المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

فهرس الكتاب

- ‌الجزء الثامن

- ‌وداع المحكمة الشرعية

- ‌في محكمة النقض في القاهرة

- ‌أشتات من الذكريات

- ‌زياراتي القديمة لمكة

- ‌حجة 1381: خواطر وأفكار

- ‌أبو الحسن النَّدْوي ومذكّراته (1)

- ‌أبو الحسن النَّدْوي (2)

- ‌أبو الحسن الندوي (3)

- ‌في مطلع العام 1987

- ‌مؤتمر القمة الإسلامي

- ‌الفقيدان الوزير والمدير،ومن قبلهما فقدنا الأمير

- ‌تعليق على الحلقة السابقة: لبّيكَ اللهمّ لبّيكَ

- ‌كيف جئتُ المملكة

- ‌وقفة على المخيَّمات

- ‌منزلي في الرياض

- ‌لمّا كنت أستاذاً في الكلّيات والمعاهد

- ‌تفسير بعض الآيات

- ‌من المستشفى المركزي في الرياضإلى مستشفى المواساة في دمشق

- ‌في مكة سنة 1384ه

- ‌في كلية التربية في مكة

- ‌يوم الجلاء عن سوريا

- ‌لمّا علّمتُ البنات

- ‌خواطر ومشاهدات عن تعليم البنات

- ‌لغتكم يا أيها العرب (1)

- ‌لغتكم يا أيها العرب (2)

- ‌ذكريات العطلة الصيفية في دمشق (1)

- ‌ذكريات العطلة الصيفية في دمشق (2)

- ‌هذه الحلقة من الذكريات مسروقة

- ‌عندكم نابغون فتّشوا عنهم بين الطلاب

- ‌عزمتُ أن أطوي أوراقيوآوي إلى عزلة فكرية

- ‌رسائل الإصلاح وسيف الإسلامانتقدت الشيوخ الجامدينوالشبان الجاحدين

- ‌الخاتمة

الفصل: ‌أشتات من الذكريات

-217 -

‌أشتات من الذكريات

رجعت من مكة في الإجازة في صيف 1966 ووصلت عمّان، فإذا أنا أجد عدداً من جريدة «الحياة» فيه نبأ رفع الحصانة عن القضاة في سوريا أربعاً وعشرين ساعة، وصدور القرار بتسريح عدد منهم من الذين لا يوائمون العهد ولا يمشون معه ولا يسايرونه في تقدميته واشتراكيته. وكان الاسم الأول في هذه القائمة اسم عبد القادر الأسوَد رئيس محكمة النقض، والثاني اسم علي الطنطاوي.

وقد مرّ قراء الجريدة بهذا الخبر مروراً عابراً، لم يدروا أنه خاتمة قصة طويلة لا يعرفها إلاّ أنا، قصة ربع قرن، فيها من الأحداث والوقائع ومن النوادر والطرائف ومن الدروس والعبر ما يملأ كتاباً كاملاً. قصة بدأَت بإعلان قديم رأيته على عمود الكهرباء (1) في ساحة المرجة في دمشق سنة 1941، وانتهت بهذا الإعلان الذي وجدته في جريدة «الحياة» سنة 1966.

قصة طويلة فيها مراحل تَحوّل فيها طريقي مرات، وما حوّلَته

(1) راجع الحلقة 113 من هذه الذكريات (مجاهد).

ص: 37

إلاّ هِناتٌ هَيّنات كأنها حُصَيّات ألقتها في طريقي المصادفات: كُناسة أُلقيَت من نافذة الوزارة فدخلت عليّ من نافذة المحكمة، وصداقة مع الوزير نشأت من محاضرة ألقيتها في جمعية التمدن في دمشق! ومن قبلُ صحبتُ ابن خالتي الشيخ طه الخطيب فزرت معه المدرسة الأمينية، فعلقت رجلي بالفخّ واشتغلتُ بالتعليم من تلك السنة (1345هـ) إلى الآن. وزرت الأستاذ معروف الأرناؤوط مع أخي أنور العطار رحمه الله في جريدته «فتى العرب» سنة 1930، فاشتغلت بالصحافة زمناً من عمري.

