المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌مؤتمر القمة الإسلامي - ذكريات - علي الطنطاوي - جـ ٨

[علي الطنطاوي]

فهرس الكتاب

- ‌الجزء الثامن

- ‌وداع المحكمة الشرعية

- ‌في محكمة النقض في القاهرة

- ‌أشتات من الذكريات

- ‌زياراتي القديمة لمكة

- ‌حجة 1381: خواطر وأفكار

- ‌أبو الحسن النَّدْوي ومذكّراته (1)

- ‌أبو الحسن النَّدْوي (2)

- ‌أبو الحسن الندوي (3)

- ‌في مطلع العام 1987

- ‌مؤتمر القمة الإسلامي

- ‌الفقيدان الوزير والمدير،ومن قبلهما فقدنا الأمير

- ‌تعليق على الحلقة السابقة: لبّيكَ اللهمّ لبّيكَ

- ‌كيف جئتُ المملكة

- ‌وقفة على المخيَّمات

- ‌منزلي في الرياض

- ‌لمّا كنت أستاذاً في الكلّيات والمعاهد

- ‌تفسير بعض الآيات

- ‌من المستشفى المركزي في الرياضإلى مستشفى المواساة في دمشق

- ‌في مكة سنة 1384ه

- ‌في كلية التربية في مكة

- ‌يوم الجلاء عن سوريا

- ‌لمّا علّمتُ البنات

- ‌خواطر ومشاهدات عن تعليم البنات

- ‌لغتكم يا أيها العرب (1)

- ‌لغتكم يا أيها العرب (2)

- ‌ذكريات العطلة الصيفية في دمشق (1)

- ‌ذكريات العطلة الصيفية في دمشق (2)

- ‌هذه الحلقة من الذكريات مسروقة

- ‌عندكم نابغون فتّشوا عنهم بين الطلاب

- ‌عزمتُ أن أطوي أوراقيوآوي إلى عزلة فكرية

- ‌رسائل الإصلاح وسيف الإسلامانتقدت الشيوخ الجامدينوالشبان الجاحدين

- ‌الخاتمة

الفصل: ‌مؤتمر القمة الإسلامي

-224 -

‌مؤتمر القمة الإسلامي

كان أقصى عمل العالِم أن يعمد إلى كتاب من الكتب فيجمع عليه تلاميذه، يشرح لهم عبارته ويوضح مقاصده، يفلّي العبارة ويقلبها ويحلّلها تحليلاً، يقف عند كل كلمة: لماذا قالها المصنّف ولم يقُل ما يرادفها ويؤدّي معناها؟ وعند كل ظرف وعند كل حرف عطف. وكانت هذه هي الطريقة الأزهرية لمّا أضاع علماء الأزهر ملكة الإبداع واقتصروا على الاتباع. وقد بدأت هذه المرحلة من القرن التاسع الهجري أو قبله بقليل، ولو رسمنا للعلوم خطاً بيانياً لوجدناه يبدأ دقيقاً مائلاً إلى الصعود، ثم يصير عريضاً، ثم يبلغ مداه فيستمرّ مستقيماً لا يعلو ولا ينزل، ثم يبدأ النزول.

مثله مثل بضاعة جديدة حملها إلى البلد تاجر فأقبل الناس عليها، ثم تتابع ورودها، ثم كثرَت عند البائعين فجمعوها في مستودعات ضخمة ومخازن كبيرة. ثم انقطع الاستيراد واكتفى الناس بما في المخازن والمستودعات، يتوزعها الباعة يفتنّون في عرضها في الأسواق. وكان عصر الجمع أو عصر الموسوعات، وهو القرن التاسع الهجري، جُمعت فيه أصول العلوم في كتب

ص: 131

واسعة، ككتاب «الإتقان» في علوم القرآن و «المزهر» في علوم اللغة و «نهاية الأرَب» و «صبح الأعشى» .

