المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌عندكم نابغون فتشوا عنهم بين الطلاب - ذكريات - علي الطنطاوي - جـ ٨

[علي الطنطاوي]

فهرس الكتاب

- ‌الجزء الثامن

- ‌وداع المحكمة الشرعية

- ‌في محكمة النقض في القاهرة

- ‌أشتات من الذكريات

- ‌زياراتي القديمة لمكة

- ‌حجة 1381: خواطر وأفكار

- ‌أبو الحسن النَّدْوي ومذكّراته (1)

- ‌أبو الحسن النَّدْوي (2)

- ‌أبو الحسن الندوي (3)

- ‌في مطلع العام 1987

- ‌مؤتمر القمة الإسلامي

- ‌الفقيدان الوزير والمدير،ومن قبلهما فقدنا الأمير

- ‌تعليق على الحلقة السابقة: لبّيكَ اللهمّ لبّيكَ

- ‌كيف جئتُ المملكة

- ‌وقفة على المخيَّمات

- ‌منزلي في الرياض

- ‌لمّا كنت أستاذاً في الكلّيات والمعاهد

- ‌تفسير بعض الآيات

- ‌من المستشفى المركزي في الرياضإلى مستشفى المواساة في دمشق

- ‌في مكة سنة 1384ه

- ‌في كلية التربية في مكة

- ‌يوم الجلاء عن سوريا

- ‌لمّا علّمتُ البنات

- ‌خواطر ومشاهدات عن تعليم البنات

- ‌لغتكم يا أيها العرب (1)

- ‌لغتكم يا أيها العرب (2)

- ‌ذكريات العطلة الصيفية في دمشق (1)

- ‌ذكريات العطلة الصيفية في دمشق (2)

- ‌هذه الحلقة من الذكريات مسروقة

- ‌عندكم نابغون فتّشوا عنهم بين الطلاب

- ‌عزمتُ أن أطوي أوراقيوآوي إلى عزلة فكرية

- ‌رسائل الإصلاح وسيف الإسلامانتقدت الشيوخ الجامدينوالشبان الجاحدين

- ‌الخاتمة

الفصل: ‌عندكم نابغون فتشوا عنهم بين الطلاب

-243 -

‌عندكم نابغون فتّشوا عنهم بين الطلاب

لمّا جئت المملكة سنة 1383هـ وعلّمت في الرياض لم تكن فيها إذاعة، لكنْ كان فيها بناء كبير أُعِدّ لها، ولم يكن فيه إلاّ موظف واحد هو الأستاذ موسى المجدّدي، أحد أبناء الشيخ الجليل الشيخ صادق المجدّدي، نسبة إلى الشيخ السَّرْهَندي الذي كان يُلقّب بمجدد الألف الثاني.

وكانت بيني وبينه رحمه الله مودّة. عرفته في مصر يوم كان الوزيرَ المفوض للأفغان أيام الملكية، وكان عميد السلك الدبلوماسي فيها. ولي معه جلسات طويلة، حدّثني في بعضها عن الملك «أمان الله» وثورة العلماء عليه لمّا أراد الخروج عن أحكام الإسلام حديثاً مفصّلاً تمنيت لو أنني دوّنته في حينه. وكان مما سألته عنه ما أُذيعَ من أن الشيخ جمال الدين الأفغاني كان إيرانياً ولم يكن أفغانياً كما كتب أخونا رحمه الله الأستاذ محمد حسين، فأكّد لي الشيخ صادق بأنه أفغاني أصيل. والشيخ صادق من العلماء المنجبين أبناؤه كثيرون، منهم الشيخ هاشم ومنهم الشيخ صبغة الله، أحد قادة الجهاد الإسلامي الرائع في بلاد الأفغان الآن.

ص: 367

أقول: كانت الإذاعة من جدة، وكنت يوماً في الرياض أدير مفتاح الرادّ، فسمعت إذاعة غريبة ليست من جدة ولا من مصر، ولم أكن أسمع في الرياض يومئذ غيرهما، إلاّ إذاعة بغداد أسمعها أحياناً. فوجدت هذه الإذاعة الغريبة تذكر أشياء عن المملكة وعن الرياض بالذات، فأصغيت أنتظر أن أسمع في آخرها اسم البلد الذي يخرج منه الصوت، فإذا هو من الرياض، وإذا هو يذكر اسم «طامي». فسألت إخواني: وما طامي هذا؟ وتطوّع واحدٌ منهم فجاء به إليّ فعرّفني به، وإذا هو شابّ سعودي مهذّب لا يبدو عليه أنه من أصحاب الدراسات ولا من حَمَلة الشهادات، وأخذني إلى عمارة عالية في شارع الوزير (وكان يومئذ أحد شوارع قليلة لم يكن في الرياض غيرها) وأدخلني عمارة فصعد بي إلى سطحها، فوجدت غرفتين صغيرتين ما لهما ثالثة، فيهما قطع آلات وأسلاك وأزرار في لوحات فقلت: ما هذا؟

