المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌وداع المحكمة الشرعية - ذكريات - علي الطنطاوي - جـ ٨

[علي الطنطاوي]

فهرس الكتاب

- ‌الجزء الثامن

- ‌وداع المحكمة الشرعية

- ‌في محكمة النقض في القاهرة

- ‌أشتات من الذكريات

- ‌زياراتي القديمة لمكة

- ‌حجة 1381: خواطر وأفكار

- ‌أبو الحسن النَّدْوي ومذكّراته (1)

- ‌أبو الحسن النَّدْوي (2)

- ‌أبو الحسن الندوي (3)

- ‌في مطلع العام 1987

- ‌مؤتمر القمة الإسلامي

- ‌الفقيدان الوزير والمدير،ومن قبلهما فقدنا الأمير

- ‌تعليق على الحلقة السابقة: لبّيكَ اللهمّ لبّيكَ

- ‌كيف جئتُ المملكة

- ‌وقفة على المخيَّمات

- ‌منزلي في الرياض

- ‌لمّا كنت أستاذاً في الكلّيات والمعاهد

- ‌تفسير بعض الآيات

- ‌من المستشفى المركزي في الرياضإلى مستشفى المواساة في دمشق

- ‌في مكة سنة 1384ه

- ‌في كلية التربية في مكة

- ‌يوم الجلاء عن سوريا

- ‌لمّا علّمتُ البنات

- ‌خواطر ومشاهدات عن تعليم البنات

- ‌لغتكم يا أيها العرب (1)

- ‌لغتكم يا أيها العرب (2)

- ‌ذكريات العطلة الصيفية في دمشق (1)

- ‌ذكريات العطلة الصيفية في دمشق (2)

- ‌هذه الحلقة من الذكريات مسروقة

- ‌عندكم نابغون فتّشوا عنهم بين الطلاب

- ‌عزمتُ أن أطوي أوراقيوآوي إلى عزلة فكرية

- ‌رسائل الإصلاح وسيف الإسلامانتقدت الشيوخ الجامدينوالشبان الجاحدين

- ‌الخاتمة

الفصل: ‌وداع المحكمة الشرعية

-215 -

‌وداع المحكمة الشرعية

لماذا تحلو ذكرى الماضي ولو كان مُرّاً؟ هل تذهب الأيام بالمرارة وتصبّ في الأحداث -إن مضت- سكّراً وعسلاً، أم قد حلَت في عيني لأني فقدتها؟ ومن نكد الدنيا أن مسرّتها مشوبة بالألم وأن المرء لا يستحلي الشيء إلاّ إن خلت يده منه، وقد كان يزهد فيه لمّا كان في يده، وأنه يشتهي ما يُمنَع منه ويملّ مما يُعرَض عليه.

خرجنا مرة مع الأسرة أوائل إقامتي في مكّة من بضع وعشرين سنة إلى حديقة الزاهر، وكانت عروس الحدائق وفرحة المرتاد، وفي نيّتنا أن نبقى فيها إلى الليل. فنادوا أن باب الحديقة سيقفل ساعتين لضرورة عمرانية تقتضي الإغلاق، فمَن كان مستعجلاً فليخرج الآن أو فليبقَ حتى يُعاد فتح الباب. لمّا أحسست أني مُنعت من الخروج ضاقت بي الحديقة واسودّت في عيني، وشعرت بما يشعر به السجين بين جدران السجن!

وكنت أدرّس الأدب في بغداد من نصف قرن كامل، وكان ممن ندرس شعره وحياته من الشعراء شوقي، وكانت قصيدته

ص: 5

«ياجارة الوادي» يومئذ بصوت عبد الوهاب على كل لسان وفي كل مكان، فاخترتها للطلاّب ليحفظوها فيما يحفظون من شعر شوقي. فلما صارت واجباً عليهم كُرّهَت إليهم، وقد كان أكثرهم يحفظها ويحاول أن يغنيها.

لذلك شعرت لمّا تردّدتُ بين البقاء في المحكمة الشرعية أو الانتقال إلى محكمة النقض، شعرت بالضيق لأنني كلما مِلت إلى جانب وتصوّرت أني أفارق الآخر حلا بعيني ما تصوّرت أني مفارقه، لأن الطمع طبع في الإنسان، لا يقنع، حتى إنه «لو كان له وادٍ من ذهبٍ لابتغى له ثانياً» كما قال رسول الله عليه الصلاة والسلام، «ولا يملأ عينَ ابن آدم إلاّ التراب، ويتوب الله على من تاب» .