كل العلوم مرّ بهذه المراحل. آخذ واحداً منها أمثّل به عليها، هو علم (أو علوم) البلاغة؛ كان الأدباء والشعراء يخترعون المعاني الجديدة والأساليب الطريفة، فكان النقّاد كلما وجدوا شيئاً جديداً وضعوا له عنواناً وضمّوه إلى أمثاله، فكانت «البلاغة» ، وهي النقد منظَّماً. ثم استمرّ الشعراء والأدباء يجدّدون، ووقف النقّاد (أي علماء البلاغة) عند كتابَي عبد القاهر الجرجاني وتلميذه السكّاكي، ثم جاء القَزويني فلخّص ما في كتاب السكاكي. ثم صارت «البلاغة» كلها تدور حول «التلخيص» ، فمِن شارحٍ له ومن معلّق عليه، ومن مختصر للشرح ومن شارح للمختصر، ولم نعُد نجد عندهم جديداً.

لذلك قُلت إن عمل العلماء اقتصر على العكوف على تراث الأوّلين، لا يخرجون عليه ولا يجاوزون حدوده. حتى إن شيخ مشايخنا في الشام الشيخ عبد المحسن الأسطواني الذي سبقَت الكتابة عنه في هذه الذكريات، وكان من تلاميذ جدّنا الشيخ محمد الذي قدم الشام من طنطا، كان يحدّثنا عنه يعدّد مزاياه، فذكر مزيّة أكبرها ورأيناها أمراً عادياً، هي أنهم كانوا يقرؤون على شيخ من مشايخ دمشق (سمّاه لنا ونسيت اسمه) فمرّت في الكتاب عبارة لم يدركوا غرض المصنّف رحمه الله منها، فقلبوها على وجوهها وأخذوها من جميع أطرافها، فلم يَضِح لهم المقصود بها، فقال لهم شيخهم: اعرضوها على الشيخ محمد الطنطاوي. فلما جاؤوه بها ضحك وقال: دي غلطة من الناسخ. وأخذ القلم فصحّحها.

ص: 132

وكان هذا هو الذي تعجّبوا منه: كيف يُقدِم على نسخة لمؤلّف قديم فيصحّحها من عند نفسه؟ ثم وجدوا نسخة أخرى من الكتاب فإذا الكلمة كما صحّحها.

كان العلم كله رواية لا دراية وكان حفظاً لا دراسة، كالذي ينقل أمواله من مصرف إلى مصرف أو يُبدِلها من عملة إلى عملة، ولكن لا يزيدها ولا يضيف شيئاً إليها. لم يشذّ عن هذه الصفة من كل من عرفت من علماء بلدي (وأنا أكاد أعرفهم جميعاً) إلاّ الشيخ سعيد الباني من دمشق والشيخ بدر الدين النَّعْساني من حلب. حتى الشيخ جمال الدين القاسمي كانت كتبه كلها وكان تفسيره المشهور جمعاً لأقوال العلماء، ما حقّق -فيما أعلم- مسألة فجاء فيها بشيء جديد.

وبقيَت هذه الخلّة عند المشايخ في دروس الدين إلى الآن، حتى في الجامعات. هل سمعتم أن طلاب الجامعة يُقرَّر عليهم في المادة كتاب واحد، يشرحه المدرس ويحفظه الطلاب ويُسألون منه يوم الامتحان؟ حتى في العلم الجديد الذي سمّوه الثقافة الإسلامية (وكان أول من درّسه نحو سنة 1940 هو الشيخ راغب الطبّاخ في حلب وأنا في دمشق)، حتى هذا العلم الجديد صار له كتاب.

ولا تزال تَرِدُ على برنامجي في الرائي (التلفزيون) شكاوى الطلاب من هذا الكتاب، وقد أرسل إليّ أحدهم نسخة منه أشار إلى أبواب فيه مقرَّرة عليهم. فلا يغضب مني مؤلّفوه، وهم من أصدقائي، إذا خبّرتهم صادقاً أنني أحسست لمّا قرأته كأني أريد

ص: 133

أن أمزّق صفحاته أو أن تتمزق أعصابي، وكأنه لا يشفي نفسي إلاّ أن أضرب به أو برأسي الجدار! ووجدته أقوى الوسائل لتنفير الطلاّب من الثقافة الإسلامية وتسويدها في عيونهم.

