الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
-219 -
حجة 1381: خواطر وأفكار
الدنيا دار ابتلاء واختبار، ليست دار إقامة واستقرار (والابتلاء والاختبار والمحنة والفتنة والامتحان كلها بمعنى واحد أو بمعانٍ متقاربة)، كذلك برَأها الله: كل مسرة فيها مَشوبة بألم، وكل صفاء مخلوط بكدر. وإن سألتموني ما هي متاعب الكتابة والنشر (وأنا مبتلى بهما من ستين سنة، أو هما المبتلَيان بي) لقلت لكم إنها «التطبيعات» كما كان يدعوها صديقنا وأستاذنا محمد إسعاف النشاشيبي رحمه الله، أو الأخطاء المطبعية كما يسمّيها الناس. ولو كانت كلها من أمثال «المطبعة السفلية» في موضع «المطبعة السلفية» لهان الخطب، لأن كل قارئ يتنبه لها من غير أن ينبّه إليها، ولكن فيها ما يحرَّف أو يصحَّف؛ والتحريف تبديل الحروف والتصحيف تغيير الحركات، حتى تجيء كلمة جديدة لا يدري حتى كاتبها الذي هو أنا ماذا كان أصلها. أمثّل بواحدة من كثيرات جاءت في مقالي الأخير، هي جملة "وأنا حين أهمّ بالكتابة عن بلد لا أصف طبيعة أرضه ولا تعمير مساحته ووصف ناقلاته". ما تعمير مساحته وما وصف ناقلاته؟ أنا والله لا أدري (1)!
(1) كل ذلك صححته في مواضعه من الحلقة الماضية بما وجدته صواباً (مجاهد).
والثاني أنهم قالوا: كيف تقول إنك لا تُعِدّ المحاضرات ثم تكتب ما حاضرت به؟ أليس معنى هذا أنك تُعِدّها وتكتبها؟ لا، ليس معناه أني أعددتها وكتبتها، ولكن معناه (وهذا هو ما يقع لي، لا أكذب القراء) أنني بعد أن ألقيها أجدها منقوشة في ذهني فأكتبها. يحصل هذا معي كثيراً، أما هذه المحاضرة فقد كتبها إخوان ودوّنوها فبقيَت لديّ (1).
* * *
أنا أحب من المذكرات ما يَعرض لنا الحوادث مفصّلة، مبيّنة الأجزاء مكشوفة الخفايا. والفنّ كله في عَرض هذه التفاصيل، ولولاها لكانت كل قصة حب مثلاً ككل قصة حب: اثنان يتعاطفان ويتحابان، ثم يلتقيان أو يفترقان، فإن افترقا بموت أو إكراه أو عائق يعوق اجتماعَهما جاءت النتيجة على غير ما يحب القارئ وكانت مأساة (تراجيدي)، وإن اجتمعا جاءت وفق ما يحب.
وأعظم قصص الحب في آداب الأمم هي المآسي، ولولا ذكر التفاصيل لكانت قصة «قيس وليلى» كقصة «روميو وجولييت» و «بول وفرجيني» و «فرتر» و «رفائيل» و «غادة الكاميليا» و «مم وزين» في الأدب الكردي (وقد نقلها إلى العربية الأستاذ سعيد رمضان البوطي الدمشقي)؛ قصة واحدة مكررة ما تبدّل فيها إلاّ الأسماء والمواضع.
(1) انظر صفحة 113 في هذا الجزء من الذكريات، والمحاضرة منشورة في كتاب «فصول إسلامية» بعنوان «طرق الدعوة إلى الإسلام». قلت: وأحسب أنه عاد إليها -بعدما كتبها مَن سجّلها- بالتنقيح، فما كان ليقبل أن تُنشَر إلا أن تكون بأسلوبه الذي يرضاه (مجاهد).
وعلى ذلك يكون قرص الفَرانيّ (الكاتو) كأكلة خبز بالبيض المقلي لأنهما تتركبان من مواد واحدة، ولكانت أجمل النساء كأقبح النساء لأنها مثلها: لها وجه فيه فم وشفتان وفوقه أنف يجاوره عينان وعلى العينين حاجبان، ولكانت عنق الزرافة كعنق الضفدع لأن كل الأعناق في الوجود متساوية في عدد الفقرات!