وضللت مرة طريقي وتوجهت إلى غير غايتي وحاولت أن أعمل بغير ما أظن أني خُلقت له، فاشتغلت بالتجارة وما أنا من أهلها ولا أصلح لها، فردّتني إلى الطريق مقابلة عارضة للأستاذ محمد علي الطيبي رحمه الله، تلميذ أبي وخليفته في عمله بالمحكمة.

كلها أحداث صغيرة ربما سُمّيت مصادفات، وما في الكون مصادفات؛ إن هي إلاّ أمور مقدَّرات محسوبات.

ألا تعرفون قصة البدوي التي حدّثت يوماً بها من إذاعة دمشق من أكثر من ربع قرن؟ لقد فصّلتها يومئذ وأوجزها اليوم.

بدوي كان يعيش في صحراء (1)، ما عرف المدن ولا زارها ولا أظلّته سقوفها، يقيم حيث طاب له المقام وحيث يجد الكلأ والماء، ينصب خيمته فتكون هي دنياه يستغني بها عن الدنيا، ويُطلِق أنعامه فتكون له الغذاء والسقاء. أخذوه مرة إلى المدينة

(1) انظر مقالة «أعرابي في بلودان» في الكتاب الجديد، «نور وهداية» ، الذي أوشك أن يصدر بإذن الله (مجاهد).

ص: 38

فأنزلوه دارة حديثة (أي فيلا) فيها الماء حاراً وبارداً وفيها الكهرباء وفيها مكيفات الهواء، وفيها كل ما يحتاج إليه الناس.

فتهيّبَ دخولها أولاً ونصب خيمته في حديقتها. وذهب يستقي الماء حيث يجد الماء، ثم دفعه الفضول مرة فدخل خائفاً يترقّب أن يصيبه شيء فيناله بأذى، وأظلم عليه الليل وهو فيها فذهب يتلمس طريقه إلى الباب ليخرج منها، فوقعت يده على زر الكهرباء فأضاء المكان، ولمس صنبور الماء (الحنفيّة) فسال منها الماء، فعجب من هذه «المصادفات» .

سماها مصادفات لأنه لم يعلم أن الذي بنى الدارة مدّ فيها أنابيب الماء وأسلاك الكهرباء وأقامها على هندسة وعلى تقدير! ثم بلغ به الأمر أن ذهب إلى صاحبها الذي استأجروها له منه فقال له: أنا لن أدفع إليك شيئاً من المال. قال: ولماذا لا تدفع لي؟ فقال له: لقد صرت إلهاً، أستطيع أن أُسيل الماء من الحديد وأن ألمس الجدار فأحوّل الليل إلى نهار، وأن أسخّر الكون كله بما عرفته من العلم!

أليس هذا هو مثل الملحدين الكفار؟ لمّا أطلق البشرُ أولَ قمر صناعي حسب ناسٌ منهم أنهم شاركوا الله في ملكه، تعالى الله وأستغفره من هذا المقال، ولم يدروا أنهم كأمّة من النمل أخذت إحداها قشّة صغيرة فحملتها ثم أفلتَتها في مجرى الريح، فحملتها الرياح مسافة أمتار، فحسبت أنها سيّرت كوكباً كالكواكب التي سيّرها الله في الفضاء. وما النملة ولا قومها هم الذين أوجدوا الريح وأثاروها، وما طارت القشة بقوة النمل ولكن بقدرة خالق النمل.

ص: 39

إن لكل عصر وَثَنيّات، ووثنية هذا العصر المبالغةُ في تقدير العلم. إنهم يقولون كما قال الأولون: إنما أوتيته على علم عندي.

وما العلم؟ أليس العلم معرفة قوانين الله في الوجود؟ وما الذي عرفناه من هذه القوانين؟ وما الذي بلغه علم العلماء؟ كشفوا قانون الجاذبية، ولكن هل عرفوا ما هي الجاذبية؟ ودرسوا الكهرباء وآثارها وجعلوا منها علماً يُدرس في المدارس والجامعات، ولكن هل عرفوا ما هي الكهرباء؟ وعندهم علم يُدعى علم النفس يدرس أطوارها وأحوالها، ولكن هل علم أحدٌ ما هي النفس؟

