الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
-193 -
ترشيحي في انتخابات الشام سنة 1947
عرفتم أن أبي رحمه الله مات سنة 1343هـ وأنا لم أكمل السابعة عشرة، وترك أسرة كبيرة ولم يترك مالاً، لا نقداً ولا عقاراً، فخضتُ معترَك الحياة بلا سلاح إلاّ ما منّ الله به عليّ من مواهب. طرقتُ لكسب الرزق كل باب وصلت إليه، إلاّ باباً حراماً يكرهه الشرع أو باباً وراءه مهانة ومذلّة تأباها الكرامة؛ فاشتغلت بالتجارة حيناً، وبالتعليم، دخلت فيه سنة 1345 وأنا لا أزال طالباً ثم لم أخرج منه، وبالقضاء من سنة 1359 إلى سنة 1385، وبالصحافة احترافاً لها وقتاً قصيراً وكتابة فيها الوقت كله، ما أعرضت عنها من يوم أقبلت أول مرة عليها.
فلما كانت سنة 1366 (1947) التي أحدّثكم الآن حديثها وكنت في مصر كانت الانتخابات في الشام. وقد تجري الانتخابات الآن في بعض الدول التي دخلَت إليها الماركسية أو إحدى بناتها أو جرّتها إليها أو استمالتها فأمالتها، تجري الانتخابات فيها فلا يحسّ بها أهل البلد إلاّ أن يسمعوا أخبارها من إذاعة حكوماتهم أو يقرؤوها في جرائدها، تجري هيّنة ليّنة كالماء السلسبيل لا يعترضه عارض ولا تموج فيه موجة، لأن مَن يلي أمرها رتّب كل شيء
فيها، كما يصنع بالمسرحية مؤلفُها ومُخرِجها: يُعِدّ الأول النص، ويوزّع الثاني الأدوار، ويحفظ الممثّلون أدوارهم، وتجري التجارِب ليتوثّق المخرج من حسن الأداء، ثم يُرفَع الستار عن مسرحية أُعلنَ أنها جديدة لم يُكتَب لها نصّ ولم يُخرِجها مخرج، بل تجري على الطبيعة بتعاون حرّ ووحدة مخلصة، وبهذه الوحدة والحرّية يُضمَن النجاح.
ولكن الانتخابات يومئذ كانت تهزّ البلد هزاً، تدخل كل بيت وتكون أخبارها أحاديث الناس، وإن لم يخلُ أكثرها من تزوير. وأنا لم أفكّر فيها يوماً، وما كان لي في السياسة من أرب وما كنت من أربابها ولا سألت عن الطريق إلى بابها، لا أعني سياسة المبادئ والأهداف والاهتمام بأمر المسلمين والمشاركة في حدود الاستطاعة لإصلاح أحوالهم، فهذا واجب إسلاميّ، ولكن أعني سياسة النزاع على الكراسي والزحام على الحكم.
لمّا كانت هذه الانتخابات خطر لي خاطر مفاجئ (وأكثر ما اتخذت في عمري من قرارات كان آنيّاً مفاجئاً) فقلت لنفسي: إن الله أعطاني كل وسائل النجاح في النيابة، فأنا (ولا مؤاخذة إن قلت أنا ومدحت نفسي، فإني أقول حقاً) معروف في بلدي وفي كثير من البلاد العربية، ولي كما يقولون شعبية واسعة، وأعطاني الله لساناً طليقاً وجرأة على مخاطبة الناس، ومعرفة بطرق إقناعهم ومقدرة على إثارة عواطفهم والوصول إلى قلوبهم، ومن وراء ذلك ثقافة إن لم تكن كاملة شاملة فليست قليلة ولا تافهة، واطّلاعاً على أوضاع الناس.
ونسيت أن النيابة تستلزم شيئاً غير هذا لعله أهم منه ليس عندي؛ هو أن أفتح بيتي لمن أحبّ ومن أكره، وأسمع من القول ما يروق لي وما يعكّرني، وأمشي في حاجات الناس ما كان منها حقاً وما كان باطلاً، وألقى العدوّ بمثل الوجه الذي ألقى به الصديق، وأن يستبيح الناس وقتي كله
…
وهذا ما لم أتعوّده ولا يمكن أن أتعوّده بعد الأربعين (وقد كنت في تلك السنة على عتبة الأربعين من عمري).
