المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌هذه الحلقة من الذكريات مسروقة - ذكريات - علي الطنطاوي - جـ ٨

[علي الطنطاوي]

فهرس الكتاب

- ‌الجزء الثامن

- ‌وداع المحكمة الشرعية

- ‌في محكمة النقض في القاهرة

- ‌أشتات من الذكريات

- ‌زياراتي القديمة لمكة

- ‌حجة 1381: خواطر وأفكار

- ‌أبو الحسن النَّدْوي ومذكّراته (1)

- ‌أبو الحسن النَّدْوي (2)

- ‌أبو الحسن الندوي (3)

- ‌في مطلع العام 1987

- ‌مؤتمر القمة الإسلامي

- ‌الفقيدان الوزير والمدير،ومن قبلهما فقدنا الأمير

- ‌تعليق على الحلقة السابقة: لبّيكَ اللهمّ لبّيكَ

- ‌كيف جئتُ المملكة

- ‌وقفة على المخيَّمات

- ‌منزلي في الرياض

- ‌لمّا كنت أستاذاً في الكلّيات والمعاهد

- ‌تفسير بعض الآيات

- ‌من المستشفى المركزي في الرياضإلى مستشفى المواساة في دمشق

- ‌في مكة سنة 1384ه

- ‌في كلية التربية في مكة

- ‌يوم الجلاء عن سوريا

- ‌لمّا علّمتُ البنات

- ‌خواطر ومشاهدات عن تعليم البنات

- ‌لغتكم يا أيها العرب (1)

- ‌لغتكم يا أيها العرب (2)

- ‌ذكريات العطلة الصيفية في دمشق (1)

- ‌ذكريات العطلة الصيفية في دمشق (2)

- ‌هذه الحلقة من الذكريات مسروقة

- ‌عندكم نابغون فتّشوا عنهم بين الطلاب

- ‌عزمتُ أن أطوي أوراقيوآوي إلى عزلة فكرية

- ‌رسائل الإصلاح وسيف الإسلامانتقدت الشيوخ الجامدينوالشبان الجاحدين

- ‌الخاتمة

الفصل: ‌هذه الحلقة من الذكريات مسروقة

-242 -

‌هذه الحلقة من الذكريات مسروقة

كان العزم أن يكون موضوع هذه الحلقة عن الاصطياف، ولكن هل يحتاج مَن يسكن دمشق إلى اصطياف ودمشق كلها مَصِيف؟ ولقد كان من إخواننا من كرام الأساتذة في المملكة وفي العراق مَن يؤمّ دمشق نفسها يقضي الصيف فيها، كان صيفها كالربيع في بلاد الناس، فما الذي بدّل حالها؟ أنا حين أسمع الآن في النشرة الجوية أن الحرارة في دمشق قد جاوزت الثلاثين أفرك أذني، أتبيّن هل سمعتا حقاً أم أسمعتاني ما لم يقُل المذيع؟ لقد بلغتُ هذا العمر وما عرفت في دمشق يوماً تصل حرارته إلى الثلاثين أو تقاربها.

ولعلّ دمشق التي أتكلم هنا عنها غير دمشق التي يراها الناس اليوم، إنما أعني دمشق طفولتي وصباي، فكيف أحدّ لكم حدودها وأعرض عليكم معالمها، وقد ذهب ذلك كله مع أمسِ الدابر وجاء بعده بلد جديد؟

إذا رأيتَ الرجل الكبير، وكنت تعرفه طفلاً صغيراً حلواً مبرّأ من العيب خالصاً من الشرّ، بعينيه الصافيتين اللتين تُشِعّان

ص: 357

بالإخلاص وتوحيان بالحب، وفمه الباسم الذي لا ينطق بالفحش ولا يعرف الكذب، وروحه التي تحسّ بها شفّافة تنشر الطهر كأنها قطعة ألماس ينبعث منها مئة شعاع من النور

هل تستطيع أن تُريني ذلك الطفل وأنا أبصر هذا الرجل؟ إنه منه ولكنه ليس إياه، إنه هو نفسه ولكنه غيره. أترونها أحجية من الأحاجي (أو هي حزّورة أو فزّورة كما يقول العوام)؟ إن الإنسان نفسه أحجيّة الوجود؛ «جرمٌ صغيرٌ وفيه انطوى العالَمُ الأكبرُ» ، واقف في مكانه وذهنه يتحرك يقطع ما بين المشرق والمغرب، بل ما بين الأزل والأبد، في أقلّ من ثانية. ضعيف ولكنه قوي، ضعفه محقّق وقوته تتحقق إن كان لها مدد من قوة الله، وإلاّ فهي قوة مزعومة لا تقوى على أهون ما خلق الله من دقائق الحيوانات التي لا تراها عين ولا تلمسها يد، ومنها ما لا يُرى حتى بالمجاهر الكهربية.

