المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌بقايا من ذكريات رمضان - ذكريات - علي الطنطاوي - جـ ٧

[علي الطنطاوي]

فهرس الكتاب

- ‌الجزء السابع

- ‌افتتاح أسبوع التسلّح في دمشق

- ‌من أخبار العلم والعلماء في دمشققبل نصف قرن

- ‌فتنة التجانية في الشام

- ‌في الكلية الشرعية في دمشق

- ‌حلقة خاصّة في تصنيف العلوم

- ‌في الفقه الإسلامي والأحوال الشخصية

- ‌كيف وُضع مشروعقانون الأحوال الشخصية

- ‌مصر قبل أربعين سنة

- ‌في إدارة التشريع في وزارة العدل

- ‌ترشيحي في انتخابات الشام سنة 1947

- ‌عودة إلى الحديث عن مصر

- ‌حلقة مفردة: وحي صورة

- ‌وقفة استراحة

- ‌بقايا من ذكريات رمضان

- ‌في «آخِنْ» عاصمة شارلمان

- ‌رحلتي من فرانكفورت إلى آخن

- ‌الدعوة الإسلامية في ألمانيا

- ‌في مسجد آخن مع القساوسة والهيبيين

- ‌السفر إلى المؤتمر

- ‌إلى الوزير الشاعر عبد الله بلخير

- ‌صلاة الجمعة في مسجد بروكسل

- ‌أيام لا تُنسى في بروكسل

- ‌في منطقة الآردن

- ‌خواطر في الحياة والموت،في طرق هولندا

- ‌طريق الحج

- ‌الخط الحديدي الحجازي

- ‌في صحبة الحيوان

- ‌كتاب جديدأثار في نفسي ذكريات قديمة

- ‌إلى الأستاذ أحمد أبو الفتح

- ‌عودة إلى ذكريات القضاء

- ‌في محكمة النقض في دمشق

الفصل: ‌بقايا من ذكريات رمضان

-197 -

‌بقايا من ذكريات رمضان

من أقدم صور الحياة في رمضان صورة منقوشة في ذهني، كلما تذكرتها رأيت فيها رمزاً لحياتنا منذ ثلاثة أرباع القرن وحياتنا الآن.

في جامع بني أمية الكبير في دمشق أمام القبر الذي يقولون إنه قبر يحيىبن زكريا (وليس قبره) ثُريّا ضخمة جداً من قضبان متشابكة بحجم قبة مسجد من المساجد وعلى صورتها، معلَّق فيها مئات من السُّرُج. والسراج كوب صغير من الزجاج مثل كوب الشاي، فيه فتيل من القطن في قليل من الزيت. فكانوا يبسطون تحتها بساطاً واسعاً ليحمي سجّاد المسجد من وَضَر الزيت ثم يُنزِلونها حتى توضع على الأرض، ويُباشَر بإيقاد السرج من بعد صلاة المغرب إلى قُبَيل أذان العشاء، فيزدحم عليها الأولاد وقد عمّتهم فرحة عجيبة وغمرهم سرور لا يوصف، وهم يصعدون القبّة من جوانبها وبأيديهم أعواد الكبريت يقرّبون شعلتها من فتيل السراج حتى يشتعل. والقبة معلَّقة بحبل غليظ تدور به بكرة، فإذا أُوقِدَت شدّوا الحبل فارتفعَت والسّرُج تتراقص شعلها، فكأن سماء رُكّبت فيها (كما قال البحتري).

ص: 185

ثم كرّت الأيام فوضعوا مكان هذه السرُج مصابيح كهربائية صغيرة، لا تُوقَد من الشجرة المباركة بل من التيار الكهربائي الخفيّ الذي لا يُرى، ولا يمضي في إشعالها ما بين المغرب والعشاء بل نشعلها كلها بلمسة زرّ في الجدار فتضيء في مثل لمح البصر.

أليس هذا هو مثال حياتنا في تلك الأيام وحياتنا الآن؟ ألسنا الآن في عصر السرعة؟ لقد ربحنا الوقت ولكن خسرنا المشاعر والأحاسيس.

