المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌عودة إلى الحديث عن مصر - ذكريات - علي الطنطاوي - جـ ٧

[علي الطنطاوي]

فهرس الكتاب

- ‌الجزء السابع

- ‌افتتاح أسبوع التسلّح في دمشق

- ‌من أخبار العلم والعلماء في دمشققبل نصف قرن

- ‌فتنة التجانية في الشام

- ‌في الكلية الشرعية في دمشق

- ‌حلقة خاصّة في تصنيف العلوم

- ‌في الفقه الإسلامي والأحوال الشخصية

- ‌كيف وُضع مشروعقانون الأحوال الشخصية

- ‌مصر قبل أربعين سنة

- ‌في إدارة التشريع في وزارة العدل

- ‌ترشيحي في انتخابات الشام سنة 1947

- ‌عودة إلى الحديث عن مصر

- ‌حلقة مفردة: وحي صورة

- ‌وقفة استراحة

- ‌بقايا من ذكريات رمضان

- ‌في «آخِنْ» عاصمة شارلمان

- ‌رحلتي من فرانكفورت إلى آخن

- ‌الدعوة الإسلامية في ألمانيا

- ‌في مسجد آخن مع القساوسة والهيبيين

- ‌السفر إلى المؤتمر

- ‌إلى الوزير الشاعر عبد الله بلخير

- ‌صلاة الجمعة في مسجد بروكسل

- ‌أيام لا تُنسى في بروكسل

- ‌في منطقة الآردن

- ‌خواطر في الحياة والموت،في طرق هولندا

- ‌طريق الحج

- ‌الخط الحديدي الحجازي

- ‌في صحبة الحيوان

- ‌كتاب جديدأثار في نفسي ذكريات قديمة

- ‌إلى الأستاذ أحمد أبو الفتح

- ‌عودة إلى ذكريات القضاء

- ‌في محكمة النقض في دمشق

الفصل: ‌عودة إلى الحديث عن مصر

-194 -

‌عودة إلى الحديث عن مصر

قرأت ما كتب عني الأستاذ أحمد أبو الفتح. وأنا أعرفه قراءة له لا اجتماعاً به، أعرفه أيام إقامتي في مصر، أيام كانت مصر هي مصر وكان الناس هم الناس. وما جئت أجزيه ثناء بثناء ومدحاً بمدح، فأنا أكتب وأنشر من ستّين سنة كاملة، من يوم حرّرت آخر جزأين من مجلة «الزهراء» التي كان يُصدِرها خالي محب الدين الخطيب ويكتب فيها الأعلام كالرافعي والأمير شكيب أرسلان.

وقد كُتب عني من الثناء ما لو كبرت مئة مرة لما كنت أهلاً له، وكُتب عني من الهجاء ما لو صغرت مئة مرة لما كنت أهلاً له، فهان عليّ الأمران حتى لم أعُد أفرح (إلاّ قليلاً) بالثناء ولا آسى ولا أتألم (إلاّ أقلّ من القليل) من الهجاء. ولكن سرّني أني وجدت من كبار أصحاب الأقلام في مصر من يشاركني الشعور بأن الأمس الذي كنا نبكي فيه مما نسمع من بعض الفساد في حكومة مصر، ومن تسلُّط الإنكليز على مصر وليس لهم فيها من حقّ. فلما جاء حكم الضباط الأغرار، أقصد الأحرار، فقد سبق القلم إلى ما هو الصواب، بكينا على العهد الذي قبله لا حباً فيه ولكن بغضاً لِما جاء بعده.

ص: 145

أعرف الأستاذ أحمد أبا الفتح ركناً من أركان الصحافة في مصر يوم كان الصحفيون يكتبون ما يشاؤون، يعبّرون عن رأي الشعب أو رأي فريق من الشعب، لم يكونوا قد صاروا موظفين يقولون ما يُقال لهم ويردّدون ما يُلقى عليهم. على أني أسارع فأقول: إن ذلك الداء قد أوشك بحمد الله أن يزول، وإن الصحّة بدأت تعود، وإن مصر اليوم في ما يشبه عهد النقاهة من المرض: لا المرض متمكّن منها ولا الصحّة عادت إليها، فوجهها مصفرّ من أثر الداء، والكيس خالٍ مما أنفقَت في ثمن الدواء، ولكن الأمل قوي بالشفاء.