اللهم إننا تبنا إليك فتُب علينا.

وقد عرفتم أني كنت أوّل قاضٍ انتقل بمحكمته إلى القصر العدلي لمّا أُنشئ، فأخذت الزاوية الجنوبية الغربية. وخيرُ بيوت الشام ما كان مفتوحَ النوافذ على الجنوب، يليه ما كانت نوافذه على الغرب؛ الأول ينال من الشمس حظاً كاملاً في بلد يمتدّ الشتاء فيه أربعة أشهر وتكون الشمس فيه متعة الشتاء، والثاني حظّه منها النصف. وما كان مفتوحاً على الشرق أخذ الربع، وما كانت نوافذه على الشمال عاش في شتاء دائم.

والعرف في الشام أن الحكومة إن أزمعت إنشاء حيّ جديد اشترت البيوت القديمة كلها من أصحابها بأثمانها فتملّكَتها، ثم هدمتها ونقلت أنقاضها وقسّمت الأرض نظيفة بعد تنظيمها بين

ص: 6

أصحاب هذه البيوت بمقدار ما كانت تساوي بيوتهم. فلما أُقيمَ القصر العدلي أجّلوا إزالة البيوت القديمة من حوله وأرجؤوا فتح الشوارع: الشارع الذي ترونه الآن غربيّ القصر والشارع الجنوبي منه. فكنت أنظر من غرفتي فأرى مثل آثار الدرعية، أرى بيتاً بقي منه جدار واحد وغرفةً فوقه ذهب نصفها.

وأنا لا يُصيبني ويحرّك سواكن نفسي كالوقوف على الأطلال. إنني أرمّمها في خيالي وأصلحها كما يرمّم البيتَ العتيق مالكُه حتى يُعيد إليه من بهائه ما يمكن أن يعود! كنت أنظر إلى الغرفة التي بقي نصفها فأراها ونصفها معها، ومع صاحبها نصفه الآخر من البشر: الزوج وزوجته، والجدران ساترة، والباب مُغلَق. أراها وقد عادت الحياة إليها ورجع إليها أهلوها، حتى إني لأسمع لغط صبيانها وأحاديث نسائها وقرع قباقيبهنّ على بلاطها! مع أنها قد زالت الجدران فانكشف المخبوء وذاعت الأسرار، وصار مَن فيها كأنهم يمشون في السوق بلا ثياب.

كم تُخفي هذه الأبواب وراءها، وهذه السقوف كم تخبّئ تحتها! لي مقالة كان عنوانها «في الليل» نشرها الأستاذ الزيات في الرسالة سنة 1943 كان مما قلت فيها:

إن الطبيعة ظاهرها كباطنها، لا يُضمِر الجبلُ نفاقاً ولا السهلُ يبطن حقداً ولا السحابُ ينطوي على مكر، ثم أنظر إلى هذه السقوف التي كانت تبدو لي تلك الليلة بهية برّاقة، يقطر منها النور بعدما اغتسلت بضياء القمر وماء المطر، فأفكّر فيها: ماذا تحت هذه السقوف؟ كم تحتها من خبايا وعجائب ومؤتلف ومختلف!

ص: 7

كم من معبد لمتهجّد متنسّك إلى جنب مخدع لمستهتر متهتّك، هذا خلا بربّه وذاك بحبّه، فتجاورت منهما الظلمة والنور.

وكم من سرير لميت يحفّ به أهله يبكون، ومضجع لعروسين أحاط بهما الأقرباء يضحكون، ومَن يبيت يتبرّم بالولد ومن يتألم من العقم، وشاكٍ من التخمة وباكٍ من الجوع، ومسرور يتمنى لو طال الليل ومنكود موجَع ينتظر النهار، وكادح للعيش ناصب لا يستريح نهاره ولا يكاد ينام ليله، همّه المال يجمعه ويركمه قد حرم نفسه من أجله الطيبات، ولو كُشف له الغطاء لعلم أنه إنما سخّره الله لآخر فهو يجمعه له ويكدح من أجله، وذاك نائم لا يفكّر فيه ولا يباليه، حتى يجيء وقته فيأتيه