لقد أمضيت على الطريق من جدة إلى مكة لمّا جئتها أول مرة من ثلاث وخمسين سنة (سنة 1353) اثنتي عشرة ساعة في السيارة، حملنا فيها المَشاقّ وقاسينا المتاعب، ولكنها أثارت في النفس مشاعر وأبقت فيها ذكريات لا أزال أتحدّث عنها إلى الآن. ونصل الآن من جدة إلى مكة في أقلّ من أربعين دقيقة، ونصل في مثلها بالطيارة من المدينة إلى جدة، ولكن لا تثور في النفس مشاعر ولا يبقى بهذه الرحلة ذكريات.

فنحن نركض دائماً كأننا في سباق، ولا ندري إلامَ نتسابق. لا نقف ولا نفتر ولا نبطئ، ركض من الشرق إلى الغرب ومن الغرب إلى الشرق، لا نثبت في مكان. مَن كان في مكة ذهب في عطلة الأسبوع إلى جدة، ومن كان في جدة جاء مكة، كل يطلب التبديل. فإذا قدم رمضان تنبّه الرَّكْبُ وتلفّت مَن فيه إلى الوراء ينظرون من أين بدأ المسير، وإلى الأمام يرون إلى أين المصير. فرمضان محطة على طريق العمر ووقفة تأمّل وتبصّر.

* * *

ص: 186

ومن الصور التي اختزنتها من الصغر واحتفظت بها وأنا أحملها في زحمة الحياة، ثم فُقدت من حولي وكادت تضيع من ذهني: صورة البوّابات.

هل تعرفون ما البوابات؟ لم يكن الأمن وأنا صغير قبل سبعين سنة أو أكثر من سبعين، لم يكن الأمن مستتباً أواخر عهد العثمانيين، وكانت الحكومة المحلّية ضعيفة والمركزية في إسطنبول بعيدة. وكانت قد عادت دمشق في كثير من أحوالها (كما عادت مدن من أمثالها) إلى مثل عهد الجاهلية الأولى، فكان القوي يعدو على الضعيف، وكان في كل حيّ قبضاياته وزكرتيّته، وكان يسطو بعض الأحياء على بعض ويغزو بعضُها بعضاً. فاتّخذ أهل كل حيّ باباً كبيراً، بوّابة تُغلَق من بعد العشاء ولا تُفتَح إلاّ بعد الفجر، يقوم وراءها الحارس الليلي (الخفير) ولا يفتح الباب إلاّ لمن يعرفه ويثق به.

وأذكر وأنا صغير جداً في نحو الخامسة أن أمي أخذها الطلق، فبعثوا بجارة لنا وأنا معها لتأتي بالقابلة، فمررنا بالبوابة، فصاح بنا الحارس من ورائها يقول: مَن؟ قلنا: مُطْلِقة (أي امرأة أخذها الطلق) قال: قفوا في اليمين حتى أراكم. ونظر من طاقة الباب وأدرك أنه لا يُخشى خطر منا ففتح لنا الباب.

فإذا كان شهر رمضان فُتحت البوابات الليل كله وزادت الأنوار في الحارات، وكانت تُضاء بالكهرباء، جاء بها وبالترام الوالي التركي ناظم باشا قُبَيل مولدي. وناظم باشا هو باني حيّ المهاجرين، وفي كتابي «دمشق» قصة إنشاء هذا الحي وفي كتابي

ص: 187

«قصص من الحياة» قصته (1) لمّا قدم دمشق أواخر أيامه. دمشق التي كان واليها وكان إليه وحده أمرها وله الحكم فيها، فتبدّلَت الحال وتغيّرت الدنيا، فلم يعرفه لمّا جاء أحد. وهكذا الناس، فيا خيبة من اطمأنّ إلى الدنيا وحدها!

كانت المصابيح في الطرق ضئيلة والطرق تكاد تكون مظلمة، فإذا جاء رمضان أنيرت الطرق ومشى فيها الناس الليل كله، لذلك قلت من أيام للصديق الأستاذ ماجد شبل في مقابلة له معي في الرائي لمّا سألني عن شعوري عندما يجيء رمضان، قلت له: إن قدوم رمضان مقترن في نفسي بالنور: نور في الحارات بعد الظلام، ونور في المساجد وفي البيوت حيث يسهر في الليل النّيام، ونور في القلوب هو ضياء الإسلام.