وقد تفضّل فنقل فقرات مما كتبت، منها أني قلت عن مصر إنها أم دنيا العرب وأوسمها سمة (كذا)، والذي قلته: وأوسعها سعة، ولو أردت ذلك لقلت وسامة لا سمة. ويشكرني على أني أحب مصر، مع أني تلقّيت يوم صدور العدد الذي كتب فيه رسالة لو صدقتُ في وصفها لقلت إنها رسالة بذيئة، يسبّني مُرسِلها أشنع السبّ لأني أكره -كما يقول- مصر.

وهذه «شنشنةٌ أعرفها من أخزَمِ» ؛ فأنا متّهَم دائماً بكراهية مصر، من يوم كنت في العراق وكان الخلاف بيني وبين المفتّش المصري سنة 1936، أي من خمسين سنة، ولم ينفعني أني كنت يومئذ صديقاً لسفير مصر في العراق، الرجل الكبير الأستاذ عبدالرحمن عزام.

أنا -ويحكم- أكره مصر ومِن مصر أصلي؟! منها جاء جدي أبو أبي لا جدي البعيد، والشام مولدي ومنبتي، وإن أنكرَتني بعد

ص: 146

الشيب والصحبة وقتلَت غدراً وظلماً بنتي، وكأنها أرادت (والله هو الذي يُمضي ما أراد) أن أموت قبل أن تكتحل برؤيتها عيناي. والعراق بلدي، عشت فيها وأحببتها. ولبنان بلدي عملت فيها. أما المملكة فأشهدكم أنني أُقِرّ بفضلها عليّ، من ملوكها الخمسة الذين أدركتُهم إلى آخر واحد من أهلها، رحمة الله على مَن ذهب للقائه من الخمسة ومدّ الله في عمر الباقي ووفّقه إلى ما يحبّه وإلى مايرضاه. المملكة التي فيها مكة والمدينة بلدي الأول وبلد كل مسلم، الدين أشرق نوره منها والعربية هي أصلها ومعدنها، وكل البلاد دخلها الاستعمار يوماً إلاّ المملكة فإن الله سلّمها منه وصانها.

يقول الأستاذ إنه بكى لمّا قرأ سؤالي عن الأزبكية ما حالها؟ إنه -يا أستاذ- بكاء الرجال من فيض العاطفة ورقّة القلب، ليس بكاء الضعف ولا بكاء النساء. إن كل من عرف مصر من قبلُ وعرفها اليوم بكى، وإنْ كان آخر عهدي بمصر سنة 1959 لمّا كنت مستشاراً في محكمة النقض في الشام، وكانت الوحدة فجمعت المحكمتين، فانتقلنا إلى مصر وعقدنا فيها الجمعية العمومية مرات كان آخرها سنة 1959.

وأنا أعرف مصر ملجأ الأحرار من قبل أن أعرف هذه الدنيا، وعمري الآن ثمانون سنة. كان الناس يفرّون من بلاد العرب إليها، من كان عنده فيض من بلاغة أو فضل من خبرة وبراعة حمل قلمه وخبرته ومشى إليها فأنشأ الصحف والمجلات فيها، كالأهرام والمقطّم والمقتطف، وإن لم تكن كلها مع مصر، وإن كان بعضها يساير أعداء مصر والعادين عليها وغاصبي الحكم فيها، وكالمنار والفتح اللتين كانتا دوماً مع الإسلام، ومن كان معه كان مع مصر.

ص: 147

ومن كان عنده أثارة من فن حمله إليها، كأبي خليل القباني ومن عرفتم من المغنّين والممثلين (فما جئت أؤرّخ لأهل الفنّ ولا تاريخهم مما يعنيني أو ينفعني). ومن كان عنده رغبة في الإصلاح أو خطة للنجاح حملها إلى مصر، كالشيخ جمال الدين الأفغاني. أما علوم الدين فما حملها إليها أحد، لأنها فيها ومنها أُخذت وعنها اقتُبست، فحسبكم بالدين وعلومه فخراً.