وأنا أذكر أول درس حضرته في كلية الحقوق في دمشق سنة 1348هـ، من نحو ستين سنة، وقد دخل علينا الأستاذ فكان مما قال لنا: لقد انتقلتم اليوم من مرحلة التلقّي والحفظ إلى مرحلة الاعتماد على النفس والمشاركة في البحث، فأنا أُلقي عليكم المحاضرة وأدلّكم على المراجع، ولكني لا أُلزِمكم كتاباً تقرؤونه ولا أقبله منكم لو اقتصرتم عليه. أنا أريد أن أربّي العقل لا أن أقوّي الذاكرة، ففكّروا برؤوسكم لا برأسي أنا، وإذا انتهيتم إلى رأي يخالف رأيي وكان لكم عليه دليل قبلته منكم وأعطيتكم عليه الدرجة العالية في الامتحان.

وكان هذا الأستاذ هو المسيو ستيف، المستشار التشريعي يومئذ للحكومة السورية. ولا يمنعني أنه فرنسي من أن اشهد له بالحقّ أنه عالِم.

والنجّار وأرباب المهن يعلّمون الأجير أولاً بألسنتهم، ثم يُشهِدونه عملَهم، ثم يكلّفونه أن يباشره بيده فيقومون عليه يصحّحون له خطأه، ثم يدَعونه يستقلّ بنفسه. فهل يكون النجارون والحدادون وأصحاب المهن والصناعات أعرفَ بوجه الصواب من أهل الجامعات؟ وإذا قرّرنا كتاباً واحداً لطلاب الجامعة، يُلقي المدرّس عليهم ما فيه ويحفظون هم ما يُلقيه ثم يضعونه في ورقة الامتحان، لم يبقَ من فارق بين المدرسة المتوسطة والثانوية وبين

ص: 134

الجامعة، وكان من نتيجة ذلك أن نركّب في هذه الكرات التي أقامها الله بين أكتافنا شريط تسجيل لا دماغاً حياً!

لمّا كنت شاباً تُرجم إلى العربية كتاب أظنّ أن اسمه «التربية الحديثة» لأدمون دومولان، وقد نسيت اسم مترجمه، وهو باقٍ في مكتبتي في الشام التي لا أعلم هل يُكتب لي أن أعود فأراها أم أموت بعيداً عنها. كان لهذا الكتاب أثر بالغ في نفسي وفي نفوس الذين قرؤوه، لأنه جاء بشيء جديد (أو بشيء كان في تلك الأيام يُعَدّ جديداً). قرأته مرات وبقي في ذهني كثير مما فيه؛ من ذلك أن المؤلّف ذهب إلى إنكلترا ليدرّس في إحدى مدارسها، فقابل مديرها وأخرج له شهاداته، فنحّاها المدير مبتسماً وقال له: أنا لا أريد أوراقاً بل مدرّساً، وهؤلاء هم طلاّبك، فتفضل فألقِ الدرس عليهم.

فكان مما تعلمته منه أن كفاية المرء لا تُقاس بشهاداته بل بعلمه وعمله.

ولمّا أُسّس أول قسم للدراسات العليا في المملكة في مكة المكرمة كانت اللجنة التي وضعت نظام هذا القسم مؤلَّفة من عميد كلية التربية في تلك الأيام الأستاذ البغدادي، وأخي الدكتور أمين المصري رحمة الله عليه، وهو الذي سعى في إنشاء هذا القسم وألحّ في هذا السعي وصبر فيه على المتاعب، والدكتور إسحاق الفرحان الذي صار وزير المعارف ووزير الأوقاف في الأردن، فلم تغيّره الوزارة كما غيّرَت من الناس غيرَه وبقي يعيش فيها كما كان يعيش قبلها ويعمل للإسلام كما كان يعمل، وأنا.