وهذا من عجيب صنع الله؛ أن يخلق من المتشابه المؤتلف ما هو متباعد مختلف، ففي الوجود موادّ محدودة تُنتج مركبات كيماوية لا تكاد تُحَدّ. ومن اطّلع على تسلسل الكروموزومات في نواة الخلية وجدها مؤلَّفة من عناصر معدودة، ولكنها تُنتِج أشكالاً وصوراً لا تُعَدّ، كحروف الهجاء: محدودة معدودة ولكن الكلمات التي تتألف منها وتملأ ملايين الكتب في اللغات كلها لا يبلغها عدّ ولا يحدّها حدّ.
وهذا كلام لا صلة له بحديثي، وإنما هي خطرات خطرت على بالي وأنا أكتب مقالي فوجدت فيها نفعاً، فكرهت أن أستأثر بها فلا أُشرِك معي القراء فيها.
وقد فرغت من الاعتذار عن هذه الاستطرادات التي تسوقني العادة إليها فلا أستطيع الفكاك منها.
* * *
وإنما أردت أن أقول إنني حدّثتكم عن نزولي في حجّتي سنة 1381هـ في فندق مصر في أجياد لمّا سألت أخي الأستاذ الصوّاف أن يحجز لي فيه، ولكني لم أحدّثكم عما وجدته حين وصولي إليه.
وصلنا إليه أنا وأهلي قُبَيل الفجر، وكنت أعرفه لمّا نزلت فيه في حجّتي سنة 1373هـ، ولم يكن الطريق إليه من أول مكة ولا الطريق بينه وبين الحرم شارعاً واحداً عريضاً معبَّداً كالذي ترونه اليوم، بل كان بينه وبين الحرم عمارات منها دار البلدية فيما أذكر، وكان الطريق من شقّين عن يمينها وعن شمالها.
وصلنا فوجدنا الباب مفتوحاً، والبوّاب قاعداً على كرسيه ولكنه نائم. فأيقظته أسأله، فقال إنه ليس في الفندق أحد من القائمين عليه. قلت: إنني حاجز فيه غرفة، فمَن يدلّني عليها؟ فأجاب بنصف الجواب وأخذه النوم فأخذ النصفَ الثاني وأخذني معه إلى منامه، ورجع يحملني ويحمله إلى أحلامه، وأحسبه أكمل الكلام في وسط الأحلام. فيئست منه ورحمته، لأن من هؤلاء العمال من لا يمكَّن من النوم ليالي الحج.
والتاجر صاحب العمل الذي يسهر الليل كله يبيع ويشتري ويجمع النقود ويُحصي الأرباح لا يحسّ بالنعاس ولا يشعر بالتعب، ولكن العامل عنده يتعب. وليس الذي يُتعِب الناسَ العملُ ولكن يُتعِبهم أن يعملوا كارهين.
ورأيت أن الفجر قد اقترب فأخذت أهلي وذهبت إلى الحرم، وتركت حقائبي أمانة عند صاحب دكان كان في أسفل عمارة الكعكي، وكانت يومئذ تُبنى ما اكتمل بناؤها، قامت الطبقة الأولى والثانية منها. ووجدنا الحرم ممتلئاً فأممنا المَطاف وطفنا، وأذّن ونحن في الطواف فجاء من يأمر المرأة بالذهاب إلى مكان النساء. ونحن لا نعرف أين هو مكان النساء ولا نميز جانباً من الحرم من جانب، ولا نعرف شرقيّه من غربيّه ولا شاميّه من
يمانيّه، فحارت زوجتي ماذا تصنع، وهي في وسط الرجال ولا تدري من زحمة الحجّ من أين تمضي، وكادت تُقام الصلاة.
وهذه مشكلة لا يدركها المقيم في مكة لأنه يعرف -كما عرفت أنا الآن- أركان الحرم، فإن ترك زوجته في مكان يعود إليها فيجدها فيه. أما القادم على مكة فتستوي الأمكنة كلها في نظره، لذلك أكرّر اقتراحاً ورد عليّ في برنامجي في الرائي (التلفزيون) وأؤيده، وهو أن تُرقَّم الأعمدة بأرقام ظاهرة. وما في ذلك من حرج ما دام لا يمسّ الدين وأحكامه، وما دام فيه نفع للمسلمين.