ولكن رغبتي القوية حجبت عني هذه الحجج المنطقية، وأنستني أن على طالب النيابة أن يُعِدّ لمعركتها المال الكثير، وأن يرسم لها الخطط المُحكَمة، وأن يكون له فئة ينصرونه ويؤيّدونه. ومالي أنا من ذلك كله شيء، ولكني أقدمت مع ذلك، فذهبت من فوري فأبرقت إلى محافظ مدينة دمشق أني رشّحت نفسي.
وجعلت أتتبّع أخبار الانتخابات. وكان قد صحّ عزم الشيخ حسن البنا رحمه الله، المرشد العامّ للإخوان، على أن يسلك بهم مسلكاً جديداً، فيقترب من الإصلاح عملياً للمشاركة في توجيه دفّة الحكم، وأحبّ -كما يبدو- أن يجرّب ذلك بمساندة مرشَّحي الإخوان في الشام على النجاح. فبعث بالأستاذ عبد الحكيم عابدين والأستاذ سعيد رمضان إلى دمشق، وكلاهما خطيب لا يُجارى وفارس من فرسان الكلام لا يُشَقّ له إن أقدمَ غبار، وإن كان بعض الناس يتكلمون فيهما، لا في بلاغتهما وأقوالهما بل في سلوكهما وأفعالهما.
ولبثت أنتظر النتائج وليس لي أمل في أن أنال مئة صوت. وكانت جريدة الإخوان المسلمين آلت رياسة تحريرها إلى خالي
محبّ الدين الخطيب، فكنت أزوره فيها أُمضي عنده الساعة والساعتين أستقي الأخبار، وقد رأيت فيها أول مرة هذا «التلِكس» الذي يطبع من بُعد. وكانت إعلانات المرشَّحين تغطّي كل جدار في الشام وبياناتهم تصل إلى كل يد، والوعود الضخمة مُعَدّة مهيّأة في مكاتبهم توزَّع على الناس بلا حساب.
وأنا ما نشرت بياناً ولا علّقت إعلاناً، إلاّ شيئاً صنعه أخي بلا علمي حين رأى المرشّحين جميعاً يكتبون «انتخبوا فلاناً» ، فأحبّ أن يجدّد في الإعلان فكتب بالحروف الكبيرة «لا تنتخبوا علي الطنطاوي» وكتب تحتها بالخط الصغير الذي لا يُرى إلاّ بالمجهر (1):«إلاّ إذا وثقتم منه ومن سيرته» .
وانجلى الغبار، وظهرت النتائج ونُشرت في الجرائد، فإذا المرشَّحون أصناف ثلاثة: صنف نجحوا وصاروا نوّاباً، وصنف خرجوا من المعركة لم ينالوا شيئاً وأضاعوا أموالهم وآمالهم، منهم صلاح الدين البيطار، رفيقي في المدرسة وأحد الرجلين اللذين أسّسا حزب البعث. ومنهم الدكتور صبري القباني، وهو رفيقي أيضاً. ومنهم أستاذنا في كلية الحقوق شيخ المحامين الأستاذ سعيد محاسن، ومنهم الوطني المجاهد نزيه المؤيَّد، وكثير غيرهم.
وصنف لم ينجحوا فيصيروا نواباً ولم يخسروا فيخرجوا من المعركة، وهم على ترتيب ورود أسمائهم في الجرائد: الأستاذ مظهر العظمة مؤسّس جمعية التمدّن الإسلامي الداعية المخلص والكاتب الشاعر، والأستاذ لطفي الحفّار الخطيب الزعيم،
(1) المِجهَر (على وزن المِنْبَر)، ويتحذلق من يذيع دائرة المعارف في الرائي فيقول: المُجهِر (على وزن مُؤمن)!