ما كان أهل مصر يعرفوننا ولكن نحن نعرفهم، لأننا كنا نتعلم منهم، من كُتّابهم وأدبائهم ومن صحفهم، والتلاميذ يعرفون المعلّم ولكن المعلّم لا يعرف التلاميذ جميعاً. ما كانوا يعرفون الأقاليم العربية، وعندي على هذا شواهد كثيرة منها رسالة من الأستاذ أحمد أمين رحمه الله بخطه، على ظهرها عنواني واسمي وتحته دمشق وخط تحتها، وتحت الخط كلمة فلسطين! ولعلّ ذلك أن حبّهم لبلدهم كرّه إليهم البعد عنها أو معرفة غيرها، حتى إن ابن مصر (أعني القاهرة) إن نُقل إلى الفيّوم شكا وبذل الجهد وجاء بالوسطاء ليعود من غربته إلى بلدته، فإن نُقل إلى إسنا أو أسيوط اسودّت الدنيا في عينيه وأحسّ أن الأمل ضاع من يديه. وكانوا يعجبون من اقتحام الشاميّين الأخطار وحملهم مشقّات الأسفار حتى مدحهم بذلك شاعر النيل حافظ إبراهيم، فما بال المصريين اليوم تبدّلت حالهم فصاروا يمشون شرقاً ويمشون غرباً، ويسيرون شمالاً ويسيرون جنوباً، حتى ما تجد بلداً يخلو من المصريين، وهم في كل بلد يحلّونه وفي كل عمل يختارونه، من أعمال الفكر في الجامعات والمجامع وفي ميدان المال في الشركات والمصانع، يحتلّون في كل عمل أعلى محلّ ويكونون في صدور المجالس.

ص: 148

فإن كان العهد الأسود الذي مرّ على مصر قد عدّ عليها أنفاسها وخنق ناسها وقتل خيارها وأذهب خيراتها، فإنه أخرج أهلها من عزلتهم فعرّف الناس بهم وأرى الدنيا عبقرياتهم، في بلاد العرب والمسلمين وفي أوربا وفي أميركا. وإن كان الذي يسرّنا ويرضينا أن يبقى أبناؤنا في أرضنا، وكل أرض المسلمين أرضنا، وأن يكون خيرهم لنا لا لغيرنا، وأن تنشأ ذرّيتهم عندنا لا في بلد لا يُسمَع فيه القرآن ولا يُصدَح فيه بالأذان. فإن اضطُررتم إلى الهجرة إلى مثل هذا البلد فذكّروا الصغار دائماً بأنهم مسلمون، وأنهم سلائل مَن حملوا مشعل النور حين شمل الأرضَ الظلامُ وميزانَ العدل حين طغى وبغى الحكّام، لئلاّ يفتنهم ما يرون من مظاهر الحضارة عمّا عندهم. أفهموهم أن الذي يرونه فرع مما كان عندهم، وأن أجدادهم هم الذين علّموا هؤلاء ثم ناموا حتى سبقهم في علوم المادّة هؤلاء، وأن أجدادهم كانوا هم الأساتذة وكانوا هم القادة وكانوا هم السادة.

لا ياإخوان، أنا ما أقول هذا لننام عليه بل لنصنع مثله؛ إنه لا بدّ من التاريخ لأن اليوم هو ابن الأمس وأبو الغد، ومَن ليس لهم في الأمجاد تاريخ كهؤلاء اليهود يخترعون لهم تاريخاً مكذوباً لأنها لا تعيش أمة بلا تاريخ، ولكن الفخر بالتاريخ وحده لا يُجدي. ما الذي يُجدي الفقيرَ أن يكون طول مائدة أبيه عشرة أذرع وعليها عشرة ألوان، وهو خاوي البطن فارغ المعدة يكاد يقصفه الجوع؟ ما الذي يُفيد الهزيلَ النحيل العليل أن يكون أبوه بضخامة الفيل؟

