الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
-235 -
يوم الجلاء عن سوريا
أشكر أخي الأستاذ الأكرم، فلقد كتب عن يوم الجلاء فذكّرني. وما كنت ناسياً، فما أنا بالذي ينسى يومَ الجلاء ولا يومُ الجلاء بالذي ينساه مثلي. والأستاذ أكرم شاميّ من نابلس، ولئن كانت زحلة -كما دعاها شوقي- جارة الوادي فنابلس جارة الجبل، جبل النار الذي طالما كتبت عنه لمّا كان مثابة الأبطال ومثوى الرجال (1).
ما نسيت، ولكن الليالي السود العوابس التي عشناها قبله وبعده حجبَت عنا هذا الفجر الباسم، الذي برق لنا ثم غاب عنا، فبكينا بعده على عهد كنا نبكي فيه على ما كان قبله.
قلّ مَن فرح بالجلاء مثل فرحي، لأنه قلّ مِن أرباب الأقلام في الشام مَن كتب عن الفرنسيين وعهدهم مثل كتابتي. وقد مرّ في هذه الذكريات شيء منها، وفي كتابي «دمشق» مقالات أخرى
(1) انظر قصة «جبل النار» في كتاب «قصص من الحياة» . أما الأستاذ أكرم فهو أكرم زعيتر، وكانت له في «الشرق الأوسط» مقالة أسبوعية يوم كانت هذه الذكريات تُنشر فيها (مجاهد).
عنها. أما مقالتي عن يوم الجلاء فهي في العدد 670 من «الرسالة» الذي صدر يوم 6 أيار (مايو) سنة 1946، رجعني إليه معالي الشيخ إبراهيم العنقري الذي تفضّل عليّ فأهدى إليّ مجموعة الرسالة كاملة، فله الشكر كاملاً.
ولا بأس عليّ أن أُعيد نشرها بعد إحدى وأربعين سنة لقرّاءٍ تسعون في كل مئة منهم ما عرفوها ولا قرؤوها، فهي عندهم جديدة.
ولكن الذين نظموا موكب الاحتفال ما تركوه خالصاً للوطن، بل أدخلوا فيه غرائزهم وشهوات نفوسهم، فظهرت الثمرة المسمومة للغرسة التي غرسها الفرنسيون في بلادنا. احتفلنا بجلاء جيوشهم عنا واستبقينا بعض رذائلهم فينا، وماذا يعوّضنا عن أعراضنا وشرف بناتنا إن نحن أضعناها وفرّطنا فيها؟ تلك هي المناظر التي أشار إليها الأستاذ أكرم ومرّ بها مرور الكرام فلم يعلن إنكارها، وأنا واثق أنه ينكرها وأنه يأباها لبناته ولنساء أسرته، وهُنّ أهل الصيانة والعفاف. أفيمكن أن يرضاها لبنات المسلمين ونسائهم؟
وأنا لا أُنكِرها الآن بعد إحدى وأربعين سنة، بل أنكرتها في حينها ونشرت ذلك في أكبر مجلة عربية هي «الرسالة» ، بعد أن نشرت في تمجيد يوم الجلاء مقالتي التي ستجدون فقرات منها بعد هذا الكلام. الجلاء نعمة من الله. والمسلم إن أنعم الله عليه شَكَرَ النعمة بطاعة المُنعِم، ونحن شكرناها يومئذ بمعصيته، فخالفنا بهذا الذي صنعناه أحكامَ ديننا وخلائق عروبتنا.
وكان مما قلت يومئذ في مقالتي التي أعقبَت الجلاء (1): شهدت بناتٍ في السادسة عشرة وما فوقها يمشين في العرض بادية أفخاذهن تكاد تأكلهن النظرات الفاسقة، وشهدت بنتاً جميلة زُيّنت بأبهى الحلل وأُلبست لباس عروس وركبت السيارة وسط الشباب، قالوا إنها «رمز الوحدة العربية» ! ولم يدرِ الذين رمزوا هذا الرمز أن العروبة إنما هي في تقديس الأعراض لا في امتهانها. ومشى الموكب أمام الناس وفيهم والد هذه البنت لا يستحيي ولا يخجل. وبنت أخرى قالوا إنها «رمز سوريا الأسيرة قد فُكّت قيودها» ، والشباب يُحيطون بها وهي تُبدي ما أمر الله بستره من أعضائها
…
وأمثال هذا الهذيان الذي لا معنى له إلاّ استغلال اليوم الوطني في هدم أركان الفضيلة وتمزيق حجابها، وأُخذت صور هذا كله فنُشرت في الجرائد وعُرضت في السينمات!