(إلى أن قلت): وكم من أديب، أديب حقاً، قد طاعت له عَصِيّات الكَلِم وذلّت له العوالي من قطوف البلاغة، قد انزوى في خُصّه لا يدري به أحد، ودَعِيّ جاهل، لصِّ مَعَانٍ وصَفّاف كلمات، قد جُمِع له المجد الأدبي من أطرافه فكان له الاسم السائر والمال الوافر! ومُتَمَشْيِخ قد لبس مسوح الزاهدين واتّزر بإزار الصالحين، قد عرّض لحيته وكوّر عمامته وأدلى عذبته وطوّل سبحته، ودعا الناس إلى الزهد في الدنيا ونبذ الأموال ورمي النقود في الطرقات لأنها وسخ الدنيا، فلما أطاعوه ورموها خالفهم إليها فالتقطها

(إلى أن قلت): كم تحت هذه السقوف من شاعر يعتقد أنه خُلق روحاً بلا جسم وأنه يتغدى بالحب ويتعشى العواطف، قد أغلق بابه وطفق يعدّ نقوده التي يستوحيها الخيال ويستلهمها الشعر،

ص: 8

فلما رآها قليلة لا تزال انصرف إلى نظم قصيدة عاطفية جديدة يستدرّ بها المال! ونصير للفضيلة سخّر قلمه لها ووقف صحيفته عليها، قد هرب من بيته وانصرف في تلك الساعة إلى عشيقته ليقرأ عليها مقالته الجديدة في ذم العشق وامتداح الوفاء الزوجي! وفلاّح عاكف على لبَنه يخلطه بالماء، وكلما صبّ فيه شيئاً نظر إليه وذاقه، فلما اطمأنّ أنه لم يَعُد يحتمل زيادة قعد يفكّر في أيمان جديدة يحلف بها غداً على أن اللبن خالص لم يمسسه ماء!

وباتت ثلاثون ألف فتاة ينتظرن الزواج وبات ثلاثون ألف فتى ينتظرون الزواج، وما حال بين الطائفتين إلاّ غلاء المهور وكثرة التكاليف وسخف العادات، وجهل الآباء الذين يَحسَبون بناتهم دوابَّ تُباع في سوق البقر فهم يتغالون بأثمانها، والذين لا يمتثلون أوامرَ الشرع فيمنعوا الخاطبَ الكفء أن يرى البنت ثم يُطلِقونها في الطرقات متبرجة سافرة فيراها البَرّ والفاجر وكل ذي عينين، حتى الحمار!

وخلال ذلك عشرون ألف شابّ لا ينقصهم شيء من مال ولا صحّة ولكنهم لا يزالون يشكون الملل ولا يدرون ماذا يصنعون، فيُقبِلون على الملاهي أو يقلّدون الكفار فينتحرون، ولو دقّقوا لعلموا أنهم إنما ينقصهم الإيمان.

وخمسمئة ألف من سكّان دمشق نسوا همومهم وناموا كالقتلى.

(والمقالة في كتابي «صور وخواطر»).

* * *

ص: 9

وكنت أنظر فأرى أمام غرفتي بقايا جدار فيه محراب المسجد الذي كان في المشيرية، أقامه الأتراك أيام حكمهم وبقي على عهد الفرنسيين لمّا كانوا متسلطين على الشام، فلما هُدمت الدور هُدم معها.

وكان في المحكمة الشرعية لمّا كانت في سوق الخياطين مسجد إمامه الرسمي الشيخ صادق أبو قورة، وإمام مسجد المشيرية الشيخ يحيى المكتبي الذي يدعوه الناس الشيخ يحيى زمّيتا، وكلاهما من تلاميذ الشيخ بدر الدين شيخ العلماء والمحدّث الأكبر.

وكان الشيخ يحيى أقرب الناس إليه، وكان وكيله في أعماله ورسوله إلى الرؤساء والوزراء في حاجات الناس التي يرفعونها للشيخ. وطالما أنقذ الشيخ يحيى بإمامته في المشيرية (التي صارت لمندوب المفوّض السامي الفرنسي) طالما أنقذ ناساً من الثوار وغيرهم ممن كان يُمسك بهم الفرنسيون وكان مصيرهم الموت، أنقذهم الله به باسم الشيخ بدر الدين وبحسن حيلته ولطف مدخله إلى أولئك الحاكمين.

