع، ومع ذلك فإن الناس يفضّلونها، والإسلام يحرّمها لأن فيها محاولة لمضاهاة خلق الله.

فأنا أنقل إليكم الآن الصورة التي بقيَت في نفسي مما رأيت في تلك الرحلة، لا أصف وصفاً جغرافياً أحدد فيه الحدود وأقيس الطرق وأسمي الأسماء، فإنكم تجدون ذلك في الخريطة، ولكل بلد خريطة مفصَّلة ولكل بلد مجموعة صور لمشاهدها ومناظرها.

صورة مدينة آخن في نفسي أنها منازل صغيرة أنيقة جداً على شوارع نظيفة جداً، في بلدة جميلة لكنها ليست كجمال سويسرا ولا أندونيسيا ولا لبنان. ولقد أعيا الرجالَ وضعُ مقاييس يُقاس بها الجمال، لذلك يلجؤون إلى الأوصاف فيقولون: جمال وادع، وجمال أخّاذ، وجمال فاتن، وجمال مثير، وما شئت بعد من أنواع الجمال. أما آخن والبقاع من حولها فجمالها جمال حلو هادئ. هل تعجبون من هذا التعبير؟ إن الحلاوة في معاجم اللغة هي الجمال، إنهما شيء واحد، ولكنهما في لغة المشاعر والعواطف شيئان، فرُبّ جميلة ليست حلوة وحلوة لم تستوفِ أكبر حظّ من الجمال.

ص: 244

ونحن إذ نجد هنا في المملكة بقعة خضراء فيها الشجر والزهر والماء نعدّها متنزَّهاً نتردّد عليه الصباح والمساء، أمّا تلك البلاد فحيثما سرتَ وجدت مثلها، بل تجد ما ليس له مثيل هنا، أمطار متصلة، سماء مفتَّحة الأبواب لا تكاد تخلو من سحاب، حتى إني رأيت فيها ما لم أرَه من قبل: طبقة رقيقة من الطحالب الخضر على جذوع الأشجار الضخام في الغابات، الغابات التي نجدها في كل مكان.

كنا نقف بالسيارة ونقعد حيثما شئنا على حافة الطريق فإذا نحن في نزهة، نأكل ما حملنا معنا من طعام ونشرب ما معنا من شراب، والناس يمرّون بنا فلا يلتفتون إلينا، والسيارات لا تغبر علينا، وما ثمة من غبار، ولا تزعجنا بزعيق لأن العرف أن تمشي صامتة. وإذا وقفنا عند الشارة الحمراء ثم انفتح الطريق وصارت خضراء لا يضع السائقون أصابعهم على أبواق السيارات، ومَن فعل عدّوا ذلك منه عدواناً على الآخرين ومسّاً بهم وإهانة لهم، ولا يفعلونه إلاّ في الندرة. ونظام السير في ألمانيا متين، تعرف قدره إذا خرجت من آخن على الحدود فسرت نصف ساعة بالسيارة حتى تصير في لييج، المدينة البلجيكية القائمة في نصف طريق بروكسل، فتدرك الفرق ما بين النظامين في بلجيكا وألمانيا.

وفي الطرق الكبرى (التي يدعونها «الأَوْتوبان» وفي فرنسا «الأوتوروت» ونسمّيها نحن «الأوتوستراد»، من كلمة «سترادا»، وهي طليانية ومعناها طريق)، هذه الطرق ابتكار ألماني من عهد هتلر، بدأ فيها ثم عمّ بلاد الناس، فقرّبت المسافات وأدنت البعيد وسهّلت اليسير، لأنها تمرّ قرب المدن ولا تدخل فيها فلا يعرقل

ص: 245

شيء سيرَها، ولكن خطرها ولا سيما في جهة اليسار منها (حيث السرعة لا يجوز أن تقلّ عن مئة وعشرين كيلاً) أنها إذا وقفت سيارة لحابسٍ حبسها لم تستطع التي وراءها أن تقف فتصطدم بها. ولقد رأيت مرة بعيني ستّ سيارات قد دخل بعضها ببعض، كأنما جمعَتْها ثم ضغطَتها ذراعا آلة هائلة ذات قوة وجبروت.

