المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ذكريات العطلة الصيفية في دمشق (2) - ذكريات - علي الطنطاوي - جـ ٨

[علي الطنطاوي]

فهرس الكتاب

- ‌الجزء الثامن

- ‌وداع المحكمة الشرعية

- ‌في محكمة النقض في القاهرة

- ‌أشتات من الذكريات

- ‌زياراتي القديمة لمكة

- ‌حجة 1381: خواطر وأفكار

- ‌أبو الحسن النَّدْوي ومذكّراته (1)

- ‌أبو الحسن النَّدْوي (2)

- ‌أبو الحسن الندوي (3)

- ‌في مطلع العام 1987

- ‌مؤتمر القمة الإسلامي

- ‌الفقيدان الوزير والمدير،ومن قبلهما فقدنا الأمير

- ‌تعليق على الحلقة السابقة: لبّيكَ اللهمّ لبّيكَ

- ‌كيف جئتُ المملكة

- ‌وقفة على المخيَّمات

- ‌منزلي في الرياض

- ‌لمّا كنت أستاذاً في الكلّيات والمعاهد

- ‌تفسير بعض الآيات

- ‌من المستشفى المركزي في الرياضإلى مستشفى المواساة في دمشق

- ‌في مكة سنة 1384ه

- ‌في كلية التربية في مكة

- ‌يوم الجلاء عن سوريا

- ‌لمّا علّمتُ البنات

- ‌خواطر ومشاهدات عن تعليم البنات

- ‌لغتكم يا أيها العرب (1)

- ‌لغتكم يا أيها العرب (2)

- ‌ذكريات العطلة الصيفية في دمشق (1)

- ‌ذكريات العطلة الصيفية في دمشق (2)

- ‌هذه الحلقة من الذكريات مسروقة

- ‌عندكم نابغون فتّشوا عنهم بين الطلاب

- ‌عزمتُ أن أطوي أوراقيوآوي إلى عزلة فكرية

- ‌رسائل الإصلاح وسيف الإسلامانتقدت الشيوخ الجامدينوالشبان الجاحدين

- ‌الخاتمة

الفصل: ‌ذكريات العطلة الصيفية في دمشق (2)

-241 -

‌ذكريات العطلة الصيفية في دمشق (2)

وضعت عنواناً لهذه الحلقات «العطلة الصيفية في دمشق» ، ولكن طال الطريق إليها فلم أطرق بابها، وإنما تكلّمت عن المدارس التي كنت فيها ولم تكن تعرفها. تكلمت عن «الكُتّاب» ولم أكمل حديثه، وما هو بالحديث اللَذّ الممتع، ولولا أن أساتذة أفاضل يكتبون في الثناء عليه والدعوة إلى العودة إليه ما عرضت له ولا تكلمت فيه. قلت لكم إن جدّي أخذني إليه فبقيتُ فيه بعض يوم، ولكن مرارته لم تذهب من حلقي إلى اليوم؛ لا أزال أحسّ بها كأنما تجرّعت بالأمس غصصها! وقد مات جدي الذي أخذني إلى الكتّاب سنة 1332هـ، أي من ثلاثة أرباع القرن، ولكن ثلاثة أرباع القرن لم تُشفِني من الصدمة التي ضعضعت نفسي في تلك الساعات الثلاث التي قضيتها في الكتّاب.

أفلا يتصور دعاة الرجوع إليه أن للأطفال قلوباً ومشاعر، وأنهم يُسَرّون ويَألمون كما يألم الكبار ويُسَرّون، وأن ذكريات المسرّات والآلام في بواكير العمر تُختزَن في نفوسهم فتضيء لهم طريق العمر كله أو تجعله ظلاماً؟

ص: 347

قلت لكم إننا كنا نقعد على الأرض، على حصير قديم لعلّ تحته حديقة حيوانات صغيرة فيها من كل حشرة زوجان! وإن علينا أن نقرأ النهار كله، أو نحرّك ألسنتنا ونُخرِج أصواتاً كأننا نقرأ، وأن نضجّ ضجّة مستمرّة يسمعها مَن يمشي في الطريق فتكون إعلاناً عن الكتّاب، يقول للناس:"أنا هنا"، ويا ليته ما كان هناك! وإننا كنا نختلس قضمة من الطعام الذي حملناه معنا ووضعناه بين أيدينا، فإن رآنا الشيخ بعينه تناولَتنا يده بعصاه وهو قاعد مكانه لا يفارقه، لأن بين يديه عصيّاً ثلاثاً: طويلة وقصيرة وعصا بين الطول والقصر، ينظر مكان الصبي ثم يتناوله بالتي تصل إليه منها.

