الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
-214 -
في محكمة النقض في دمشق
قلت لكم إن رئيس مجلس القضاء الأعلى خيّرني بين أن أبقي قاضياً ممتازاً في محكمة دمشق أو أن أنتقل مستشاراً في محكمة النقض، وعرفتم أني تردّدت وتحيّرت ثم عزمت على البقاء. وبعد أن وافقت على النقل سحبت موافقتي فجاءني هذا الكتاب برقم 29 وتاريخ 27/ 2/1951 وإمضاء رئيس مجلس القضاء الأعلى وجيه الأسطواني، يقول فيه: بناء على عدولكم عن هذه الموافقة فإني أعيدها إليكم ودمتم.
ولي عن محكمة النقض (التي كانت تُسمّى محكمة التمييز) ذكريات جمّة من قبل أن أكون فيها، ذلك أن أبي كان رئيس ديوانها سنة 1918، ولي هذا المنصب بعد أن ترك (ولست أدري كيف ترك) المديرية العامة بمدرسة الاتحاد والترقّي التي كانت أرقى ثانوية في دمشق على عهدها وكان الناس يدعونها المدرسة التجارية.
ولم يكن أبي معدوداً رسمياً في قضاة المحكمة، بل كان في رأس سلّم المساعدين القضائيين ودون مرتبة المستشارين،
ولكنهم كانوا يدعونه إلى كل جلسة تُدرس فيها دعوى مدنية لها صلة بالفقه. ولا تنقطع صلة الدعاوى المدنية (الحقوقية) أبداً بالفقه، فكان يشارك في المناقشات ويؤخذ رأيه في الآراء، وكان الحكم يصدر حيث يكون رأيه، سمعت ذلك من كثير من أعضاء المحكمة فيما بعد، كما سمعته من رئيسها يومئذ وأنا صغير ولكني واعٍ مدرك، وكنت تلميذاً في آخر المرحلة الابتدائية.
وكان الرئيس هو الأستاذ مصباح محرّم، وهو قاضٍ كبير نسيه الناس كما نسوا من أمثاله الكثير، لأن مكانهم في أذهانهم امتلأ بأسماء المغنّين والممثّلين ولاعبي الكرة في الملعب واللاعبين بمصالح الأمم من السياسيين في المجالس والأحزاب.
وكنت أذهب من المدرسة أحياناً إلى المحكمة لأرى أبي فأعود معه إلى الدار، فكان الرئيس يستدعيني إلى مكتبه ويسألني ويحاول أن يحدّثني، فكنت أتهيّبه أولاً فلا أتكلم، ثم لمّا طال العهد وتوالت الدعوات انطلق لساني، ويظهر (والله أعلم) أني كنت على شيء من الذكاء وسرعة البديهة، وكنت قد قرأت (ولعلّكم تعجبون إذ تسمعون أني قرأت في تلك السنّ) كتباً كثيرة منها «حياة الحيوان» للدميري، وقد سبق ذكره، وكتباً أدبية من كتب ما يدعونه عهد الانحطاط كـ «الكَشْكول» و «المِخْلاة» و «المستطرف» ، ولم أفهمه كله ولكني كنت أحفظ كل ما أقرأ، أقول هذا وقد قلته من قبلُ تحدُّثاً بنعمة الله عليّ، فكان في ذهني طائفة صالحة من الأخبار والأشعار.