وكان أول ما أرونا من متنزَّهات البلد اثنين: واحد عالٍ صعدنا إليه والآخر هبطنا إليه. أما الأول فجُبَيل (جبل صغير) في وسط البلد، حيث تقلّ الجبال في تلك المناطق من شمال أوروبا وتكثر الهضاب الصغيرة. وكنا نسير وسط أشجار تحجب عنا وجهَ السماء وزهور ونجوم (أي شجر صغار) تغطّي ظهر الأرض، فما عرفنا أننا نصعد حتى شعرنا أن الأرض قد مالت من تحتنا فملنا معها، حتى إذا علونا هامة الجبل وجدنا مطعماً واسعاً مستديراً فولجناه وقعدنا نتغدى. فقال لي ابن بنتي أيمن: جدّو، ألم تلاحظ شيئاً؟ قلت: لاحظت أشياء كثيرة جداً، فما الذي تسألني عنه منها؟ قال: لا بل هنا، انظر إلى هذا البناء. قلت: نظرت، فما له؟ قال: حدّد مكانه ثم انظر إليه بعد عشر دقائق. فنظرت بعد عشر دقائق فإذا هو قد مشى. قلت: ما هذا؟ فضحك وقال: إننا نحن ندور؛ المطعم يدور بنا! قلت: شيء عجيب، السلّم يصعد بك بدلاً من أن تصعد أنت عليه، والبلد يدور من حولك بدلاً من أن تدور أنت حوله!

ولمّا جئنا ننزل بعدت أنا والولدان هادية وأيمن عن والديهما أمتاراً معدودة، نزلا من هناك ونزلنا نحن من هنا، ولم نشعر بأننا

ص: 246

كلما ازددنا هبوطاً ازددنا عنهما بعداً، حتى إذا بلغنا السفح وصرنا على الأرض فإذا نحن في حيّ آخر من أحياء المدينة. وكذلك يصنع انحراف خطوة عن الطريق، إنه يبدّل وجهتك ويصرفك عن غايتك ويبلغ بك ما لا تحب.

ولم ندرِ من أين نسير، وكانا حديثَي عهد بالمدينة، قدما إليها من بروكسل وكانا من قبلها في جنيف، ولسان كليهما فرنسي، وهذا لسان ألماني لم يكونا قد تعلّما منه يومئذ إلاّ القليل، وقلت للبنت: كلّميهم بالفرنسية (وكانت تتقنها) واسأليهم عن المسجد. فوجدنا أكثرهم لا يعرف الفرنسية، والقليل الذي عرفها لم يكن يعرف المسجد. فجعلنا نسير على غير هدى حتى تعبنا من السير، فوجدنا كراسي مصفوفة فقعدنا عليها، وكان إلى جنبنا رجل كبير السنّ وجهه يدل على طيب نفسه، فسألناه ففهم عنا، ثم أشار إلينا أن ننتظره حتى يعود، ثم ذهب إلى هاتف قريب فطلب لنا سيارة (تاكسي) وأفهم السائق مقصدنا، فشكرناه بألسنتنا بمقدار ما استطعنا التعبير عن شكر قلوبنا.

وكنت قد سمعت بأن الألمان غلاظ القلوب لا يدلّون تائهاً ولا يُجيبون سائلاً، فكان الذي وجدته غير هذا، بل لقد وجدت منهم لطفاً وأدباً وظرفاً واهتماماً بالغريب. ضللت الطريق مرة بعد أن أقمت في البلدة مدة، فسألت رجلاً، فدلّني فما فهمت عنه، فبدّل وجهته ومشى معي حتى أوصلني إلى أول الطريق الذي أقصده. ولمّا جئت أشكره نسيت كلمة الشكر (دانكْهشون) فقلت له: دون كيشوت! فبدت على وجهه علائم التردّد بين الطرب لنكتتي والعجب من كلامي والغضب مني، فأدركت ذلك فقلت

ص: 247

له: شكراً، ثانك يو، ميرسي بوكو، تشكر أيدرم، بهوت شكريا (بالعربية والإنكليزية والفرنسية والتركية والأردية)، فعرف أني لم أكن أقصد شراً، فضحك وقال لي يشكرني وكأنه يعلّمني الكلمة: دانكهشون. وصافحني ضاحكاً ومشى.

