المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌تعليق على الحلقة السابقة: لبيك اللهم لبيك - ذكريات - علي الطنطاوي - جـ ٨

[علي الطنطاوي]

فهرس الكتاب

- ‌الجزء الثامن

- ‌وداع المحكمة الشرعية

- ‌في محكمة النقض في القاهرة

- ‌أشتات من الذكريات

- ‌زياراتي القديمة لمكة

- ‌حجة 1381: خواطر وأفكار

- ‌أبو الحسن النَّدْوي ومذكّراته (1)

- ‌أبو الحسن النَّدْوي (2)

- ‌أبو الحسن الندوي (3)

- ‌في مطلع العام 1987

- ‌مؤتمر القمة الإسلامي

- ‌الفقيدان الوزير والمدير،ومن قبلهما فقدنا الأمير

- ‌تعليق على الحلقة السابقة: لبّيكَ اللهمّ لبّيكَ

- ‌كيف جئتُ المملكة

- ‌وقفة على المخيَّمات

- ‌منزلي في الرياض

- ‌لمّا كنت أستاذاً في الكلّيات والمعاهد

- ‌تفسير بعض الآيات

- ‌من المستشفى المركزي في الرياضإلى مستشفى المواساة في دمشق

- ‌في مكة سنة 1384ه

- ‌في كلية التربية في مكة

- ‌يوم الجلاء عن سوريا

- ‌لمّا علّمتُ البنات

- ‌خواطر ومشاهدات عن تعليم البنات

- ‌لغتكم يا أيها العرب (1)

- ‌لغتكم يا أيها العرب (2)

- ‌ذكريات العطلة الصيفية في دمشق (1)

- ‌ذكريات العطلة الصيفية في دمشق (2)

- ‌هذه الحلقة من الذكريات مسروقة

- ‌عندكم نابغون فتّشوا عنهم بين الطلاب

- ‌عزمتُ أن أطوي أوراقيوآوي إلى عزلة فكرية

- ‌رسائل الإصلاح وسيف الإسلامانتقدت الشيوخ الجامدينوالشبان الجاحدين

- ‌الخاتمة

الفصل: ‌تعليق على الحلقة السابقة: لبيك اللهم لبيك

-226 -

‌تعليق على الحلقة السابقة: لبّيكَ اللهمّ لبّيكَ

حَسِب قوم ممن قرأ الحلقة السابقة من الذكريات أني أحدثت في التلبية حدَثاً أو ابتدعت فيها بدعة أو أنني استبدلت بالمأثور منها أمراً مخترَعاً، وأنا أعوذ بالله أن أكون مخالفاً سنّة أو داعياً إلى بدعة، ذلك أن صيغة التلبية لا يُعدَل عنها ولا يُستبدل بها لأنها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن كلامي كان عن اللهجة التي تؤدّى بها.

إن لهجة الكلام تكون أحياناً أبلغَ في الدلالة على مقصد المتكلم من معاني ألفاظه. إن كلمة «صباح الخير» مثلاً (وهي تحيّة أكثر الناس، وإن كان الأفضل في تحية أهل الإسلام إفشاء السلام) صباح الخير قد تكون شتيمة إذا ألقيتها على رفيقك وأنت مزموم الحاجبَين مضموم الشفتين غير ناظر إلى عينيه بعينيك، وقد خفضت بها صوتك وأطلت بعدها صمتك. وربما كان منها أجمل سلام أو كانت مناغاة غرام إذا قلتها وقد برقت عيناك وانبسطت شفتاك، وهززت معها رأسك هزّة المودّة ورقّقت بها صوتك. وربما كان معناها أني «لا أباليك ولا أشعر بوجودك» إذا قلتها كأنك تُلقي نشرة الأخبار تتحدّث عن الرياح والأمطار. والعفو من إخواننا المذيعين، فما أردت إلاّ ضرب الأمثال.