ص: 149

إنَّ الفتى مَنْ يقولُ هأنذا

ليسَ الفتى مَنْ يقولُ كانَ أبي

ألا تعرفون قصة فولتير مع النبيل الذي عيّر الكاتب بنسبه وفخر عليه بشرف أسرته، فقال له فولتير:"إن شرف أسرتك ينتهي عندك، وأسرتي يبدأ شرفها بي". فافتحوا في التاريخ صفحة مجد أنتم عنوانها، لا تكونوا حاشية مطموسة في ذيل صفحة مجد الجدود. اجعلوا شعاركم قول الشاعر:

نبني كما كانَتْ أوائلُنا

تبني، ونفعَلُ مثلَما فعَلوا

بل نفعل فوق ما فعلوا. ولِمَ لا، وقد تيسّرَت اليوم الأسباب وفُتحت الأبواب؟ فهل فقد المسلمون بطولتهم؟ هل أضاعوا نصيبهم من إرث محمد ‘؟ أليست العزّة لله ولرسوله وللمؤمنين؟ بلى، ولا تزال العزّة لهم إن مشوا على طريقها وسلكوا سبيلها، وسبيلُها سبيلُ الله وسبيل رسول الله.

إننا نتحدث دائماً عن بدر والقادسية واليرموك وحطّين، وتلك الأيام الغُرّ لا في تاريخنا وحده بل في تاريخ البشر، فهل فقدنا العزائم التي انتصرنا بها في تلك الأيام؟

لقد ظفرنا في عشرة آلاف معركة خضناها، نثرنا فيها شهداءنا نثراً في كل بقعة من الأرض وتحت كل نجم في السماء، ثم سقينا أجداثهم بدمائنا، سقينا الصحارى المتسعّرة الرمال في بلاد العرب وفارس وإفريقيا، وجنان الشام والسهول الممرعة في مصر والعراق وفي أرض فارس، والأفغان والهند وأطراف الصين، وفي شواطئ البحر المتوسط التي كانت كلها أو جلّها لنا وكان هذا البحر يُدعى تارة بحر العرب وتارة بحر الروم، وفي

ص: 150

أوربا التي جئناها من الغرب بالجيش العربي المسلم حتى بلغنا قلب فرنسا، وجئناها من الشرق بالجيش التركي المسلم حتى وصلنا إلى أسوار فينّا.

أفأضعنا هذه البطولات؟ إن محمداً ‘ صبّ البطولة صباً في أعصاب المسلمين، فما تلقى في الدنيا مسلماً جباناً. فإن رأيتم مسلماً يخاف الموت في الجهاد في سبيل الله حين يجب الجهاد فاعلموا أنه مسلم باللسان وحده وليس مؤمناً بالجَنان.

ما أضعناها، ولكن تعبنا فنمنا وطال بنا المنام، وحسِبنا أن ذلك الليل لا آخر له وأن الصباح لن يطلع أبداً، حتى سمعنا الأذان من الشرق (من نجد): حيّ على الصلاة حيّ على الفلاح الله أكبر الله أكبر لا إله إلاّ الله. وسمعنا البوق العسكري من الغرب (من مصر) يوقظ النيام. الأول هو صوت الدين يهتف به الشيخ محمدبن عبد الوهاب، والثاني صوت الدنيا ينفخ فيه في هذا البوق محمد علي، الأول من منارة المسجد والثاني من الثكنة ومن المدرسة. والدين مسجد وثكنة ومدرسة وسوق.