إنهم لا يعلمون إلاّ ظاهراً من الحياة الدنيا. يقولون: "إن العلم قهر الطبيعة". وما أكذب هذه الكلمة؛ إنها وقاحة وافتراء وقلّة حياء، إن علومنا كلها كشف للأقل الأقل من أسرار الطبيعة التي طبعها الله عليها، فكيف نقهرها بهذه العلوم؟

{أَلَمْ تَرَ إلى الذي حاجَّ إبراهيمَ في ربِّهِ أنْ آتاهُ اللهُ المُلكَ، إذْ قالَ إبراهيمُ: رَبّيَ الذي يُحيِي ويُميتُ، قالَ: أنا أُحيِي وأُميتُ} . وما أحيا ولا أمات بعلمه ولا بإرادته، ولكن بقانون الله الذي وضع الأسباب للموت والحياة. فلما طلب منه ما يخالف قانون الله وقال له إن الله يأتي بالشمس من المشرق فَأْتِ بها من المغرب، بُهت الذي كفر.

ولمّا نُقل أول قلب من إنسان إلى آخر ظنّوا أنهم ذهبوا يخلقون كخلق الله، تشابه الخلق عليهم، وحسبوا أن الجراحة لمّا تقدّمت وارتقت تستطيع أن تضاهي خلق الله. وماذا يصنع الجرّاح إلاّ أنه يشقّ الجلد ويخيط الجرح، ثم يقعد ينتظر لا يصنع شيئاً؟

ص: 40

ما وصل هو الجلد وأعاده إلى مكانه ولكنه وصله الله. وما ينبت الزارعُ الزرعَ ولكن يُنبِته الله. إن كل ما نصنع هو أن نستعين بالطبيعة التي طبعها الله.

وإني لأعجب من بعض الدعاة حين يقولون إن من مزايا القرآن أنه سبق العلم. إنهم كمَن يأتي إلى رجل بنى بيته على هيئة الكعبة فيقول له: إن الكعبة قد سبقت بيتك وجاءت على هذا الشكل من قبله! إن مثل القرآن والعلم كمثل سائق سيارة يمشي بها في السهل الواسع، يرى القمر أمامه مُطِلاًّ عليه من فوق الجبل فيسرع ليدرك القمر، والقمر في مكانه. إن القرآن لا تبلى جِدّته ولا ينفد مَعينه، فكلما ازددنا علماً وجدنا تفسيراً للقرآن جديداً لم يعرفه الأولون، لأن الذي أنزل القرآن هو الذي خلق الأكوان ويعلم ما يجد فيها وما يؤول إليه حالها.

وأحمق الناس الذين يزعمون من أعداء الإسلام أن محمداً عليه الصلاة والسلام إنما تعلم من الرهبان، من بَحيرا. وما بحيرا وما مبلغه من العلم؟ وهل عرف بحيرا أو عرف أحدٌ على ظهر الأرض يوم نزل القرآن مراحلَ تكوّن الجنين في بطن أمه في ظلمات ثلاث؟ فمَن أنبأ بهذا محمداً؟ إن أرسطو الذي كانوا يلقّبونه بالمعلم الأول لا يعرف من تكوّن الجنين في الرحم إلاّ أشياء رُويَت عنه يضحك منها الآن الطالب في المدرسة المتوسطة، فكيف عرف محمد ‘ ما لم يكن يعرفه أحد على ظهر الأرض ولم يعرفه الناس إلاّ بعده بأكثر من ألف سنة، وقد كان في بلد بعيد عن مراكز الحضارة في قرية ما فيها مدرسة أولية ولا كان فيها ممن يقرأ أو يكتب إلاّ أحد عشر رجلاً وامرأة

ص: 41

واحدة، وكان هو نفسه أمياً لا يقرأ الكتاب ولا يخطّ القلم. فمن علّمه هذا إن لم يكن بوحي نزل عليه من السماء؟

* * *

هذا النبأ الذي قرأته في جريدة «الحياة» أثار في نفسي مئات من الذكريات؛ لقد أدار فيها شريطاً طويلاً فيه من الأحداث والأخبار ما عرفتم بعضَه فيما سبق من هذه الذكريات، وما بقي بعضه في زوايا الذاكرة ينتظر ما يخرجه منها، وبعضٌ سقط من شقوقها وضاع.