فكان الرئيس يُسَرّ بي ويستنطقني، وكان يدعو أحياناً بعض
أعضاء المحكمة (الذين يُسمَّون اليوم بالمستشارين) ليستمعوا مني، منهم العالِم الأديب النبيل الشيخ مسعود الكواكبي الحلبي، الذي أحفظ له في نفسي أوفى حظ من الحب المقرون بالاحترام، ثم صار يزورنا في الدار حيث يجتمع فيها ناس من جلّة علماء البلد يومئذ هم أصحاب أبي وأصدقاؤه، لا يكادون يفترقون، وأنا أدخل عليهم بالشاي والفاكهة والطعام ثم أقعد في طرف المجلس حيث لا يتنبّه إليّ أحد، ولكني كنت كالمسجّلة التي تُثبِت على شريطها كلَّ صوت يخرج من حولها. وإذا مدّ الله في العمر وصبّ القوة في الذاكرة واستمررتُ في نشر هذه الذكريات ولم يملّ منها القراء فسأكتب ما بقي في ذهني منها، وإن لم يبقَ إلاّ القليل.
كانت هذه المجموعة تخرج إلى بعض المتنزَّهات، فتقضي اليوم كله في مذاكرات ومناظرات وسرد نوادر ورواية نكات وطعام وشراب. ولم يكن الناس يجاوزون في الوادي الهامَةَ والجُدَيْدة وبَسّيمة وعين الفيجة، وبين أبعدها وبين دمشق عشرون كيلاً، مع أن بين دارَي بنتين لي اليوم في جدة أربعة وعشرين. ما كان الناس يقصدون الزّبَداني ومَضايا وبلودان، بل يكتفون من الوادي بما دون الفيجة.
وربما ناموا في تلك القرى، فكان الفلاحون من أصحاب الدور التي يستأجرونها يفرشون لنا الحشايا والفرش على الأرض، وننام عليها كما ينام أكثر أهل دمشق، فإذا أصبح الصباح طووها ونضّدوها ووضعوها في فجوة تكون في الجدار في كل بيت من بيوت الشام تشبه الخزانة ولكن ما لها رفوف ولا أبواب تُدعى «اليوك» (وما عرفت ولا حاولت يوماً أن أعرف من أين جاء هذا
الاسم) ثم يُسدِلون عليها ستاراً يكون غالباً مزوَّقاً مطرَّزاً. وكان نساء دمشق فوق أعمالهن الكثيرة التي تقوم بها اليوم الآلاتُ الكهربائية، كُنّ فوق ذلك يطرّزن ويَخِطن ويُبدِعن في التطريز والخياطة، ولا تزال زوجتي تصنع ذلك إلى الآن، وعندها قطع كبيرة من القماش قد طرّزتها بيدها فيها صور وفيها أوراد وأزهار تصلح الواحدة منها لتكون لوحة فنية.
* * *
وكان يُعجّبني (بتشديد الجيم) من الشيخ مسعود أنه كان ينام بجبّته لا يخلعها وعمامته على رأسه لا يضعها، ثم يصبح وما فسدت العمامة ولا تأثر الثوب، لأنه كان يضطجع على جنبه الأيمن فلا يتحرك شعرة واحدة حتى يصبح! رأيت ذلك منه مرات لا أُحصيها.
والشيخ مسعود مهذّب اللفظ رفيع الخلق، علمت من بعدُ أنه أديب، وأنه من أوائل الذين انتُخبوا أعضاء في المجمع العلمي العربي (الذي يسمّونه الآن مجمع اللغة العربية)، وأنه يُحسِن التركية والفرنسية، وقد تعلمها على كبر.
كان أولَ من جاء يعزّينا يوم مات أبي، وأذكر أنه سألني عن قريب لنا فقلت إنه شقيق أبي من الرضاعة، فقال لي مبتسماً: لايُقال شقيقه من الرضاعة ولكن يُقال أخوه. وكانت نصيحة لطيفة أُلقيَت بلهجة ناعمة، ولكنها حزّت في نفسي لأنني كنت -في تلك السنّ- أرى مثل هذه الغلطة تقع مني شيئاً كبيراً.