* * *

فيا أيها الأستاذ، هل تيأس من أن يجيء مرة ثانية نصر الله والفتح وأنت أبو الفتح؟ أما ترى الشباب يعودون فيدخلون في دين الله أفواجاً؟

كنا ياأستاذ نخاف أهل أوربا لأننا نرى أسلحتهم ومنجَزاتهم ولا نعرف سرّها، فنخشاهم ونخشاها. اقرأ (ولا شكّ أنك قرأت) ما كتب الجَبَرْتي في تاريخه لمّا دعاه الفرنسيون إلى مشاهدة

ص: 151

تجرِبة كيميائية فحسب ما رأى سحراً، على حين تُجرى أمثال هذه التجرِبة اليوم في المدارس الثانوية والمتوسطة ولا يعجب التلاميذ منها لأنهم عرفوا حقيقة أمرها.

وما السحر؟ أصل معنى السحر في لغة العرب: الشيء الغريب الخفيّ الذي لا تعرف سببه. فإن عُرف السبب بطل العجب.

ونحن قد عرفنا اليوم من علوم القوم مثل ما يعرفون، وكانت مصر هي السابقة إلى هذا. قلت في محاضرة ألقيتها في الرياض في الندوة العالمية للشباب المسلم سنة 1373هـ (وهي محاضرة أعددتُ -على عادتي- أفكارها ولكني لم أكتبها، فسجّلوها جزاهم الله خيراً وكتبوها) وكان مما قلت فيها

عفوكم ياأيها القراء، لم أجد المحاضرة تحت يدي لأنقل منها الفقرة التي أتحدّث عنها، والبحث عنها بين أوراقي مثل الأشغال الشاقّة التي يُحكَم بها على عُتاة المجرمين، فأعفوني من نقلها واكتفوا بخلاصتها، فإن خلاصتها في ذهني ولكن نصّها بعيد الآن عن عيني (1).

قلت إننا كنا في الشام في شبه عزلة عن مناطق الحضارة الحديثة في أوربا وأميركا واليابان، أقمنا حولنا جداراً حبسنا أنفسنا فيه فلا نرى ولا نحب أن نرى ما وراءه، ولكن كنا نسمع عنه، تصل إلينا أطراف من أخباره وطرف من صناعاته وآثاره. وكان

(1) المحاضرة منشورة بكاملها في آخر كتاب «فصول إسلامية» في طبعته الجديدة التي أصدرتها دار المنارة، وهي بعنوان «موقفنا من الحضارة الغربية» ، وقد نشرتها دار المنارة في رسالة مستقلّة أيضاً (مجاهد).

ص: 152

منا ناس درسوا العلوم الجديدة في إسطنبول (1) ولكن كانوا قلّة، فلما انتهت الحرب الأولى سنة 1918 انهار الجدار ودخلَت علينا دخولَ السيل إذا سقط من أمامه السدّ.

وأنا أصف ما رأيت وما سمعت، وكنت يومئذ في آخر الدراسة الابتدائية. وللوصف طريقتان: طريقة مَن يجمع الوثائق في الموضوع ويُحيط بما كُتب فيه، وهذه هي الطريقة الموضوعية (أوبجيكتيف)، أو أن يروي الكاتب ما رأى وما سمع، وهذه هي الطريقة الشخصية (سَبْجكتيف). الأولى شاملة وينقصها التفصيل والثانية فيها التفصيل وينقصها الشمول. كنا مع هذه الحضارة التي اقتحمَت علينا كالذي يكون في بيت مظلم ويخرج إلى الشارع في رأد الضحى حيث الشمس ساطعة، أو إن شئتم العكس، كالذي يكون في الشارع المضيء ويدخل إلى البيت المظلم، كلاهما يزيغ بصره فيلبث لحظات لا يرى ما حوله ولا يدري من أين يمشي.

وكانت النتيجة أن أكثرنا ما أحسّوا بها ولبثوا يعيشون بعد دخولها كما كانوا يعيشون من قبلها، والقلّة التي شعرَت بها خافت منها، فالمشايخ عبّروا عن خوفهم بمحاولة دفعها ونبذ كل ما جاءت به، بحجّة أن أصحابها كفار وأن الكفر شرّ ولا يجيء خير من شرّ. وبعض الشبّان أظهروا خوفهم منها بالانقياد لها وأخذ كل ما جاءت به، ودليلهم أن أصحابها أقوى وأكثر حضارة منا، والحضارة خير وكل ما يأتي من الخير خير.