ص: 159

بل ربما نطقتَ بالشتيمة وأنت ضاحك السنّ مبتهج النفس، فيفهم منها رفيقك أنك تحبه وتودّه وترفع الحُجُب بينك وبينه وتخلطه بنفسك.

فهل تظنون أن الصحابة الكرام -حينما كانوا يلبّون- يلبّون بهذه اللهجة الرتيبة المتكرّرة الإيقاع، أم يلبّون من قلوب ملأها الإيمان؟ وللإيمان وَقْدة تبدو حرارتها على اللسان فتسري إلى السامع فتهزّه، كما تسري الكهرباء في جسد من يلمس سلكها فيصير مشحوناً بها، فمَن وضع يده عليه سرى تيّارها إليه.

هل تظنون أن الصحابي عندما كان يلبّي كان ذهنه في النغمات والإيقاع، يحاذر أن يخرج عليها أو أن ينشز عنها؟ هل سمعتم بأن الصحابة أو التابعين وأن أهل الصدر الأول كانوا يلبّون هذه التلبية الجماعية، يتقدّمهم واحد يقول فيُعيدون ما قال، كأنهم أطفال في مدرسة الحضانة يتعلمون حروف ألف باء؟ أم تحسبونهم كانوا يلبّون ليسمعهم الناس؟ كان كل واحد منهم يربط بالله قلبه ويخاطبه وحده، ينسى مَن معه، يسدّ الأبواب كلها من حوله فلا يبقى إلاّ باب واحد هو الذي فوقه، الباب الذي يظلّ مفتوحاً دائماً لا يُسَدّ أبداً: باب الله الذي فتحه للداعين وقال لهم: ادعوني أستجب لكم.

لذلك كان موقف عرفات منبع عزّة المؤمنين. إن القلوب كالمذاخر (1)، كلما ضعفَت فيها كهرباء الإيمان شحنَتها «عرفات» بطاقة جديدة منها فعادت كما كانت.

* * *

(1) المذاخر كلمة صحيحة وضعتها للبطاريات.

ص: 160

أترونني خرجت عن موضوع الذكريات؟ إذن فقولوا للجريدة تبدّل العنوان. أنا لا أريد أن أقتصر في ذكرياتي على رواية ما فعلت ولا ما رأيت وما سمعت، فإن فيما أستطرد إليه وأتكلم أحياناً فيه ما هو أنفع للقراء من ذكرياتي. أنا لا أتكلم الآن عن الحج فللحج وقت يحسن الكلام فيه، ولكنها مناسبة عرضت فأحببت أن أستفيد منها:

إذا هبّتْ رياحُكَ فاغتنمْها

سيأتي بعدَ هَبّتِها سُكونُ

وهذا الكلام ينفع اليوم كما ينفع وقت الحج. والتلبية أولاً والتكبير ثانياً هما شعار الحج، وهما يَحسُنان في كل حين. وصيغ الذكر كثيرة، ولكن الله جعل لكل مقام مقالاً ولكل عبادة ذكراً، فمن قرأ القرآن في الركوع والسجود كان مُسيئاً، وإن كان القرآن أفضل من التسبيح.

فلماذا لا نلبّي نداء ربنا في الحج وفي غير الحج؟ لماذا نلبي بألسنتنا ولا نلبي بقلوبنا؟ لماذا لا يظهر أثر تلبيتنا في سلوكنا وفي أعمالنا وفي كل مظاهر حياتنا؟ دعا محمد، صلّى الله على محمد، إلى ما فيه عزّ الدنيا ومجدها وسعادة الآخرة ونعيمها، فقامت قريش تمنع الناس أن يلبوا دعوة محمد ‘ وتؤذي من لبّى وتُذيقه العذاب ألواناً. وإن كان كل ما صنعت قريش من ألوان التعذيب لا يبلغ ما نراه أو نسمع به اليوم من الكفرة الملحدين الذين تَسلّطوا على بعض بلدان المسلمين. فأين قريش المشركة الآن؟ لقد صارت هي نفسها مع من لبّى دعوة محمد، لأن الله غالبٌ على أمره والباطل كان أبداً زهوقاً، وسيُزهِق الله باطل أعداء الإسلام

ص: 161

اليوم كما أزهقه بالأمس ويبقى الإسلام حتى تقوم الساعة.