ولقد أضللنا مرة امرأة عجوزاً من أقرباء زوجتي، ضاعت في الحرم، وذهب أكثر من عشرين من إخواننا ومن نسائهم يفتّشون عنها فما وجدوها. وكيف يجدونها وقد ألقَت الأرض بأبنائها بين جدران الحرم فاختلط الناس وامتزجوا؟ وبقيَت ستّة أيام تشرب من ماء زمزم وتأكل مما يعطيها الناس، وهي من أسرة من الأسر الكبيرة الغنية الوجيهة في الشام. ولكن ماذا تصنع وكيف يجدها أهلها في زحمة الحجّ؟ فهل عند وزارة الحجّ والأوقاف أو عند لجنة أبحاث الحجّ حلّ لهذه المشكلة، التي تبدو لأكثر القراء من أهل البلد هيّنة أو لعلهم يرونها سخيفة مضحكة، ولكنها كبيرة مبكية عند أصحابها؟
* * *
أنا طالب علم اشتغلت بالتدريس دهراً، فقرأت أحكام الحجّ طالباً وأقرأتُها مدرّساً مرات لست أُحصيها. ولكن لما حججت أول مرة وجدت العلم الذي في الورق لا ينطبق دائماً على الواقع
في الحياة؛ كنت أعرف حُكم الوقوف في مُزْدَلِفة والمبيت في مِنى، ولكني لا أعرف ما مزدلفة وما منى وما موضعهما وما شكلهما وكيف الوصول إليهما. ومعرفة الاسم لا تُغني عن رؤية المسمّى أو وصفه.
أكثر الناس يعرفون أسماء الكوفة والبصرة والمِرْبَد وعُكاظ ودُومة الجَنْدَل ومرج راهط وحطّين وعين جالوت وأمثالها، عرفوا أسماءها مما درسوا من التاريخ الماضي ولكنهم لا يعرفون ما حالها في الوقت الحاضر وما مآلها. فلو أن أحد الأساتذة المطّلعين أو الطلاب الذين يُعِدّون الأطروحات (أي رسائل الشهادات العالية للماجستير والدكتوراة) يحققون مواضعها ويدرسون حالها اليوم، وينشرون وصفها وصورها ويصفون مظاهر الحياة فيها، لكان من ذلك خير كثير.
وقد عرفت أنا هذه المواضع كلها وزرتها ووقفت عليها وأقدر أن أصفها، ولكني فقدت الهمّة الدافعة إلى العمل، فأنا كسيارة قوية المحرّك فيها البنزين ولكن ليس فيها هذا الزِّناد (المارش) الذي يقدح الشرارة الأولى لتسير.
أقول إني لمّا حججت أول مرة وجدت أن ما درَسته ثم درّسته للطلاب لم يُفِدني في معرفة طريقي. وكنت أمشي من حيث يمشي الناس، أسير أين ساروا وأقف إن وقفوا وأصنع مثل ما صنعوا، لا أعرف من أين سرت ولا إلى أين أسير، وإن كنت أُفتي مَن حولي وأبين لهم أحكام الحجّ لأنني أعرف ما في الكتب، ولكني لم أعرف من قبل ما على الأرض.
فيا ليت مدرّسي الفقه -إن علّموا الطلاّبَ أحكام الحجّ- عرضوا لهم صور المشاعر وأماكن العبادة، ليصلوا علوم الدين بحياة الناس في هذه الدنيا.
ولولا أني أبعد عن موضوعي لعرضت لشيء أعلم أن ليس هنا مكانه، ولكنها ذكرى والذكرى تنفع المؤمنين. هي أن دروس مدرّسي الدين وخطب خطباء المساجد ومواعظ الوُعّاظ لا تبلغ من نفوس الناس غالباً مبلغها المرجوّ لها لأنها تأتي بعيدة عن الحياة منفصلة عنها، فكأنها الآثار تُقتنى للإعجاب بها ولكنها لا تُستعمل للاستفادة منها. تُعرض في الرائي البرامج وهي شتّى، ولعلّ منها ما يخالف الإسلام (وأنا لا أقصر الكلام على المملكة بل أعمّم) ثم تُختم بتلاوة القرآن كما بُدئت بتلاوة القرآن، فتأتي التلاوة منفصمة عما كان قبلها وعما كان بعدها.
وننسى أن القرآن لم ينزل جملة واحدة كما نزلت الكتب من قبله وكما طلب الكفّار، بل نزل منجماً مرتبطاً بالحياة؛ تكون قصة أسرى بدر فينزل فيها قرآن، وتكون مسألة الإفك فينزل فيها قرآن، ينزل دائماً مقترناً بالأحداث لنفهمه دائماً مرتبطاً بالحياة ولنربطه بها.