كان الشيخ مسعود أحدَ الذين جدّدوا في خطب الجمعة. وقد كانت تُلقى من دواوين مطبوعة بعبارات مسجوعة بلهجة منغَّمة تكاد تكون مملّة منوّمة، فكان الشيخ مسعود من أوائل من خطب بالأسلوب الذي نسمعه اليوم. كان سنة 1326هـ (قبل مولدي بسنة) نقيب الأشراف في حلب، ونقابة الأشراف في الأصل منصب من مناصب الدولة، وعمل القائم عليه أن يُحصي أبناء علي بن أبي طالب وأن يوزّع أوقافَهم الكثيرة التي وقفها الناس عليهم، فصار على عهد العثمانيين منصب تشريف ليس معه عمل.
انتُخب عضواً في المجمع العلمي سنة 1342، وهو أخو الشيخ عبد الرحمن الكواكبي صاحب «أم القرى» و «طبائع الاستبداد» ، الذي تَجدّد ذكره وعظم أمره أيام الوحدة مع مصر لأنهم عدّوه من روّاد القومية العربية، على حين أن الذي دعا إليه هو والسيد رشيد رضا ومحب الدين الخطيب وأمثالهم هو يقظة العرب، وجمع شتاتهم وتوحيد صفوفهم، وعودتهم إلى مكانهم الذي كان لهم، ودفع أذى الاتحاديين والملحدين من الترك عنهم، ما دعوا إلى قومية ساطع الحصري وقسطنطين زريق وسامي شوكت.
وكان الشيخ مسعود أحدَ الرجال الذي تركوا في نفسي أثراً عميقاً (ولست بقادر على إحصائهم)، ولم يكن من المشايخ المعتزلين الذين يعيشون وراء حدود المجتمع، يكتفون باختيار كتاب بعد كتاب يُقرئونه تلاميذَهم، يشرحون عبارته ويكشفون غوامضه لا يكادون يزيدون عليه، يهتمّون بالكتب أكثر من
اهتمامهم بالعلم، يحسبون أن هذا غاية المطلوب منهم في خدمة الإسلام، لا يعرفون من أخبار الدنيا وأوضاع الناس شيئاً. بل كان ممن له مع التضلّع في الفقه وعلوم الدين قدم في الأدب راسخة وقلم في الكتابة بليغ، لا الكتابة الأدبية الخالصة بل الكتابة العلمية، ومَن كانت عنده مجموعة مجلة المجمع العلمي العربي في أجزائها الأولى أو رجع إليها في المكتبات العامة رأى له مقالات كثيرة في نقد الكتب التي كانت تُنشر على أيامه وفي تصحيحها.
ولمّا ظهرت حقيقة أعضاء حزب الاتحاد والترقّي في محاربة العربية توصُّلاً إلى محاربة الإسلام وفي كيدهم له في الخفاء، واستمرارهم على ذلك حتى ظهر مصطفى كمال فألقى القناع الأبيض المزوَّر فظهر من ورائه الوجه الأسود القبيح، لمّا بدأت تظهر نوايا الاتحاديين أُلِّفت أحزاب وتجمّعت جماعات لمقاومة دعوتهم إلى تتريك العناصر العثمانية، فكان منها «الجمعية المحمدية» ومنها «حزب الحرّية والائتلاف» الذي كان الشيخ مسعود من أكبر العاملين له والساعين لإنشائه.
تَنبّه العرب لمكايد الاتحاديين، ولكنهم على عادتهم يخالفون دائماً أمر ربهم فيعمدون إلى التفرّق والانفراد بدل التجمّع والاتحاد، فيعمل كلٌّ وحده وفق اجتهاده ولا يعملون معاً، لذلك لم تفلح واحدة من هذه الجماعات وهذه الأحزاب وبقي حزب الاتحاد والترقّي هو الحاكم، حتى أدخلَنا بسوء رأيه وفساد طويّته في الحرب العالمية الأولى، وجعلنا في الجانب الخاسر، فكان السبب في انهيار هذا الصرح العظيم الذي ظلّ
يقارع الأحداث ويثبت على الزلازل والهزّات خمسة قرون: صرح الدولة العثمانية، على ما كان منها.