* * *
وهذه مقالة يوم الجلاء (2). كتبت بين يديها قوله تعالى: {ما ظَنَنتُمْ أنْ يَخرُجُوا، وظنّوا أنّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهم مِنَ اللهِ، فأتاهُمُ اللهُ مِنْ حَيثُ لم يَحْتَسبوا وقذَفَ في قُلوبِهِمُ الرُّعبَ، يُخرِبون بُيوتَهم بأيديهِمْ وأيدي المؤمنينَ، فاعْتَبروا ياأولي الأبْصارِ} .
(1) المقالة اسمها «إبراهيم هَنانو قال لي» ، وهي في كتاب «مع الناس». وقد سبق الحديث عن يوم الجلاء وما كان فيه من عدوان على الأخلاق وعُرضت مقتطفات من هذه المقالة في الحلقة 148 من هذه الذكريات وعنوانها:«دفاع عن الفضيلة» (مجاهد).
(2)
وهي في كتاب «دمشق» ، وقد نُشرت فيه باسم «الجلاء عن دمشق» (مجاهد).
ثم قلت: ماذا في دمشق؟ ففي كل ميدان فيها عرسٌ وفي كل حي فرحٌ وفي كل شارع مهرجان. ما هذه الزحمة وما هذه الوفود؟ الطرقات كلها مُترَعات بالناس ما فيها موطئ قدم، وحيثما سرتَ رأيت قباباً من الزهر وستائر من الحرير، وعلى دمشق سماء من صغار الأعلام، ومصابيح الكهرباء قد انتظمتها حبال طويلة فدارت بها ثم انعقدت على أشكال العقود والتيجان، فكانت منظراً عجباً إذا رأيتها في الليل «حسبتَ سماءً رُكِّبَتْ فيها» (1) فسطعَت كواكبها ولألأت نجومها، وإذا أبصرتَها في النهار ظننت الربيع قد عاد مرة ثانية، فكان في كل شارع روضة فتّانة وفي كل بناء عريشة ورد وفل وياسمين، وأغلى الطنافس مبسوطات على الجدران وأحلى الصور معلَّقات على الطنافس، والسيوف المذهَّبة والتحف الغالية، ما يضنّ الناس بقيّم ولا يبخلون بشيء.
(إلى أن قلت): لقد أُوقدَ الليلة في دمشق خمسمئة ألف مصباح ونُشر فيها ألفُ ألف علَم عُدّت عداً، ورُفع فيها مئة قبّة من النور يعدو تحت إحداها الفارس من سعتها، ووُضع في أرجائها مئة مذيع مكبّر، يخرج منه النداء والهتاف والخطاب فيُسمَع في أقصى الغوطة ويردّد صداه الصخرُ من قاسيون، ومشَت فيها خمسة آلاف عَراضة (2) وموكب، وأقيمت ألف دَبْكة (3).
(1) هذا الشطر للبحتري من قصيدته في وصف البِركة.
(2)
في هذا الموضع في كتاب «دمشق» حاشية قال جدّي فيها: والعَراضة موكب شعبي يتقدمه قَوّال يقول فيردد الناس مقالَه (مجاهد).
(3)
وهنا أيضاً وضع حاشية قال فيها: الدَّبْكة رقص قروي له أغانٍ خاصة، وأبرعُ الناس فيه أهل لبنان (مجاهد).