* * *
وكان من حُجّاج تلك السنة رجل من دمشق كبير في سنّه وفي منصبه وفي منزلته في قومه، هو جميل بك الدهّان الذي كان يوماً مدير الأوقاف العامّ، الذي كان يومئذ بمثابة الوزير لأنها لم تكن قد صارت وزارة. فلما سمعتُ بقدومه رحمه الله سألت عن
مكانه وذهبت أزوره لمودّة كانت بيني وبينه، وقد دنوت منه لمّا أنشأ مجلة الأوقاف (وكنت قاضي دمشق) فجمع لها لجنة فيها أكثر أدباء البلد، مع أنها مجلة صغيرة تضيق عن جهد واحد منهم.
ومن ظرائف أخبارها أني تطوعت للإشراف على طبعها وتصحيح تجارِبها، فوجدت يوماً في الافتتاحية التي كتبها أستاذنا سليم الجندي (وكان هو رئيس التحرير) كلمة «مواضيع» ، فعلّقت عليها بحاشية قلت فيها:"لا تُجمع كلمة «موضوع» على «مواضيع» بل «موضوعات»، كما قال شيخنا سليم الجندي في كتابه «إصلاح الفاسد من لغة الجرائد» الذي يردّ فيه على الشيخ إبراهيم اليازجي". وإبراهيم اليازجي لُغويّ معروف في لبنان، وأبوه نصيف اليازجي من قبله، وهو نصراني يلقَّب بالشيخ.
أقول إني زرت جميل بك فوجدته مع زوجته، وهي عجوز مثله، عند مطوّف لم يرعَ لهما حرمة السنّ ولا علوّ المنزلة، فأسكنهما في غرفة رطبة مظلمة تحتاج إلى شمعة في رأد الضحى، لا ترى الشمس ولا يصل إليها خيط من أشعّتها. فتألمت له وفكّرت بدعوته إلى النزول معي في الفندق، وذهبت أسأل عن أجرة النزول فيه فإذا هي كبيرة، فتنبّهت حينئذ لنفسي، وطلبت كشفاً بحسابي لأعرف ما يُطلب مني، فإذا هم حسبوا أجرة الغرفة من يوم حجزَها لي الأستاذ الصواف، وإذا المبلغ الذي اجتمع عليّ كبير ربما ثَقُل عليّ دفعه! وتحدّثت بذلك مع إخواننا من نزلاء الفندق وسألتهم: كم يدفعون؟ فعجبوا من سؤالي، ولمّا عرفت سرّ عجبهم كان عجبي أكثر، ذلك أنهم كانوا جميعاً ضيوفاً على الحكومة، لذلك تعجّبوا أن أنزل على حسابي.
ويبدو أنهم بحثوا الأمر بينهم وذهب الأستاذ الصواف فتكلم فيه، فجاءني رجل يقرع عليّ باب الغرفة يقول إنه أحمد السوّاق. ولم أكن أعرفه ولا طلبت سوّاقاً، فسألته ما الذي جاء به، فقال إن الحكومة بعثت به إليّ وجعلت هذه السيارة تحت أمري يسوقها بي إلى حيث أريد، لأنني دخلت في زمرة الضيوف.
فسألتُ الشيخ الصواف عن هذا، فقال إنه كلّم أولياء الأمر فاعتذروا وألحقوني بضيوف الحكومة. فطلبت منه أن أشكر الذي استضافني، فأخذني إلى أمير مكة، وكان سموّ الأمير عبد الله ابن الملك سعود رحمه الله.
ووجدت هذا السائق من الطارئين على البلد ليس من أهله، وهو ذكي من أذكى مَن عرفت مِن الناس كذّاب من أكذب مَن عرفت من الناس، يكذب الكذبة ويُلبِسها ثوباً جميلاً ويجعل لها قصة يشوقك سماعها، يزيّنها لك بحلاوة لسانه حتى لَتحسب باطلها حقاً! ولم أكن أحتاج إليه ولا أعرف في مكة مكاناً أذهب إليه بالسيارة، فطلبت أن يُعفوني منها، ولكن كرمهم أبى إلاّ أن يُبقوها لي، فقلت له: أنا لا أحتاج منك إلى شيء فاذهب حيث شئت. فصار يذهب فيُركب الناس بالأجرة في سيارة الحكومة، وهي محسوبة عليّ ولا أدري.