* * *
لبثتُ أزور المحكمة بعد موت أبي بطلب من الرئيس مصباح بك رحمه الله، يحدّد لي الوقت الذي لا تكون فيه جلسات مذاكرة بين الأعضاء، فإذا جئت وجدت عنده الشيخ مسعوداً وبعض أعضاء المحكمة، فأسمع من الأحاديث وأتلقّى من النصائح، وأعرف من الرجال ما يكون لي كنزاً آخذ منه فلا يفنى.
وممن عرفته في تلك الأيام من أعضاء المحكمة (أي من مستشاريها) الشيخ علي عيّاد، وهو عالِم مغربي، وكنا نسمّي «مغربياً» كلَّ من جاءنا من شمالي القارة الإفريقية مما يجاوز مصر، فالطرابلسي (أي الليبي) مغربي والتونسي مغربي والجزائري والمراكشي كلهم كانوا عندنا مغاربة، لا يكاد معظمنا يفرق بينهم، بل لم يكن في ذهني -على ما درسته من الجغرافية- تصوّر واضح لمواقع هذه الأقطار! والشيخ علي هو والد الدكتور كامل عيّاد.
ومنهم يوسف بك الحكيم، وكان كما أذكر الرئيس الثاني لمحكمة التمييز، أي محكمة النقض. وقد عاش عمراً طويلاً، وكنت أزوره في داره في ساحة النجمة في دمشق، وكان يذكر أبي ويثني عليه، وقد ولي وزارة العدل.
ومنهم الأستاذ الشيخ سليمان الجوخدار، وقد سبق لي عنه في هذه الذكريات كلام طويل، وقد ولي الوزارة أيضاً وكان من أقوى الوزراء.
ومنهم رجل نسيت اسمه كبير السنّ، أذكر هيئته كأني أراه الآن أمامي لا أعرف ما دينه، ولكنه لم يكن مسلماً. رسخ في ذاكرتي قوله الذي لم يكن يفتأ يقوله لأبي، وهو أن الشكّ يكاد يقتله وأنه يريد أن يعتقد عقيدة يطمئنّ إليها، حقاً كانت أم كانت باطلاً، ليخلص بها من هذا الشك الذي يمزقه ويكاد يسحقه، فمَن استطاع أن يوصله إليها أعطاه نصف مرتّبه طول حياته! فكان الأستاذ الكواكبي وأبي وغيرهما يكلمانه ويطيلان الكلام فلا يصنعون معه شيئاً، لأن ما استقرّ في نفسه من الشُّبَه يدفعه لأن ينقض هذه الأدلّة العقلية التي يأتونه بها بشبهات جدَلية، فكان ذلك مما جعلني (وأنا الصغير) أحمد الله على أن لي عقيدة أعتقدها أسكن إليها وأطمئن بها، فما في الدنيا أقتل للعقل وأذهب للسعادة من أمثال هذه الشكوك.
وكان في ديوان المحكمة الذي كان أبي رئيسَه جماعة من المساعدين (أي من الكُتّاب)، صاروا كلهم فيما بعد من أكابر القضاة ثم مضوا كلهم حيث يمضي كل حي. منهم الأستاذ محمد علي الطيبي، وكان مساعد أبي وقد ولي رياسة الديوان بعده، ثم صار الرئيس الأول لمحكمة الاستئناف في دمشق، وهي مرتبة قضائية عالية. وكان هادئ الطبع ساكن الجوارح، ما رأيته يوماً يغضب ولا يسخط، وله فضل عليّ لست أدري أذَكرتُه في حلقة ماضية أم لم أذكره، فأنا أكتب الحلقة ولا أعرف ما الذي قبلها ويختلط عليّ ما هو مستقرّ في ذاكرتي بما هو مُودَع في مقالاتي.