ففي كل مكان ازدحام وعلى كل ثغر ابتسام وفي كل قلب فرحة، وكل الناس مبتهج مسرور: الرجال والنساء والشيوخ والأطفال. والهتاف متّصل ما ينقطع، والنشيد دائب ما يسكت، والخطب والمحاضرات والزغاريد والأغاني، والصواريخ المضيئات تنفجر في الجوّ فتتساقط منها الأنوار أمطاراً، والجيش يحمل مشاعله ينشد ويزمر ويشارك الأمة في أفراحها. وما عهدنا هذا الجيش يشاركنا في فرح ولا ترح، ما عهدناه إلاّ عوناً للغاصب علينا ضاحكاً في مآتمنا عابساً في أفراحنا. يدور بالمشاعل في شوارع دمشق، يذكّر بالجيش الإسلامي لمّا حمل القرآنَ، مِشعَلَ النور الهادي فأضاء به الأرض وهدى أهلها. وعلى كل جبل من جبال دمشق نيران ضخمة أضرموها، كما أُضرمت من قبل نيران الفتح على جبال مكة إيذاناً بتطهير الكعبة وتهديم الأصنام وإجلاء الشرك عن البيت الحرام.
فماذا في دمشق؟ أيّ يوم هذا من أيامها، عظُمَت أيام دمشق وكبرت وجلّت؟ إلاّ أنه يوم الفرحة الكبرى، إنه اليوم الذي كان يتمنى كل شامي أن يراه ولا يبالي إذا رآه أن يموت من بعده؛ إنها الغاية التي سرنا إليها خمساً وعشرين سنة وتسعة أشهر، نطأ الحِراب ونخوض اللهَب، نمشي في الدم ونتخطى الجثث وننشق البارود. إنها الأمنيّة الكبرى التي كان يتمناها كل سوري وكل عربي وكل مسلم: إنه يوم الجلاء.
لقد جُنّت دمشق وحُقّ لها أن تُجَنّ، فلقد عاد الحبيب بعد طول الفراق، وآب المسافر بعدما امتدّ الغياب، وعانقَت الأم وحيدَها بعدما ظنّت أنْ لا لقاء، وتَحقّق ما كان يُرى مستحيلاً،
فخرج الفرنسيون من الشام وزال الانتداب.
إنه يوم الجلاء. فيا أيها الذين عادوا من مَيْسَلون بقلوب كسيرة، ونظروا إلى موكب الغاصب بعيون دامعة، وحملوا الظلم بأعصاب صابرة، وشاهدوا جبروت المحتلّ وطغيانه ووحشيته، والعرش الذي أقاموه على دماء قلوبهم وعزائم سواعدهم هوى، والبلاد التي بَرَأها (أي خلقها) الله واحدةً قُسّمت فجُعلت دولاً، والوطني المخلص نُفي أو سُجن أو حُكم عليه بالموت شنقاً، والخائن الملعون قد أُعطيَ الرُّتَب والذهب.
ويا أيها الذين خرجوا على الظلم وعرّضوا أرواحهم للموت، على شعفات الصخر من جبال اللاذقية إلى جبل العرب، وعلى السهول الفِيح من أعالي حلب إلى أداني حمص، وعلى ثرى الجنّات من أرض الغوطة، لم يخشوا فرنسا حين كانت تخشاها الدول ويرهب بأسها الأقوياء.
ويا أيها الذين نشؤوا في عهد الانتداب فرأوا في كل مدرسة مستشاراً فرنسياً هو الآمر الناهي، والمدير (أي الناظر) تمثال، وفي كل وزارة مستشاراً هو الفاعل التارك والوزير صنم، وفي كل منطقة مستشاراً هو الحاكم وهو المنفّذ وهو الأمير، وفي وسط المدن مراكز للعدوّ وعلى الجبال قلاعاً له قد وجّهت مدافعها إلى البلد لتضرب أبناءه إذا طالبوا بحقّ أو أبوا ظلماً، لا إلى الفضاء لتردّ عنه الأعداء. ويا أيها الشهداء الذين قضوا بنيران العدوّ الباغي في سبيل الله ثم في سبيل الحرية، وهل تسمع أرواحُكم دعائي ياأيها الشهداء؟ ويا معشر العرب في كل قاصٍ من الأرض ودانٍ: إننا نحمد الله إليكم، تبارك اسمه وجلّ جلاله، فلقد أكمل نعمته وأتمّ
منّته وأخرج الفرنسيين وجندهم من الشام، لم يُبقِ منهم أحداً.