والشيخ دائم العبوس، لا يبتسم إلاّ يوم الخميس حين يأتيه الولد بالخميسية، وهي الأجرة المفروضة عليه. وتكون سعة ابتسامته بمقدار كثرة القروش التي تُحمل إليه! ثم يعود إلى العبوس والتقطيب، كأنه شمس شباط (فبراير) في الشام حين تُطِلّ لحظات ثم يطويها تراكم السحاب.

أخذني جدي إليه فاحتفل به شيخ الكُتّاب احتفالاً عظيماً، لِما كان له من العلم والفضل والوجاهة أو لِما يطمع فيه من خميسيته المباركة. وبالغ في هذا الاحتفال حتى إنه وضع حذائي تحت سريره إلى جنب حذائه، أي حذاء الشيخ، وكان ذلك شرفاً عظيماً ما ناله من قبلي أحد. وما أدري أكان ذلك لمجرد الحفاوة والإكرام أم لزيادة التضييق والمراقبة، ولكن الذي أدريه أن جدّي قد خرج، فذهبت لألحق به فأمسكوني وأجلسوني عنوة، ولمّا صحت وبدأت أحتجّ لوّح الشيخ بعصاه فوق رأسي وكشّر لي عن أنيابه، فتكونَت في نفسي تلك اللحظة النفرة من المدرسة

ص: 348

والكراهية لها، وبقيَت إلى الساعة التي أكتب فيها هذه الكلمات.

وقعدت يائساً لا أعلم لماذا يحجزونني ويخنقونني، وقد كنت أعيش كما أريد لا تُرَدّ لي رغبة ولا يقف دون إنفاذ مطالبي شيء، وكنت أربّى تربية الدلال لأن جدّي رُزق عشرة من الولد فذهبوا جميعاً ولم يبقَ منهم إلاّ أبي، وكنت ولده البكر، فدلّلوني هذا الدلال الرخو المائع الذي بلغ من أمره أنهم أقاموا حفلة في البيت عندما كسرتُ أول إناء:"لقد كبر الصبيّ ولله الحمد وصار يستطيع أن يكسر الأواني"! وإنه كان عندنا مرة حفلة عائلية، فخطر في بالي أن ألعب بالزائرات فأُقيم هذه على قدم واحدة وأرفع ذراعَي هذه، فكان لي ما أردت واضطُرّت زائراتنا الكريمات إلى الخضوع لهذه الرغبات، أي هذه الحماقات!

فكيف انتقلت منها مرة واحدة إلى حياة الكُتّاب السمجة الثقيلة؟ نقلة لم يستطع عقلي الصغير أن يفهم لها تأويلاً، فقعدتُ أنظر إلى الباب كما ينظر القطّ إلى الفريسة لينقضّ عليها، فلما رأيت جدّي ماراً في الطريق خارجاً من المسجد وجدت الفرصة قد جاءت، فقفزتُ قفزة واحدة كالقطّ وتبعته حافياً، وكان ذلك نتيجة لِما كنت فيه وما صرت عليه، ليس فيه شيء من قصد الإجرام ولا من روح الشرّ وليس بالإمكان أن يكون الطفل مجرماً، ولكن شيخي عدّها جريمة، وأطلق ورائي صبيان المكتب كما يُطلق الصيّادُ كلابَه وراء الأرنب المسكين، فازددت منهم فزعاً وللمدرسة بغضاً وأطلقت ساقَيّ الصغيرتين للريح، ولكني اضطربت فلم أدرِ أيّ طريق آخذ بعد اختفاء جدّي عن عيني، فسقطتُ وسال الدم من أنفي، وأدركني الأولاد فلم يرحموني

ص: 349

ولم يمسحوا عني دمي، ولكنهم اقتادوني إلى شيخهم كما يُقتاد المحكوم عليه إلى خشبة المشنقة.