* * *

ومن المشاهد التي ذهبَت مع أمس الدابر، ألغاها انتباه الناس وازدياد معرفتهم بالإسلام، وقرّر إلغاءَها الشيشكليُّ لمّا كان هو الحاكم؛ وهي ما كان يجري ليلة السابع والعشرين من رمضان في الجامع الأموي: يسهر الشاميون فيه الليل كله، فإذا كان السحر جاء «المولَويّة» يدورون فيه أو يرقصون (كما كان يقول علماؤنا) رقصاً يعجز عن مثله الراقصون المحترفون. وكنا ونحن صغار نراه شيئاً عظيماً، نحرص عليه ونتسابق إليه.

والمولوية طريقة صوفية منسوبة إلى جلال الدين الرومي، وهو شاعر كبير في اللغة الفارسية يعدّونه من كبار الشعراء الصوفية،

(1) أي قصة ناظم باشا، وعنوانها «في شارع ناظم باشا» (مجاهد) ..

ص: 188

ولكن طريقته لا أصل لها في الشرع ولا فرع. وهم يتخذون إزاراً ضيقاً من أعلاه من عند الخصر واسعاً من تحت، ثم يدورون فيه، لا دورة ولا دورتين ولا تستمرّ دوراتهم دقيقة ولا دقيقتين، بل نصف ساعة أو ساعة لا يقفون ولا يستريحون، والإزار ينفتح حتى يصير مثل المخروط الناقص في الهندسة، وعلى رؤوسهم قلانس طويلة مثل علب اللّبَن التي كانت على أيامنا بشكلها ولونها. ولقد كتبت أنكر صنيعهم هذا (كما أُنكِر أمثاله من البدع التي استُحدثت في الإسلام) في «رسائل الإصلاح» التي أصدرتُها وطبعتها سنة 1347هـ، أي من ستّين سنة إلاّ سنة واحدة.

وكنا ننزل من الصالحية إلى بيت خالتي الكبرى، وهذا البيت يستحقّ مني وقفة عليه قصيرة فهو بيت العجائب؛ تقيم فيه خالتي، وهي بنت الشيخ أبي الفتح الخطيب شقيقة محب الدين، وهي التي ربّته بعد أمه، وأولادها: الشيخ شريف، مدير المدرسة الأمينية التي طالما كان لها في نفسي ذكريات، والتي بدأت التعليم فيها سنة 1345هـ وعلّمت فيها سنين وسنين ولي فيها أخبار طوال سبق ذكر بعضها. وأخوه الشيخ سهيل، وهو رجل عبقري في الفنّ متفرد في الشخصية، كان ضابطاً صغيراً أيام الحرب الأولى، وكان -مثل أكثر آل الخطيب في الشام- أزرق العينين أصفر الشعر، فجعلوه مرافقاً للقائد الألماني الذي قاد الجيش في حرب التّرعة ورجع منها خائباً. فمن كان يرى هذا الضابط الصغير لا يظنّه إلاّ ألمانياً.

ثم لمّا قامت نهضة العلماء لزم ابنَ عمّه الشيخ هاشم الخطيب الذي كان أحد الشيخين لهذه النهضة، أولهما وأكبرهما

ص: 189

الشيخ علي الدقر. فاتخذ عمامة لها عَذَبَتان، كان ينفرد بها لا يشاركه أحد في حمل مثلها. وأخذ على نفسه ألاّ يسمع بسنّة من سنن الرسول عليه الصلاة والسلام إلاّ فعلها، فقرأ أن الرسول كان شعره يصل تارة إلى منكبَيه وتارة إلى شحمتَي أذنيه فأطال شعره، وكان مثل أسلاك الذهب. وعمل بعد تَرْكه الجيشَ في بيع العطر في سوق البزوريّة في الشام الذي يقصده السياح، فصار فرجة السائحات من النساء يقفنَ عليه ويصوّرْنَه.

