المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

فهرس الكتاب

- ‌الجزء الثامن

- ‌وداع المحكمة الشرعية

- ‌في محكمة النقض في القاهرة

- ‌أشتات من الذكريات

- ‌زياراتي القديمة لمكة

- ‌حجة 1381: خواطر وأفكار

- ‌أبو الحسن النَّدْوي ومذكّراته (1)

- ‌أبو الحسن النَّدْوي (2)

- ‌أبو الحسن الندوي (3)

- ‌في مطلع العام 1987

- ‌مؤتمر القمة الإسلامي

- ‌الفقيدان الوزير والمدير،ومن قبلهما فقدنا الأمير

- ‌تعليق على الحلقة السابقة: لبّيكَ اللهمّ لبّيكَ

- ‌كيف جئتُ المملكة

- ‌وقفة على المخيَّمات

- ‌منزلي في الرياض

- ‌لمّا كنت أستاذاً في الكلّيات والمعاهد

- ‌تفسير بعض الآيات

- ‌من المستشفى المركزي في الرياضإلى مستشفى المواساة في دمشق

- ‌في مكة سنة 1384ه

- ‌في كلية التربية في مكة

- ‌يوم الجلاء عن سوريا

- ‌لمّا علّمتُ البنات

- ‌خواطر ومشاهدات عن تعليم البنات

- ‌لغتكم يا أيها العرب (1)

- ‌لغتكم يا أيها العرب (2)

- ‌ذكريات العطلة الصيفية في دمشق (1)

- ‌ذكريات العطلة الصيفية في دمشق (2)

- ‌هذه الحلقة من الذكريات مسروقة

- ‌عندكم نابغون فتّشوا عنهم بين الطلاب

- ‌عزمتُ أن أطوي أوراقيوآوي إلى عزلة فكرية

- ‌رسائل الإصلاح وسيف الإسلامانتقدت الشيوخ الجامدينوالشبان الجاحدين

- ‌الخاتمة

الفصل: ‌في مطلع العام 1987

-223 -

‌في مطلع العام 1987

قعدت أكتب هذه الحلقة من الذكريات وأمامي على الجدار «تقويم أم القرى» ، وتحت يدي جرائد قديمة أقلّبها، أشغل عقلي بها لينطلق عقلي الباطن حراً يفكّر كما يريد، يعمل وحده كما يعمل المِحساب (الكمبيوتر) إذا ألقيت إليه بأصول المسائل، يدور حتى يصل إلى جميع فروعها.

ووقع نظري على التقويم فإذا العام الغربي الجديد (1987) يبدأ اليوم، وإذا أنا أستخرج عدداً قديماً من جريدة «فتى العرب» صادراً سنة 1930 (1348هـ)، وكنت يومئذ محرّراً فيها، وفي العدد مقالة لي عنوانها «نشيد الوداع» أودّع بها العام الذي مضى وأستقبل العام الذي قدم.

إنها مصادفة ما تعمّدتها، ولكني تمسّكت بها لمّا وجدتها. مقالة مرّ عليها الآن تسع وخمسون سنة قمرية، تبدّل فيها أسلوبي كما تبدّلَت الدنيا كلها من حولي، فهل عليّ من حرج إن أنا أعدت نشرها هنا؟ إنها مكتوبة على صورة فقرات مرقَّمة، لست أدري ماذا أردت بترقيمها، ولست أرتضي كل ما جاء فيها، وإن كانت مني لا أستطيع أن أُنكِرها. هل تملك أن تتبرأ من ولدك إن لم

ص: 117

يعجبك بعض فعاله؟

وها هي ذي لا أبدّل فيها شيئاً (1):

1 -

مالت الشمس إلى المغيب، ولم يبقَ منها إلاّ خيوط تنفذ من بين قطع الغمام المتناثر حيال الأفق، تلفظ نفَسَها الأخير كما يلفظ نفَسَه هذا العامُ الراحل.