إنه سيأتي على الناس زمان لو سألتَ ألفاً من أهله عن كارل ماركس وعن شارون وشامير لَما عرف واحدٌ منهم مَن ماركس ومن شارون وشامير. لا تعجبوا من هذا الكلام ولا تحسبوه أضغاث أحلام، فإن فيما مضى إشارة إلى ما سيأتي. ألم يكن القرامطة يوماً متسلطين على الناس يعيثون في الأرض فساداً؟ ألم يقتحموا الحرم على الحجاج فيذبحوهم مِن حول الكعبة ويأخذوا الحجر الأسود معهم، ولا يقوى أحد يومئذ على صدّهم؟ فمَن يعرف اليوم من هم القرامطة وما قصتهم؟ لقد محقهم الله من الأرض (وإن بقيَت بقيّة قليلة منهم تلبس غير ثيابها وتبدو للناس بغير جلدها). محقهم الله ومحا ذكرهم من الأذهان لمّا لبى المسلمون داعي الله وكسروا الأقفال عن قلوبهم، فتدبّروا القرآن ثم عملوا بما في القرآن.

وأنا ما جئت فيما ذكرته في الحلقة الماضية بشيء جديد، لأن كل جديد في الدين مردود، والدين كمل وما بعد الكمال إلاّ النقص. ولكني كنت أتحدث مع الأستاذ عبد الرحمن التونسي رحمة الله عليه عن الشام وعن العَراضات التي تخرج فيها في المناسبات، إذ يَقدُمُ القومَ واحدٌ منهم يُلقي عليهم قولاً يهتفون بعده بهتافات ألفوها وتعوّدوها، فيبعث ذلك الحماسة في نفوسهم ويوري نارَها في أعصابهم. فقال لي: لماذا لا تجعلون في التلبية من يصنع هذا؟ لا أن يعلّمهم كيف يلبّون، بل أن يبعث حرارة الإيمان في قلوبهم حتى يظهر أثرها على ألسنتهم. هنالك كان ما قلت لكم من أنني هتفت بإدارة الرائي (التلفزيون) في جدة وسألتهم: هل يسجّلون لنا هذه التلبية ثم يعرضونها على الناس؟

ص: 162

فقالوا: نعم. وسألنا من كان حولنا: هل يذهبون معنا؟ فذهب كثير من الطلاب وذهب بعض الأساتذة والمدرسين، وقال الأستاذ عبد الرحمن (وهو صادق فيما يقول) إنه لولا وعكة ألمّت به ذلك اليوم لذهب معنا، وسمع ذلك وكيل المدرسة الأستاذ أبو الخير فقال: أنا أذهب معكم.

ولست أحفظ ما قلته في ذلك اليوم ولست أدري في أي سنة كان، ولكنه كان قبل أكثر من عشر سنين، بل إني أظن أنه كان قبل أكثر من خمس عشرة سنة، الله أعلم فلست أدري، فأنا أذكر الحوادث القديمة في حياتي ولكنني لا أذكر الجديد. لأن القديم صادف قلباً خالياً وذهناً واعياً، وكانت أحداثه قليلة فاستقرّت وبقيت. فالآن حين وهن القلب وونى الذهن، وكثرت الأحداث وتشابهت عليّ الأيام، لم أعُد أستطيع أن أعي ولا أن أحفظ.