* * *

يقول الذين يمدحون هذه الكتاتيب أنها تحفّظ القرآن، وهذا صحيح، ولكنْ من أين لهم أنّ القرآن لا يُحفَّظ إلاّ بهذا الأسلوب؟ ألا يمكن أن يحفظه الأولاد وأن يجوّدوه وأن يُحسِنوا تلاوته من غير عصا شيخ الكتّاب؟ أسألكم والمثَل قائم أمامكم: هذه مدارس تحفيظ القرآن التي انتشرت في كل مدينة وكل قرية في المملكة، جزى الله مَن فكّر فيها ومَن أيّدها ومن أعانها ومن يقوم عليها خير الجزاء.

ألا تسمعون وترون الولد الآن يحفظ الجزء الكامل من القرآن ويتلوه مع التجويد والأحكام قبل أن يُتقِن تعلّم الكلام، ويحفظ الأجزاء الثلاثة أو الأربعة أو القرآن كله أحياناً وهو ابن أحد عشر عاماً؟ أين هذه المدارس من تلك الكتاتيب؟ تلك كنا نُساق إليها باكين وهذه يتسابق الأطفال إليها ضاحكين، تلك كانوا يُدفَعون إليها بالعصا وهذه يُدعَون إليها بالهدايا والرغائب.

يمكن إذن أن نصل إلى الثمرة من الجادة السهلة النظيفة، فلماذا تريدون أن نعود إلى الطريق الوعر الوسخ المليء بالأشواك وبالأوحال؟

أما المدارس الأهلية التي كنت فيها فقد كان فيها خير كثير، علّمتنا الدينَ ونشّأتنا على التقوى، ولكن الثمن كان غالياً

ص: 350

والطريق شاقاً. فهذه الكتاتيب وهذه المدارس الأهلية كالدنيا: فيها ليل ونهار. فما لنا نذكر نهارها وننسى ليلها؟ ما لنا نُبصِر مزاياها ونُغمِض عن عيوبها؟ إنها تهتمّ بالدين، والدين هو الأساس لكل بناء خير، ولكنهم كانوا يلقّنون الدين بطريقة تنفّرنا من الدين؛ يسقوننا الشراب النافع، ولكن لا يرغّبوننا فيه ويجمّلونه في أعيننا ويضعونه في الآنية النظيفة على المائدة التي فيها الورد والفلّ، بل يضجعوننا كما تُضجَع النعجة للذبح ويمسكون بأيدينا حتى لا نتحرك، ويفتحون أفواهنا بذنَب الملعقة ويصبّونه فيها صباً يكاد يخنقنا! وكان من السهل عليهم (لو أنهم أرادوا) أن يفتحوا شهيتنا إليه ويثيروا رغبتنا فيه فنمدّ إليه أيدينا راضين ونشربه فرحين، ولكنها كانت هي الطريقة المتّبَعة على ما فيها من عوج.

وقد بقي من هذه الطريقة بقيّة إلى اليوم قاصرة -مع الأسف- على بعض دروس الدين.

* * *

هذه المدارس لم تكن فيها عطلة صيفية؛ كنا نذهب إليها كل يوم في الصيف وفي الشتاء، في أيام الفطر وأيام الصيام، لا نعطل إلاّ أيام الجمعة وسبعة أيام في العام هي أيام العيد.

وما كانت الطرق مزفَّتة (ولا تقولوا مسفلَتة) ولا نظيفة، بل كانت أرضها في الشتاء إذا نزل المطر وحلاً نخوض فيه إلى قريب الركب، يملأ رشاشه ثيابَنا من الظَّهر إلى قرب الخصر، فإذا جاء الصيف جفّ فصار تراباً يملأ أكتافنا ويستقرّ في صدورنا. وكانت السيارات في دمشق كلها تُعَدّ على أصابع اليدين، بل على أصابع

ص: 351

اليد الواحدة. وأنّى لأمثالنا ركوب السيارات؟ وعربات الخيل كانت غالية علينا، ثم إنها لا تمشي إلاّ في الطرق العِراض ونحن نسلك إلى المدرسة أزقّة وحارات، والترام له خطوط محدودة لا يصل إلاّ إلى أحياء السفح، سفح قاسيون وإلى الميدان، فكنا نمشي على أقدامنا.