اذهبوا الآن إلى المزّة وادخلوا القلعة وأُمّوا (أي اقصدوا) الثكنة الحميدية، فإنه لا يمنعكم حارس وجهه يقطع الرزق ولا يردّكم ضابط فرنسي ولا تحجزكم سلك (1) ذات أشواك، وسيروا في طريق الصالحية فادخلوا قصر المفوَّض السامي الذي كان يتنزّل منه وحي الضلال على قلوب الخوَنة المارقين من طلاب الحُكم وعُشّاق الكراسي، فيكونون لربه عبيداً أذلّة وعلى أبناء بلدهم عتاة فَراعين مستكبرين، ولِجُوا قصرَ المندوب الذي كان ينصبّ منه بالأمس الموتُ الزؤام على من يدنو من حِماه، واسرحوا وامرحوا حيث شئتم، فالبلاد بلادكم.
(إلى أن قلت): اليوم يوم الجلاء. اليوم يبكي رجال «منا» كانوا يأكلون الطيّبات وينامون على ريش النعام من بيع ضمائرهم للأجنبي، على حين كان الناس ينامون على التراب ويأكلون الخبز اليابس. اليوم يبكي رجال حملتهم الخيانة فوضعتهم على مقاعد العزّ في أبهاء الحكومة فصاروا من كبار الموظفين. اليوم يبكي رجال كانت لهم في سجلاّت الاستخبارات أسماء فصاروا اليوم أيتاماً كالأَجْراء (جمع جرو) في المزبلة بعدما مات الكلب.
ولكن الشعب كله يضحك اليوم، وتضحك معه الدنيا. اليوم يضحك البلد بالزينات والأعلام، ويضحك بالليل بالأضواء والمشاعل، وتضحك المنائر بالتكبير، وتضحك الأرض والسماء. اليوم يرى الشاميّون الفرحة الكبرى التي تنقش ذكراها على قلوب
(1) السلك جمع سِلْكة، وجمع الجمع أسلاك.
الأطفال والشباب فلا تُمحى أبداً، وتكون لقلوب الكهول والشيوخ شباباً جديداً، كما كانت الفجيعة في ميسلون شيخوخة مبكّرة لهذه القلوب التي شابت من الهول قبل الأوان.
لقد نامت دمشقُ البارحةَ ملء جفونها بعدما صرّمَتْ تسعةَ آلاف وثلاثَمئة وسبعاً وتسعين ليلة (1) وهي تنام مفزَّعة الفؤاد مقسَّمة اللبّ، تخشى أن تُصيبها من الفرنسيين بادرة طيش أو نوبة لؤم تذهب بدار عامرة أو تضيع حقاً ظاهراً أو تريق دماً بريئاً. وأغفت تحلم بالمجد والحرّية، وقد مرّت عليها تلك الآلاف من الليالي لا تحلم فيها إلاّ بتهاويل الظلم والموت والخراب. وتأنس بطيوب الأحبّة من جند العرب في نجد والحجاز ومصر والعراق، وقد زهَت بهم دمشق أن قدموها ضيوفاً كراماً، بل إخواناً وأصحاب البلد.
لقد نامت دمشق البارحة وهي تودّع عهد الانتداب، عهد الجهاد والعذاب، لتستقبل عهد الحرية، عهد البناء. ونهضت دمشق تسبق الفجر الطالع تؤمّ الشوارع التي يعرض فيها جيش الحرّية، فما طلعت الشمس وفي النوافذ والشرفات وعلى ظهور العمارات، في شارع فاروق وفؤاد والجامعة السورية والسّنْجَقْدار وميدان المرجة وضفاف النهر وفوق قباب التكية السليمانية وعلى أشجار المسالك وفي كل مكان يُشرِف على الطريق، ما طلعت الشمس وفي ذلك كله شبر واحد خالٍ من رِجل إنسان قد قام
(1) من يوم الاحتلال، 25 تموز (يوليو) سنة 1920 إلى يوم الجلاء 17 نيسان (إبريل) سنة 1946.
لينظر ويتطلّع، وأُجّر المقعد الواحد بعشر ليرات (1) ومكان الوقوف بليرتين، فكان هذا المنظر أحد الأعاجيب.