أمّا الشيخ صادق فكان أيضاً ممن يلازم الشيخ بدر الدين. رجل يغلب عليه صفاء القلب، يقول أحياناً كلاماً مغطّى عجيباً لايكاد يُفهَم. ومن العجائب ما أخبرني به أخي أنور العطار، رحمه الله ورحم الشيخ صادقاً وكل من ذكرته، أن للشيخ صادق أخوين أحدهما اسمه الشيخ عمر المسالخي والثاني اسمه الشيخ علي المستوي.

وكان إلى جنب المشيرية مسجد (هو مسجد عيسى باشا)

ص: 10

وأمامها مسجد. أمّا الذي إلى جنبها فقد أُقيمت في مكانه عمارة كبيرة جعلوا للمسجد طبقة منها، وفي الطبقة التي تحتها مصرف (بنك) وفي الطبقة التي فوقها مصرف (بنك)، خطبت فيه مرة خطبة الجمعة فقلت للناس: إني أقوم على هذا المنبر أقول إن الله حرّم الربا، فيقول لي مَن هو تحتي: كذّاب، ويقول الذين هم فوقي: كذّاب!

وجعلُ المساجد طبقة في عمارة كبيرة بدعة لم أعرفها في غير الشام وبيروت، وهي حرام لأن أرض المسجد وسماءه له فلا يجوز أن يُملَك ما تحته ولا ما فوقه.

وأمّا المسجد الذي كان أمامها فقد أقاموا في موضعه العمارة التي فيها دوائر الأوقاف.

ذكرنا ما ذهب من المساجد، وآخرها مسجد «دكّ الباب» في دمشق. وما أكثر ما ذهب من المساجد والمدارس القديمة، حتى إن من يمشي في الأزقّة والحارات حول الجامع الأموي في دمشق يري بيوتاً مملوكة على أبوابها نقش على الحجر بأنها مدارس أو مساجد فيها اسم بانيها وما وقف عليها من الأوقاف.

ولكنْ ظلمٌ أن نذكر السيئة ونَدَع الحسنة. صحيح أننا سرقنا أو هدمنا مدارس كثيرة ومساجد في أرض المسلمين الواسعة، ولكننا أنشأنا مساجد أكثر منها: كلما أُقيمَ حيّ جديد في بلد رأيت المساجد تقوم معه، هذه أحياء جدة الحديثة مثلاً: المسجد فيها إلى جنب المسجد، وكلها (والحمد لله والدعاء بالخير لبانيها) كلها شامخة البنيان راسخة الأركان عامرة بالعبادة والإيمان. وفي

ص: 11

الأحياء الجديدة من دمشق مثل ذلك، وكنت أتمنى بدلاً من المساجد الصغيرة الكثيرة أن يقوم في كل حيّ مسجد جامع يؤمّه الناس يوم الجمعة.

* * *

لمّا هدموا ما حول القصر وهُدم معه المسجد وبقي محرابه مواجهاً لنافذة غرفتي ذهبتُ أدعو الجمعيات الإسلامية، وسعيت عند وزارة العدل واستعنت بالمخلصين من العلماء المُصلِحين لإعادة المسجد أو إقامته في طرف من القصر لمّا كانوا يبنونه. فما أفلحنا لأن الاسم كان للوزير السوري والفعل للمستشار الفرنسي. ولقد أخذ صديقنا شاكر السباعي (وهو الذي كان كبير المساعدين القضائيين في وزارة العدل رحمه الله صورة المحراب، يحسب أن الصورة تُعيد الأصل!

فلما يئستُ من إعادة المسجد أخذت غرفة كبيرة من القسم الذي اخترته للمحكمة فجعلتها مسجداً، وأقرّت ذلك الوزارة ووعدَت بفرش هذه الغرفة، وجاء الشيخ يحيى (الذي كان إمام المسجد) بسجّادة عَجَمية كبيرة غالية من داره كانت في تلك الأيام تُباع بثمن كبير فوضعها في هذه الغرفة، ومات رحمه الله وهي فيها، فكلّمت ولديه (أحدهما كان يعمل هنا مستشاراً في وزارة الإعلام) ليطالب بثمنها لأنه لم يَقُل إنه تبرّع بها، فما كانا أقلّ من أبيهما كرماً واحتساباً فأبيا أن يطالبا بشيء، فجزى الله الشيخ يحيى وجزاهما خيراً.