ص: 135

ولعلّي نسيت بعض من كان حاضراً معنا. فرجع الأستاذ البغدادي والدكتور المصري إلى مكة بعد أيام، وبقيت في الرياض أحاول أمرين: الأول أن لا تكون الشهادة هي الشرط اللازم الكافي (كما يقول أهل الرياضيات)، وأن يكون للوزير الحقّ في أن يستثني خُمس الأساتذة أو عُشرهم من شرط الشهادة، وقلت لمعالي الوزير (1): خبّرني ياسيدي، هل تستطيع إذا اقتصرتَ على الشهادة وجعلتها وحدها مقياس الرجال وبعث الله جدّك الشيخ محمد بن عبد الوهاب، هل تستطيع أن تجعله معلماً في مدرسة أولية في قرية من القرى؟ وهل يستحيل على الله أن يجعل في هذا العصر من هو كجدّك في علمه وعمله وهو مثله لا يحمل شهادة؟ بل إن أمامنا ياسيدي مثلاً ظاهراً، هو الأستاذ العقّاد رحمه الله.

ولولا الحياء لضربت من نفسي مثلاً فقلت إنني كتبت ما كتبت وحاضرت ودرّست في الأدب وفي علوم الدين وما أحمل شهادة في واحدة منهما. ولمّا كنت أناقش الشيخ السباعي في اشتراكية الإسلام كتبت مقالة حاولت فيها أن أكون رفيقاً رقيقاً ما استطعت وأن أكلمه كلام الصديق المحب (وأنا أحبّه والله حقاً، رحمة الله عليه) لا كلام الناقد الشانئ، فجاءته «الحِمصيّة» ، والعفو من إخواني أهل حمص، فقال لي: إنك لست اختصاصياً في العلوم الشرعية، لذلك أُعفي نفسي من الردّ عليك.

وجاءني عشيةَ نَشْرِ مقالته بعدما ذهب ثلث الليل جماعة من

(1) الشيخ حسن بن عبد الله آل الشيخ. وسيأتي هذا الخبر مرة أخرى في الحلقة 238 (مجاهد).

ص: 136

إخواني، أذكر منهم الأستاذ نهاد القاسم وزير العدل المركزي أيام الوحدة رحمه الله، والتاجر الأديب رفيق المدرسة سنة 1919 الأستاذ هُدى الطباع، وأظن ظناً أنه كان معهم أخي الدكتور معروف الدواليبي رئيس وزراء سوريا سابقاً. فلما فتحتُ لهم الباب قالوا ضاحكين: لا ندخل دارك ولا نشرب قهوتك حتى تَعِد بأن تلبّي طلبنا. قلت: فهمت؛ لن أردّ عليه. فتعجّبوا وقالوا: من خبّرك بالذي نريد؟ قلت ضاحكاً: ذكائي. فكّرت ما الذي جمعكم في هذه الساعة وما الذي جاء بكم، فخطر لي أنكم كنتم في سهرة فقلتم: إن الطنطاوي سيردّ على السباعي والسباعي سيعود فيردّ على الطنطاوي، وكلاهما معدود من دعاة الإسلام، ولن نستطيع أن نستردّ ما قيل فلنعمل على تدارُك ما سوف يقال.

قالوا: والله هذه هي الحقيقة.

ولقد لقيت كثيراً حين ضعت بين الأدب وبين الفقه: إذا كان مجمع فقهي أقصوني عنه وقالوا: هذا أديب، وإن كان اجتماع أدبي قالوا: هذا شيخ فقيه. وأنا لا آسى على عضوية المجمع ولا على حضور الاجتماع، ولو جرّوني إليه بالسلاسل لَما ذهبت إليه، ولا رغبة لي فيه، ولكنني أقرّر الواقع.