(إلى أن قلت): لقد ضاع حلمك ياغورو وتبدّد، وخابت أمانيك ياديغول، وحقّق الله الأمنيّة التي كان يجيش بها صدر يوسف العظمة شهيد ميسلون. وسيحقّق أماني سعد في مصر ورشيد في العراق وعبد الكريم في المغرب وعمر المختار في لوبيا (ليبيا) وعبد القادر في الجزائر وجناح في الهند. ولِمَ لا؟ وأهل سوريا التي نعمت بالجلاء لا يزيدون إلاّ قليلاً عن سكان القاهرة اليوم، والعرب كلهم بدولهم وحكوماتهم أقلّ من مسلمي الهند؟ (2)
فتيهي يادمشق واعتزّي، فلقد كنت عاصمة العرب في أول الدهر حين أُنشئَ فيك المُلك الضخم وأقيمت الدولة العظمى، ورسا عرش عبد شمس على ثراك فطالت -بالإسلام- فروعُه النجمَ وأظلّت المشرق والمغرب وطلع على الدنيا مجداً ورخاء وأمناً، وعُدتِ اليوم عاصمة العرب حين كنتِ أول بلد عربي خلص لأهله بعد الاحتلال، فلا يشاركهم فيه جيش حليف ولا منتدب ولا وصيّ ولا مستعمر.
يا دمشق، لقد عادت أيام معاوية وعبد الملك والوليد، لقد اتصل التاريخ الذي كان انقطع منذ قرون.
(إلى أن قلت، والمقالة طويلة): في عمر الإنسان ساعات
(1) لمّا كان مرتَّب القاضي سبعين ليرة في الشهر.
(2)
وقد حقّق الله ذلك كله الآن.
هي العمر، تفنى الليالي وتنقضي الأعمار وتخلد هذه الساعات ذكرى في قلوب البنين. وفي تاريخ الأمم أيام هي التاريخ، تمرّ السنون متحدّرة في درك الماضي مسرعة إلى هوّة النسيان، وتبقى هذه الأيام جديدة لا تبلى، دانية لا تنأى، مشرقة لا تغيب.
وللإنسانية أيام هي ركن الإنسانية، لولاها ما قام لها بنيان ولا ثبت لها وجود، أيام قد عمّت بركاتها وشملت خيراتها البشرَ جميعاً، أيام هي ينابيع الخير والحقّ والعدل في بَيداء الزمان، وهي المَفْخَرة لأمة أرادت الفَخار، وما أكثر هذه الأيام الغُرّ في تاريخنا.
تلك الأيام التي أفضلنا فيها على العالَم كله وسمونا به إلى ذُرى الحضارة: يوم الهجرة، ويوم بدر والقادسية واليرموك ونهاوند، وأيام قتيبة وابن القاسم في المشرق وعقبة وطارق في المغرب ومحمد الفاتح في الشمال، ويوم عين جالوت وحطين، واليوم الأغرّ الذي أعاد لنا يوم حطين وكان فجرَ نهار جديد للعرب، بل للمسلمين أجمعين، هو يوم الجلاء.
(إلى أن قلت): وقد زعم العُداة أننا فرحنا هذا الفرح لأننا أُعطينا ما لم نكن نحلم به، كالفقير المسكين الذي يطلب فلساً فيُمنَح ديناراً. كلاّ، إننا لم نأخذ إلاّ الأقلّ من حقّنا؛ إن الجلاء ليس عجباً وإنما العجب العُجاب أن يكون في ديار الإسلام احتلال، العجب أن لا نحكم نحن الأرضَ وقد خُلقنا من أصلاب مَن حكموها وورثنا القرآن الذي به دانت لهم الرقاب.
وزعموا أن هذا الجلاء قد أتى عفواً بلا تعب وأننا لم نُوجِف عليه بِخَيل ولا رِكاب، ولولا أنها أتت به مصلحة الإنكليز ما
جاء. وكذب هؤلاء الزاعمون ولَؤُموا، أو فليخبروني: أجاهدت أمة -على ضعفها وقلّة عددها وعلى كثرة عدوّها وقوّته- مثلما جاهدنا؟ إن في مصر العزيزة تسعة عشر مليوناً (بتعداد تلك الأيام) وفي أندونيسيا ثمانين وفي الهند مئة وعشرين من المسلمين (قبل إنشاء باكستان)، ونحن لا نُعَدّ كلنا، بَدْوُنا وحضرنا رجالنا ونساؤنا، أكثر من ثلاثة ملايين (الكلام قبل أربعين سنة)، وقد ابتُلينا بفرنسا ذات الطيش والحمق والعدد والآفات.