أما المتنزّه الذي هبطنا إليه فهو «الآيْفِلْ» . ويظهر أن اسم «الآيفِل» ليس لهذا الوادي وحده ولكنه لمنطقة أوسع منه. والمهبط إليه الجمالُ على جانبَيه والماء يجري في قرارته والقرى والمنازل مشرفة عليه. وقد انتشرَت فيه وفي غيره دكاكين صغيرة كأنها غرف خفير الليل (أو كأنها «الصَنْدَقات» كما تُسمّى هنا) فيها بنات عندهن البطاطا مقليّة لم تنضج، فإذا جاء مَن يطلب شيئاً منها وضعنَها في المقلاة، ثم في شبه كوب صغيرة من الورق المقوّى ومعها شوكة من الخشب صغيرة ودفعنها إليه بمارك واحد، فأكلها سخنة طيبة.

وشبه بيوت صغيرة لها شرفات يقعد عليها الناس يقدَّم فيها القهوة والشاي، والحساء لمن أراده، وفي كل مكان مقاعد ثابتة من الحجر أو من جذوع الشجر ومناضد أمامها من مثلها (وقد رأيتهم قد صنعوا في جدة عند السّيف، أي الكورنيش، مثلها) يحمل الناسُ طعامَهم وشرابهم إليها. والعجب أنك لا تجد أحداً يُلقي على الأرض علبة فارغة ولا كيساً خالياً ولا ورقة ولا زجاجة ولا شيئاً مما يوسخ المكان.

على أننا نحن المسلمين آخر من يحقّ له العجب من هذا؛ لأن تنظيف الطريق في ديننا معدود من شُعَب الإيمان. هل سمعتم

ص: 248

أن في دين ممّا يَدين به البشرُ مثل ذلك؟ الإيمان بضع وسبعون أو بضع وستون شعبة، أعلاها شهادة أن لا إله إلا الله محمد رسول الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق. أي أن الذي يأكل الموزة ويلقي قشرتها على رصيف الشارع والذي يرمي الفضلات من نافذة السيارة أو من شبّاك الدار يكون قد نقص منه هذه الشعبة من شعب الإيمان.

وأشهد أن الألمان شعب نظامي. كنت أرى الجيران جميعاً يفيقون من الصباح الباكر، وحين أعود الظهر أسمع من كل شقّة أصوات الطعام وقرع الملاعق والشوكات. يفيقون في وقت واحد ويأكلون في وقت واحد، وأحسبهم ينامون في وقت واحد! والأسواق تغلق مخازنها في وقت واحد.

ونسمع في كل بلد عن الرُّخْصَة (أي الأوكازيون) في المحلات التجارية، ولكن الرخصة السنوية في ألمانيا حقيقية؛ يختارون من البضائع النفيسة الغالية عدداً محدوداً يبيعونه بأقل من عُشر ثمنه، فالثوب الذي يُباع عادة بمئة مارك قد تشتريه المرأة من الرخصة بخمسة ماركات، ومَن يأتي أولاً يختار ما يريد، لا تَسابُق ولا تدافع ولا ازدحام. لذلك ترونهم يتنافسون في التبكير، فمنهم من يأتي المخزن من الفجر أو من قبل الفجر، ورأيت من ينام أمام المتجر أيام الرخصة! ولا يكون زحام لأن كل شيء هناك بالدَّور، يقفون صفاً واحداً.