رأيت في هذا الشريط كيف عُيّنت في النبك، وأول حُكم حكمته في دعوى الإرث المزمنة، وخلافي مع حاكم الصلح، وكيف خرجت من هذا الخلاف منتصراً بعون الله لأنني كنت مع الحقّ ثم استلمت أنا المحكمة منه. وكان فيها رئيس للديوان اسمه عبد الوهاب حيدر أبوه مفتي المنطقة، وكان له أخ شابّ كان طالباً في تلك الأيام، وكان يزورنا فنرحّب به وربما سألني فأجبته. هذا الشابّ هو الوزير الذي أمضى قرار تسريحي.

وما ألومه، لأنه كان يكتب ما يُملى عليه ويسير من حيث يسيره غيره.

رأيت في هذا الشريط مجالسنا في النَّبْك، وكيف جمعتُ الموظفين على قراءة كتاب نافع بدلاً مما كانوا فيه من إضاعة الوقت في اللهو والكلام الفارغ. ثم كان انتقالي إلى دوما وما مرّ عليّ فيها حين بنيت جداراً فصل المحكمة عن غرف القصر وجعلها مستقلّة، وكيف منعت الوسطاء، حتى إنه جاءني مرّة شيخ بعمامة

ص: 42

بيضاء من عين منين كانت تلحقه حيثما مشى قالة السوء، وكان معروفاً بأنه يشفع الشفاعات السيئة التي يكون له كِفْل منها، وكان له ولد هو صديق لنا يتبوأ منصباً عالياً في الدولة، جاء مرة مع ناس من أهل بلده لهم دعاوى في المحكمة. سمعت صوته من وراء الباب فخفت أن يسلّم عليّ ويوهمهم أنه يكلّمني في قضاياهم، فتردّدت بين واجب المجاملة وواجب الصدع بالحقّ، فآثرت رضا الله على رضاه، وخرجت إليهم وقلت لهم: هذا الشيخ لا صلة له بي ولا بالمحكمة، ولا أقبل منه تدخلاً في قضية ليس مدّعياً ولا مدّعىً عليه فيها، فإذا كان قد أوهمكم غير ذلك فلا تصدّقوه، وإذا كان قد أخذ منكم شيئاً على هذه الوساطة فاستردّوه.

ودخلت وأغلقت الباب، وكان لذلك أثر عميق تحدّث به الناس حيناً.

ثم ما كان من انتدابي لمحكمة دمشق، وسوء حالها، وسفر القاضي الممتاز للحجّ وانتدابي للعمل مكانه. ولا بأس أن أثبت هنا نصّ قرار الانتداب إلى المحكمة الشرعية في دمشق: بناء على سفر القاضي الممتاز السيد عزيز الخاني لقضاء فريضة الحجّ تُوزَّع الأعمال المنوطة به على الوجه الآتي: يقوم السيد عادل علواني برئاسة المجلس المشترك. ويقوم السيد صبحي الصباغ برئاسة المجلس العلمي ومجلس الأيتام. ويقوم السيد علي الطنطاوي بالمعاملات الإدارية، على ألاّ يذهب إلى دوما أثناء غياب القاضي الممتاز بل يقوم بأعمال المحكمة الشرعية بدوما حاكم الصلح السيد مصطفى المغربي. دمشق في 18/ 10/1945. وزير العدلية.

* * *

ص: 43

وكنت أعرف عيوب المعاملات الإدارية وما يصنع فيها رئيس الديوان وأعوانه (ممن يمكن أن يُسمَّوا بهذا الاسم المستحدَث، وهو «مراكز القوى»، أي أنهم عصابة مسلَّطة على الناس تأخذ منهم الرشوات، فمن امتنع عن أدائها أبطؤوا في إيجاز معاملته وأرهقوه بالتأجيل وأزعجوه وآذوه حتى يُذعِن فيؤدّي ما طلبوه). كنت أعرف هذا وكتبت في أمره إلى القاضي الممتاز رحمة الله عليه فلم يأتِ كتابي بثمرة، فلما تسلّمت الأعمال الإدارية أصلحت فيها إصلاحاً جزئياً، لم أستطع -لقِصَر الوقت ولأنني منتدَب غير أصيل- أن أقطع أسباب الداء وأن أعمل على الشفاء. فلما آل الأمر إليّ فيما بعد بدّلت وضع المحكمة كله، وسعيت حتى تخلصت من جميع من كان فيها من الموظفين إلاّ قليلاً منهم من الصالحين المصلحين.