ذلك أنه كان السبب في ردّي إلى الدراسة بعد أن تركتها وحاولت ما لم أُخلَق له من الاشتغال بالتجارة، فرجعت إلى
شعبة الأدب في الصفّ العاشر من مكتب عنبر وأكملت مسيرتي في طريق الدراسة، والفضل لله أولاً وأخيراً ثم لهذا الأستاذ رحمه الله (1).
وأسرة الطيّبي في دمشق كأسرة الكواكبي في حلب، من الأسر العلمية. وكان أبوه عالِماً عُرف بأنه مرجع في الفرائض والمواريث. ومن عجائب أمر الأب أنه تزوج بعدما جاوز الثمانين من عمره ووُلد له ولد كان بينه وبين أخيه الأستاذ محمد علي أكثر من ثمانين سنة! وممن أعرفه تزوّج على كبر وأنجب الشيخ علي ظبيان، وهو والد الأستاذ نديم الذي ذكرته عند الحديث عن بروكسل والأستاذ الصحافي الأديب تيسير رحمه الله الذي تكلمت عنه من قبل.
وممن كان كاتباً في الديوان الأستاذ عارف الحمزاوي الذي صار الأمين العامّ لوزارة العدل، أي وكيل الوزارة. وأسرة الحمزاوي (أو آل حمزة) من أقدم الأسر الشامية، ومنهم المفتي الشيخ محمود حمزة أو الحمزاوي، أشهر المفتين في الشام في القرن الماضي.
(1) مرّ خبر هذه الواقعة في الحلقة الثالثة والعشرين، في أواخرها، وفيها:"فرأيت الأستاذ محمد علي الطيبي، فرحّب بي وساءلني، فلما عرف أني تركت المدرسة عجب وقال: ومن الذي أشار عليك بهذا؟ قلت: عمّي الشيخ عبد الوهاب. فقال: الله يفرّج عنا وعنه! لقد نبّهَتني هذه الكلمة كما يتنبّه المنحرف عن الطريق إذا سمع من يسأله عن مسيره وعلمت أني غلطت، فهل يمكن أن أصلح الغلط؟ " إلى آخر القصة (مجاهد).
وممن كان كاتباً في الديوان الأستاذ صبحي القوّتلي الذي صار الرئيس الأول لمحكمة النقض، محكمة التمييز، ولست أؤكّد ذلك وأشكّ: هل كان مع أبي في ديوان المحكمة على عهد الدولة العربية في أعقاب الحرب الأولى أم كان تلميذه في المدرسة التجارية؟ وهو من أنزه القضاة الذين عرفتهم، وله قلم بليغ وله اطّلاع واسع، وكان يُكثِر قراءة القرآن وتدبّره من غير رجوع إلى كتب التفسير، فيصل بذهنه إلى أشياء منها ما هو جديد مقبول ومنها ما هو مردود. ومثله في ذلك أستاذنا في مكتب عنبر الأستاذ حسن يحيى الصبان.
فمما كان يقوله الأستاذ القوتلي أن حديث «لا يدخل أحدٌ منكم الجنة بعمله» مخالف للقرآن لأن الله يقول: {ادخُلُوا الجنّةَ بِما كُنتمْ تعمَلُون} ، وفي القرآن آيات كثيرة في هذا المعنى. ويقول إن صحيح البخاري فيه أصحّ الأحاديث رواية ولكن الناس بالغوا في تقديره حتى وصلوا إلى تقديسه، مع أن المحدّثين يقرّرون أن الحديث -مهما كانت درجته ومهما كانت منزلة راويه- إذا خالف القرآن ولم يمكن التوفيق بينه وبين الآية نحكم بأن الرسول لم يقُله، لأن الرسول ‘ لا يقول ما يخالف القرآن مخالفة تامّة. (أقول: وهذه القاعدة مدوَّنة في كتب المصطلح، تجدونها في أصغر كتاب في هذا العلم لأكبر عالِم فيه، هو «شرح نخبة الفِكَر» لابن حجر). وكنا إذا قلنا له إن الباء في الآية بمعنى غير الباء في الحديث أجاب بأن ذلك أيضاً أثر من آثار تقديس صحيح البخاري، فالنحويون اخترعوا هذه الفروق للباء ليثبتوا أنه ليس بين الحديث والآية اختلاف!