تشابهَت الأيام لأني لا أعمل عملاً موقوتاً كأعمال الموظفين، فعمل الموظف كمن يمشي على طريق معبَّد فيه الصُّوى (أي الإشارات)، يعرف منها أين بلغ وكم قطع. ومَن كان مثلي لا عمل له كان كالذي يمشي في الأرض البراح، لا جادة يتبعها ولا محطات يقف عليها.

والشريط الذي سجّل عليه الرائي هذه التلبية وبثّها وسمعها ورآها الناس، هذا الشريط ليس عندي. لم أجد عندي إلاّ جُزازات، قطع أوراق كنت كتبتها كالمذكرات لي بما أقوله، أمثّل عليها الآن ببعضها.

نقول جميعاً: "لبّيكَ اللهم لبّيكَ، لبّيكَ لا شريك لك، إن

ص: 163

الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك، لبّيكَ اللهم لبّيك". وأقول أنا مثلاً:"أمرتنا فأطعنا ونهيتنا فاجتنبنا"، أقولها وحدي وهم يرددون معي:"لا شريك لك". فنطلب منه، ولا رب غيره فندعوه:"إن الحمد والنعمة لك"، أنت المحمود بكل لسان وأنت المنعم على كل إنسان، أنت ملك الملوك وأنت الواحد القهار.

يا أيها الأخ المسلم، إذا ناداك أبوك قلت: لبّيك. وإن دعاك أستاذك أجبت: لبّيك. فهذا ربّ العالَمين يدعوكم إلى تصحيح توحيده فقولوا: لبّيكَ اللهم لبّيك (وهنا نلبي جميعاً). يدعوك إلى اتّباع شرعه، فقولوا لبّيكَ اللهم لبّيك (وهنا نلبي). يدعوك إلى الجهاد في سبيله: فقولوا: لبّيكَ اللهم لبّيك. هذا كلام ربكم في قلوبكم يقول لكم: جاهدوا في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم، فقولوا: لبّيكَ اللهم لبّيك. هذا صوت محمد يرنّ في أسماعكم يحثّكم على امتثال أمر ربكم، فقولوا: لبّيكَ اللهم لبّيك. يدعوكم لتنقذوا قبلته الأولى التي صلّى إليها، لتخلّصوا مسراه الذي سرى إليه، لتحرّروا معراجه الذي عرج منه. يدعوكم لتنصروا الله حتى ينصركم الله، فقولوا: لبّيكَ اللهم لبّيك.

اللهمّ إنك دعوتنا فجئنا نقول: "لبّيك اللهم لبّيك"، إننا وقفنا ببابك ننادي: لبّيك اللهم لبّيك"، قمنا في رحابك نصرخ: "لبّيك اللهم لبّيك، لبّيكَ لا نشكو إلاّ إليك، لبّيك لا نرجو الخير إلاّ من يديك، لبّيك توكّلنا عليك، لبّيك اللهمّ لبّيك، لا شريك لك. ما لنا إله غيرك، فهل تردّنا عن بابك وقد جئنا نقول: لبّيك اللهم لبّيك؟ لبّيك ربنا وتعاليت، لبّيك لك الحمد، لبّيك منك النعم، لبّيك ياواحد ياأحد يا فرد يا صمد.

ص: 164

هذا كتاب ربكم يناديكم أن تجاهدوا في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم، أن تستشعروا عزّة إيمانكم، فقد جعل الله العزّة المطلقة له جل جلاله وجعل العزّة في الدنيا لرسوله وللمؤمنين. فأين عزّة المؤمنين ومسرى نبيّهم في أيدي اليهود؟ وأين عزّة المؤمنين وقبلتُهم الأولى وحرمهم الثالث بيد اليهود؟ أين عزة المؤمنين يامن يتوجهون إلى الكعبة من كل أرض في الأرض ومِن تحت كل نجم في السماء؟ أين تلك العزّة -وأنتم تسعمئة مليون- إذا تركتم أقلّ الأمم وأذلّ الأمم تأخذ منكم أقدس بقاعكم بعد الحرمين الشريفَين؟ يامسلمون، مسجدكم الأقصى بيد اليهود لم يعُد المسجد الآمن الذي يجد فيه المسلم السلام، ولم يعُد ما حوله لنا ترفرف عليه رايتنا وتحكمه شريعتنا. فاذكروا وأنتم عند القبلة، القبلة الأولى، اذكروا الأقصى:

المرأةُ الشَّلاّءُ تحمي بيتَها

أنُبيحُ بيتَ الخالقِ المعبودِ؟

هوَ حِصنُ حقٍّ غابَ عنهُ حُماتُهُ

هُوَ قلعةٌ لكنْ بغَيرِ جنودِ

لا العطرُ والنَّدُّ المصفّى طِيبُهُ

لكنَّ ريّاهُ شذى البارودِ

يُصْلَى المُصلّي النارَ في جَنَباتِهِ

والمسلمونَ بِنَومةٍ وهُجودِ

أينامُ مَنْ تُقري المدافعُ سَمعَهُ

صوتاً يُزلزلُ قُنّة الجُلمودِ

أينامُ مَنْ يمشي اللهيبُ بدارِهِ

يَشوي حَميمُ لظاهُ رملَ البيدِ

وأنا لست بشاعر، ولكني أحياناً أرصف أبياتاً إن لم تكن شعراً فإنها تعبّر عن شعور. وقد ارتجلتُ هذه المقطوعة في الحفلة الكبرى التي أقيمَت لقضية فلسطين في كراتشي، وكان حاضرها الملك سعود والرئيس الباكستاني، فقلت لهما:

ص: 165

أيضيعُ بينَكما مصلّى أحمدٍ

ويَعودُ هيكلَ معبدٍ ليهودِ؟

وأكملتها بالأبيات التي رويتُها.

* * *

إن مَن يسمع صوت قطة في الشارع تموء من الألم لا يستطيع أن ينام، ومن يدقّ جاره بالمطرقة على جداره لا يستطيع أن ينام، فكيف ننام وأصوات المشرَّدين الهائمين من الأطفال والعجائز، من النساء والضعفاء، تملأ آذاننا، تخرج من شقوق الخيام التي مزّقتها الرياح ومرّت في جوانبها، وأثقلها الثلج الذي هبط عليها ولفّها الصقيع وجمّدها، في جبال الأفغان وفي المخيمات في لبنان؟

أتنامون على أصوات الاستغاثة من حلوق إخوانكم وأخواتكم، على أصوات المدافع والصواريخ يصبّها عليهم أعداؤهم وأعداؤكم؟ هل تستطيعون أن تأكلوا وتشربوا وتضحكوا وتمزحوا، وإخوانكم هناك في فلسطين (1) يذبّح أبناءهم اليهودُ ويؤذون نساءهم، ينسفون منازلهم، يهدمون معاقلهم، يسرقون أرضهم؟ كاللص يدخل عليك في الظلام دارك فيحتلّ جانباً منها فيدعوك إلى التفاوض. أفيفاوض ربّ الدار الحرامي؟ إذن فعلى العقل وعلى العدل السلام.

وإن قام من أولادك من يطلب بالحقّ أمسكوا به وأحالوه إلى

ص: 166

محاكمهم، إلى محاكم الحرامية، بتهمة مقاومة الاحتلال! ويلكم ما أصفق وجوهكم وأشدّ وقاحتكم! أفي الدنيا شعب احتُلّت بلاده ظلماً لا يقاوم الاحتلال؟ إن مقاومة الاحتلال فضيلة، بل هي فريضة، ولا تُعَدّ جريمة إلاّ في شريعة خنازير البشر إخوان «الشين»: شارون وشامير والشيطان الرجيم، الذين هم إخوانه وأعوانه لعنة الله عليه وعليهم.