2 -

دنت قافلة الحياة السائرة في بيداء الزمن من محطّها، فتباطأت في سيرها وقاربت خَطْوَها، فأمسيت أشعر بطول هذه الساعات الباقية في عمر العام، ورحت أرقب عقرب الساعة المائلة أمامي فلا أراه يتحرّك، فضجرت وأحسست كأن هذا الفلك يدور وهو على عاتقي.

3 -

بعد ساعة واحدة يُتِمّ الفلكُ دورةً جديدة من دوراته التي لا تُحصى، فلا يترك بعدها إلاّ أنقاضاً مهدَّمة، وأجساداً محطَّمة، وقلوباً مهشَّمة؛ كأنما هو رحى تطحن الأمم والشعوب. ثم يخرج منها النداء أن: لِدُوا وابنوا وأمّلوا، ولكنْ للموت والخراب واليأس. بعد ساعة واحدة ينقضي هذا العام فتبتلعه هوّة الماضي، ويفتح التاريخ ذراعَيه ليضمّه إلى الأعوام التي مرّت قبله، ويولّفها رزمة واحدة ثم يلقيها في بحر الأبد، ثم تفنى عند جلال الله الباقي. بعد ساعة واحدة يدَع هذا العام مكانه من الوجود للعام الجديد، ثم يذهب فيتبوّأ مكانَه من عالَم العدم.

4 -

بعد ساعة واحدة تُختَم من هذا العام صفحة كُتب أكثر سطورها بدموع المظلومين، لتُفتح صفحة أخرى لا ندري عنها

(1) وهي منشورة في كتاب «هُتاف المجد» (مجاهد).

ص: 118

شيئاً، ولكنْ فيها سرورٌ وفيها ألمٌ وفيها خيبة أمل وفيها الواقع يضحك أبداً من هذا الإنسان، لأنه يراه هو الظالم ويراه هو المظلوم. وما الإنسان إلاّ عدوّ الإنسان: يكتب القوي سيرة حياته ويملؤها بآيات التبجيل والثناء، ولكن مِدادها دموع الأشقياء ودماء الأبرياء. ويُنشئ القويّ صرحَ مجده ويرفع ذُرى عظمته، ولكن أساسه جماجم المظلومين وعظام الشهداء. ويملأ القوي بالذهب خزائنه، ولكن دراهمها قد جُمعت من أيدي اليتامى وأفواه الفقراء.

5 -

بعد ساعة واحدة تحطّ القافلةُ رحالَها، فنتلفّت إلى الوراء فلا نرى إلاّ ظلاماً يلمع في وسطه نجم من الذكرى نتبيّن فيه العَلَم المربع الألوان (أي علم الدولة العربية التي قامت في دمشق سنة 1918) وهو يخفق على دمشق، فتخفق قلوبنا لجلال الذكرى ومرارة الفَقْد. فنحوّل أنظارنا إلى الأمام فلا نرى إلاّ الظلام. ولكن ما هذا النور الذي ينبعث من الأرض فيذهب صعداً إلى السماء، فيهدينا الطريق ويُترِع نفوسنا قوة وأملاً؟ لقد علمت: هذا بريق الدماء التي سقينا بها صحراء ميسلون وجنان الغوطة (أعني أيام الثورة). لقد علمت: لا يُزيح ظلمة المستقبل إلاّ هذا النور الأحمر.

6 -

تَزيّن الناس ولبسوا أحسن ثيابهم وراحوا يهنّئ بعضُهم بعضاً. لقد امتلأَت بهم الأسواق والشوارع والبيوت والمجامع، لقد ناءت برسائلهم قُطُر البريد، حتى ما ترى حيثما كنت إلاّ ثغوراً تبسم، وما في القلب سرور، وما تسمع إلاّ مقالة تُقال: كل عام وأنتم بخير. غير أني لا أفقه من هذا كله شيئاً.