هذا الذي أودعتُه صفحتين من صفحات هذا الكتاب استغرقَت أحداثه خمساً وعشرين سنة.

ثُمّ انقضَتْ تلكَ السُّنونُ وأهلُها

فكأنّها وكأنّهمْ أحلامُ

ذهب ذلك كله كما يذهب العمر ولم يبقَ منه إلاّ رسوم وأطلال: ذكريات في النفس يتربص بها النسيان، وأوراق قليلة في الدّرْج ينتظرها الضياع.

لقد وجدتُ من هذه الأوراق الكثير، كل واحدة منها تحدّث حديثها، ولا يفهم حديثَها إلاّ صاحبها. ولها وجه آخر لو أبصرتموه لأبصرتم فيه مآسي وأفراحاً ومسرّات وأحزاناً، ولكن مَن يستطيع أن يعرفها وأن يصفها؟ إن لكل عقد زواج عقدتُه قصة

ص: 44

فيها الرغبة والأمل قبله والتشوّق والانتظار، وترقّب ليلة الزفاف والشوق إليها والخوف منها، وشهر العسل، وشهور بعده ما فيها عسل ولا حلاوة كحلاوة العسل، وانتظار الحمل ومتاعب الحمل، ومشقّات الولادة، والسعادة بالولد والتعب بالولد

وقصة كل طلاق والمأساة التي جرّت إليه والتي نتجت عنه. كل واحدة من هذه القصص لو أن كاتباً صاغها صياغة أدبية لكان منها رائعة من الروائع.

والأم المطلَّقة التي يحين موعد انتزاع الولد منها وتسليمه إلى أبيه، لانتهاء مدة الحضانة التي هي من شأن النساء وابتداء عهد التربية التي يتولاها الرجال. كل دعوى لها قصة، وما قصةٌ منها تشبه الأخرى ولو كان الموضوع واحداً. لو كتبت هذه القصص أو بعضها. وكيف؟ وأنى؟ لجاء منها كتاب هو قصة الحياة الإنسانية كلها.

وإذا كان القاضي المدني يحكم في الأموال لا يجاوزها والقاضي الجنائي يقيم الحدود ويدرأ بها الجنايات، فإن القاضي الشرعي، أو قاضي الأحوال الشخصية، هو قاضي الحياة الإنسانية كلها بما فيها من بياض وسواد وحلاوة ومرارة وسعادة وشقاء.

هذا كله في الدنيا، فما لي عند الله؟ أنا ما تعمّدت الحيف ولا حِفْت يوماً وأنا أعلم، ولكن كيف بما لم أعلم. كانوا يأخذون عليّ أني لا أدع المتقاضين يتكلمون كما يريدون. وما كنت أمنع أحداً أن يُدلي بحُجّته، بل كنت أمنع الكلام الذي لا جدوى منه ولا نفع فيه.

ص: 45

كانت المرأة مثلاً تدّعي أن زوجها طلّقها، فأسأله ولا أريد منه إلاّ أن يقول «نعم» فيكون قد أقرّ وانتهت الدعوى أو أن يقول «لا» فأكلّف المرأة الإثبات، وإذا به يقصّ عليّ قصة طويلة لا تنفع في الدعوى ولا تؤثّر في الحكم وما يكون منها إلاّ إضاعة الوقت على المتقاضين. هذا الذي أمنعه من الكلام.

على أنني أسأل الله أن يتجاوز لي عما أخطأت فيه، وأن يُرضي عني بكرمه مَن ظلمتُه بغير قصد مني ويعوّض عليه الحقّ الذي ضاع منه بخطئي.