لا أقول إن دمشق التي فتحتُ عيني عليها وقضيت صباي فيها كانت خالية من الآثام معصومة من المعاصي، فالبشر بشر، ما كانوا قطّ ملائكة، ولو خلا ذلك من بلد لخلت البلدة التي مشى رسول الله ‘ على أرضها وعاش فيها ودُفن في ثراها، لخلَت مدينة رسول الله على عهد الرسول عليه الصلاة والسلام، ولو نجا من ذلك جماعة لكان الناجون صحابة رسول الله عليه الصلاة والسلام، الذين كانوا أنقى الجماعات البشرية وأتقاها وأطهرها وأفضلها، حاشى الأنبياء والرسل. ولقد وقع فيها حتى على عهد رسول الله ‘ شيء من المعاصي، من السرقة ومن الزنا، ولكنه قليل قليل حتى ليُعَدّ من النادر، والنادر -كما قيل- لا حكيم له.

وكان في دمشق شيء من اللهو الحرام نسمع به من بعيد

ص: 358

ولانراه، يقوم به غير المسلمات، فالمغنّيات اللواتي كانت تتسرّب إلينا أسماؤهن (بنات مكنو) كُنّ من اليهوديات، ومن أغراه الشيطان فطلب الفاحشة وجدها أكثر ما يجدها في حارة اليهود، فاليهود هم شِرار الناس والشرور مصدرها دائماً إبليس واليهود.

* * *

ولقد هممت قبل أن أتكلم عن الاصطياف في دمشق التي عرفتها وأنا صغير أن أجلو للقراء صورة منها ووصفاً لها، فوجدت مقالة منشورة من قديم، فأغراني الشيطان بأن أسرقها. وأحسب أنكم تذكرون حديثي في الرائي (التلفزيون) من سنين عن السرقات الأدبية قديمها وحديثها، الذي فصّلت فيه من أمرها ما لا أستطيع أن أعود إليه اليوم. وإن كانت السرقات مستمرّة باقية لا يكاد يسلم منها إلاّ قليل ممن عصم الله.

ولقد نشرَت الجرائد من عهد قريب أن أحد كبار رجال الدعوة إلى الله، وهو شابّ له على شبابه وحداثة سنّه منصب عالٍ في مجال الدعوة يكاد يكون أحد الرؤساء فيها، قالت الجريدة إنه سرق من «الظلال» فصلاً نسبه إلى نفسه وطبعه في رسالة نشرها باسمه. وعجبتُ وأنكرت الفعلة ولا سيما أنها جاءت من مثله، وكنت أرقب أن يعجب الناس وأن يُنكِروا هذا المنكَر، ولكن الخبر مرّ مرّ النسيم، لا يحرّك غصناً من شجرة ولا يُثير غباراً من قاع، فكأن الناس قرؤوه ولم يبالوا به.

وكتاب «في ظلال القرآن» طالما عدا عليه العادون وسرقوا منه فصولاً جعلوها رسائل وكتباً، وأرجو أن يكون ذلك زيادة في ثواب مؤلفه رحمه الله. ولي مع الشهيد السعيد سيد قطب

ص: 359

تاريخ طويل، فلقد رافقته في دار العلوم بالمنيرة في القاهرة سنة 1347هـ، وكنا في مقعد واحد. ثم نسيني ونسيته، وكانت معركة الرافعي والعقاد، فدخلت فيها وما أنا من أقطابها، فكنت مع العريان وشاكر عليه، فشتمني وشتمته. ثم كتب الله له الخير، والله يُعطي من يشاء بغير حساب، فسلك غير طريق النقد وتبرّأ من أكثر ما كان كتب فيه وصار من أركان الدعوة إلى الله، فأحببته من قلبي، وأظن أنه أحبّني، وطالما لقيته بعدُ ولقيَني ونُشرَت لنا صور وجمعتنا مجالس.