وممن كان في الديوان الأستاذ إبراهيم السيوفي، وكان في تلك الأيام أصغر مَن فيه ولكنه أثقلهم حملاً وأكثرهم شغلاً، وقد صار من بعدُ قاضياً. ومنهم الأستاذ نصوح الكيلاني، وكان فوق عمله في المحكمة معدوداً من كبار رجال الفنّ ومن أهل الموسيقى ومن أحسن العازفين على القيثارة (الكمان)!
* * *
أرجع إلى رئيس المحكمة الأستاذ مصباح محرَّم. وأنا لا أزال أذكر لحيته البيضاء وشاربَيه الكبيرَين، وما تفيض هيئته ولهجته وسعة علمه وصدق مقالته من فرض الاحترام على جليسه، فقد كان عالِماً في الحقوق وكان مدرّساً في كلّيتها (وكنا نسمّيها معهد الحقوق) يدرّس مادة «الصكوك القضائية» ، وله فيها كتاب وصل إلى أيدينا وقد دخلنا الكلية سنة وفاته (1350هجرية) وصل إلينا كتابه ممن كان قبلنا من الطلاب وكنا نراجع فيه.
وكان الأستاذ مصباح محرم متمكناً من العربية صحيح العبارة بعيداً عن اللحن وعن الضعف، وكان له شِعر يرتفع عن نَظْم النظّامين وينزل عن شعر الشعراء المطبوعين، وهو على كل حال مبرّأ من هذا الذي يُنشَر الآن على أنه شعر وما هو بشعر! وعندي لوحة فيها جملة «بسم الله الرحمن الرحيم» كان أهداها إلى أبي مصوَّرة عن قطعة كتبها السلطان محمود بخطّ الثلُث، بلغ فيها الغاية في جمال الخطّ وحسن الترتيب.
وكان مصباح بك متديناً يراقب الله ويمشي على شرعه. وولده أستاذنا الدكتور محمد محرم كان رئيس قسم الأمراض الجلدية في
كلية الطب بدمشق، وكان أول من أخصى (1)(أي تخصّص) في الأمراض الجلدية في الشام، وكان أديباً وعالِماً بالعربية، جاءنا مدرّساً في مكتب عنبر سنة 1345هـ، ومنه سمعت أول مرة كلمة «حَنْجَرة» بفتح الحاء، وكان أساتذتنا يضمّونها.
وقد قرأت من نحو شهرين في هذه الجريدة واحدة من مقالات متسلسلة عن القناة الهضمية لطبيب اسمه الدكتور شماعة (أو شيء يشبه هذا الاسم) فيها أن الحَنجرة أول أعضاء الجهاز الهضمي وأن الطعام يمرّ منها، وضحكت وأنا أقرؤها حتى دخلَت ذرة من الطعام في حنجرتي بدلاً من أن تدخل في البلعوم فكدت أختنق! فكيف يدخل الطعام إليها ويمرّ منها؟ هل هذا جهل في الطب أم باللغة؟ وكلاهما قبيح من طبيب.
وعرَتني مرة حكّة قوية تأتي مفاجأة في موقع يجب ستره فكنت أُضطرّ أن أقف إلى جانب الطريق لأحكّ الموضع، فذهبت إليه (أي الدكتور محمد محرم) وأنا خائف من هذا الذي عراني لا أدري ما هو، ففحصني وطمأنني وقال لي: إنك لا تحتاج إلاّ لبعض المهدّئات الخفيفة وليس بك شيء. وكتب لي اسم الدواء. ولقيته بعد ذلك بمدّة فسألني فخبّرته أن ما أشكو منه قد زال، ثم ضحكت وقلت: ياسيدي، إنني لم أشترِ الدواء ولم أستعمله،
(1) ومنها قولهم الدكتور فلان الإخْصائي (بكسر الهمزة وتسكين الخاء). ويقول أخي ورفيق عمري سعيد الأفغاني إنها «أخَصَّ» لا أخصى والذي نقوله تحريف.