هذا الذي ينبغي أن نتعلمه منهم لا الفسوق والعصيان، وهذا الذي تعلّموه هم منا. ولقد قرأت مرة لكاتب فرنسي صحب

ص: 249

قافلة عربية في جنوبي الجزائر فوصف أهلها بأنهم جنّ على هيئة بني آدم، كلهم يركب رأسه ويمشي على هواه، لا يخضع أحد لأحد، ثم رأى منهم -كما يقول هو- شيئاً عجباً؛ قام رجل يتحرّك فيتحرّكون معه، يرفع رأسه فيرفعون رؤوسهم ويخفضه وينزل به إلى الأرض فينزلون رؤوسهم جميعاً إلى الأرض، فتعجّب مما رأى، ما درى أن هذه الصفوف التي وقفت منتظمة وراء الإمام تتحرك بحركته هي التي مشت وراء القائد ففتحت للحقّ وللإسلام بلاد الأرض، وهي التي أقامت الدولة العظيمة والحضارة البارعة (1).

* * *

ودنا موعد المؤتمر الذي دعانا اتحاد الشباب المسلم في أوربا إلى حضوره وأخذوا يستعدّون له، لأنه الحدث الأهمّ في أعمال المركز الإسلامي هناك، يأتيه الشباب من أرجاء أوربا وتُبحث فيه المسائل التي تهمّهم وتُلقى فيه المحاضرات التي تنفعهم، يَدعون إليه كل سنة أحدَ الأساتذة من الدعاة، وتُلقى فيه أسئلة وتُطبع فيه الأجوبة، فتكون مناقشات ومناظرات، والذي يدبّر ذلك كله ويديره هو الأستاذ عصام العطار. وكانوا يختارون له كل سنة مدينة، وكانت المدينة المختارة سنة 1970 هي كيسن. وحضرت مثله مرة ثانية سنة 1976 وكان في مدينة دوسلدورْف.

ومن عادتهم أنهم ينزلون في بيت من بيوت الشباب، وهي

(1) انظر مقالة «حي على الصلاة» في كتاب «نور وهداية» الذي أوشك أن يصدر بإذن الله (مجاهد).

ص: 250

منتشرة هناك لا يكاد يخلو منها بلد، يجتمعون فيها على الطعام يعده لهم البيت الذي ينزلون فيه. وطعامهم سهلٌ -كما يقولون- هضمه ولكن ساءٍ طعمُه، ما فيه لذة ولا له نكهة. إنه مثل طعام المرضى في المستشفى مسلوق سلقاً. وألذّ طعام طعامُ الشام، ولكنه ثقيل على المعدة يكاد يكون صعب الهضم، ويليه (كما سمعت ولم أذق) الطعام التركي، فيه لذّة وفيه خفّة. أما طعام الشرق الذي رأيته في الباكستان والهند وسنغافورة وأندونيسيا فإن ما فيه من الفلافل التي تُلهِب الحلق وتحرق الأمعاء يمنعني من استطاعة الحكم له أو عليه، وأنّى لي الحكم وفي جوفي هذه النار!

ثم إن النوم في بيوت الشباب في أسّرة ذات طبقات، اثنتين أو ثلاث، وأنا لا أستطيع أن أنام في غرفة فيها آخَر، فكيف لي بالنوم وفوقي أو تحتي نائم غيري، وإن كان بيني وبينه حجاب فلا يصل إليّ ولا أصل إليه؟ ثم إنها بيوت الشباب، وما كنت ولا كانت زوجتي التي تصحبني من الشباب؛ كنت يومئذ (سنة 1970) في نحو الثالثة والستين، وزوجتي دوني بعشر سنين، فما لنا وللشباب ولبيوت الشباب؟

لذلك طلبت أن يستأجروا لي على حسابي غرفة في فندق، على شرطي الذي لا أدعه وهو أن يكون حمّامها فيها فلا أُضطر إلى الخروج منها. وقد فعلوا، فانفردنا عنهم. وسافرنا في سيارة لأخ كريم من إخواننا، أو هو على الأصحّ ولد من أولادنا، أصله من حرستا. وهي جارة دوما التي كنت قاضيها سنة 1942، ومن مزاياها أن فيها من الزيتون ما يجاوز عمرُ الواحدة من شجره مئةً أو مئة وخمسين سنة، وأنها كانت منزل الشيخ أبي النصر الخطيب