* * *

أعوج على أوراقي فأستنطقها، كما كان الشعراء يعوجون على الديار ويستنطقون الآثار. أقلّبها الآن فأجد صورة مرسوم رقم 950، وهذا نصّه:

إن رئيس الجمهورية بناء على أحكام الدستور وعلى أحكام قانون السلطة القضائية رقم 133 تاريخ 8/ 10/1953 وعلى المرسوم التشريعي رقم 15 المؤرَّخ في 4/ 10/1953 المتضمن تحديد تعويض الموظفين، وعلى اقتراح وزير العدل يرسم ما يلي:

المادة (1) يحدد تأليف لجنة الإشراف على مجلة القانون التي تُصدِرها وزارة العدل من السادة الآتي ذكر أسمائهم، ويحدّد التعويض الشهري لكل منهم وفقاً للمبلغ المعين إزاء اسمه: عارف الحمزاوي الأمين العام لوزارة العدل رئيساً، التعويض 150 ليرة. علي الطنطاوي المستشار في محكمة التمييز، 150 ليرة. ظافر الموصلّي القاضي البدائي

ص: 46

في دمشق، 150 ليرة. سليم صنيج قاضي الصلح بدمشق، 150 ليرة. محمد الذهبي رئيس الديوان بوزارة العدل أميناً للسرّ، 100 ليرة. أحمد الفياض المساعد في وزارة العدل مساعداً، 75 ليرة.

المادة (2) يُعتبر هذا التعيين بالنسبة لكل من السادة سليم صنيح ومحمد الذهبي وأحمد الفياض من تاريخ قيامهم بالعمل الواقع في 1/ 1/ 1956، ويُعتبر بالنسبة للآخرين من تاريخ 1/ 6/1956، على ألاّ يتجاوز مفعول هذا المرسوم تاريخ نفاذ قانون موازنة عام 1956.

المادة (3) تُصرف التعويضات المذكورة من الاعتمادات المرصدة باسم مجلة القانون في موازنة وزارة العدل.

المادة رقم (4) يُنشر هذا المرسوم ويُبلّغ لمن يجب لتنفيذ أحكامه.

دمشق في 23/ 2/ 1956، رئيس الجمهورية شكري القوتلي، رئيس مجلس الوزراء سعيد غزي، وزير العدل منير العجلاني.

* * *

أثبتُّ هذا المرسوم بنصّه ليعرف القراء «الصيغة» التي كانت تصدر بها المراسيم.

ومن خبر هذا المرسوم أنها لمّا أُنشئت كلية الشريعة في جامعة دمشق دُعيتُ لأدرّس فيها، وكُلّفت بمادة دعوها «فقه السيرة» ، استحدثوها كما استحدثوا مادة «الثقافة الإسلامية»

ص: 47

و «نظام الإسلام» . وكنت أول من درّس فقه السيرة (كما كنت أول من درّس الثقافة الإسلامية)، ولم يكن لها منهج، فوضعت لها منهجاً وسيّرت الطلاب فيه معي، وكان منهم مدرّسون في المدارس الثانوية ومنهم مَن هو في منزلتهم ومن أمثالهم. وبدأنا في تحقيق مصادر السيرة وتمييز الصحيح من أخبارها من الضعيف والموضوع، وكلّفتهم المشاركة في ذلك، فأعدّوا مباحث كان منها الطيب الناضج ومنها ما هو دون ذلك، وكان ما أعدّه أحدهم تصنيف رواة الطبري.

ونحن نرى اليوم أساتذة يُشار إليهم ويُعتمد عليهم يوثّق أحدُهم ما يورده من أخبار بأنه في تاريخ الطبري الجزء كذا والصفحة كذا. وليس هذا بالعزو العلمي بل ربما دلّ على جهل هذا الأستاذ، لأن الطبري صرّح بأنه يجمع في كتابه الصحيح الثابت وغير الصحيح وغير الثابت، ويُسقِط عن نفسه التبعة بذكر الراوي. وعلى من ينظر في كتابه أن يعرف درجات الرواة ومنازلهم من الضبط والعدالة، فإن منهم مَن لا يُعتمَد عليه ولا يُوثَق به (كأبي مخنف مثلاً ومحمد بن السائب الكَلْبي وأمثالهما). ولو أن هذه الرسالة التي كتبها الطالب في رواة الطبري طُبعت لنفعت الناس.

كان فقه السيرة علماً جديداً مستحدَثاً لم يكن فيه كتب فتعبتُ في إعداد المحاضرات التي ألقيها على الطلاب، ثم ألّف فيه بعد سنوات طوال أساتذة أفاضل كالشيخ محمد الغزالي، الداعية المعروف، والدكتور سعيد رمضان البوطي، وهو عالِم ابن عالِم، أبوه الشيخ المعمَّر الصالح مُلاّ رمضان. كما ألّف فيه غيرهما.