هذه كانت حياتنا، وكنا صابرين عليها راضين بها، ما كان عندنا ما يشغلنا عن الدراسة وعن الجِدّ وعن العمل النافع إلاّ ألوان قليلة من اللهو الحلال الذي لا مضرّة فيه ولا خشية من عواقبه. ما كان عندنا ولا كان في الدنيا كلها إذاعات نستمع إليها، ولا رائيات (تلفزيونات) نعكف الساعات الطويلة عليها، ولا مجلات مسلّية (أو مُفسِدة) نقرؤها. وأكرر القول إننا كنا مع هذا كله راضين، فما لأبناء هذه الأيام لا يقدّرون ما أنعم الله به عليهم وأوصله إليهم: السيارات تحملهم من باب الدار إلى باب المدرسة، والدراسة لا تجاوز نصف النهار، والعطلة قد تأخذ ربع السنة أو أكثر (وقد امتدت في العام الماضي أربعة أشهر)، وأساليب التدريس اليوم لانت شدّتها وسَهُلت وعورتها، والضرب ممنوع والعصا قد أُلغيت.

على أن الناس لم يكونوا على أيامنا يحتملون هذه العطلة، فكان تلاميذ المدارس الأميرية يأخذهم آباؤهم إلى المدارس الأهلية التي لا عطلة فيها ليقضوا فيها أيام الصيف، فكانت تمتلئ إذا فرغت الأخرى. وكان التجّار من أهل الشام يصحبون أولادهم معهم إلى متاجرهم بعد خروجهم من هذه المدارس التي أدخلوهم في الصيف إليها، يعلّمونهم من الصغر كيف يبيعون ويشترون وكيف

ص: 352

يأخذون ويعطون، فيكبرون وهم لا يزالون في عهد الصغر.

وأهل الشام أبرع الناس في التجارة وأحرصهم عليها، إلاّ الأقل الأقل منهم. وكنت أنا وإخوتي من هذا الأقل، إذ لم يكن أبي تاجراً ولا جدّي، وإنما كان صاحب علم وجليس كتاب. وبراعة أهل الشام في التجارة فيها تفسير هذه الظاهرة التي كُتب عنها كثير من الكتب، هي أن اليهود قبل أن يسرقوا فلسطين وقبل أن يظاهرهم ويعينهم على سرقتها قوم آخرون، كانوا في كل بلد دخلوه أصحاب المال فيه وكانوا كبار تجّاره والقابضين على أزمّة اقتصاده، إلاّ الشام، فما جاوز اليهودُ عندنا أن يكونوا أصحاب ربابيكا (كما يقول العامة في مصر) عملهم الأوحد هو أن يحملوا أكياساً طويلة ويدوروا على البيوت ينادون:"أَواعي (1) عُتُق للبيع، أشياء عتيقة للبيع، أشياء عتيقة للبيع". كان هذا عملهم، وكان لهم عمل آخر اختصّوا به هو المتاجرة بنسائهم، لأن اليهود في البشر كالخنازير في الحيوان، ليس عندهم غيرة على إناثهم.

ولم ينفرد أهل الشام في البراعة في التجارة، بل كنت أرى وأنا صغير جماعة من أهل نجد يمشون إلى العراق وإلى الشام، وقد استقرّ فريق منهم فيها؛ رأيتهم في الزُّبَير لمّا ذهبت ماشياً إليها مع طائفة من تلاميذي في البصرة، وقد سبق الحديث عن هذا، ورأيتهم في البصرة وكانوا من وجوه أهلها، وقد دعانا مرة رجل كريم بيته مفتوح للضيوف هو من آل أبا الخيل (وقد نسيت اسمه،

(1) هي الملابس باللغة الدّارجة في الشام. ولعل أصلها من مادة «وعى» ، فمن معانيها ما يحتمل تنزيلَه على اللباس (مجاهد).

ص: 353

ويذكره الشيخ محمد محمود الصوّاف الذي أخذني إليه)، كما عرفت من الشباب الصالحين السيد سعود العقيل كان من طلاب الثانوية في البصرة. وكان هؤلاء النجديون يُعرفون عندنا بالعقيل (أو العقيلات)، يتاجرون بالإبل وغير الإبل ويدلّون القوافل على الطريق لمّا كان الحج بالبَرّ، وكانوا معروفين بصدق القول واستقامة السيرة وحسن المعاملة، وأظنّ أن ممّن كان عندنا منهم آل الروّاف وآل البسّام وآل الشبل، وجماعة آخرين نسيت أسماءهم.