والأستاذ أحمد الشرباتي الوزير، والأستاذ صبري العسلي المحامي المعروف الذي ولي رياسة الوزارة مرة وولي الوزارة مرات، وبعدهم اسم علي الطنطاوي، وبعده الأستاذ نصوح بابيل الصحافي الكبير ونقيب الصحافة في الشام، والأستاذ نسيب البكري الزعيم المناضل، والأستاذ حسن الحكيم الذي كان واحداً من أشرف السياسيّين الذين عرفَتهم أمّتنا وكان رئيس الوزراء وكان وزيراً مراراً وكتبتُ عنه فيما مرّ من هذه الذكريات، ومنهم نبيه العظمة من قدماء الوطنيين العاملين، والأستاذ بشير القضماني الذي كان أمين مدينة دمشق، والشيخ عبد الحميد الطباع رجل العلم والمال مرشَّح الجمعية الغرّاء. ومنهم رفيقنا الذي آثر الضلال على الهدى والكفر على الإيمان فكان زعيم الشيوعية عاش حياته كلها لها، وأرجو أن يرحمه الله فيهديه فلا يموت عليها، وهو الخطيب الذي يلعب بالقلوب ليسوقها إلى النار خالد بكداش. وكثير غيرهم.
* * *
عندئذ صحّت عزيمتي على السفر إلى دمشق. وكانت البلاد العربية -على عهد الاستعمار- دار إخوة أحبّة وإن أقاموا بينها حدوداً ووضعوا لمن يتنقل فيها قيوداً، كانت على رغم الاستعمار أفضل مما انتهت إليه لمّا امتدّت إليها إصبع الماركسية فأوقعت بينها العداوة والبغضاء، حتى صار يحارب بعضها بعضاً ويعدو بعضها على بعض.
وكان عندنا مَفاسدُ نبكي منها، فلمّا رأينا عهوداً جاءت بعدُ صرنا نبكي عليها! كانت رائحة مخازي فاروق تملأ الساحة
الكبرى حول قصر عابدين، فلما جاء عهد ما بعد فاروق خرجت رائحة أسوأ منها فملأت البلاد وكانت غازاً خانقاً للعباد، كنا في شكوى الفسوق فصرنا في الصراخ من الكفر.
لمّا وصلتُ إلى دمشق رأيت لكل حزب أو جماعة ولكل مرشَّح كبير مركزاً انتخابياً بابه مفتوح والمرشَّح موجود فيه دائماً. وكان أكبر مركز انتخابي هو الذي أقامته رابطة العلماء في جامع تنكز، وهو الذي يُطِلّ على شارع النصر أقدم وأشهر شارع في دمشق، ويُطِلّ من شماليه على أكبر ميادين الشام، ميدان المرجة التي كانت رحبة البلد.
ولقد كتب الصديق الأستاذ نصوح بابيل عن هذه الانتخابات، ولكنه لم يُثبت فيما كتب إلاّ ما نشرته الجرائد. ونحن نعلم أن الكلام المنشور في الجرائد لا يصوّر دائماً الواقع المطويّ كله، لقد أغفل الأستاذ ذِكر العامل الأقوى في هذه الانتخابات، إنه وصف المعمل بآلاته وجهازه ولكن نسي المحرّك (الموتور)، وكان المحرّك هو «رابطة العلماء» .
والعلماء لو استكملوا أمرين لكانوا هم قادة الشعوب الإسلامية في كل قطر وفي كل زمان، وهما: أن يكون عملهم لله لا للدنيا ولا للرياسة، وأن يدَعوا هذا الخلاف بينهم على الفرعيات وأن يكونوا صفاً واحداً.
ولقد تكلّمت فيما سبق عن إنشاء الجمعيات الإسلامية في الشام، وكنت عاملاً صغيراً فيها، حملت خبرها لمّا رجعت من مصر وقد شهدت فيها قيام جمعية الشبان المسلمين سنة 1928. ولم تكن هذه الجمعيات بداية العمل الجماعي، بل كان قبلها
المشايخ. وكانت الرابطة بين الشيخ ومريديه أقوى من الرابطة بين أعضاء الجمعية وقادتها، حتى إن الصوفية جاؤوا بشيء لا يُقِرّه دين المسلم ولا يسيغه عقل العاقل، هو أن «يكون المُريد بين يدي الشيخ كالميت بين يدي الغاسل» ، أي أنهم يريدون أن نكون أمّة أموات!