ص: 119

7 -

فيمَ الهناء وعلامَ السرور؟ أيهنّئون بتلك الأرواح التي دفعناها ثمن الحرية، فكان للبائع الثمن والمبيع؟ أم بالنفوس الكبيرة التي أزهقها الأقوياء، أم بالمنازل التي خرّبوا، أم بالدور التي أحرقوا، أم بالحقّ الذي غصبوا، أم بالحرمات التي انتهكوا؟ أم بالأزمة العامة والتجارة الكاسدة، والصناعة العاطلة والزراعة البائرة، والأخلاق الضائعة والرجولة المفقودة، والحدود المستباحة والجهالة المنتشرة؟ أما أن أشدّ البلاء أن لا نشعر بالبلاء، وأكبر المصيبة أن نجهل أنها المصيبة. فما لهؤلاء الناس وماذا اعتراهم؟ أيفرحون بهذا كله؟ إني لا أفقه من هذا كله شيئاً.

8 -

عزفتُ عمّا فيه الناس ورحت إلى شرفتي كئيباً، وكان الظلام قد ملأ الكون كما ملأ نفسي، فغشيني ذهول عميق وانطلق لساني يقول: أيها الراحل المودَّع، لقد كانت لنا آمال صببناها على قدميك يوم خرجنا لاستقبالك، وكنا كلما انقضى من عمرك يوم ولم تتحقق ارتقبنا بها يوماً آخر. هذا أمر لا آخر له، فأخبرنا عن آمالنا: ماذا صنعت بها، أدُستَ عليها وحطمتها وقطعت طريقك على رفاتها؟

* * *

إلى آخر ما جاء في المقالة. وأنا إنما أنشرها على أنها صارت تاريخاً، فأسلوبها غير أسلوبي الآن وفيها ما أُنكِره إذا قرأته الآن. أدَع المقالة وأسأل نفسي: هل هذه السنة التي طلعت علينا هي سنتنا؟

أمّا عباداتنا الشهرية فتمشي أوقاتها مع مشي القمر: صيامنا وحجّنا. وأمّا دنيانا وعباداتنا اليومية فمع الشمس، فنحن نصيّف

ص: 120

ونشتّي مع الشمس، والشهور القمرية تدور مع الأيام فتأتي صيفاً كما تأتي شتاء. على أن الشمس والقمر آيتان من آيات الله.

إني لأفكّر الآن وأنا على أبواب الثمانين خارجاً منها لا داخلاً إليها، بعد خمسة عشر يوماً أستكملها، أفكّر في الذي رأيت في هذا العمر، والذي رأيته أكبر من أن يتّسع له فصل في هذه الذكريات. وما هذه الذكريات؟

كان من رفاقنا الأقدمين أخ أُولعَ بالكيمياء، يُنفِق عليها ماله ويضيع فيها جهده، حتى برع فيها وصار من علمائها. كان يقطّر العطر تارة، فإذا دخلتَ معمله شممتَ منه ريّا روض أريج أو جنة فوّاحة الأزهار، وتارة يستخرج مادة تشمّ رائحة الكنيف ولا تشمّها، وتسدّ منخريك ولو اختنقتَ عن أن تدخل الرائحة إليهما، أودعَها قوارير يضع عليها أوراقاً يلصقها بها تبيّن الذي فيها.

ثم كبرنا ومرّ دهر وانصرف عن الكيمياء حتى ما يفكّر فيها. وزرته يوماً فسألته أن يُريني معمله، فقال: وماذا تريد منه؟ إنك لن تستطيع دخوله. فأصررت فأخذني إليه، فإذا العنكبوت قد عشّش على بابه والغبار قد تراكم فوق رفوفه، ونظرت إلى تلك القوارير فإذا هي فارغة كلها قد طار ما كان فيها.

فجعلت أقرأ اسم العطر: عطر الورد أو الزنبق أو الفلّ أو الياسمين، وما ثَمّ عطر ولا شيء يشبه العطر. وأقرأ أسماء حامض الكبريت وما لست أدري ما هو، وما بقي منه شيء. أمّا القوارير التي لم يلصق بها اسمُ ما فيها فلم يعُد يعرف أحدٌ ما كانت تحتوي.