ومن مدن الشام، والشام في عرف العرب كل ما ولي تبوك من الشمال، بل ربما اتصلت به أطراف العراق: بلد واحد فرقه الأعداء، كما قال صديقنا الكبير الشيخ رضا الشّبيبي (الذي سبق ذكر فضله عليّ لمّا كان وزيراً للمعارف سنة 1936 وكنت مدرّساً في العراق)، قال:

ببغدادَ أشتاقُ الشآمَ وها أنا

إلى الكَرْخِ من بغدادَ جَمُّ التّشَوُّقِ

هما بلَدٌ فردٌ وقدْ مزّقوهما

رمى الله بالتشتيتِ شملَ المُمَزِّقِ

أقول: إنه كان من مدن جنوبيّ الشام بلاد لم يستطع أن يعيش فيها قبل ضياع فلسطين يهوديّ واحد، كالخليل ونابلس، فصاروا الآن يجولون فيها ويصولون ويعيثون فساداً في الأرض لأنهم شعب الفساد والإفساد. وما بقوّتهم سطوا، ولكن بضعفنا وتفرُّقنا وأننا أبعدنا الإسلام عن معركتنا في فلسطين، فلم نجعلها جهاداً إسلامياً (1) بل حرباً وطنية ومعركة قومية، فكأن الله يقول لنا الآن:

(1) حتى جاءت هذه الانتفاضة سنة 1408، خرجَت من المساجد تلبس ثوب الإيمان، فأعطاها الله النصر وأدهش منها أهل الأرض.

ص: 354

"لِتَنصرْكم قوميتكم وعروبتكم ما دمتم أعرضتم عن نصرة ربكم فلم تنصروه لينصركم". فهل اعتبرتم؟ لقد خسرتم فما أغنَت عنكم قوميتكم ولا عروبتكم، فهل تعودون الآن إلى ربكم، تستغفرونه وتتوبون إليه وتجاهدون في سبيله ولإعلاء كلمته، وتستمطرون النصر منه باتّباع دينه والتمسّك بشريعته؟ أم أنتم محتاجون أن تستمرّ التجرِبة حتى تضيّعوا آخر ما بقي لكم؟

إنه والله لعجب يعجب منه العجب: رجل يقاتل عدوّه بالبندقية القديمة الصدئة التي ورثها عن جدّه، وأمامَه الرشّاش فلا يمدّ إليه يده وبين يديه القنبلة فلا يلتفت إليها ولا يحارب بها! أليست دعوة القومية المخالفة للإسلام هي البندقية القديمة الصدئة؟ أليست هي العصبية الجاهلية التي نهانا الإسلام عنها؟

لماذا نطلب المساعدة من عشرين مليوناً من العرب غير المسلمين (إن كانوا يبلغون العشرين)؟ نُقبِل عليهم وهم يُعرِضون عنا، ونبسم لهم وهم يعبسون في وجوهنا، ونُخلِص لهم وهم يكيدون لنا، يكذّبون رسولنا ويحاربون ديننا ويكونون دائماً مع عدوّنا علينا، وندع ثمانمئة مليون مسلم غير عربي هم منا، يمدّون الأيدي مخلصين إلينا، دينهم ديننا وقرآنهم قرآننا وعقيدتهم عقيدتنا! لقد جرّبنا، فهل بعد التجرِبة من برهان؟ جرّبنا رفع راية الإسلام بيد صلاح الدين فكانت حطّين، وكان بعدها استرداد فلسطين ثم كان طرد الواغلين الغاصبين، فخبّروني يامن رفعتم راية القومية ونكستم راية الإسلام، وقلتم «عرب» ولم تقولوا «مسلمون» ، تنادون كل يوم من إذاعتكم صباح مساء:"أيها الإخوة في العروبة"، ونسيتم الأخوّة التي قرّرها ربّ

ص: 355

العالَمين وهي أخوّة الإيمان، خبروني: ماذا أجْدَت عليكم؟

* * *

أمّا سؤال صاحب الرسالة عنا في الصيف: أين كنا نصطاف وكيف كنا نهرب من حرّ دمشق؟ فجوابه في الحلقة الآتية إن شاء الله.

* * *

ص: 356