ولكن ما قلتَه لي كان سبباً كافياً لأن يشفيني الله (1).
ولا يُنكِر أحدٌ أثرَ الإيحاء النفسي في بعض الأمراض، لا سيما الجلدية منها. وقد قدّمت القول بأن الثآليل (ونسمّيها في الشام «التواليل»، وهي التي تظهر في الجلد فلا تؤلم ولا تنزف ولكنها تشوّهه) يحتالون عليها بحيل نفسية فيشفي الله منها. من ذلك أنهم يضعون حبّة عدس أو شعير فوقها ويقرؤون شيئاً ويُلقون هذه الحبة في بئر ويُفهِمون المريض أنها إذا تحلّلت وفنيت في الماء برئ مما يقاسيه، وأشياء من هذا القبيل لا أثر لها في الحقيقة في المرض ولكنها فيما يبدو نوع من الإيحاء.
* * *
كان الأستاذ مصباح بك رحمه الله أيام العثمانيين مفتّشاً على القضاة، فأخبرني حَمي (على وزن أبي، أي والد زوجتي) الأستاذ صلاح الدين الخطيب رحمه الله ورحم كل من ذكرت، الذي كان يومئذ عضواً (أي مستشاراً) في محكمة النقض، خبّرني أن مصباح بك جاء يافا مرة يفتّش محكمتها وكان قاضيها الشيخ أبو النصر الخطيب (وهو عم مصباح وعم أمي)، فلما انتهى من تفتيش المحكمة أخذه القاضي معه إلى الدار، فرآهما رجل من أهل البلد فمشى معهما، والقاضي يظن أنه صديق المفتّش لذلك لم يسأله، والمفتش يحسب أنه صاحب القاضي لذلك لم يكلمه. حتى إذا وصلوا الدار ودخلوها وهمّوا بالقعود إلى مائدة الطعام
(1) انظر الحلقة 119 من هذه الذكريات (دفاع عن الأطباء)، وفيها هذه القصة وتعليقات عليها وعلى أمثال لها (مجاهد).
تبيّن أن لهذا الرجل قضية، أي دعوى في المحكمة. عند ذلك استأذن القاضي أن يفارق الدار لضرورة عاجلة لا بد منها، وخرج والمفتّش والرجل يتعجبان، وغاب ساعة حتى جاء برجل آخر وقال للأول: هذا خصمك، فما عندك من أقوال فقله أمامه ليردّه عليك.
وكان الشيخ أبو النصر معروفاً بالنزاهة في القضاء، وكانت له نوادر كثيرة ربما تكلمت عنها إن وفّق الله في يوم من الأيام.
* * *
المحتويات
الحلقة (184) افتتاح أسبوع التسلّح في دمشق
…
5
الحلقة (185) من أخبار العلم والعلماء في دمشق قبل نصف قرن
…
19
الحلقة (186) فتنة التجانية في الشام
…
33
الحلقة (187) في الكلية الشرعية في دمشق
…
47
الحلقة (188) حلقة خاصّة في تصنيف العلوم
…
61
الحلقة (189) في الفقه الإسلامي والأحوال الشخصية
…
77
الحلقة (190) كيف وُضع مشروع قانون الأحوال الشخصية؟
…
91
الحلقة (191) مصر قبل أربعين سنة
…
105
الحلقة (192) في إدارة التشريع في وزارة العدل
…
119
الحلقة (193) ترشيحي في انتخابات الشام سنة 1947
…
133
الحلقة (194) عودة إلى الحديث عن مصر
…
145
الحلقة (195) حلقة مفردة: وحي صورة
…
159
الحلقة (196) وقفة استراحة
…
171
الحلقة (197) بقايا من ذكريات رمضان
…
185
الحلقة (198) في «آخِنْ» عاصمة شارلمان
…
197
الحلقة (199) رحلتي من فرانكفورت إلى آخن
…
209
الحلقة (200) الدعوة الإسلامية في ألمانيا
…
219
الحلقة (201) في مسجد آخن مع القساوسة والهيبيين!