كم من أمهات هناك ثاكلات وبنات مهتّكات، وبيوت مخرَّبات ودموع مسفوحات، وأعزّة كرام ذلّوا وأغنياء احتاجوا، شُرّدوا وسكنوا بعد القصور الخيام، وصاروا بعد البذل والعطاء محتاجين إلى القوت وإلى الغطاء. فإن لم تدافعوا عنهم بالسلاح ولم تبذلوا من أجلهم الأرواح فجودوا بالأموال، فإن الجود بالأموال نوع من الجهاد.

* * *

هذا وأمثاله ما كنت أقوله ذلك اليوم، وهذا ما أقوله اليوم. وهو كلام كان حقاً يوم قلته، وهو حقّ دائماً، سمعناه بالأمس وعلينا أن نسمعه اليوم وغداً، وإنْ سمعنا فعلينا أن نحقّق الذي سمعناه؛ أوجب ذلك علينا ربنا وجعله من دلائل إيماننا وأسباب نصرنا في دنيانا ونجاتنا في آخرتنا. إنه تذكرة لنا، فما لنا عن التذكرة معرضون؟

وكان مما قلت خلال التلبية التي كنا نؤدّيها (لا بهذه النغمة المكرَّرة المعادة الإيقاع، بل بمثل هتاف الجند في المعركة والضارعين إلى الله في المساجد، الذين يراقبون الله يدعونه

ص: 167

مخلصين واثقين من الإجابة): أين الرجال يامسلمون؟ أين الأبطال؟ أين أرباب الأموال يُمِدّونهم بأموالهم؟ أين أصحاب المقال ينصرونهم ببيانهم وأقوالهم؟ أين الشعراء وما لهم لا يرسلون القصائد التي تهزّ حبّات القلوب؟ ألا يعلمون أن من الشعر وأن من البيان وأن من الخطب ما يبعث الحياة في الصخر الصلد، وما يزلزل الجبال الرواسي، وما يُلهِب أمواج البحر، وما يصنع الأعاجيب وما يجعل من الأمة الواهنة الخاملة أمة تقحم الصعاب وتهجم على الموت؟ فكيف وهذه أمة محمد: البطولة في دمائها، والشجاعة إرث لها، والعزّة من ثمرات إيمانها؟ والنصر معها إن كانت مع الله، ومَن كان مع الله فلا يخشى كبيراً لأن الله أكبر من كل شيء.

أين الشعراء؟ هل شغلهم عن هذا الذي نريد عكوفهم على وصف الغيد، وهذا الخزي الجديد الذي سمّوه شعر «الحداثة» الذي لا يدفع إلى طريق المعالي ولا إلى ذرى المجد؟ إنه شعر «الحدث الأصغر» الذي يدفع إلى دخول الحمّام للاستبراء منه والاستنجاء! كان للجاحظ تعبير عجيب فيمَن أعمى الله بصيرته حين زُيّن له سوء عمله فرآه حسناً وراح يتمدّح به، كان يقول عنه:«إن هذا لا يجيء إلاّ بخذلانٍ من الله» .

أوَليس من الخذلان أن القطّ يستر بالتراب ما يخرج منه وهؤلاء يُظهِرونه ويفخرون به؟ أفلا يصحّ فيهم ما قال الجاحظ؟

* * *

أنا لا أتعجل الكلام عن الحج في غير وقت الحج، ولكني

ص: 168

أشرت في الحلقة الماضية إلى واقعة فهمها ناس على غير وجهها، فجئت الآن أبيّنها.