فضحك وقال: هذه إذاعة طامي. إنها قطع اشتريتها من مخلّفات الجيش البريطاني لمّا عرضها للبيع، فرتّبتها وجعلت منها هذه الإذاعة. وسألني أن أحدّث الناس منها، فحدّثت ووصفت ما رأيت. وخبّرني الناس بعد ذلك أنهم سمعوا حديثي، سمعوه في الرياض وعلى بُعد عشرة أكيال (كيلومترات) في كل جهة من جهاتها الأربع.

* * *

أليس هذا هو النبوغ؟ بل أليست هذه هي العبقرية؟ هل كانت بداية أديسون أكبرَ من هذه البداية؟ أم كان أديسون أكثر

ص: 368

علماً وأوسع اطّلاعاً على علوم الطبيعة؟ هذا الطامي (الذي لم أعُد أسمع اسمه ولا أعرف خبره) كان يمكن أن يكون لنا منه أديسون آخر، يخترع مثل ما اخترع، لو أننا أخذنا بيده وشجّعناه. وهل كان أديسون (وأصحابه وأمثاله الذين وضعوا أسس هذه الحضارة المادية) أذكى منا ذكاء وأكبرَ عقولاً وأوسعَ مدارك؟ إن الذي صنعناه بالأمس البعيد والحضارةَ التي شيّدناها والمعارفَ التي بلغناها نستطيع أن نصنع الآن مثلها.

لا تقُلْ قد ذهَبَتْ أربابُهُ

كلُّ مَنْ سارَ على الدّربِ وصَلْ

هذه اليابان: ماذا كانت اليابان قبل مئة سنة أو تزيد قليلاً، وماذا صارت الآن اليابان؟

بل أحدّثكم عمّا هو أقرب عهداً وأدنى بلداً؛ حالنا نحن لمّا كنا طلاباً وحال الطلاب الآن: لماذا كان ينبغ منا نابغون كل عام لا يكاد يظهر أمثالهم الآن في الأعوام الطِّوال، في الأدب وفي الفنّ وكل علم، شعراء وكتّاب وأطباء ومهندسون؟ لا أعني أنهم أكملوا الدراسة ونالوا الشهادة فقط، فإن الذين يحملون الشهادات لا يُعَدّون، ولكن أقصد أنهم عباقرة متميزون أو نابغون سابقون، فما لنا لا نرى الآن أمثالهم؟ ما لنا لا يكاد يظهر منا في السنين المتطاولة علماء وأدباء، بل لا نرى إلاّ حَمَلة الشهادات؟ هل انقطع النبوغ وجفّ الينبوع، وأصبح الطلاب اليوم أقلّ حظاً من الذكاء ونصيباً من الفهم؟

أقول: لا. أقولها مطمئناً إليها واثقاً منها، بل إن الشباب الآن أوسع مدارك وأكثر اطّلاعاً مما كنا عليه في أيام شبابنا، فما السبب

ص: 369

إذن؟ ما هو الشيء الذي كان عندنا وكان سبب نجاحنا ولم نعُد نراه عندهم؟ لا شيء. إذن فما هو الشيء الذي نجده عندهم ولم يكن عندنا، فصرفهم عن العلم وشغلهم بالشهادات وبالمظاهر؟ هنا مربط الفرس كما يقول الناس.

* * *

لماذا أجمعَت كلمة رجال التعليم على الشكوى من الضعف العامّ في قواعد اللغة العربية وفي الإملاء بعدما ظهرَت نتائج الامتحان هذا العام؟ إن من المعروف أن من العلوم ما يمكن أن يعي التلميذُ المقدارَ المقرَّر عليه من مباحثه، أو أن يحفظه كما هو في الكتاب ويضعه في ورقة الامتحان، لا يخطئ منه شيئاً ولا ينقص منه شيئاً، فيُضطر المصحّح أن يقدّر له درجة النجاح.