ولست أعيد هنا ما كنت قلت في السرقات الأدبية فإن القول فيها لا يزال ذا سعة: عمّن يريد أن يكون كاتباً وهو لا يزال طالباً، ومن يحب أن يغدو عالِماً وهو ما انفكّ متعلّماً، ومن يهوى (والهوى ليس هوى الغيد الحسان فقط، بل إن في الدنيا هوى المجد المبكّر والغنى المستعجَل والجاه الهيّن السريع، وكل هوى يُعمي ويُصِمّ) قلت: إن في الناس من يهوى أن يكون معروفاً قبل الأوان وأن «يتزبَّبَ قبل أن يَتَحَصْرَم» كما تقول العرب؛ وتفسيره أنه يريد أن يكون زبيباً قبل أن ينعقد حصرماً. نرى ذلك كله ونسمع من الإذاعات مثله؛ إننا نسمع من الإذاعة كل إحدى عشرة ساعة نشيداً يُذاع ستّ مرّات على أنه من نظم فلان ومن تلحين فلان، وما فلان الأول إلاّ مقلّد وما الثاني إلاّ سارق، وأصل النشيد لشيخنا الرافعي ومطلعه «بلادي بلادي فداكِ دمي» ، وهو الذي يقول فيه بيتاً أنكرتُه عليه ونشرت إنكاري، فما غضب منه بل أقرّه، وهذا البيت هو:

غرامُكِ أوّلُ ما في الفؤادِ

وذِكرُكِ آخِرُ ما في فمي

ص: 360

/فقلت له: بل آخر ما يتمنى المسلم في فمه ذكر الله وشهادة أن لا إله إلاّ الله، فاعترف بذلك رحمه الله ولم يُنكِره عليّ، بل شكره بلسانه لي، هذا وأنا أُقِرّ أنني تلميذ من تلاميذ الرافعي.

نشيد الرافعي هذا جاء مَن بدّل كلماته فقال (وأشهد أنه أحسن فيما قال): «بلادي بلادي منار الهدى» ، وجاء من أخذ اللحن نفسه وادّعاه له وزعم أنه هو الذي وضعه، مع أنني أحفظ هذا اللحن ويكاد يحفظه من المصريين من لست أحصيهم عدداً من قبل أن يولَد هذا الأخ الكريم الذي يدّعي أن اللحن من وضعه، فكان مثاله كمن يزعم أن قلعة أجياد هي دار جده، ورثها عنه أبوه وانتقلت بالإرث إليه من أبيه!

السرقات كثيرة، وطالما سرق كبار الكتاب وأنكر الناس عليهم سرقاتهم: العقّاد سرق فكرة من شوبِنْهاور وأفكاراً من غيره، والمازني سرق من قصة ترجمها هو للكاتب الروسي هاتزيباشيف، ومن لم يسرق اقتبس كما قبس الموسيقي محمد عبد الوهاب من موسيقى الإفرنج جملاً كثيرة لا يعرفها ويميزها إلاّ من له بصر بالموسيقى، حتى إنني لأظن أن أغنيته «ما احلاها عِيشة الفلاّح» مقتبَسة -ولو من بعيد- من الأغنية المشهورة:«على بلدِ المحبوب ودّيني» .

وأعجب سرقة وأخفاها هي كتاب «الأحكام السلطانية» . ومن يسرق كتاباً في النحو أو البلاغة أو الأدب لا يكاد يُكشف أمره لأنها علوم معروفة وطرق مسلوكة ومسالك مطروقة، أما كتاب الأحكام السلطانية فإن موضوعه مبتكَر، ما أُلّف فيه قبله ولا كُتب بعده -فيما أعلم أنا- إلاّ ما أُخذ منه. و «الأحكام السلطانية» كتابان

ص: 361

بين أيدي الناس، عنوانهما واحد وموضوعها واحد وترتيبها واحد وكل شيء فيهما واحد، إلاّ أن أحدهما يستشهد بأحكام الفقه الشافعي والآخر بأحكام من الفقه الحنبلي، ومؤلفاهما كانا يعيشان في عصر واحد وفي بلد واحد، وكلاهما كان قاضياً، وأحسب أنهما كانا في محكمة واحدة، وكلاهما عالِم كبير في مذهبه، هما: الماوَرْديّ الشافعي الملقَّب بأقضى القضاة، والقاضي أبويَعْلَى الذي إذا أُطلِقَ اسم القاضي عند الحنابلة انصرف إليه.

فمَن منهما الذي أخذ من الآخر؟ معضلة مرّت عليها القرون ولم يستطع أحدٌ أن يحكم فيها بدليل. ولكن الذي يميل القلب إليه أن المؤلّف الأصلي هو الماوَرْدي الشافعي لأن له كتباً أخرى تشبه هذا الكتاب، وأبو يعلى -على علوّ قدره في الفقه- ما في كتبه ما يشبه هذا الكتاب، لا في ترتيبه ولا في أسلوبه. هذا والله وحدَه هو العالِم بحقيقة ما كان.