هذا مثالي حين أكتب ذكرياتي، ذهبَت المسرّات والآلام

ص: 121

وما بقي إلاّ صورة لها فارغة منها. فما فائدة كتابة الذكريات؟

لقد كنا نعيش في وادٍ جميل فيه نبعٌ صافٍ بارد، وفيه أرض خصبة تُنبِت من كل الثمرات، وعندنا قطيع من الغنم نأكل من لحمه ونلبس من صوفه، يحبسنا الجَبَلان عن الناس فلا ندري بهم ولا يدرون بنا ولا نحتاج منهم إلى أحد. فجاء يوماً زلزالٌ أزاح جانباً من الجبل، فانكشفنا للناس فدخلوا علينا.

وكان هذا الزلزال هو الحرب الأولى، حرب 1914، وقد أدركت قيامها. أخرجَتنا الحرب من عزلتنا وأدخلَت الغرباء علينا، فجاؤوا ومعهم ما لا عهد لنا به من أساليب الرفاهية وثمرات الحضارة، ومعهم أيضاً أوضارها وأمراضها، فعرفنا ما لم نكن نعرف فاتسعت عقولنا، ولكنا رأينا من الفساد ما لم نكن نألف ففسدت أخلاقنا ورقّ ديننا.

كانت حياتنا كالبحيرة الساكنة، إن ألقيتَ فيها حصاة تنداح فيها الدوائر كما قال ابن الرومي. فإذا بصخرة ضخمة تُرمى فيها، فتقلب عاليها سافلها وتعكّر ماءها وتطمّ حدودها.

لا أستطيع أن أحصر ما صنعَت بنا هذه الحرب. إنها بدّلت حياتنا تبديلاً لا يدركه إلاّ النفر القليل من الشيوخ الذين رأوا مثل ما رأينا، الذين عاشوا قبل قيام الحرب الأولى.

لقد شهدت حربين عالميتين، رأيت قيامهما وقعودهما واشتعالهما وخمودهما، عشت دهراً وما في بلاد العرب ولا في أرض الإسلام بقعة لا يرفرف عليها علَم أجنبي (حاشا جزيرة العرب التي عصمها الله من أن تدقّ ثراها نعالُ جيوش أجنبية أو

ص: 122

تخفق فوقها أعلامها). كان ذلك لمّا تركنا أسباب عزّتنا وقطعنا الحبل الذي يربطنا بربنا، وابتعدنا عن ديننا فأبعد الله النصر والعزّ عنا.

رأيت عهداً كانت فيه بريطانيا العظمى –مثلاً- تحكم خُمس العالَم، لا تغيب عن أملاكها الشمس لأنها إن غابت عن قُطر طلعت في قُطر آخر، فعشت حتى رأيتها قد صارت من الدول الصغار، فقدت ما كانت تظنّه من البلاد باقياً لها، ضاعت الهند منها وكندا وأستراليا، فما بقي لإنكلترا إلاّ لندن وقسيمة من الأرض حولها، حتى هذه قد أخذَتها يوماً من أهلها غدراً ومكراً، كان أهل البلاد في خصام فاستنجد أحد المتخاصمين بقبيلتين جرمانيتين هما الأنكل والسكسون، فدخلوا فأنجدوه ثم قعدوا، فقال لهم: شكراً، في أمان الله. قالوا: بل نحن باقون، هذه بلادنا!

وكما أخذت هذه البلاد من أهلها أعطت بلاداً أخرى لمن ليس له حقّ فيها ولا يربطه بها نسب ولا يجمعه سبب؛ أعطت أشرف بلد بعد الحرمين لأخسّ أمّة بعد الأبالسة، أعطت اليهود فلسطين. لقد كان انهيار بريطانيا العظمى الذي شهدتُه في حياتي كما شهده لداتي أكبرَ من انهيار روما القديمة التي كان سقوطها نهاية القرون الأولى.

كما شهدتُ تفكُّك صرح الدولة العثمانية التي قامت على الإسلام فحكمها من لا يدين حقاً بالإسلام، بل يتظاهر به تظاهراً وهو له عدوّ، لمّا حكمها الاتحاديون فأضاعوها بسوء سياستهم وضعف عقيدتهم.