فسلوا الفرنسيين: هل أرحناهم يوماً واحداً من يوم ميسلون إلى يوم الجلاء؟ أما ثرنا على فرنسا وكسرنا جيوشها في خمس مواقع؟ سلوا الجنرال ميشو القائد الذي حارب الألمان عند المارْن: أما أباد حملتَه مجاهدون منا ما تَعلّموا في مدرسة حربية ولا درسوا فنون القتال، وغنمنا عتادها كلها فلم يعُد من الحملة بعد معركة المزرعة إلاّ مئتان وخمسون جندياً فقط؟ سلوا الغوطة عن معارك الزور وعمّا صنع حسن الخراط. سلوا النَّبْك وجبالها، وحماة وسهولها، وجنرالات الفرنسيين عن بطولة مجاهدينا، إن لم أعدّهم اليوم فما يجهلهم أحد.
أما ضرب الفرنسيون دمشق، أقدم مدن الأرض العامرة، بالقنابل مرتين في عشرين سنة؟ أما أحرقوا حيّ الميدان وهو ثلث دمشق ودمّروه، فلم ينهض من كبوته إلى اليوم (أي إلى يوم كتابة المقال)؟ أما أضرموا النار في جَرْمانة والمَنيحة (المَليحة) وزبدين وداريّا وقرى أخرى لا يُحصيها من كثرتها العدّ؟
بل سلوا شوارع دمشق ومسالكها وساحاتها عن إضراباتها
ومعاركها ومظاهراتها، أما لبثَت في مطلع سنة 1936 خمسين يوماً مُضربة لا تجد فيها حانوتاً واحداً مفتوحاً، مقفرة أسواقها كأنها موسكو حين دخلها نابليون؟ فتعطّلَت تجارة التاجر وصناعة الصانع، وعاش هذا الشعب على الخبز القفار، يطوي ليلَه مَن لم يجد الخبز ويبيت بلا طعام، ثم لم يرتفع صوت واحد بشكوى، بل كانوا جميعاً: من العالِم إلى الجاهل ومن الكبير إلى الصغير، راضين مبتهجين، يمشون ورؤوسهم مرفوعة وجباههم عالية، ولم نسمع أن دكاناً من هذه الدكاكين قد مُسّ أو اعتدي عليه أحد، ولم يُسمع أن لصاً قد مدّ يده خلال هذه الأيام إلى مال، وقد كانت الأسواق كلها مطفأة الأنوار ليس عليها حارس ولا خفير.
فهل قرأ أحد أو سمع أن بلداً في الدنيا في أوربا أو أميركا أو في المرّيخ، يسير فيه اللصوص جياعاً والمال معروض أمامهم فلا يمدّون إليه أيديهم حرمة للنضال؟ لقد بقي الأولاد في المعسكر العامّ في الجامع الأموي أياماً طوالاً يرقبون وينظرون، فإذا فتح تاجرٌ محلّه ذهبوا فأغلقوه. ففتح حلواني، حلواني مشهور، فذهب بعض الأولاد فحملوا بضاعته، صدور الكنافة والبقلاوة، إلى المسجد. وتشاوروا بينهم: ماذا يفعلون بها؟ فقال قائل منهم: نأكلها عقاباً له. فصاحوا به: اخرس ويلك، هل نحن لصوص؟ ثم أرجعوها إليه بعد دقائق وما فيهم إلاّ جائع يشتهي قطعة منها.
فهل قرأتم أو سمعتم أن صبيان باريس ولندن ونيويورك فعلوا مثله؟ وقد عمد الفرنسيون آخر أيام الإضراب إلى فتح المخازن قسراً، فكان أصحابها يدَعونها مفتوحة ولا يقتربون منها وفيها أموالهم التي تعدل أرواحهم، فلا يمدّ أحد يده إليها.