* * *

أمّا المقالة التي سرقتُها فقد وجدتُها في الرسالة في عدد 8 جمادى الأولى سنة 1366هـ، أي قبل إحدى وأربعين سنة. على أن الذي أغراني بالسرقة ومهّد لي طريقها وأعانني عليها، ولولا الحياء لقلت إنه شريكي فيها، هو وزير عريق في الوزارة، فهل يمسك الشرطيُّ مَن يكون شريكه في صنيعه الوزير؟ إنه معالي الشيخ إبراهيم العنقري الذي أهدى إليّ من شهور أثمن هدية وصلت يوماً إلى يدي وأحبّ الهدايا إلى قلبي، وهي المجموعة الكاملة لمجلة «الرسالة» ، التي ردّت إليّ أياماً مضت من حياتي،

ص: 362

أعني أنها أعادت إليّ ذكراها، أما الأيام فلا يستطيع أن يُعيدها أحد. فكنت من فرحي بها أمسك مجلداً أقلّب فيه وأدعه فأمسك آخر، لا أملّ الرجوع إليها ولا النظر فيها، فوجدت مقالات لي عن دمشق كثيرة، دمشق التي أحبّتني حيناً كما أحببتها ثم أعرضَت عني وأولتني الصدّ بدل الودّ، وما عدلت أنا عن ودّها ولا جزيتها صداً بصدها، بل قلت ما قاله الشاعر القديم:

وإنّ الذي بيني وبينَ بني أبي

وبينَ بني عمّي لمُختلفٌ جدّا

فإنْ أكَلوا لحمي وَفَرْتُ لحومَهُمْ

وإنْ هدَموا مجدي بنَيتُ لهم مَجدا

وبعد، فهذه المقالة كنت ناسيها، فلما وجدتها أحسست كأني وجدت بها الشباب، أروي منها ما يتّسع له المقام (1):

دخلت مخزناً في القاهرة (وكنت تلك السنة مقيماً فيها) أشتري منه شيئاً، فسمع لهجتي الشامية شيخ كبير السنّ أبيض الشعر، كأن رأسه ولحيته -كما يقول العرب- الثَّغَامَة (وإن لم أرَ إلى الآن شجرتها ولم أعرف حقيقتها)، فالتفت إليّ وقال: أنت من دمشق؟ قلت: نعم. فسطع على وجهه نور وبرق في عينيه بريق، وبدت على جبينه ظلال ذكريات حلوة أحسستُ أنها مرّت في رأسه، وأخذ بيدي هاشّاً لي باشّاً في وجهي فأقعدني معه وقال لي:

أهلاً بك، أهلاً وسهلاً، تَشرّفنا ياولدي. فتعالَ، تعالَ

(1) مقالة «حديث عن دمشق» ، وهي في كتاب «مع الناس» (مجاهد).

ص: 363

حدّثني عن دمشق، فقد طال عنها ابتعادي وزاد إليها اشتياقي. حدّثني عن سهلها وجبلها، عن غوطتها وربوتها، عن الميزان: ألا يزال مثابة الطهر وموئل الجمال وجنّة الدنيا؟ ألا يزال السُّراة والتجار يصلّون الصبح كل يوم ويخرجون إليه، يقضون فيه حقّ النفس بالتأمل كما قضوا في المساجد حقّ الله بالصلاة، فيجمع الله لهم الجنتين ويعطيهم نعيم الدارَين؟ ألا يزال زاخراً بحِلَق الأحباب وجماعات الصحاب عاكفين على سَمَاوَرات الشاي، يشرفون على قَنَوات وباناس (من فروع بردى) وهما يخطران على العَدْوَة الدنيا من الربوة متعانقَين متخاصرَين فعل الحبيبين في غفلة الرقيب، يمشيان حالمَين خلال الورد والفلّ والياسمين كزوجين في شهر العسل، يظهران حيناً ثم تشوقهما الخلوة فيُلقيان عليهما حجاباً من زهر المشمش والرمّان، وعلى العَدْوَة القُصوى زوجان آخران حبيبان يمضيان يتناجيان: يزيد وتورا؟ وبردى، ألا يزال يدبّ في قرارة الوادي على عصاه، ينظر باسماً إلى بَنيه، ثم يلوي عن مشهدهم بصره وينطلق في طريقه لا يبالي، عاف الحب وملّ الغرام، وعلّمته تجارِب العمر أن كل ما في هذه الحياة باطل إلاّ ذكر الله والعمل للآخرة، كله لعب ولهو ومتاع زائل؟