كان مما قلت لهم في ذلك اليوم أن أبا الأنبياء إبراهيم بوّأ اللهُ له مكان البيت وقال له: {وأذِّنْ في الناسِ بالحَجّ} ، فأذّن به فاستجاب له المؤمنون يلبّون:{يأتوكَ رجالاً وعلى كلِّ ضامِرٍ} ، يأتون من البرّ والبحر والجوّ، بكل رَكوبة سخّرها الله لهم ودلّهم عليها بالعقل الذي منّ به عليهم:{يأتينَ مِنْ كلِّ فَجٍّ عميقٍ} ، من الشرق والغرب، من الشمال والجنوب، من قلب إفريقيا ومن أقاصي آسيا ومن مدن أوربا، من المناطق الاستوائية التي تتلظّى حراً إلى البطاح الباردة التي تنام وتصحو على الجليد:{لِيشهَدوا مَنافِعَ لهمْ} . والإسلام كله منافع تُجلَب ومفاسد تُدرأ، وخير في الدنيا وخير في الآخرة، {ويَذكُروا اسمَ اللهِ في أيّامٍ مَعْلوماتٍ} ، وذكر الله هو غاية الغايات وهو مقصد الحياة.

المؤمنونَ قدِ استجابوا للنداء

نداءِ ربِّ العالَمينَ وأسرَعوا

سارَتْ رَكائبُهُمْ ضُحىً قد أحرَموا

والشوقُ يَحفِزُ والمدامعُ تدفَعُ

ومشَتْ قوافلُهُم حَدا الحادي بها

يُصغي لَهُ رَملُ الفلاةِ فيمرَعُ

جَدّوا المسيرَ وأعنقوا حتى بدا

لهُمُ وراءَ الأُفْقِ نورٌ يسطَعُ

فتيقّنوا أنْ قدْ رأَوا أرضَ الهُدى

ودنا الوصولُ فهلّلوا وتضرّعوا

وتجاوبَت تلكَ البِطاحُ بقولِهِمْ

لبّيكَ ربّي والبطائحُ خُشّعُ

لبّيكَ والدنيا تردّدُ قولَهُمْ:

لبّيكَ ربّي، أنصِتوا وتَسمّعوا

"لبّيك اللهم لبّيك"(وهنا نلبي جميعاً)، دعاكم إلى بابه أكرمُ الأكرمين فقولوا: لبّيك إننا مقبلون عليك، نقصد رحابك ونلزم

ص: 169

بابك، نرجو ثوابك ونخشى عقابك. لبّوا حتى يلبي معكم ثرى عرفات وجبالها، لبوا حتى تلبي معكم الأرض ومن عليها، لبوا حتى تلبي معكم السماوات السبع ومَن فيها. لا تقولوها تراعوا بها النغمات والإيقاع، لا تقولوها ليسمعها الناس، بل أخلوا قلوبكم مما سوى الله واحصروا أفكاركم في امتثال أمر الله، اربطوا به قلوبكم، ليلبِّ كل واحد منكم وحده بينه وبين ربه ولو اختلطت الأصوات، تصوروا أن الله يناديكم فأجيبوا ملبين:"لبّيك اللهم لبّيك"، نحن منك ومردّنا إليك، "لبّيك اللهم لبّيك" ولا اعتماد إلاّ عليك، لبّيك جئنا مسلمين لك مجاهدين في سبيلك.

«لبّيك» ، هذا هتافنا عند المواقيت، عند حدود دولة الحج، ننزع ثيابنا عن أجسادنا ونخلع عنا ما لا يُرضي ربنا، ونستجيب لربّ العالمين نقول:"لبّيك اللهم لبّيك". وعند أنصاب الحرم، الحرم دار السّلام إن عمّت الأرضَ الحربُ، دار الأمان إن شمَل الدنيا الخوفُ، الحرم حيث كل حي آمن، الناس والحيوان والنبات، ليس ها هنا حرب ولا قتال، الأشجار ها هنا لا تُقطع، الحيوان ها هنا لا يُصاد، الناس ها هنا آمنون، لا عدوان على أحد. لبّيك لبّيك لبّيك.