ص: 123

لقد عشت بحساب التقويم ثمانين سنة قمرية بقي عليّ حتى أستكملها خمسة عشر يوماً فقط، ولكني عشت بحساب الحقيقة والواقع ثلاثمئة سنة! لقد شهدت من تحوّل الأحوال وتبدّل الأوضاع وتغيّر الأفكار ما لا يتمّ مثله إلاّ في ثلاثة قرون.

كنت مرة في زيارة لجامعة الرياض (التي دُعيَت جامعة الملك سعود) بتكليف من معالي الشيخ حسن بن عبد الله آل الشيخ، فدرت على كلّياتها السبع وحاضرت فيها، وأجبت عن أسئلة طلاّبها واستفدت من أساتذتها، فكان مما سألوني عنه: العقيدة والأخلاق في المجتمع الآن والمجتمع الذي كان ونحن صغار؟

فضربت لهم مثلاً بِركةً واسعة كانت مغبرّة الماء ولكن ماءها لا يزال طاهراً، فأقاموا في ناحية منها مصفاة حفروا لها بركة صغيرة، فامتلأت هذه البركة بماء نقي صافٍ ليس فيه شيء من اغبرار ماء البركة، وما خرج من المصفاة من أقذار وأوساخ ألقوه في بركة أخرى صغيرة فصار ماؤها نجساً أو قريباً من النجس، وبقي جلّ ماء البركة على حاله.

قلت لهم: هذا مثال المجتمع أمس واليوم؛ كنا متمسكين بالإسلام ولكنه إسلام العوام، ففي العقيدة شيء دخل عليها ليس منها، وفي العبادات بدع ابتُدعت فيها، وفي المجتمع مخالفات للإسلام لم تكن على عهد الصحابة ولا التابعين، فصار عندنا الآن طبقة قليلة من الناس (أكثرهم من الشباب) قد صفَت عقيدتهم وخلَت من البدع عباداتهم واستقام في الحياة سلوكهم وعادوا إلى

ص: 124

الإسلام، حتى إن من هؤلاء الشباب ومن الشابات الذين رأيتهم في النوادي التي حاضرت فيها في المملكة على اختلاف مدنها وفي سوريا وفي لبنان من قبلُ وفي مصر وفي العراق (وسطه وشماليه وجنوبيه) وفي كثير من مدن أوربا الغربية وفي باكستان والهند وأند ونيسيا

رأ يت في أولئك الشباب مَن لو قلت إنه مثل شباب الصحابة لَما كنت مبالغاً ولا كنت مجانباً طريق الحقّ.

كان عندنا في الشام ونحن صغار مدرّسون من فلسطين ومن تونس ومن المغرب ومدرّسون من الترك ومن الأكراد، سردت أسماء بعضهم فيما مضى من هذه الذكريات، فما كنا نسأل ولا نفكّر أن نسأل عن أجناسهم ولا عن أقوامهم ولا عن مواطنهم. كانوا مسلمين ويكفينا أنهم كانوا مسلمين. فنشأَت ونحن صغار فتنة القوميات، فقال الترك ترك وقال العرب عرب وقال الأكراد أكراد، فتفرّق الشمل الجميع (1)، وتعدّدَت الأمة الواحدة فصارت أمماً.

كانت فتنة القومية. وتعبنا في جدال هؤلاء القوميين، نتبع في ذلك الأمير شكيباً وإخوانه (شكيب أرسلان) ويتبعنا من جاء بعدنا؛ كتبت في ذلك عشرات من الصفحات وألقيت في ذلك عشرات، عشرات حقاً، من الخطب والمحاضرات، لنبيّن للناس أننا لا نعادي العربية وإنما ندافع عن الإسلام، وأننا نعرف للعروبة قدرها ولكن تحت راية الإسلام.