وقاسيون، الجد العبقري الذي عاش عشرة ملايين سنة وماانفكّ شاباً، وشاخ ابن أخيه بردى ولم يشِخ. ألا يزال قاسيون قاعداً قعدة الملك الجبار، قد رفع رأسه ومدّ ذراعيه فأحاط بهما دمشق وغوطتَها من الرَّبْوَة إلى بَرْزَة، ووطأ لها ركبته فنامت المدينة عليها كما تنام الحبيبة إن أضناها النعاس على ركبة الحبيب؟ واحتمت الصالحية بصدره كما يحتمي الطفل الوليد بصدر الأم الرؤوم؟ والشمس، ألا تزال الشمس تضحك لبردى

ص: 364

وأبنائه، وتستحمّ أشعتها في مائه وتسبح أنوارها في سمائه؟

وصدر الباز ومصطبة الإمبراطور والصوفانية والشاذِرْوان؟ حدّثني عنها، حدّث عن دمشق: ألا يزال الناس يعيشون في دمشق للخير والجمال؟ حدّثني عن برَكة ديارها ووَفرة ثمارها وكثرة خيراتها ورخص أسعارها واستقامة جمهور تجّارها: ألا يزال التجار يخرجون من صلاة العصر فيغلقون دكاكينهم فيمضون إلى بيوتهم، إلى أولادهم وأهليهم، ثم يتعشّون قُبَيل المغرب ويؤمّون المساجد، فإذا صلّوا العشاء خرجوا فمنهم من عاد إلى داره ومنهم من ذهب إلى درس الشيخ، ومنهم من مشى إلى «الدَّوْر» ؟

قُل لي: ألا يزال «الدَّوْر» يَجمع الإخوان المتآلفين والأحبّة المتصافين، يسمرون كل ليلة في منزل واحد منهم، يقعد الرجل مع صاحب المنزل وإخوانه، والمرأةُ مع نسائه، يُنشِدون الأشعار ويسوقون النوادر ويروُون المضحكات، ويطالعون الكتب ويتجاذبون أطراف الحديث، ويأكلون ألوان الحلويات ويشربون الشاي، ثم ينصرفون إلى دورهم وقد استمتعوا أوفى ما يكون الاستمتاع وسُرّوا أكثر ما يكون السرور، وما غشوا قهوة ولا أمّوا ملهى ولا جالسوا غريباً ولا أتوا محرَّماً ولا أنفقوا في غير وجهه مالاً؟

ألا تزال منازل المشايخ في زقاق النقيب والقيمرية وأمثالهما معاهدَ إرشاد ومدارس علم ودارات ملوك؟ قُل لي: من بقي من تلك الأسر العلمية؟ آل حمزة وآل عابدين والعطّار والعاني والطنطاوي والطيبي والشطي والأسطواني والكزبري والعمادي والمحاسني والمنيني والخطيب؟ ألا يزال فيها العلماء الأعلام، أم تَنكّب الخَلَف طريقَ السّلَف، واستبدلوا الدنيا بالدين والمالَ

ص: 365

بالعلم والمنصب بالتقوى، والتزلفَ إلى الحكام بالقيام بواجب النصح للحكام؟

خبّرني عن العلماء: ألا يزالون أعزّة بالدين، يزهدون في الدنيا فتُقبِل عليهم الدنيا ويهربون من الولايات والمناصب فتلحقهم المناصب والولايات؟ ألا يزال الناس يعكفون في دمشق على العلم لا يريدون به إلاّ الله والدار الآخرة، يُثنون لذلك رُكَبهم ويُحيون فيه ليلهم ويَكِدّون نهارهم، ويقنعون في أيام الطلب بما يسدّ الرمق ويحمل الجسد ويستر العورة، لا يسألون عمّا غاب من ذلك أو حضر لأنهم فكّروا في غيره وأقبلوا على سواه، فكان العلم أملَهم وكانت المطالعة شغلهم وكان ثواب الله مبتغاهم؟ ألا يزال الناس سعداء راضين، قد انصرف العالِم لعلمه والتاجر لتجارته والطالب لدَرْسه والمرأة لبيتها، لا يشتغل أحد بغير شغله ولا يدخل فما لا يعنيه؟

فقلت للشيخ: منذ كم فارقتَ دمشق ياسيدي؟ فتنهّد وقال: منذ سنة 1897، فارقتها شاباً ولم أدخلها بعد ذلك أبداً.

فرحمتُ الشيخ من أن أفجعه في أحلى ذكرياته وأن أطمس في نفسه أجمل صور حياته، فتلطّفت وودّعته ولم أقُل له شيئاً. وماذا ترونني كنت أقول؟

* * *

قولوا أنتم ياأيها القراء، فقد عجزت عن الجواب سنة 1947، فبماذا تُجيبون سنة 1987؟

* * *

ص: 366