ص: 251

القاضي العادل صاحب النوادر العجيبة، وهو عمّ أمي. وإن من مزاياها قبل هذا أن الإمام تلميذ الإمام، أول من ألّف الكتب في الفقه، كان أصله منها، وهو محمدبن الحسن الشيباني صاحب أبي حنيفة. وقد ألّف الإمام مالك «الموطّأ» قبله، ولكن الموطّأ -على جلالة قدره وعظيم أثره- كتاب حديث وفقه، و «الكتب الستّة» التي ألّفها محمدبن الحسن في الفقه الخالص، وقد قرأها عليه الإمام الشافعي، كما قرأها وألّف «المدوَّنةَ» (التي هي عماد المذهب المالكي) على أسلوبها أسدُبن الفرات، وإن نُسِبت إلى سحنون لأنه عدّل فيها وبدّل شيئاً منها. أسدبن الفرات هو الفقيه القاضي الأميرال (أمير الماء) قائد الأسطول الذي فتح صقلية وبقيَت بأيدي المسلمين دهراً طويلاً (1).

ولم يكن دليلنا الذي يقود السيارة ويقودنا عارفاً بالطرق ولم يزُر مدينة كيسن من قبل، وكان يومئذ حديثَ عهد بألمانيا، وهو لا يزال إلى اليوم فيها، وقد صار أستاذاً نابغة. وكان هذا الأستاذُ السابقَ إلى الدعوة إلى الله ونشر الإسلام في بروكسل، وهو الآن في المركز الإسلامي في آخن، هو الدكتور محمد الهَوّاري الأستاذ في كلية الطب في الشام.

مررنا بطائفة من المدن حتى بلغنا كيسن، فجعل يلفّ بنا ويدور ولا يصل إلى بيت الشباب، فسألته: ألا يعرفه؟ قال: بلى، هو عند هذه

شو اسمها؟ التي هي فوق الطريق

ولم يكن يعرف هو على -ما يبدو- ما هي التي فوق الطريق ولا يعرف اسمها

(1) في كتابي «رجال من التاريخ» فصل عنه.

ص: 252

حتى يسأل عنها، وليست «اللي بيتها فوق الطريق» التي سمعتُ فيروز تغنّي بها! درنا كما يدور صاحب السانية حتى وصلنا إليها وعرفنا ما هي، إنها أنبوب ماء يمرّ من فوق طريق فرعي صغير، فقال: الآن عرفت. قلنا: الحمد لله.

وبلغنا بيت الشباب، وكان على سفح جبل صغير في طرف البلد، ووجدناه بناء كبيراً قديماً يعجّ بالنزلاء، وأكثرهم من جماعتنا. وقابلنا أصحابنا، وقلت للذي جاء بي: هلمّ إلى الفندق الذي حجزوه لي. فآثرَت زوجتي أن تبقى مع النساء، والحقّ معها، ولو كنت أستطيع لبقيت أنا أيضاً مع رجالهن لأنهم (أعني الرجال والنساء) من أهل الصلاح وصحبتهم تذكّر بالله وتوقظ القلب الغافل، وإذا أعطيتهم أنا في هذه الرحلة قليلاً من العلم الذي تعلّمته فإنهم أعطوني كثيراً من الإرشاد القلبي والموعظة النفسية.

ووجدت الفندق فخماً والغرفة واسعة، ومن نوافذها نطلّ على مشهد من أجمل المشاهد. وقضيت ليلة مريحة، وتعلّمت تحية الصباح (كودِنْ مورْكِنْ) وسبع كلمات أخرى لا بدّ منها ولا غنى عنها. وكان الموعد الساعة التاسعة من الصباح، وكان الاتفاق أن يجيء إليّ مَن يأخذني إلى بيت الشباب، فلم يحضر أحد ومرّت نصف ساعة. وأنا يغيظني جداً إخلاف الموعد لأنني أُلزِم نفسي به وأنتظر ممّن يعدني أن يُلزِم نفسَه بما ألزمتُ به نفسي وما ألزمَنا به كلينا دينُنا، لا أن يقيّدني ويبقى طليقاً. ونحن نرى إخلاف الوعد هيّناً وهو عند الله عظيم وهو من خصال المنافقين، فمَن كان مبتلى به فليعلم أنه ابتُلي بشعبة من النفاق كما قال رسولالله عليه الصلاة والسلام.