…
231
الحلقة (202) السفر إلى المؤتمر
…
243
الحلقة (203) إلى الوزير الشاعر عبد الله بلخير
…
257
الحلقة (204) صلاة الجمعة في مسجد بروكسل
…
271
الحلقة (205) أيام لا تُنسى في بروكسل
…
283
الحلقة (206) في منطقة الآردن
…
297
الحلقة (207) خواطر في الحياة والموت، في طرق هولندا
…
309
الحلقة (208) طريق الحج
…
321
الحلقة (209) الخط الحديدي الحجازي
…
333
الحلقة (210) في صحبة الحيوان
…
345
الحلقة (211) كتاب جديد أثار في نفسي ذكريات قديمة
…
361
الحلقة (212) إلى الأستاذ أحمد أبو الفتح
…
375
الحلقة (213) عودة إلى ذكريات القضاء
…
387
الحلقة (214) في محكمة النقض في دمشق
…
399
من آثار المؤلف
1 ـ أبو بكر الصديق
…
1935
2 ـ قصص من التاريخ
…
1957
3 ـ رجال من التاريخ
…
1958
4 ـ صور وخواطر
…
1958
5 ـ قصص من الحياة
…
1959
6 ـ في سبيل الإصلاح
…
1959
7 ـ دمشق
…
1959
8 ـ أخبار عمر
…
1959
9 ـ مقالات في كلمات
…
1959
10ـ من نفحات الحرم
…
1960
11ـ سلسلة حكايات من التاريخ (1 ـ 7)
…
1960
12ـ هتاف المجد
…
1960
13ـ من حديث النفس
…
1960
14ـ الجامع الأموي
…
1960
15ـ في أندونيسيا
…
1960
16ـ فصول إسلامية
…
1960
17ـ صيد الخاطر لابن الجوزي (تحقيق وتعليق)
…
1960
18ـ فِكَر ومباحث
…
1960
19ـ مع الناس
…
1960
20ـ بغداد: مشاهدات وذكريات
…
1960
21ـ سلسلة أعلام التاريخ (1ـ 5)
…
1960
22ـ تعريف عام بدين الإسلام
…
1970
23ـ فتاوى علي الطنطاوي
…
1985
24ـ ذكريات علي الطنطاوي (1ـ 8)
…
1985ـ 1989
25ـ مقالات في كلمات (الجزء الثاني)
…
2000
26ـ فتاوى علي الطنطاوي (الجزء الثاني)
…
2001
27ـ فصول اجتماعية
…
2002
28ـ سيّد رجال التاريخ (محمد صلى الله عليه وسلم
…
2002
29ـ نور وهداية
…
2006
إلى القرّاء الكرام
لقد بذلتُ في تصحيح هذا الكتاب غايةَ ما استطعت من الجهد، لكنّي لا آمَنُ أن يكون فيه خطأ سهوتُ عنه، لأن الكمال ليس لأحد من البشر، إنما هو من صفات خالق البشر. فأرجو أن يَمُنّ عليّ قارئه (وقارئ سائر كتب جدّي التي صحّحتُها وأعدت إخراجها من قريب) فينبّهني إلى أي خطأ سهوت عنه لكي أتداركه في الطبعات الآتيات، وأنا أشكره وأدعو له اللهَ بأن يجزل له الأجر والثواب.
مجاهد مأمون ديرانية
mujahed@al-ajyal.com