(1) أصلها إسلامبول، أي مدينة الإسلام (مثل إسلام أباد). سمّاها بذلك محمد الفاتح.

ص: 153

كلهم خافوا منها، والخائف الذي يواجه الخطر إما أن يفرّ منه أو أن يحاول دفاعه أو أن يستسلم له. أما الآن وقد زالت صدمة المفاجأة وألِفَت أبصارُنا النظرَ فيما حولنا، فلم نعُد نخافها فنحارب كل ما فيها حتى الحقّ من العلم والنافع من المستحدَثات، أو نمشي معها فنأخذ كل ما فيها حتى الفسوق والعصيان والفواحش والتأميم والشيوعية. لقد تعلّمنا علومهم وصار منا مَن هو فيها مثلهم. ولقد سردت في المحاضرة مشاهدات مما رأيت في ألمانيا وبلجيكا وهولندا، رأيت في المستشفيات أطباء كباراً من العرب ورؤساء أقسام فيها يمشي وراءهم ويتبع خطاهم ويستنير بعلمهم أطباء من تلك البلاد، ورأيت مهندسين وعلماء في الجامعات يُعترف بفضلهم ويقدّرهم أهل تلك البلاد. ولمّا ألقيت المحاضرة كانت تجرِبة المراكب الفضائية جديدة، وقلت لهم إن الذي يوجّه هؤلاء ويدرّبهم ويعلمهم هو شابّ مصري من الزقازيق أبوه شيخ اسمه فاروق الباز، وأنا لا أفرح أن يذهب علماؤنا والنابغون منا فيفيدوا بعلمهم ونبوغهم غيرَنا، ولكن أمثّل بهم على ما قلت من أننا عرفنا ما عندهم فلم نعُد نخافهم.

* * *

وبعد، فإن العاقبة للتقوى:{وإنّ جُنْدَنا لَهُمُ الغالِبونَ} ، وإن هذا الدين محفوظ بحفظ الله:{إنّا نحنُ نَزّلْنا الذِّكرَ وإنّا لهُ لَحَافظونَ} . فلا خوف ياأستاذ على الإسلام؛ لقد مرّت به مِحَن شِداد وأيام أقسى من الأيام التي مرّت بها مصر من سنة 1952 إلى الآن، ولكن الإسلام خرج منها ظافراً: يوم الردة، يوم رمَت قبائلُ العرب الإسلامَ عن قوس واحدة وقالت:

ص: 154

أطعْنا رسولَ اللهِ إذْ كانَ بينَنا

فيا لَعبادِ اللهِ ما لأبي بَكْرِ

أيُورِثُها بَكراً إذا ماتَ بعدَهُ

وتلكَ لَعَمرُ الله قاصمةُ الظّهْرِ

فقصم الله ظهر المرتدّين بعدما حسب المنافقون أنها نهاية هذا الدين، ورجعَت الجزيرة كلها إلى الله، ثم خرجَت تنشر دين الله ففتح الله لأبنائها ما بين قلب فرنسا وقلب الهند، ووصلَت راية الإسلام إلى شاطئ بحر الظلمات (المحيط الأطلسي) وجبال الصين.

ويوم اتّحدَت أوربا كلها لحرب الإسلام، ومشت جيوشها حتى صار أولها في فلسطين وآخرها في القسطنطينية، وحكمت سواحلَ الشام واحتلّت القدس وظنّت أنها استقرّت فيها إلى الأبد، فما هي إلاّ أن قام نور الدين ومِن بعده صلاح الدين، فنشرا علَم الإسلام وضربا بسيف محمد ‘، فطهّرا البلاد من أوزار الصليبيّين. لا كما فعل صاحبكم حين رفع راية الاشتراكية وضرب بسيف تيتو، فأضاع ما كان باقياً لنا من فلسطين وأعان الكفار على المسلمين.