ثم كانت فتنة الاشتراكية، وخُدع ناس من أفاضلنا فقالوا:

(1) الشمل الجميع: أي المجتمِع.

ص: 125

«اشتراكية الإسلام» ، ألّف في ذلك صديقنا الداعية إلى الله الرجل الصالح الشيخ مصطفى السباعي رحمه الله. ولقد حضرتُ محاضرته في الجامعة السورية عن هذه الاشتراكية التي سمّاها إسلامية (على ندرة ما أحضر من المحاضرات)، وكان إلى جنبي في الصف الأول أخي ورفيقي في كلية الحقوق وأحد أصدقاء عمري الشيخ مصطفى الزرقا، فكنت أعترض أخانا الشيخ السباعي كلما اختار حكماً فقهياً ضعيفاً يراه أقرب إلى الاشتراكية وأقاطعه وأنا في مكاني. وكان بيني وبينه مناقشة بعد ذلك في الصحف قلت له فيها وقال لي. وأنا أشهد له (وقد مضى إلى لقاء ربّه) أنه ما أراد بما كتب إلاّ الخير وأن يقرّب الاشتراكيين إلى الإسلام. والشيخ السباعي أمتن ديناً وأكثر علماً من أن يكتب أو يقول ما يخالف الإسلام، ولكن الاشتراكيين كانوا أوسع حيلة وأقوى أداة وأكثر وسائل، فاتخذوا كتابه ذريعة لتقريب المسلمين من الاشتراكية، وما أراد إلاّ أن يقرّب الاشتراكيين إلى الإسلام.

ونفخ عبد الناصر في بوقها، وجاء برجل طويل اللسان غير نظيف الجَنان، ثقيل الدم سقيم الفهم، ينعب من صوت العرب، يقول ما يستخفّ الحليم الوقور من العدوان على الحقّ بالسفاهة والمراء والباطل. ثم قام عبد الناصر يدعو إلى ما سمّاه «التحويل الاشتراكي» ، فكتبتُ أردّ عليه في أحاديث ما علم أحدٌ قبل أن أكتب هذه السطور أني كاتبها، وأعطيتها واحداً من إخواننا الإذاعيين المعروفين هنا (وهو يتولى الآن منصباً إعلامياً كبيراً) فأذاعها من إذاعة المملكة، كان مما قلت فيها: إن مصر قبل الإسلام كانت تمشي في طريقٍ جاء عمرو بن العاص ليحوّلها عنه

ص: 126

إلى طريق الإسلام، حتى صارت قلعة من أمنع قلاعه ومصباحاً من أضوأ مصابيحه، وصارت منار العلوم الإسلامية وعلماؤها أساتذة البلاد الإسلامية. فما الذي يُراد بالتحويل الاشتراكي إن لم يكن ردّهاً عن طريق الإسلام الذي جاء به عمرو بن العاص إلى طريق الماركسية التي جاء بها الدجال اليهودي كارل ماركس؟

ولمّا شهدتُ الجلسة التي وُلدَت فيها رابطة العالَم الإسلامي في موسم حج سنة 1381هـ، وقد مرّ حديثها، جرى ذِكر الاشتراكية. وانبرى المحاضرون يبرّئون منها الإسلام، فقلت: كيف وقد وردَت في القرآن؟ فعجبوا مني، فقلت: على رسلكم. ألم يقُل الله لمَن كان أستاذ ماركس (وهو إبليس): «وشاركهم في الأموال والأولاد» ؟ فتلك هي الاشتراكية. فضحكوا.

* * *

لقد أمضيت حقبة من عمري في حلبة النضال أقاتل وحدي، على ضعف يدي وقلّة عزمي. حاربت على جبهتين. جبهة الجَهَلة الجامدين الذين يحرّفون الدين ويغشّون المسلمين، وجبهة الفاسدين المفسدين. وما حِدت بحمد الله عن هذا الطريق وما كتبت بقلمي متعمداً ما لا يُرضي ربي، وإن كنت لا أبرّئ نفسي من الخطأ.