وكان فنّاناً رسّاماً، فلما سمع أن الرسم حرام ترك رسم الأحياء. وصنع شجرة لآل الخطيب (وهم أسرة أمي وزوجتي) وهي من الأسر التي تدّعي أنها متصلة النسب بالسيدة فاطمة الزهراء بنت رسول الله عليه الصلاة والسلام، والله أعلم بصدق الدعوى، فما نكذّب أحداً في نسبه ولا ينبغي لنا، ولا نستطيع أن نصدّق كل مدّعٍ شرفَ النسبة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم. فصنع شجرة على لوحة من القماش المشمَّع طولها سبعة أمتار وعرضها أربعة وضعها في صدر إيوان الدار، لمّا كنا نسكن تلك الدور الشامية التي كانت مصيفاً ومشتى وكانت داراً وبستاناً، وكانت قصوراً يضحك فيها الرخام والمرمر وتغنّي فيها النوافير فوق البِرَك، ويُزهِر فيها الفلّ ويعرش الياسمين وتمتدّ فوق سطحها دوالي العنب، هذه الدور التي قفزت البحر المتوسط -بطوله لا بعرضه- فوصلت إلى الأندلس وإلى المغرب، ولا تزال موجودة فيها. فلما أصابتنا النكسة في عاداتنا وهجرنا هذه الدور، وسكنا صناديقَ من الإسمنت ليس فيها بِرَك يجري فيها الماء ولا أشجار يتدلى منها الثمر ويرقص على أفنانها الزهر، ولا تستر نساءنا ولا تكتم

ص: 190

أسرارنا، ودَنَت سقوفها من الأرض فخفضنا لذلك رؤوسنا

لمّا كان ذلك لم يعُد لهذه الشجرة مكان، فكلّمتُ متحف الفنون الشعبية فاشتراها بألف ليرة من نحو أربعين سنة، وهي تعدل اليوم أكثر من عشرين ألفاً.

وهذه الدار إحدى الأعاجيب، ولعلّي أعود يوماً إلى الكلام عنها.

* * *

ومن الصور الرمضانية في مصر اثنتان كنت في كليهما مع الأستاذ الزيات؛ أخذني أولاً إلى قصر عابدين وقد مُلئت ساحته بالكراسي وفُتحت أبوابها للداخلين، وجاء الملك فاروق بالقرّاء يقرؤون القرآن بالأنغام ويعدّدون القراءات، فمن رواية حفص عن عاصم إلى وَرْش عن نافع إلى غيرهما، وكلما ازداد تعداد القراءات والتنقل بين المقامات والتفنّن في النغمات كان ذلك أدعى لإعجاب الناس وقولهم: الله، الله، ما شاء الله، الله أكبر! كأنهم يسمعون أحد المغنّين أو إحدى المغنّيات في ملهى من الملهيات، والله يصف المؤمنين بأنهم الذين {إذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلوبُهم، وإذا تُلِيَتْ عَليهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إيماناً} ، فهل زادت هذه الآيات السامعين إيماناً أم زادتهم طرباً؟

لقد عدّها الناس يومئذ مزيّة للملك فاروق. وتلاوة القرآن في مصر تُعَدّ قربة لذاتها، ومن عادة الوجهاء والكبراء أن يفعلوا مثل الذي فعل الملك فاروق، بل إنه أراد القربة إلى الله والتحبّب إلى الناس بأن يفعل مثلما فعلوا. حتى إن من التجار من يأتي بقارئ

ص: 191

يتلو شيئاً من القرآن عندما يفتح محلّه صباحاً قبل أن يزاول عمله. وهذا حسن، ولكنهم يخلطونه بآخر سيّئ هو أنه لا يُصغي أحدٌ للقارئ ولا يتدبّر معنى ما يسمع منه، فكأن القرآن عندهم كلمات مُعَدّة للتلحين لا يُراد منها إلا التغنّي بها.

ولقد سمعت مرة قارئاً يتلو قوله تعالى: {خُذُوهُ فغُلُّوهُ، ثمّ الجحيمَ صَلّوهُ، ثمّ في سِلْسِلةٍ ذَرْعُها سَبْعونَ ذِراعاً فاسْلُكُوه} ، هذا الكلام الذي ترتجف له القلوب من الخوف ومن شدة الوعيد كان يقرؤه القارئ بنغمة السيكا (وهي نغمة مرقّصة) وهم يتمايلون طرباً كأنهم لا يفكّرون بمعنى ما يسمعون! أفهؤلاء ممن يتدبّر القرآن؟ هل فهم هؤلاء معنى ما يقرأ القارئ ويسمعون؟

وإنك لتجد في رمضان في بيت الله الحرام خمسين ألفاً بأيديهم المصاحف يقرؤون القرآن، ولكن لا تجد خمسين منهم يفهمون أو يفكّرون في أن يفهموا معاني ما يقرؤون. فلو أن رجلاً أخذ الجريدة فقرأها من العنوان إلى آخر ما نُشِر فيها من إعلان، ثم سألتَه عن الأخبار التي كُتبت بالعناوين الكبار فقال لك: إني لا أدري. هل تراه قد قرأ؟ وهل القراءة أن نحرّك الألسنة بالحروف أو أن نفهم المعاني التي تحملها الحروف؟