ولكن درسين من الدروس لا ينفع فيهما هذا الأسلوب، بل لا بدّ فيهما من الإلمام بكل منهما إلماماً كاملاً لأنهما كل لا يتجزّأ وجميع لا يفترق، وهما اللغات والرياضيات.

ولقد كنت وكان إخواني في السنة الأولى من المدرسة الثانوية نميز الخطأ من الصواب، ونعرف كيف نراجع في القاموس المحيط، ونقرأ في كتب الأدب فلا نخطئ (أو نخطئ خطأ يسيراً). فإن لم نعِش في البلد الواحد فإننا نعيش في بلدان متشابهة، فما الذي كان لنا فأعاننا الله به على تحصيل الملَكة في العربية وحُرموا منه فمنعهم فَقْده من تحصيلها؟

إني لأنظر فأجد أنهم أذكى منا وأوسع أفقاً وأرفه عيشاً. كنا نقاسي من كثير من الشدائد فهوّن الله عليهم تلك الشدائد،

ص: 370

وكنا نجد صعاباً كثيرة فسهّل الله لهم تلك الصعاب: كانت كتبنا المدرسية على عهد الترك ونحن صغار خلال الحرب الأولى أكثرُها بلسانهم، فلما انقضت الحرب وقامت الدولة العربية في الشام وصارت هي لسانَ التعليم لم نكن نجد في أول الأمر كتباً، فكنا ننسخ بأيدينا ما يُمليه الأساتذة علينا. فما السبب إذن؟

لعلّ قلة المدارس يومئذ دعتهم أن يأتوا بأكبر الأساتذة للتدريس فيها. وليس المدرّس القوي في مادته الواسع في علمه الذي علّم آلافاً من الطلاب في عشرات من السنين كمَن نال الشهادة يوم الأربعاء فجعلوه مدرّساً أو معيداً يوم الأحد، وكلّفوه أن يكون هو المدرّس لمن كانوا بالأمس معه إذ سبقهم قليلاً، كما سبق عريف الفصل إخوانه فيه. فكيف يكون مدرّساً لمن كانوا رفاقه قبل أسبوع؟ وكيف يُقرَن بمن كانوا أساتذته قبل أسبوع؟

وابنُ اللَّبونِ إذا ما لزَّ في قرَنٍ

لمْ يستطعْ صَوْلَةَ البُزْلِ القَناعيسِ

* * *

هذه الأولى، والثانية كتب المطالعة (ونسمّيها في الشام «القراءة»)، وما يختارون فيها للطلاب من فنون الأدب ليكون لهم قدوة وإماماً ويكون نبراساً يستضيئون به.

اختار لنا الأستاذ سليم الجندي أولَ قدومه علينا في مكتب عنبر سنة 1923 قصيدة «وا حَرَّ قلباهُ مِمّنْ قلبُهُ شَبِمُ» التي ودّع بها المتنبي سيفَ الدولة لمّا فارق حلب قاصداً مصر، وشرحها لنا؛

ص: 371

لاكما يشرح المدرسون اليوم، يفسّرون مثلاً كلمة يتعاضدون بأنهم يتعاونون، بل يمرّ بنا على تاريخ الكلمة: كيف وُضعت، وما هو الجذر الذي اشتُقّت منه، وكيف تَحوّل معناها عن طريق التوسّع والمجاز والعُرف، فيقول مثلاً: إن أصلها من العَضُد، لأن الاسم أسبق دائماً في الوضع من الفعل، ولأن صيغة تفاعلوا تدلّ على المشاركة فالتعاضد هو لفّ العضُد على العضُد، والتكاتف إسناد الكتف بالكتف. وأعرض عنه: أي أعطاه عرضه فلم يُقبِل عليه بوجهه. وصفح عنه: منحه صفحة خدّه، أي لم يواجهه باللوم. وأمثال ذلك.

ومشيت أنا في تدريس الطلاب على هذه الطريقة. ولو وجدت من تلاميذي، أو لو وجد الأستاذ الجندي أو زميله المبارك منا نحن تلاميذه مَن يدوّن ما يقول لكان من ذلك كتب في الأمالي كأمالي الأولين.

ثم عاد من الحصة المقبلة بعد أن شرح القصيدة يقول لنا: اصرفوا أنظاركم عنها، لا تحفظوها لأن المتنبي في عُرف أهل اللغة شاعر مولَّد لا يُحتجّ بعربيته. وجعل يحفّظنا الشعر الجاهلي والإسلامي (أي الأموي)، فحفظنا المعلقات وجانباً كبيراً من الشعر الإسلامي، لا يزال في ذهني إلى اليوم قصائد كثيرة منها أحفظها برمّتها ولا أزال أرويها. انظروا أين كنا وإلى أين هبطنا.