ص: 253

وضاق صدري من الانتظار فقلت: أمشي حول الفندق. ولكن نسيت (وتلك حماقة مني) نسيت أن أحفظ اسمه، فمشيت قليلاً فوجدت حاجزاً له درَج كهربائي يصعد الصاعدون عليه فينزلون من الجهة الأخرى يمرّون على جسر فوق الطريق، فصعدت مصعدهم ونزلت منزلهم، وسرت قليلاً فلم أعُد أرى الفندق ولا الطريق إليه، ولا أعرف اسمه لأسأل عنه، ولا أعرف ما اسم بيت الشباب بالألمانية ولا رقم الهاتف، فضاقت بي الحال واشتدّ الأمر وحرت ماذا أصنع.

والضيق يولّد مخرجاً إن التجأ العبد فيه إلى ربه. فدعوت الله بقلب حاضر فألهمني أن أدقق النظر فيما حولي، فكلما رأيت لوحة على باب متجر أكدّ ذهني أفكّر: هل مررت بها وأنا قادم؟ فإذا تذكرت أني مررت بها وكانت على يميني أجعلها على شمالي لأعود من حيث جئت، وكذلك جعلت أتنقل خطوة خطوة حتى رجعت إلى جسر المشاة الذي يصعد الناس إليه بالسلم الكهربائي، فصعدته ونزلت فإذا أنا أمام الفندق، وإذا أنا لم أسِر إلاّ نحو ثلاثمئة متر.

* * *

وجاء يزورني في اليوم التالي صديق من أصدقائنا الشباب المؤمنين، فأحبّ أن يكرمني على غير رغبة مني، وكان يتكلّم الألمانية كأهلها، فحدّثهم عني حديثاً لست أدري ماذا قال فيه، ولكنه كبّرني ونفخني وأوهمهم بأن لي شأناً عظيماً وطلب أن يُخصَّص لي جناح في الفندق على أن يدفع أجرته هو. وكان

ص: 254

ذلك كله وأنا غائب عن الفندق، فلما عدت إليه من بيت الشباب وجدتهم قد نقلوني من غرفتي التي كنت فيها إلى هذا الجناح، وإذا هو دار مصغَّرة فيها غرفة استقبال وغرفة للنوم وردهة فيها مقاعد لا أدري ماذا أصنع بها ولا بهذا الذي وجدته. ومن أعجب ما وجدت خزانة فتحت بابها فإذا فيها من القوارير والقناني ما لا أستطيع إحصاءه، وفهمت أنه كان فيها من كل شراب أحلّه الله أو حرّمه، أي أنها خمّارة صغيرة في هذا الجناح!

وقال لهم إني لا آكل إلا أكلات أحدّدها، فجاؤوا يسألونني: ما الذي أريد أن آكله في المساء؟ وأنا لا أفهم عنهم ولا يفهمون عني، حتى وصل هذا الأخ فقلت له: ما هذا الذي صنعت ياغالب؟ أنا راضٍ بغرفتي وقانعٌ بها. وجاء الطعام وهو عندي، فوضعوا ملاءة بيضاء مطرَّزة يبدو أنها غالية الثمن وضعوا فوقها الأطباق، وأنا أنظر بعيني، ثم وضع النادل خادم المطعم منديله على ذراعه ووقف على رؤوسنا. وأنا لا أستطيع أن آكل وأمامي من يراقبني وينظر إليّ، فكنت أغمز هذا الأخ بمرفقي أقول له بالعربية بصوت خافت: اصرفه عني، وهو يظنّ أن من الإكرام أن يُبقيه قائماً على رأسي. حتى ضقت به ذرعاً فأمرته أن ينصرف فانصرف متعجباً.

ولم أرضَ أن يغرم هو ثمن هذا البذخ الذي لا داعي له ولا منفعة فيه، واضطُررت أن أدفع أنا أجرة هذا كله شاكراً له نيّته وحسن مقصده.

* * *

ص: 255