والتبرعات. ألم يكن الناس يعطونها من غير أن يطلبها منهم أحد؟ ألم يكونوا يتسابقون إلى دفعها؟ ألم يرفض كثير من الفقراء أخذ الإعانات وقالوا: أعطوها غيرَنا ممن هم أحوج إليها منا، نحن نجد طعاماً هذا النهار؟ لقد وقع هذا وشاهدته أنا مراراً. فأي وطنية أعظم من هذه الوطنية، وأي اتحاد أوثق من هذا الاتحاد الذي تصبح فيه المدينة كلها أسرة واحدة؟
والبطولة والجهاد. ألم يفعل الشاميون الأفاعيل؟ ألم يهجموا على النار والحديد ويقاوموا بالحجارة أروعَ وأبشع ما وصلت إليه حضارة الغرب من ضروب التقتيل والإهلاك والتدمير؟ (1) ألم يفتح الأطفال صدورهم للرصاص؟ ألم يصمد الفتية العزّل للجيش اللَّجِب لا يزولون حتى يزول عن مكانه هذا الجبل، ثم يصدمونه صدمة الندّ للندّ، ثم لا ينجلي الغبار إلاّ عن حقّ يُظفر أو شهيد يُقتل أو جريح يُؤسر؟
ألم تلبث دمشق مدة الانتداب وهي في حرب؟ ساحاتها وشوارعها وميادينها لا تكاد تختفي منها الخنادق والأسلاك والرشاشات والدبابات حتى تعود فتظهر مرة أخرى، ولا تهدأ النار في ركن من أركانها حتى يندلع لسان النار في ركن آخر، وسوريا ثابتة على جهادها؟ ألم تشيّع الأمهاتُ أبناءَهنّ إلى المقبرة راضيات هاتفات؟ ألم يجاهد الطفل الصغير والمرأة العجوز والشيخ الفاني؟ ألم تمتلئ السجون بالأبرياء؟ ألم تَضِق المقابر بالشهداء؟
(1) لقد تكرّر ذلك على بُعد أكبر في معارك فلسطين مع اليهود سنة 1988 و1989.
فهل تكلّم تاريخ هؤلاء الفرنسيين في آذانهم؟ هل عرفوا لهذا الشعب حقاً؟ هل قدّروا له تضحية؟ هل رفعوا قبّعاتهم عن رؤوسهم حينما كانت تجوز بهم مواكب شهدائه؟ هل خشعت قلوبهم لسيل دمائهم؟ إنهم نسوا تلك الدعوى الكاذبة، دعوى أن أجدادهم هم الذين أعلنوا حقوق الإنسان وأنهم غسلوا بدمائهم صفحة الاستعباد والاستبداد، ونسوا ما كتبه روسّو وفولتير ومنتسكيو وما قاله ميرابو وسييس ولافييت، وما كان يكذب به الفرنسيون على الشعوب إذ يُعلِنون أنهم نصراء المظلومين.
إني ما خططت هذه الكلمات لأؤرّخ فيها جهاد الشام، فإنها تؤلَّف فيه الأسفار الضخام ويخلد حديثه على طول المدى، وما ذكرت نبأ إضراب الخمسين لأتقصى أخباره وأجمع حوادثه، وإنما أردت أن أردّ كذبة ما زلنا نسمعها حتى من الأصدقاء: أن الجلاء إنما جاءنا بلا تعب ولا عناء!
(إلى أن قلت): إنها ما جاهدَت أمة مثل جهادنا ولا حملت مثل ما حملنا. إنا قد رأينا الموت وألِفنا الفقر واعتدنا الجوع، وأصبحَت مدينتنا بلاقعَ وأهلُها مفجوعين ونساؤها ثاكلات، أفيكثر علينا أن ننعم بالجلاء؟ إننا أخذنا حقنا بعون الله ثم بعزائمنا، ولو والله عاد ليستلبَه منا أهلُ الأرض مجتمعين لقارعناهم عليه ونازلناهم دونه حتى نستعيده كاملاً أو نموت. وليس في الدنيا أقوى ممن يريد الموت، لأن الذي يريد الموت لا تخيفه وسائله ولا آلاته.
والمقالة طويلة، فمن شاء أن يحيط بها رجع فقرأها.
* * *