وأنا أكتب من ستين سنة كاملة، وآخذ على ما أكتبه أجراً لأنني كاتب محترف. كتبت آلافاً وآلافاً من المقالات. وأنا أحاسب نفسي الآن، وطالما حاسبتها قبل الآن، فأتساءل: هل أخْذ الأجرة من الناس يُذهِب ما آمُل من الثواب عند الله؟ وأخشى أن أكون

ص: 127

قد قضيت لنفسي، وأنا أعرض قضائي على القراء لأسمع ما لهم فيه من آراء.

أنا أولاً أسأل نفسي فأقول: يانفس هل كنت تكتبين مايخالف الدين ولو أُعطيتِ على كتابته الملايين؟ فأجد الجواب اليقيني الصادق أن: لا. وأسألها: إن لم يكن في الساحة من يُنكِر المنكَر غيرك يانفس، وكان الإنكار واجباً شرعاً، هل كنت تمتنعين عن إنكاره لأنك لم تُعطَي أجرة الكتابة؟ فأجد الجواب اليقيني الصادق أن: لا. وأنا أقول الآن ما كنت أقوله من قبل، هو أني ما بدّلت بحمد الله ولا غيّرت وما قلت يوماً كلمة الباطل وأنا أعرف بطلانه، وإن صرت أعجز أحياناً عن أن أعلن كلمة الحقّ.

إن أول كتاب صغير نُشر لي سنة 1348هـ، ما قلته فيه هو الذي قلته في آخر كتاب أُعيدَ طبعه لي سنة 1406هـ، وإن تبدّل مني شيء فهو الأسلوب؛ كنت فتى فيه شدّة وفيه حدّة، فألانتني الأيام قليلاً وهدّأَت من حدّتي، وإن كانت لم تستطع أن تمحوها من نفسي:

والشيخُ لا يَترُكُ أخلاقَهُ

حتى يُوارى في ثرى رَمْسِهِ

* * *

وذو الشّوقِ القديمِ وإنْ تَعزّى

مَشوقٌ حينَ يلقى العاشقينا

تبدّل عليّ في هذا العمر الطويل كل شيء: العادات والأزياء وحجاب النساء وأدب الأدباء وشعر الشعراء؛ بدأَت في أيامنا فتنة

ص: 128

الشعر المنثور، الذي سُئل عنه الأستاذ المازني يوماً فقال (على عادته في السخرية والتهكم): هو نثر مشعور.

وأنتم تعرفون أن الزجاج إذا انشعر انكسر.

أما هذا الكلام المصفوف صفاً الذي يُنشَر اليوم في الجرائد على أنه شعر وعلى أن أصحابه شعراء، فما فيه من الشعر إلاّ أنه طُبع على هيئة أبيات القصيدة، فهو شعر المسطرة! أمّا موسيقى الشعر وطرب الشعر وسموّ الشعر، فما فيه منه شيء.

وهؤلاء أدباء على طريقة خادم موليير في قصته المعروفة حين علم أن كل ما ليس بشعر يكون نثراً، فجعل يرقص من الفرح لأنه يتكلم بالنثر ولا يدري.

أنا أعرض الآن في خيالي شريط حياتي (وقد مُحي كثير من صوره، وإن بقي فيه كثير) فأرى عالَمنا الذي فُتحت عليه عيوننا ونحن صغار يختلف عن عالَم الناس الآن، بينهما هوّة أوسع من أن يقفز عليها الأديب بمقالة أو مقالات: دنيا ذهبَت وجاءت دنيا أخرى، عالَم بُدّل غيرَ العالَم.

على أننا لا نستطيع أن نقول إن كل ما مضى كان خيراً ولا إن ما جاء شرّ كله (كما يقول لِداتي من الشيوخ في أحاديث الذكريات). وكيف ونحن الآن أعلم بحقائق الكون، وأوسع إدراكاً لمظاهر الحياة، وفقهاؤنا اليوم وإن كانوا أقلّ حفظاً للنصوص فهم أكثر فقهاً لها وإدراكاً لمقاصدها؟

* * *

ص: 129