ومر بكم أني -على ضعفي وعجزي- حاولت لمّا عدت من العراق (سنة 1939) جمع المشايخ والعاملين في حقل الدعوة الإسلامية فما أفلحت. وكنت كلما زار دمشقَ الشيخُ أمجد الزهاوي مع الشيخ محمد محمود الصواف جمعت لهما بطلب منهما كل العاملين للإسلام من أقصى الصوفية إلى أقصى السلفية، لأن صلتي بحمد الله بهم جميعاً صلة طيبة، أمشي معهم من مراحل الطريق ما يوافق طريقي ثم أسلك طريقي وأدعهم يسلكون طريقهم. ثم إنني لا أنازع شيخاً على مشيخته ولا رئيساً على رياسته، ولو عُرضت عليّ لرفضتها وامتنعت عن قبولها، بل لقد عُرضت فعلاً وصنعت هذا الذي قلت.
ثم لمّا رجع الشيخ كامل القصّاب -كما عرفتم- من منفاه ألّف «جمعية العلماء» ، فضمّت المشايخَ جميعاً إلاّ «الجمعية الغرّاء» . ثم كانت «رابطة العلماء» ، وشملت هذه المرة الجميع، وكان رئيسها شيخنا الشيخ أبا الخير الميداني وكان نائبه السيد مكي الكتاني. تلك (أي الرابطة) هي التي قادت الناس يوم الانتخاب حتى صار الوطنيون يقدّمون أنفسهم للعامّة بلقب المشيخة: الشيخ لطفي الحفّار والشيخ صبري العسلي، لأن الزمن كان زمن المشايخ.
وأنا لا أمنع أن تتعدّد الجماعات الإسلامية، لكن بشرط أن
تكون كلها صادرة عن بداية واحدة، ماشية إلى غاية واحدة، يربط بينها التنافس على رضا الله لا التزاحم على الدنيا والجاه، وألاّ تقوم على أسلوب الأحزاب السياسية بل الجماعات الإسلامية. وإن كان الأَولى والأفضل أن يكونوا جماعة واحدة تمشي على الطريقة الواحدة النقية البيضاء التي تركَنا عليها رسول الله عليه الصلاة والسلام.
وأصدرت الرابطة قائمة مرشَّحيها، وكنت واحداً منهم. بتُّ في دمشق ليلة وصولي، ثم ذهبت من الغد إلى الاجتماع الكبير في جامع تنكز، وقد رُصّت المقاعد رصّاً في ساحته الواسعة جداً حتى لم يبقَ فيها فراغ لمقعد وامتلأت بالناس حتى لم يبقَ فيها مقعد فارغ، ووضعوا في صدرها سدة قعد عليها بعض أعضاء الرابطة وبعض المرشَّحين، وتداولوا المنبر يخطبون. فلما جئت أخطب استقبلتني الجموع بالهتاف العالي والتصفيق المستمرّ، ولكن تجهّمَت لي وجوه أكثر مَن هم على السدة وبدا عليهم أنهم كرهوا حضوري، وحاولوا منعي فما استطاعوا.
وشرعتُ أتكلم، فما راعني إلاّ ذراعان تلتفّان حول خصري وأنني أُحمَل من فوق المنبر فأُنزَل عنه! وضجّ الناس. وأذكر أن ممّن وقف معي وشدّ من أزري وبذل كل ما استطاع الإخوة الأفاضل الذين كانوا يوماً بين تلاميذي ثم صاروا من زملائي، بل غدوا أفضل مني، محمد القاسمي ووحيد العقّاد وعبد الرحمن الباني وأديب صالح، وأعادوني بالقوة إلى المنبر كما أُنزِلتُ عنه بالقوة وبالغدر، ورجعت أتكلم أعاتب مَن صنع هذا. وإنه لَيؤلمني أن أقرّر حقيقة ما كنت أتمنى أن تكون ولكن الأماني لا تدفع
الواقع، هذه الحقيقة هي أن الإخوان المسلمين قد حاربوني في الانتخابات كما حاربتني الجمعية الغرّاء.