* * *

ص: 12

وكانت وزارة العدل في الطبقة التي هي فوق المحكمة، وكنت أبقى في المحكمة وحدي بعدما ينصرف الموظفون والمراجعون فأتغدى فيها، يأتيني الطعام كل يوم من مطعم قريب اسمه «مطعم الأمراء» (في أول سوق الحميدية). وأنا أعرف صاحبه وأباه من قبله وأعرف جدّه من قبلهما، وكانوا كلهم من السِّمان، من الوزن الثقيل أو الذي هو فوق الثقيل.

والسمان عادة يكونون خِفاف الروح ويكونون من أظرف الناس، كأن الذي زاد في شحمهم ولحمهم خفّف من دمهم! هذا هو الغالب عليهم، فإن وجدتم فيهم من ثَقُل دمه كما ثقُل جسمه فتلك هي المصيبة الكبرى. ولَحَملُ صخرة تصعد بها إلى الجبل أهون من مجالسة سمين ثقيل الدم!

ولعلّ سبب سمن أصحاب المطعم أنهم يرون أمامهم طعاماً طيباً، هو لهم يدعون بما شاؤوا منه فيكون أمامهم، وأن عملهم يقتضيهم الجلوس النهار كله لا يقومون ولا يتحركون. وإذا كثر الطعام وقلّت الحركة عوقب المرء بحمل عشرة أكيال (كيلوغرامات) أو خمسة عشر من الدهن والشحم يقوم بها وينام بها. وهذا ما يقع لأكثرنا، ولقد عمدت من بضع سنين إلى حِمية قاسية بلا مرض وجوع طويل بلا موجب، وإلى الاختصار من الطعام على ما حدّده الطبيب بعدما حَسَبه بالحرّات (أي الكالوري) وحدّد لي حداً لا أتعدّاه، فكنت أشرع بالأكل وأنا جائع وأقوم عن الأكل وأنا جائع، وصبرت على ذلك شهوراً فقلّ وزني أربعة وسبعين.

ص: 13

لا، ليست أربعة وسبعين كيلاً (كيلوغراماً) بل أربعة وسبعين غراماً.

لقد شغلني ذكر الطعام عن إتمام الكلام. كنت أبقى في المحكمة وينظّف الفرّاشون غرف الوزارة فوقنا، وأحياناً يُلقون بالكُناسة من الشبّاك، فربما دخل بعضها أو دخل غبارها إلى غرفتي، فأزجرهم وأكلّم رؤساءهم. وكنت يوماً في غرفتي ساعة العصر، وكان في غرفة المحاكمة مجلس تحكيم يعقده الحكَمان وبيننا باب مفتوح، أسمعهم وهم يسألون الزوجين ومَن شاءا من الأقرباء والشهداء، لأن للحكمَين سلطاناً ليس للقاضي، فهما مُطلَقان غير مقيَّدَين بقانون المرافعات وحكمهما نابع من قناعتهما وتابع لها لا لقانون مكتوب.

وكان الحكمان هما الصديقان رفيقا الصبا والشباب الشيخ ياسين عرفة والشيخ كامل القصّار، فسمعت ضجّة، وإذا بفرّاش الوزارة يُلقي بالكُناسة من النافذة فيدخل بعضها عليهم. وجاؤوني ببعض ما أُلقيَ فيها من أوراق ممزَّقة، فنظرتُ فلمحت في قصاصة منها اسمي، فأخذتها ودخلت غرفتي بما وجدت منها وعكفت عليه أجمع هذه القطع الممزَّقة وأحاول أن أعيدها، وأضعت في ذلك أكثر من ساعة حتى كادت تكتمل الصفحة وقرأت ما أمكن قراءته منها، فإذا هي كتاب رسميّ لإبلاغي أنه "بموجب المرسوم الجمهوريّ رقم 1450 وتاريخ 27/ 4/1953 قد نُقلت مستشاراً في محكمة النقض".

* * *

ص: 14

لمّا خيّروني حيّروني وأزعجوني، فلما تركت الأمر لله وجاء النقل بلا طلب مني ولا علم سابق به قبلت ما جاء من عند الله ورضيت به.

ورأيت أنه قد انقضت أيامي في المحكمة. وكل ما في الدنيا إلى انقضاء، الدنيا محطةٌ نحطّ فيها ثم نتحمل راحلين عنها. وأخذت أجمع أوراقي وأستعدّ للرحيل، فوجدت أوراقاً كل واحدة منها لها قصة، منها ما أذكر الآن قصته كاملة ومنها ما مُحي بعضها من ذهني وبقي بعضها (كأنقاض المنازل التي أراها من غرفتي وأتكلم الآن عنها) ومنها ما نسيت قصته ومُحي من ذهني ولم يبقَ إلاّ الورقة التي وجدتها.