على أني لا أُنكِر أن لقارئ القرآن أجراً على كل حال؛ له على كل حرف يقرؤه أجر، ولكن الله يقول:{أفلا يَتَدبّرونَ القُرآنَ أمْ على قُلوبٍ أقْفَالُها؟} ، فمتى نكسر هذه الأقفال حتى نفهم ما يُقال؟

* * *

ص: 192

وعرض عليّ الأستاذ الزيات أن يأخذني إلى قهوة الفيشاوي. وأنا لست من أحلاس المقاهي الذين ينفقون من أعمارهم في ارتيادها الساعات الطوال، يتنفّسون فيها هواء فاسداً يؤذي الصدر ويسمعون من قرع حجارة النرد (الطاولة) وصياح النُّدل (الجارسونات) ضجّة تُصِمّ الآذان، فهممت بالاعتذار فقال: إنها ليست كما تعرف من المقاهي وليس فيها إلاّ الشاي الأخضر الذي تحبّه، ويرتادها في مثل هذه الليالي أعلام الأدب وأرباب الفنّ يذكرون بها مصر التي كانت قبل خمسين سنة.

فذهبتُ معه، فإذا هي كما قال: قهوة من مقاهي الأحياء القديمة في مطلع هذا القرن، كأن التاريخ مرّ بها ونسيها ها هنا، فلم تمشِ مع مصر في طريق الحضارة المستورَدة من حيث مشَت بل بقيَت في مكانها. وهذا ما يرغّب الناس فيها ويجعلهم يتعلّقون بها. والإنسان مفطور على حب الجديد، ولكنه يحنّ إلى القديم.

وأنا أقيس نشاط الشعب في كل بلد أنزله بأمرين: مشي الناس في الشوارع وقعودهم في المقاهي. والناس في ألمانيا مثلاً لا يمشون إلاّ مسرعين، وما رأيت في بلد فيها (وقد زرت أكثر بلادها) مَن يمضي ساعة في المقهى أو ساعتين كما يفعل الناس في غيرها من البلاد.

* * *

ومرّ بي رمضان وأنا بعيد، دخل عليّ أوله وأنا في كراتشي في باكستان وآخره وأنا في جاكرتا في أندونيسيا، وترك في ذهني صوراً لم تذهب بها الأيام من سنة 1373هـ إلى الآن، وإن ذهبت

ص: 193

صور مثلها أكثر عدداً منها.

دُعينا في كراتشي إلى طعام الإفطار. وأنا لا أكاد أستثقل شيئاً ما أستثقل أن أُدعى إلى طعام، وكانوا يُكرِهونني أحياناً فأجيب مرغَماً، ثم عزمت أمري ورفعت راية العصيان، وأعلنت أنني لا أذهب إلى وليمة مهما كانت الحال ومهما كان الشأن.

وكراتشي بلدة كبيرة مترامية الأطراف، فساروا بنا بين طرفَيها ما يقرب من مسافة القَصر! وكنا جياعاً، وكان النهار طويلاً والحرّ شديداً والصوم مُتعباً، فقدّموا لنا تمراً وشراباً بارداً وفاكهة قليلة، ثم أقاموا الصلاة فصلّينا، فلما سلّمنا حسبت أننا نتوجه إلى المائدة، فإذا نحن نوجه إلى الباب! قلت: ما هذا؟ قالوا: هو هذا، إنها دعوة إلى إفطار وقد أفطرتم، فتفضّلوا مشكورين. أي فانصرفوا مطرودين! وخرجنا جائعين كما دخلنا جائعين.

هذه صورة لها في الفم طعم فيه مرارة، ولكن يحلّيها صورةٌ أخرى إلى جنبها كأنها من حلاوتها عسل الشهد، هي صورة إفطار في السفارة المصرية مع سفير مصر، الأديب الكبير والمسلم الصادق والعربي الأصيل، الأستاذ الصديق الدكتور عبد الوهاب عزام رحمة الله عليه. والعظيم فيها أنها وُضعت مائدة واحدة قعد عليها السفير وموظفو السفارة والعمّال فيها والفرّاشون والخدم، كلهم قعدوا إلى مائدة واحدة وأكلوا طعاماً واحداً، فكان مجلساً إسلامياً يشرح الصدر ويُرضي الله.