لبّيكَ ربّي قد أتيتُكَ تائباً

أيُرَدُّ محتاجٌ أتى يتضرّعُ؟

لبّيكَ جُدْ بالعفوِ عنّي ليسَ لي

أملٌ بغيرِ العفوِ منكَ ومطمعُ

لبّيكَ ربي، المسلمونَ تَفرّقوا

مَن ذا يوحّدُهمْ سواكَ ويجمَعُ؟

بَعُدوا عن الشّرعِ القويمِ فرُدَّهُمْ

ربّي إلى الشرعِ القويمِ ليرجِعوا

لبّيكَ يااللهُ والثقَلانِ والدنيا تلبّي

ص: 170

لبّيكَ ربَّ العالَمينَ وأنتَ يااللهُ ربّي

لبّيكَ صوتُ محمدٍ أبداً بآذاني وقلبي

يا مسلمونَ وأينَ أنتمْ

مِنْ هُدى الهادي محمّدْ؟

عودوا إلى النهجِ القويمِ

فإنَّ هذا العَودَ أحْمَدْ

عودوا يَعُدْ مجدُ الجدو

دِ ويومُ بدرٍ يتجدّد

وترَوا صلاحَ الدينِ عادَ

ويومُ حِطّينَ الممجَّدْ

محمدٌ نادى فلبّينا الندا

لم نستمعْ في الحقِّ أقوالَ العِدى

في شِرْعةِ الإسلامِ رُشدٌ وهُدى

وإنّ فيها عزَّنا طولَ المدى

إنّها شِرْعةُ ربِّ العالَمينْ

حينَ آخى بينَ كلّ المؤمنينْ

كلّ مَن صلّى إلى قِبلتِنا

كلّ مَنْ سارَ على شِرعتِنا

فهْوَ مِنّا وَهْوَ مِنْ إخوَتِنا

إن يختلفْ لسانُنا، أوْ تختلفْ ألوانُنا

أوْ تبتعدْ بُلدانُنا، فحسبُنا إسلامُنا

لبّيكَ قولوها أعيدوا (وهنا نلبي جميعاً)

لبّيكَ قولوها تسُودوا

لبّيكَ إنّا مؤمنونَ ومسلمونْ

لبّيكَ إنّا نحوَ بيتِكَ سائرونْ

لبّيكَ إنّا آيبونَ وتائبونْ

لبّيكَ إنّا عازمونَ على الجهادْ

لبّيكَ إنّا نحوَ بيتِكَ سائرونْ

لبّيكَ أمدِدْنا بنصرِكَ ياسميعُ ويا مُجيبْ

لبّيكَ حتّى نستردَّ القدسَ والبلدَ السليبْ

وترفَّ رايتُنا على يافا على القُطرِ الحبيبْ

لبّيكَ نصرَكَ إنّ مَنْ تنصُرْهُ يُنصَرْ

لبّيكَ إنْ كبُرَ الخصومُ فأنتَ يااللهُ أكبَرْ

ص: 171

لبّيكَ عُدنا للجهادِ أعِدْ لنا النصرَ الموفَّرْ

اللهُ أكبرُ، ما السجونُ وما السلاسل والقيودْ؟

اللهُ أكبرُ ما السيوفُ وما البنادقُ والجنودْ؟

اللهُ أكبرُ، مَنْ يكونُ حليفَهُ يخشى اليهودْ؟

سنعودُ للأقصى، إلى يافا ونابُلْسٍ نعودْ

وترِفُّ رايتُنا على حَيفا على أرضِ الجُدودْ

ونرى صلاحَ الدينِ عاد وجُدِّدَتْ تلكَ العهودْ

* * *

هذه هي الحلقة التي كنا سجّلناها وأشرتُ إليها في الحلقة الماضية. ما جئت ببدعة ولا دعوت إلى ترك سنّة، وإنما حاولت أن أبثّ في نفوس مَن حولي حماسة الإيمان وروح الجهاد. أمّا هذه الأبيات الموزونة فلا تسمّوها شعراً، وما أنا بشاعر، ولكنها جاءت على لساني فكتبتها كما جاءت.

* * *

ص: 172