ص: 48

ومن مزايا تاريخ الطبري أن سيرة ابن إسحاق التي شاع أنها مفقودة، هذه السيرة موجودة في تاريخ الطبري روايةً عن محمدبن سلمة عن ابن إسحاق، وابنُ هشام في مختصره يرويها عن الطبري. وقد تنبّهت إلى هذا وكتبت أنبّه عليه من نحو خمسين سنة، وانتدبت أخي ناجي القاضي، ثم بنتي بيان المحاضرة في الجامعة في جدة، ثم ابن بنتي مجاهد المهندس، إلى استخراج هذه السيرة من تاريخ الطبري ومقابلة أخبارها على كتب التاريخ وطبعها وحدها. وأظن أن بعضهم يعمل في ذلك الآن.

* * *

وما طالت أيامي في كلية الشريعة، لأنهم قرّروا اتّباع سنّة السوء المتّبَعة في الجامعة وهي جمع الطلاب والطالبات معاً في قاعة الدرس، فأبَيت ذلك، واجتمع مجلس الكلية وكان فيه شيخنا الشيخ محمد بهجة البيطار والأصدقاء المصطفيان الزرقا والسباعي والأستاذ المبارك والدكتور معروف الدواليبي، رحم الله مَن مات منهم وأطال حياة الباقين، فكانوا جميعاً عليّ يقولون: إن البنات محجَّبات، وليس الاجتماع خطوة ممنوعة ولا دليلَ على منعه. وأنا أراه باباً إن فتحناه دخل منه الحرام. وذكّرت أخي الأستاذ الزرقا بأنه كان معنا -لمّا كنا ندرُس معاً في كلية الحقوق في أوائل الثلاثينيات- فتاة تأتي بالملاءة مغطّى وجهُها فلا تكشفه إلاّ في الفصل، ثم إنها (وأستغفر الله من هذا الكلام) لا يمكن أن تُغري أحداً بالحرام! فانظر اليوم إلامَ انتهى الأمر؟

وجادلتهم فلم يُفِدني جدالهم، فقلت لهم: إني أُعيد الدرس

ص: 49

للطالبات مجّاناً، ولأن أكون معهن وحدي أهون من أن يكنّ مع الطلاب مجتمعين، ولا آخذ على الإعادة أجراً.

فأبوا وأبيت وعُدت إلى محاضراتي، فما راعني إلاّ طالبة صفيقة الوجه، أي سميكة الجلد، تدخل عليّ الفصل، فقلت لها: اخرجي. فلم تردّ ومشت كأنها لا تسمعني، وكان نظرها إلى الأرض فهي لا تراني. فقلت لها: لو كنتِ رجلاً لأمسكت بأذنيك ورميتك وراء الباب، ولكنك أنثى ولا أمدّ يدي إلى امرأة، فإن لم تريدي أن تخرجي فسأخرج أنا.

وخرجتُ ولم أعُد إلى التدريس في الكلية، فلم يمرّ إلاّ قليل حتى جاءني هذا المرسوم بلا طلب ولا استشراف نفس إليه ولا علم به، فعوّض الله عليّ من الرزق ما خسرته بتلك الكلية. ومَن ترك شيئاً لله عوّضه الله خيراً منه.

وقد صدق ما ظننت فصارت كلية الشريعة اليوم -كما قالوا- كسائر الكلّيات في اختلاط البنين والبنات. بل لقد فعل إبليس فيها فعلته، حين وسوس إلى بعض الملحدين والمفسدين أن يُدخِلوا أبناءهم كلية الشريعة، لا ليدرسوا الشريعة ولا ليُحيطوا علماً بها، بل ليحملوا شهادتها ويتمتعوا بمزاياها فيصيروا هم مدرّسي الدين، فيغزونا من داخل حصوننا ويعيشوا معنا وهم عدوّ لنا. وهؤلاء شرّ من العدو الذي يقابلنا سافرَ الوجه ظاهراً للعيان بيده السيف والسنان.

والبقية في الحلقات القادمة إن شاء الله.

* * *

ص: 50