هذه ورقة فيها كتاب رسمي من وزارة العدل رقم 3393 تاريخه 5/ 5/1365 (6/ 4/1946) يقرّر فيها الوزير تأليف لجنة من السادة القضاة راسم الأخرس وصبحي الصباغ وعلي الطنطاوي "لبحث مشروع القانون المعروض على مجلس الوزراء لتأليف مجالس الأوقاف الإسلامية وتحديد سلطاتها" وفي ذيل الكتاب ملحَق بأن "الاجتماع غداً الساعة التاسعة بالوزارة".

فماذا كان في هذا الاجتماع؟ وماذا صنعت به؟ وما الذي عملَته اللجنة؟ وهل اقتصرَت على هذا الاجتماع فكان جلسة واحدة، أم توالت الجلسات وتعاقبت الاجتماعات؟ صدّقوني إن قلت لكم إنه ليس في ذهني عن ذلك شيء.

وهذا كتاب آخر من وزير العدل تاريخه 17/ 1/1949 فيه القرار الوزاري رقم 674 ونصّه: "وزير العدل: بناء على المرسوم

ص: 15

التشريعي رقم 80 المؤرَّخ في 30 حزيران (أي يونيو) سنة 1947 يقرّر ما يلي: المادة الأولى: يُنتدَب السيد علي الطنطاوي القاضي بدمشق قاضياً بوادي العجم علاوة على وظيفته، ويخصّص مواعيد لدمشق ومواعيد لوادي العجم حسب الدعاوى في كل منهما. المادة الثانية: يُذاع هذا القرار ويبلَّغ من يجب". وتحت ذلك كما هي العادة: نسخة إلى دائرة التفتيش، المكتب الإداري، المحاسبة، النيابة العامة في دمشق، المحكمة الشرعية، الجريدة الرسمية ليُنشر فيها، وزارة المالية.

خصّصتُ لوادي العَجَم (وقصبتُه بلدة قَطَنا) يوماً في الأسبوع، فكنت آخذ معي أهلي فأمضي فيها يوماً أرى فيه الدعاوى في المحكمة، ثم نقصد أحد المتنزَّهات على سفح جبل الشيخ الذي يبقى السنة كلها معتمراً بعمامته البيضاء من الثلج التي تعلو عن البحر نحواً من ثلاثة آلاف متر، نقعد عند نبع من الينابيع (التي لا يُحصيها هنالك العدّ، حتى إن في قرية عرنة وحدها عشرات منها) فنبقى فيها إلى المساء.

ووجدت بين المتقاضين ناساً من قرية زاكية التي كنت معلّماً فيها سنة 1931 (أو نحوها، فما عدت أذكر الآن)، ووجدت الذين كانوا أطفالاً عندي في المدرسة صاروا رجالاً، وكان منهم طفل صغير أذكر أن اسمه سعد لم يكن يتجاوز عمره لمّا كان في المدرسة ثماني سنين، وكنت أُعجَب بحدّة ذكائه، فوجدته شاباً كبيراً معقوف الشاربَين تبدو عليه ملامح الفتوّة والقوة، فحاول أن يكلّمني كما كان يصنع في المدرسة فتجاهلته وتظاهرت بأني لا أعرفه، ولم أقابل لهفته في الإقبال عليّ إلاّ

ص: 16

بتكلّف الإعراض عنه، لا كِبْراً فما في طبعي بحمد الله الكِبْر ولكن أداء لأمانة القضاء، فإن القاضي (في الأرياف خاصة) إن عقد صلة بينه وبين بعض أهلها، ولو كانت صلة نظيفة مشروعة، استُغلّت أبشع استغلال وأُكلت بها حقوق الناس، لذلك كان على القاضي فيها أن يعتزل الناس عزلة كاملة فلا يزور أحداً ولا يقبل زيارته في بيته.

وكان في قَطَنا شيخ جليل القدر هو رفيق شيخنا الشيخ أبيالخير الميداني، اسمه إبراهيم الغلاييني، وكان عالِماً آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر صدّاعاً بالحقّ، له سطوة علىالمنحرفين من أهل البلد وهيبة في صدور الناس، فكنت أزوره أحياناً.