* * *

الأمم كالأفراد تصحّ وتمرض، وتشبّ وتشيخ، وتنام وتصحو. ويظهر أن نشأتي كانت في أيام مرض أمتي لا في أيام صحّتها:

ص: 137

جاءَ الزمانَ بنوهُ في شبيبتِهِ

فسَرَّهُمْ وأتيناهُ على الكِبَرِ

وأنها كانت في عهد نومها لا في حين يقظتها. وما أذكر أنه مرّ عليّ يوم في شبابي إلاّ والذي بعده كان شراً منه، وأن ما بكينا فيه منه بكينا بعده عليه؛ ذلك أننا كنا -نحن المسلمين- في نَومة طويلة امتدّت إلى أوائل القرن الماضي، ثم صحونا على صوت منا يهتف بنا أن نعود إلى ينابيع قوتنا ومصدر عزّتنا، هو صوت الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وصوت غريب عنا ينبّهنا إلى ما جدّ عند غيرنا فأقبلوا عليه وبقينا نحن نعيش على قديمنا الذي نشأنا فيه، هو الحملة الفرنسية على مصر.

لقد كان المسلمون دولة واحدة، فانشعبت منها شعبة لمّا ذهب عبد الرحمن الداخل الأموي إلى الأندلس فأقام فيها إمارة صارت بعده دولة أخرى، ثم توالى الانقسام وازداد التفرّق، حتى إذا انتهت الحرب الأولى صارت سوريا (التي كانت على عهد العثمانيين ولاية واحدة) صارت دولاً: دولة دمشق، ودولة حلب، ودولة العلويين، ودولة جبل الدروز. وشهادتي الابتدائية في أعلاها طُغَراء «دولة دمشق» وفي أدناها توقيع حاكم هذه الدولة حقي بك العظم!

هوت دولة الخلافة كما قال شوقي: «هوَتِ الخلافةُ عنكِ والإسلامُ» . أمّا الخلافة فنعم، أما الإسلام ياأمير الشعراء فلا يهوي أبداً، وإنما هو إلى ارتفاع وإلى سموّ والعاقبة له. كان أعداء الإسلام عاملين على هدم الخلافة، وتولّى كِبر ذلك اليهود، شياطين البشر وسبب كل أذى وضرر، الذين يُفسِدون بأموالهم

ص: 138

وبنسائهم، أرادوا أن يُغرُوا بالمال السلطانَ عبد الحميد فخيّب أملهم وضرب وجوههم بأموالهم، فأعملوا فيه كيدهم ومكرهم، فسوّؤوا اسمه وشوّهوا صحيفته وافتروا عليه ونسبوا كل رَزيّة إليه، فجعلوه مثال الاستبداد والظلم يُحصي على الناس بالجاسوسية أنفاسهم ويُغرِق في مياه البوسفور كِرامهم. ونشأنا نحن على ذلك واعتقدته حيناً، لأن فريقاً من أساتذتنا (كخالي محب الدين، ومِن قبله بقليل محمد كرد علي) كانوا يميلون إلى القول به. وكل إنسان يُخطئ ويُصيب والعصمة من الله لرسله وحدهم. وأخذ ذلك أدباء النصارى فنفخوا فيه ووسعوه، وكنت مُقبِلاً تلك الأيام -كأمثالي من الشباب- على قصص جرجي زيدان وفيها هذه الفرية مدسوسة بين سطورها، كما دسّ فيها على الإسلام وعلى تاريخه، واستمرّ ذلك حتى حصحص الحقّ وأزهق الله الباطل.

ولقد نشر أخي الأستاذ سعيد الأفغاني في مجلة «العربي» على عهد الدكتور أحمد زكي (1)، رسالة من السلطان عبد الحميد نفسه إلى الشيخ أبي الشامات في الشام، أرجو أن يعود المعنيّون بالتاريخ إليها، فإنها وثيقة ثمينة جداً نادرة المثال.

سخّر اليهود إخوانهم من الاتحاديين فضعضعوا هذا البنيان وهزّوا صرح الخلافة، وأرادوا أن يمحوا شعار العربية عنها وأن يجعلوها تركية، ثم أدخلوا الدولة حرباً ما لها فيها شأن ولا لها منها نفع ووضعوها مع الفرقة الخاسرة، ثم جاء مَن نحر ناقة الله فأحل قومَه دار الخسار، فتفجّر هذا الكوكب الضخم فصار شُهُباً صغاراً.