قرأت في مجلة من نحو أسبوع هذه الكلمة، أنقلها بنصّها وإن كنت أكرم قلمي عن أن يخطّ مثلها وأصون صحفي عن أن أسوّدها بها، وهي: "قرأت في عدد من أعداد «المجلة» قصيدة

ص: 372

عمودية للأستاذ الحيدري، والواقع أنني لم أُعجَب بهذه القصيدة، ولم أكن أتصوّر أن شاعراً كبيراً كالحيدري سيعود إلى مثل هذا الشعر الذي كان شائعاً في العشرينات من هذا القرن". انتهى، وأشهد أن لا إله إلاّ الله!

هل كنتم تظنون أن يأتي على الناس يوم يخجل فيه واحدٌ منا أن نعود إلى شعر العشرينات (يقصد العشرينيّات) من هذا القرن؟ أي إلى شعر شوقي وحافظ ومِن قبلهما البارودي! فهل ترونه يرضى لنا أن نعود إلى شعر أبي تمام والبحتري فضلاً عن جرير والفرزدق، فما بالك بعودتنا إلى شعر النابغة وزهير ولبيد؟ أيريد بخمسة أسطر في هذه المجلة أن يمحو خمسمئة ألف بيت من الشعر قيلت في ألف وستمئة سنة من عمر الدهر؟!

إن للشعر معنى محدّداً وصورة ثبتَت في أذهان الناس من أيام الأفْوَه الأَوْديّ (الذي كان يعيش كما قالوا على عهد سيدنا المسيح عيسى بن مريم عليه السلام؛ إن الشعر عندنا لا يمشي إلاّ على ساقين من الوزن والقافية، فإن فقد إحداهما مشى على العكاكيز، وإن فقدهما صار شعراً كسيحاً لا يتحرّك إلاّ على كرسيّ ذي دواليب.

رحم الله الأستاذ العقّاد، عندما كان رئيس لجنة الشعر قدّموا إليه بعض هذا الذي يسمّونه «شعر الحداثة» فأحاله إلى لجنة النثر، لأنه أراد أن يدخل مدينة الشعر بجواز مزوَّر فردّه إلى موطنه، ولولا أنه رحمه وأشفق عليه لأحاله إلى محكمة الجنايات بتهمة التزوير!

* * *

ص: 373

المختارات التي تضعونها في كتب المطالعة وتُلزِمون التلاميذ بفهمها وحفظها هي العامل الأول في تنمية الملَكة الأدبية في نفوسهم وتقويتها أو في إضعافها وإماتتها. ولقد صرنا نجد مَن يكتب في الصحف يسخر من شوقي ومَن لو أنصف الناس لنصبوه وإخوانه على الأعمدة ليكونوا عِبرة لمن يتجرّأ على الحقّ وينصر الباطل، يسخرون من شوقي وما ظهر من قرونٍ مَن هو أشعر من شوقي. شوقي الذي قال وهو في طراوة الشباب قبل أن يقوى عوده ويشتد أَسْره:

صوني جَمالَكِ عنّا إنّنا بشَرٌ

مِنَ التّرابِ، وهذا الحُسنُ رُوحاني

أوْ فابتغي فَلَكاً تأوينَهُ ملَكاً

لا تنصِبي شرَكاً للعالَم الفاني

قابِلوا -ناشدتكم الله- بين هذا الكلام وبين ما يقوله شعراؤكم أهل الحداثة (أو الحدث)! شوقي القائل:

أفضى إلى ختمِ الزّمانِ ففَضَّهُ

وحبا إلى التاريخِ في محرابِهِ

وطوى القُرونَ القَهْقَرى حتّى أتى

فرعَونَ بينَ طعامِهِ وشرابِهِ

شوقي الذي أنطق في قصيدة «الأزهر» أكبرَ ناطق وهو الدنيا، وأسمع أعظمَ سامع وهو الزمان حين قال:

قُمْ في فَمِ الدّنيا وحَيِّ الأزهرا

وانثُرْ على سَمْعِ الزّمانِ الجَوْهرا

شوقي الذي قال في قصيدته عن نابليون:

وُضِعَ الشَّطْرَنجُ فاستقبَلْتَهُ

ببَنانٍ عابثٍ باللاعبِينْ

صِدتَ شاهَ الرُّوسِ والنّمسا معاً

مَنْ رأى شاهَينِ صِيدا في كَمينْ؟

* * *

ص: 374

وشيء آخر لعلّه من أسباب ضعف الطلاب في الدروس كلها وفي العربية على التخصيص، أخشى إن قلتُ الحقّ فيه أن أُغضِب ناساً ما لي إلى إغضابهم رغبة، هو أن الاهتمام بالشيء بمقدار الحاجة إليه، وتُعرَف الحاجة إليه بمقدار الخسارة في فقده. ونحن نحتاج إلى مَن يعلّم أولادنا ومن يداوي مرضانا ومن يضمن إقامة العدل فينا ويؤدّب الجانحين والمجرمين منا. ونحتاج قبل ذلك إلى مَن يدلّنا على طريق النجاة في آخرتنا والوصول إلى رضا ربنا، فهل إدخال الكرة في شبكة في الملعب أهمّ من هذا كله؟

هذا هو السؤال، فلا تغضبوا إن أنا سألتكم فما أريد إلاّ أن أتعلّم: لماذا نهتمّ بهذا اللاعب أكثرَ من اهتمامنا بالطبيب وبالمدرس وبالأستاذ وبالواعظ؟ وكيف نرغّب الطلاب في القواعد والإملاء وهم يرون هؤلاء ينالون من التكريم أكثر مما يناله الخليل والمبرّد وأئمة اللغة أجمعين، لو بعثهم الله القادر على كل شيء من قبورهم فمشوا بيننا وعاشوا معنا؟ وأنا لا أقول لكم اتركوا العناية بالرياضة، فإنها من القوة التي أمر الإسلام بإعدادها، والقوةُ زينة الرجال: قوة العلم وقوة الجسم وقوة الإيمان، ولكن الذي أقوله لكم أن لا تدفعوا ثلاثمئة ريال مثلاً في بضاعة مهما غلت لا تساوي إلاّ خمسة عشر ريالاً.

* * *

أعود إلى كتب المطالعة وما تضعونه فيها، فهل تريدون الحقيقة الصادقة والنصح المخلص أم أنكم لا تحبون الناصحين (وأعيذكم بالله من ذلك)؟ جنّبوا كتب المطالعة هذا الأدب الذي

ص: 375

تسمّونه يوماً بأدب الحداثة ويوماً بالشعر المنثور ويوماً بالنثر المشعور (كما قال المازني رحمه الله مازحاً ساخراً لمّا سألوه عنه) ويوماً بقصيدة النثر، وكل ذلك من مظاهر العجز عن نظم الشعر البليغ؛ كالثعلب لمّا لم يصل إلى عنقود العنب قال إنه حامض.

واختاروا لهم ما يقوّي ملَكتهم العربية، لأن العربية والإسلام لا يكادان يفترقان. لقد حاقت بالعربية نكبات واعترضت طريقها عقبات ونزلت بها من نوازل الدهر المعضلات، ولكن ما مرّ بها يومٌ هو أشد عليها وأنكى أثراً فيها من هذا الأدب المزوَّر الذي سمّيتموه «أدب الحداثة» . إنه ليس انتقالاً من مذهب في الشعر إلى مذهب ولا من أسلوب إلى أسلوب، ولكنه لون من ألوان الكيد للإسلام بدأ به أعداؤه لمّا عجزوا عن مسّ القرآن لأن الله الذي أنزله هو الذي تعهّد بحفظه، فداروا علينا دَورة وجاءونا من ورائنا. وكذلك يفعل الشيطان، يأتي الناس من بين أيديهم وعن أيمانهم ومن وراء ظهورهم. فعمدوا إلى إضعاف الإسلام بإضعاف العربية؛ إنها بدعة لم يسبق لها من قبل نظير (1)، إنها ردّة عن البلاغة كالردّة عن الإسلام التي كانت عقب انتقال الرسول عليه الصلاة والسلام إلى الرفيق الأعلى، ولكنها ردّة (كما يقول أخونا الأستاذ أبو الحسن الندوي): ردّة ولا أبا بكر لها.

* * *

(1) اقرؤوا كتاب «الحداثة في ميزان الإسلام» الذي قدّم له الشيخ عبدالعزيز بن باز المفتي العامّ جزاه الله وجزى مؤلّف الكتاب خيراً.

ص: 376