وأنا لا أعتب على الغرّاء بقدر عتبي على الإخوان لأنني لم أدّخر وسعاً يوماً في تأييدهم. وقد لبثتُ على ذلك بعد هذا الحادث، ولمّا قُتل الأستاذ الشهيد عبد القادر عودة وإخوانه كتبتُ مقالة طويلة عنوانها «هذا يوم الحداد» طُبع منها أكثر من تسعمئة ألف نسخة، وتُرجمت إلى اللغة الأردية ونُشرت في باكستان، ربما لخّصتها يوماً أو نشرتها في هذه الذكريات. ولقد بكى منها كل مَن قرأها، ما كتبتها ليشكرني الإخوان عليها بل لأجد عند الله ثوابها، فلا أمنّ بها ولا أطلب عنها بدلاً. وأيام الوحدة أذعت من إذاعة دمشق الرسمية خبر ما صنع الإخوان عند القناة وسمّيتهم بأسمائهم التي سمعتها من أخي وولدي الأستاذ كامل الشريف (ثم ألّف عنها كتاباً)، وخبّرني أخي الأستاذ نهاد القاسم رحمة الله عليه أن الرئيس جمال عبد الناصر غضب منها لما سمعها وبعث يؤنّب القائمين على الإذاعة لأنهم أذاعوها.
ولكن عذر الإخوان أنهم دوائر بعضها وسط بعض، فأنا معهم في الدائرة البرّانية (1)، فإذا جئنا إلى الدائرة الصغيرة الجوّانية أخرجوني عنهم. وهذا ما كنت أُنكِره، كنت أنكر على الجماعات الإسلامية أن تسير سيرة الأحزاب السياسية، كنت أحب منها أن تصادق لله وحده وأن تعادي لله وحده، وأن يكون سواء لديها مَن كان صالحاً وإن لم يدخل فيها ومن كان من أعضائها.
(1) كلمة «برّاني» و «جوّاني» فصيحة وردت في الحديث الصحيح.
لقد أعرض عني أقرب أصدقائي، ممن أسميهم أصدقاء العمر وكانوا رفاقي في المدرسة وكانوا أصحابي في حياتي، نسوا ما كان بيني وبينهم، ولعلّ ذلك لأنهم بعيدون عن أمثال هذه المعارك فلا يعرفون مداخلها ومخارجها ولا أصول الكرّ والفرّ فيها. فإذا كانوا:
لا خَيلَ عندَكَ تُهدِيها ولا مالُ
فليُسْعدِ النطقُ إنْ لم تُسعدِ الحالُ؟
لقد رأيت الوفاء من جيراننا في الحيّ ورأيت الوفاء من تلاميذي وتلاميذ أبي، حين أقام لي الشيخ محمود العقاد (رحمة الله عليه وعلى كل من مات ممن ذكرت في هذه الحلقة) حفلة في مدرسته، المدرسة التجارية العلمية، جمعَت وجوه البلد. وفي هذه الحفلة ظهر خطيب جديد كان يومئذ شاباً في العشرين، فبهر الناس بخطبة ارتجلها وبهرني مع الناس، هذا الذي صار من بعد نابغة الخطباء، وهو عصام العطّار.
وكانت الانتخابات التكميلية، ولكنها زُوّرت وأُبدلت فيها الصناديق، فجاؤوا بغير التي ألقى فيها الناس أوراقهم وملؤوها قبل أن يأتوا بها. وقصّة هذا التزوير يعرفها الصغير والكبير فلا حاجة إلى إثباتها، بل لا حاجة إلى العودة إليها.
وأراد الله لي خيراً مما أردت لنفسي؛ علم الله أنني لا أصلح للحياة السياسية، وأن الحياة السياسية ليست لساناً ينطلق ولا عقلاً يفكّر، ولكن لها طرقاً ملتوية لا يستطيع مثلي أن يمشي فيها، فأنقذني الله منها. ورجعت إلى مصر، ومررت بفلسطين فكان تسليمي عليها وداعاً، لأنها سقطَت بأيدي اليهود بعد ذلك
بشهور، ما أخذوها بقوتهم ولكن بتفرّقنا.