واستمر هذا الانتداب إلى أن نصبت الحكومة قاضياً أصلياً للمنطقة.

ومما أذكر من أخبار محكمة قطنا أنه كان فيها كاتب نبيه قويم السيرة، وكان يدرس في كلية الحقوق، فجاء الامتحان فلم يسمحوا له بأدائه لأنه استوفى حظّه من الإجازات، فقدّرت وضعه وأملت منه خيراً إن نال الشهادة في الحقوق، فأذنت له بالذهاب لأداء الامتحان وحملت تبعة ذلك، وكلّفت كاتباً آخر بأداء عمله وأعطيتُه من مالي تعويضاً رضي به. ولقد أكمل هذا الكاتب دراسته وصار بعد ذلك قاضياً من خيرة القضاة.

وأنا لست من الذين يخرجون على القوانين ويخالفونها، ولكن القانون -مهما بلغ من الدقة والإحكام- من وضع البشر وقد يتعارض أحياناً مع العدل، وأنا أرى في مثل هذه الحالة

ص: 17

اتّباع طريق العدل ولو خالف صراحة القانون. أذكر ما كان مني ولاأدعو إلى مثله ولا أجعل ما صنعتُه قاعدة متبَعة.

ووجدت رئيس كتّاب هذه المحكمة رجلاً ذكياً جداً من أسرة وجيهة جداً، لكنه ليس أميناً. وأمسكتُ عليه سرقات أخفاها حتى لا يكاد المفتّش يصل إليها، فلما تيقّنت من انحرافه لاحقته، وما زلت أتابعه حتى أخرجته من المحكمة.

* * *

ووجدت بين الأوراق ورقة فيها كتاب رسمي من رئيس المحكمة العليا الذي كان رئيس مجلس القضاء الأعلى، وهو الأستاذ وجيه الأسطواني، تاريخه 19/ 1/1951. وهذا نصّه: "بما أن مجلس القضاء الأعلى مزمع على وضع مشروع قانون التوظيف القضائي في سوريا عملاً بالمادة 125 من الدستور، فنرجو موافاتنا بأسرع ما يمكن بما ترون من قواعد يحسن الأخذ بها فيما يتعلّق بشؤون تعيين القضاة وترفيعهم ونقلهم وعزلهم وتأديبهم وما إلى ذلك، على ألاّ يتأخر الجواب إلى ما بعد الخامس عشر من شهر شباط القادم 1951.

وكذلك ترون أنه كان لكبار القضاة رأي مسموع، لا يُفرض عليهم ما لا يرضون من أحكام ولا يقدَّم إليهم ما لم يطبخوه أو يختاروه من الطعام. أُعطوا الحرية وكُلّفوا العدل فعدلوا. ولا يعدل القاضي إلاّ إذا كان حراً وكان «مُزاح العلّة» -كما كان يقول المتقدّمون- مستريحاً من هموم العيش. وحين كان أمير المؤمنين عمر يأكل الخبز بالزيت ويقنع بما قلّ من الرزق كان يجزل عطاء

ص: 18

القضاة، ومن نظر في «تاريخ قضاة مصر» للكندي رأي تفصيل ما أجملت.

* * *

هذا وأنا أعتذر إلى القراء من هذه الحلقة، فلقد ملأت شطرها الثاني بصور رسائل رسمية وأرقام وتواريخ أعلم أنها لا تنال منهم اهتماماً ولا تُثير في نفوسهم عاطفة، ولا تبعث في رؤوسهم ذكرى وما لهم فيها متعة ولا منفعة. لكن عذري (وما أحسبه عذراً مقبولاً) أني أكتب ذكرياتي وأني أرى فيها ما لا ترون، وأن كل واحدة منها (وعندي من أمثال ما نشرت هنا الكثير) تبعث في نفسي عالَماً من الذكريات وقصة كاملة من قصص الحياة.

تقولون: وما لنا نحن ولها؟ نعم؛ ما لكم ولها؟ ولعلّي أسأت في عرضها، ثم إني أردت أن تكون الصورة التي أعرضها للقضاء والقضاة كاملة، فإذا جاءت حلقة من هذه الذكريات على غير ما ترضون فلعلّها تجرّ حلقة أخرى ترضون عنها.

* * *

ص: 19