وكل أبناء مصر عرب، ولكن آل عزام وآل الباسل (وأحسب

ص: 194

أن منهم أيضاً آل أباظة) هؤلاء عرب جاؤوا من غرب مصر، من الشمال الأفريقي، فدخلوا واديها فصاروا على مرّ الأيام من أهلها. وإن وقفتم معي وقفة قصيرة حدّثتكم حديثهم الذي سمعتُه من الأستاذ عبد الرحمن عزام باشا، لمّا كان سفير مصر في بغداد وكنت مدرساً فيها سنة 1936 (1354هـ).

هل تعرفون نظرية الموجات البشرية في جزيرة العرب التي ألّف فيها خالي محب الدين الخطيب كتاباً صغيراً من أكثر من نصف قرن؟ إن جزيرة العرب تكاد تكون الموطن الأول للبشر، فهي تموج بأهلها مَوَجان مياه البحر، تدفع كلُّ قبيلة مَن تكون أمامها حتى تخرج آخرُها من حدود الجزيرة، فتمضي غرباً إلى مصر، كما مضت موجة قديمة تحمل «مينا» أول فراعنة مصر ومؤسّس الأسرة الأولى، أو تمضي شرقاً إلى أرض الرافدَين (العراق)، أو تمرّ إلى الساحل الشامي فتستقرّ فيه ثم تُبحِر منه، كما فعل الفينيقيون الذين أسّسوا في الشمال الإفريقي مدناً كان منها قرطاجنّة (قرطاجة) التي صارعت يوماً روما يوم كانت روما سيدةَ القارات الثلاث، وأخرجت القائد الذي غلب يوماً روما سيدة القارات.

لقد حدّثني الأستاذ عبد الرحمن (رحمة الله عليه وعلى الدكتور عبد الوهاب، وهو عمّه) أن القبائل في الشمال الإفريقي صورة مصغَّرة لِما كان في الجزيرة، تدفع قبيلةٌ من أقصى الغرب القبيلةَ التي تليها، وهذه تدفع التي بعدها، حتى تدخل آخرُ واحدة وادي مصر فتكون من أهل مصر.

* * *

ص: 195

ومن ذكريات رمضان في أندونيسيا صورة لا تزال واضحة خطوطها، هي أني كنت -كما مرّ بكم- في الفندق الكبير جداً في الجناح الفخم جداً، ولكني كنت ضيق الصدر جداً، أصوم ثم لا أجد على مائدة الإفطار ما آكله. لا لقلّة الطعام بل لأني لا أجد طعاماً أعرفه وآلفه، ثم إنه مملوء بهذه «الشَّطّة» التي تُلهِب الفم وتحرق الصدر. وقد أوصيتهم على طعام يُعِدّونه لي، فما أحسنوا إعداده ولا أسغت طعمه. في هذه الشدة سخّر الله لي اثنين كريمين، رجلين دبلوماسيَّين: سفير مصر الأستاذ العَمْروسي، والقائم بالأعمال السعودي الأستاذ عزّة الكُتْبي، ففتحا لي دارَيهما فعرفت كيف آكل، وأعرف الآن كيف أشكر.

ولمائدة الإفطار في رمضان سحر ولها فلسفة، هي أن الناس كلهم فيها كطلاب المدرسة الداخلية أو أبناء الأسرة الواحدة، حين يجتمعون على المائدة في وقت واحد، يأكلون طعاماً قد لا يكون واحداً في نوعه ولكنه -بعد هذا الصيام- يكون واحداً في لذّته.

والحديث عن ذكريات رمضان حديث طويل لا أكاد أفرغ منه إن أردت استيفاءه. إنها ذكريات ثمانين سنة، اتركوا من أولها خمساً كنت فيها صغيراً لم أكن أدرك ما حولي ولا أحفظ ذكريات ما أدرك في صدري، فهل ترونني أستطيع أن أجمع ذكريات ثلاثة أرباع القرن ثم ألخّصها ثم أحدّثكم حديثها؟

فما لا يُدرَك كله لا يُترَك قُلّه (أي قليله).

* * *

ص: 196