وما وجدت أكذب منه إلاّ نادل (خادم) الفندق. وهو رجل من بلاد النوبة خفيف الروح ضاحك الوجه، يستلّ منك غضبك استلالاً، مهما تأمره يقُل لك: حاضر. يقول: دقيقة واحدة، وتمرّ الدقيقة والساعة بعدها ويمرّ اليوم ولا يُحضِر لك ما طلبتَ. وتارة
يقول لك: اعتبر المسألة منتهية. وتنتهي حقاً، ولكن كما تنتهي حياة الأحياء بالموت!
وأنا أفضّل مَن يقول «لا» صادقاً على من يقول «نعم» ثم لا يصنع شيئاً.
وقد قلت لإخواني: إن محمداً هذا (أعني النادل) يقول لكم «حاضر» قبل أن يفهم المُراد منه، وسأثبت لكم ذلك. فدعوته وقلت: يامحمد. قال: حاضر. قلت: هات لنا فيلاً بخرطوم طويل. قال: حاضر، دقيقة واحدة. فقلت له: ما هو الحاضر وما الذي طلبته منك؟ فوقف ولم يدرِ بماذا يجيب. قلت: ما الذي طلبته منك؟ فتبيّن أنه لم يفهم المطلوب ولم يحاول أن يفهمه. قلت: يامحمد، المطلوب فيل بخرطوم طويل. فعدّها نكتة وضحك منها، وقال كلاماً أرغمني على الضحك فضاع عتبي عليه في وسط ضحكي منه.
* * *
مشى على ألسنة الخطباء وأقلام الكتاب أن الحجّ مؤتمر إسلامي، وما هو بالمؤتمر ولا حاله كحال المؤتمرات التي يجتمع فيها الناس لموضوع معين يتكلمون فيه، يُبدون فيه آراءهم ويعرضون فيه ما عندهم ويخرجون بمقرَّرات يقرّرونها.
وليس الحجّ كذلك؛ إن الحجّ عبادة قد حدّد الشارع أركانها وواجباتها وزمانها ومكانها، ولكنه قد يشبه المؤتمرات في الاجتماعات التي تكون فيه، ولا سيما في أيام التشريق، وهي أيام أكل وشرب؛ لا أننا نأكل فيها ونشرب من الصباح إلى المساء
بل أننا أنهينا فيها أعمال الحج وجئنا يرى كلٌّ إخوانه، يسأل عن أحوالهم في بلادهم وعما يشكون منه فيساعدهم، وعما يحتاجون إليه مما يقدر هو عليه فيقدّمه إليهم. أليس المؤمنون إخوة بقرار من ربّ الأرباب أنزله في الكتاب وهو باقٍ إلى يوم الحساب: إنما المؤمنونَ إخوةٌ؟ ألا يتعهّد المؤمن أخاه فيعرف أحواله؟
ولقد اجتمعت في حجّتي هذه التي أتكلم عنها بطائفة من الأفاضل ربما ركّزت ذهني يوماً وكتبت عنهم، كالشيخ ابن بليهد، وهو من أوسع مَن عرفت من المشايخ أفقاً وأكثرهم اطّلاعاً، فكانت لي معه جلسات استفدت منها واستمتعت بها.
وكنا لا نعرف عن السنغال إلاّ الجنود الذين ساقهم الفرنسيون لحربنا والإيقاع بنا، والذين طالما شكونا منهم ومن قوّتهم وقسوتهم. فلقيت في الفندق في المدينة أستاذاً سنغالياً متخرجاً في السربون، يحمل شهادة من كلية فرنسا (كوليج دي فرانس)، وهي أعلى معهد ثقافي في فرنسا. فعجبت منه وشكوت إليه ما كنا نلقى من هؤلاء الجنود، فأفهمَنا أنهم مسلمون، ولكن الفرنسيين أوهموهم أنهم يقاتلون في سوريا أمّة كافرة مشركة تحارب الإسلام!
فتبيّن لي أن هذا من نتائج فُرقتنا نحن المسلمين وأننا لا نتعارف وأننا لا نلتقي.
ولقد حججت بعدها مرات، ولكل حِجّة قصة، ثم لم أحجّ بعد ذلك.