ويوم جاء السيل الدفّاع الذي اجتاح دول الشرق الإسلامية كلها، ووطئ ثرى بغداد وقتل أهلها وأغرق كتبها، وظنّ أنْ قد استتبّ له الأمر ولم يعُد يقوم له أحد، فبعث الله له رجلاً من مصر كان مملوكاً فجعله الإسلام ملكاً، ورجلاً من الشام كان شيخاً فقيراً اسمه الشيخ عزّ الدينبن عبد السلام، فاجتمع القلب المؤمن والقائد الجريء والجيش المطيع والشعب الخيّر الكريم، فردّت مصرُ الجيشَ الذي لم تقوَ على ردّه دولة الخلافة في بغداد

ص: 155

يوم كانت بغداد أعظم مدينة على ظهر هذه الأرض.

ما بيننا وبين النصر، ما بيننا وبين أن ننقذ فلسطين إلاّ أن نعود إلى ربنا، وأن نعلم أنها إن كانت تُمِدّ إسرائيلَ وتُعينها وتؤيّدها قوى كبيرةٌ فإن الله أكبر. لقد طالما قلت هذا ياأستاذ ولم يسمع مني أحد. قلت: ما الذي ينقصنا لننتصر على اليهود؟ العدد؟ نحن -المسلمين- ألف مليون فكم عدد اليهود؟ العلم؟ عندنا -معشرَ المسلمين- من العلماء أكثر مما عند اليهود. المال؟ معنا، مع ألف مليون من المسلمين أكثر مما مع اليهود؟ فما الذي ينقصنا؟

ينقصنا الإيمان. لقد قلت في الإذاعة (وأنا أقدم محدّث فيها، أذيع بلا انقطاع من أكثر من خمسين سنة) قلت: إن السلاح لا يُغني عن الإيمان مهما كثر السلاح. فضحكوا مني وسخروا بي، وقالوا: ما يُدريك وأنت شيخ أديب ما العسكرية وما فنون القتال؟ فلما نشر مونتغمري مذكّراته وتكلّم عن القوة المعنوية وقال مثل الذي قلت سكتوا وما قالوا شيئاً. أيسخرون من مونتغمري ويقولون له: أنت لا تدري ما فنون القتال؟

نحن نشكو أدواء في مجتمعاتنا وأعداء تكالبت علينا ومظالم حاقت بنا، فلماذا نواجهها وحدَنا ولا نطلب من الله أن يقف معنا؟ لماذا لا ننصره باتّباع شرعه لينصرنا؟ إننا نريد أن يغيّر الله ما نحن فيه، فما طريق التغيير؟ {إنَّ اللهَ لا يُغيّرُ ما بقَوْمٍ حتى يغيّروا مابأنْفُسِهِم} ، فهل غيّرنا ما بأنفسنا إلى ما هو أرضى لربنا وأقرب لديننا؟

قضية فلسطين والمسجد الأقصى قضية المسلمين جميعاً،

ص: 156

فلماذا لا ندعوهم ليقفوا فيها معنا؟ لماذا نُعرِض عنهم وهم يمدّون أيديهم إلينا؟ لماذا نجعلها قضية فلسطينية أو عربية ولا نجعلها قضية إسلامية فيقف معنا الألف المليون مسلم؟

* * *

لو جمعنا عشرة من أكبر علماء الأرصاد الجوية فتناقشوا وبحثوا ثم قرّروا أن اليوم صحو، وكان المطر ينزل، فما قيمة مناقشاتهم ومباحثهم؟ التجربة أكبر برهان. وقد جرّب أجدادنا تجرِبة وجرّبنا تجرِبة؛ جرّبوا العمل لله والجهاد لإعلاء كلمة الله فملكوا ثلث المسكون من الأرض في ثلث قرن وأزاحوا كسرى وقيصر يوم كانت فارس والروم مثل أميركا وروسيا الآن، وجرّبنا نحن التقدمية والاشتراكية والبعد عن أحكام الدين، فغُلبنا على قبلتنا الأولى وعلى مسرى نبينا. ومَن الذي غلبنا؟ غلبنا أذلّ الأمم اليهود.

فماذا تريدون بعد هذا؟

* * *

ص: 157