اضطُررت إلى البقاء في حيفا أياماً، فرأيت فيها من الفسوق المعلَن والفواحش الظاهرة -مما حمله إليها اليهود في هذه السنوات القلائل- ما لم أكن أتخيّل وجوده في الخيال فضلاً عن أن أراه بالعين! ذهبت أفتّش عن فندق فمشيت في الشارع الكبير (وأظن أن اسمه شارع الملوك)، سرت فيه إلى اليمين والبحر من ورائي، فلما بدأ الطريق يصعد رأيت فندقاً حسن المظهر، فولجته لأجد لي غرفة أقضي الليل فيها، فإذا على يسار الداخل غرفة واسعة مقدّمتها من الزجاج، لها جدار قصير يُبدي ما وراءه ولا يخفيه، فيها بنات كثيرات ما هن مستترات ولا محتشمات ولا يبدو أنهن موظفات، وإلى اليمين مكتب كالذي يكون في الفنادق. فسألت عنهن فقال لي من هو في المكتب: اختر من تشاء وادفع، واذهب معها إلى غرفتها! وتبيّنت من لهجته وهيأته أنه يهودي.
وعدت أمشي في الشارع فوجدت رجلاً عليه سيما الخير، فسألته عن فنادق البلد، فإذا في أكثرها مثل هؤلاء البنات المومسات. ووجدت أسواق المسلمين وسخة تتراكم فيها القمامات والأقذار، فاجتمعَت وساخة الطرق ووساخة الخلق. ورأيت أشياء لو ذهبتُ أفيض في ذكرها لكنت ممن يحبّون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا.
وأردت العودة إلى مصر فتعسّر عليّ أن أجد مكاناً في القطار، فقيل لي: اذهب إلى شركة الطيران المصرية. فذهبت وحفظت لي عليها مكاناً، ولم أكن قد ركبت الطائرة من قبل ولم يكن ركوبها للناس مألوفاً ولا معروفاً، وحان موعد قيامها وأنا
وَجِل منها خائف من شرّها، فإذا هي طيّارة صغيرة فيها سبعة مقاعد والطيار ومعاونه قاعد معنا في مقدّمتها، ولم يكن فيها إلا راكب واحد علمت أنه يهودي. فكان الطيار يحدّثني طول الطريق، فأقول له: كيف تترك مقود الطائرة؟ فيضحك ويقول: هل تصطدم بالجدار أو تسقط في حفرة؟
وبلغت مصر فكتبت في الرسالة مقالة عنوانها «عشرة أيام في الشام» ، أغضبَت ناساً وأرضت ناساً، وصورت حقيقة وتضمّنت نصيحة (1).
* * *
(1) ورد اسم هذه المقالة في الطبعات السابقة من الذكريات «عشرة أديان في الشام» ، وهو خطأ صوابه ما أثبتّه هنا. في أولها:"يُمضي المسافرُ أياماً طِولاً لا يقطع فيها إلا أذرُعاً من طريقه، ثم يجتاز الفراسخ والأميال في ساعات. ويعيش المرء سنين لا يفهم فيها من أسرارالحياة ولا يرى من معالم الكون إلا الأقل، ثم يرى في لحظة واحدة أخفى المعالم ويفهم أعمق الأسرار. وكذلك كان شأني: سرت على طريق الحياة قريباً من أربعين سنة، فلم أدرك من حقائق الحياة حولي ولم أعرف من خلائق الناس مثلَ الذي أدركته وعرفته في هذه الأيام العشرة التي «طرت» فيها فجأة إلى دمشق ثم عدت طائراً منها". وفي آخرها: "لقد كانت تجربة لن أعيدها ولو جرّتني إليها كل حروف الجر. لقد كانت تجربة تعلمت منها دروساً جمّة، أهمها أني لست مخلوقاً للسياسة. إن السياسي هو الذي يقول للحمار: أنت غزال بأذنين طويلتين. وأنا لا أقول للحمار إلا ياحمار! فإن غضب فدونَه «بردى» فليشرب منه ما يشاء! "(مجاهد)