بل أنا أدعو المقيمين هنا إلى أن يفعلوا مثلي وأن يدَعوا المكان لغيرهم، فأماكن الحجّ محدودة. أرأيتم لو أن مطعماً فيه
عشرون كرسياً والجائعون مئتان، أكان يحسن بك بعد أن أكلت وشبعت أن تشغل الكرسي فتأكل مرة ثانية طعاماً لا تحتاج إليه، وإخوانك الجائعون قائمون ينتظرون؟
أنا أعلم أن للحجّ ثواباً كبيراً، ولكن الفريضة مرة واحدة في العمر والباقي نافلة، والنوافل يُغني بعضُها عن بعض.
ولقد ضربت مرة مثلاً بالفرائض والنوافل برجل استأجر داراً في المصيف، لها حديقة واسعة فيها الأشجار وفيها الأوراد والأزهار والسواقي تجري من تحتها، ومن ورائها جبل موحش فيه الحشرات وفيه الوحوش، ولها أبواب على الحديقة وأبواب على الجبل، أمّا أبواب الحديقة فإن واحداً منها إن فتحته يُغني عن باقيها، وأمّا أبواب الجبل فعليك أن تسدّها كلها لأن الباب الواحد منها يُدخِل عليك ما تخشاه.
فالفرائض لا بد من القيام بها كلها والمحرَّمات لا بدّ من تركها كلها، وأمّا النوافل فهي أبواب شارعة إلى الجنة، فمن ترك حجّة النفل ونوى بذلك فتح المجال لغيره من المسلمين ممن لم يحجّ حجّة الفرض، وتَصدّق بالمال الذي أعدّه للحج أو أتى غير ذلك من النوافل الكبيرة، كان له فيه غنى.
ولقد كتبت مرة كتاباً عن عبد الله بن المبارك صدر في سلسلة كان عنوانها من أعلام الإسلام (1). وابن المبارك من الذين جمع الله لهم العلم والمال، فكان من كبار العلماء وكان من كبار
(1) اسم السلسلة هو «أعلام التاريخ» وليس «أعلام الإسلام» ، وقد سبقت الإشارة إليها (مجاهد).
الموسرين، وكان يحجّ سنة ويغزو سنة، ومن قرأ رسالتي عنه وجد له من البطولات في الحرب مثلَ ما يجد له من الطاعات في الحج.
نزل في إحدى حجّاته منزلاً مع إخوانه الذين كانوا يحجّون معه وعلى نفقته، لا يرزؤهم شيئاً من أموالهم، فطلب الطعام فجاؤوه بدجاجة وجدها ميتة، فألقاها على مزبلة قريبة من المكان الذي نزلوا فيه. فلما جُنّ الليل رأى شاباً يقوم إليها فيأخذها، وشعر به فاستدعاه فسأله، فتبيّن أن له أختاً وأنهما لا يجدان ما يأكلان، فهما يأخذان مثل هذه الدجاجة ليأكلاها لأن حاجتهما واضطرارَهما أحلّ لهما الميتة. لمّا رأى ذلك (وهذا هو الشاهد في القصة) دعا وكيلَه فقال له: استبقِ من نفقات حجنا هذا العام ما يكفي للرجوع إلى بلدنا، وكانت بلده في خراسان أي عند بلاد الأفغان، وأعطِ الباقي لهذا الشاب وأخته فإن ذلك أفضل من حجّنا.
ولو حج كلَّ سنة مَن في مكة جميعاً من أهلها ومن النازلين فيها لملؤوا المشاعر ولم يدَعوا مكاناً لغيرهم. وأنا أسألكم ياأيها القراء: كم نسبة مَن يجب الحج عليهم من المسلمين في المئة؟ لو قلتم بأن خمسة في المئة من المسلمين لم يحجوا ويجب عليهم الحج لكان مجموع ذلك خمسين مليوناً، لأن المسلمين نحو ألف مليون. فتصوروا: لو أن خمسين مليوناً نزلوا في لندن أو نيويورك أو في القاهرة أو في مثلها من المدن الكبار لضاقت عنهم وعجزت عن احتمالهم، فكيف بمكة؟
لا تفهموا عني غير ما أريد، فأنا أعرف فضائل الحج وأعرف مزاياه، ولكن أدعو إلى ما هو أوفق لحكم الشرع وأظنه أنه أرضى لله، وأسأل الله أن يُلهِمني ويُلهِمكم ما يُرضيه.
* * *