(1) مجلة العربي، العدد 169 ديسمبر (كانون الأول)1972.

ص: 139

وأنا لا أريد أن أكتب تاريخاً وإنما أسرد ذكريات، فيميل بي القلم يميناً أو شمالاً، ثم أعود إلى طريقي.

* * *

لقد عشت أكثر شبابي وسماءُ بلاد العرب ملبّدة بالغيوم لا يبدو فيها من الشمس شعاع، حتى إذا كانت سنة 1973 (إن لم أكن قد أخطأت التاريخ) وكان قد مرّ عليّ عشر سنوات وأنا أدرّس في جامعات المملكة، في الرياض أولاً ثم في مكة، وأذيع من إذاعتها، كنت قادماً بالطيارة من الرياض إلى جدة، فاتفق أن كنت قريباً من الشيخ السقّاف رحمة الله عليه، الذي كان وزير الخارجية أو يقوم مقام وزير الخارجية، فخبّرني خبراً ملأ قلبي مسرّة، هو أن المملكة وجّهت الدعوة إلى وزراء خارجية الدول الإسلامية ليعقدوا مؤتمرهم ليكون تمهيداً لمؤتمر القمة الإسلامي، وأبلغني عن المقام السامي بأن أكون في الفندق الذي ينعقد فيه اجتماع الوزراء، حتى إذا عرضَت مسألة شرعية وكان لي علم بها ورأي فيها سُئلت عنها.

فركبني والله همّ أحسست منه كأن صخرة قد وُضعت على كتفَيّ، ولم أدرِ كيف أعتذر عنها وأتخلص منها. وكان قد دُعي إلى هذا مثلي الشيخ الصوّاف والدكتور أمين المصري، فشكوت إليه ورجوت أن يخلّصني، فأخذني إلى لقاء الملك رحمة الله عليه. وقاموا إلى الغداء فأقاموني معهم، وأنا أتحرّج أن آكل في الفندق أمام الناس فكيف على مائدة الملك؟ ولم يكن على المائدة إلاّ هو رحمه الله والدكتور معروف الدواليبي والدكتور أمين المصري

ص: 140

والشيخ الصواف وأنا. وكان عليها ضيفان أحسبهما من الصحفيين من لبنان، وجعلوا يأتون بطبق بعد طبق، وأنا لا يحتمل أكلي كله ستّ دقائق فكيف أنتظر حتى ينتهي الطعام؟

وجاؤوا بطبق فيه شيء حسبته من المعجَّنات، فأخذت الشوكة لأمسكه بها ثم أقطعه بالسكين (كما رأيت الناس يصنعون)، وإذا هو صلب لا تنزل الشوكة فيه، وإذا هو ينطّ (وكلمة «نطّ» فصيحة) من الطبق، وأنا يجلّلني الخجل ولا أدري ما العمل، وأقول لنفسي: ويحكِ يانفس ما الذي جاء بك إلى مائدة الملك؟ ومتى كنتُ أصلح لها؟ وأجد أن الحقّ كله على الشيخ الصواف الذي أدخلني هذا المدخل، الذي يراه الناس نعمة يحرصون عليها وأجده أنا عذاباً أهرب منه، وتمنيت أن أجد شقاً في الأرض أو زاوية في الغرفة أختبئ فيها. وليس يعلم إلاّ الله كيف أمضيت مدّة الطعام، ولكن الذي أعلمه أنني قمت وأنا جائع.

ولم أجد مجالاً لأكلم الملك ليُعفيني مما دعوني إليه وما أهمّني حقاً، فعدت إلى الشيخ الصواف، وأحسب أنه هو الذي جرّ عليّ هذا كله، فاقترح أن يذهب بي إلى وزير الخارجية. فقابلت السقاف رحمه الله وقلت له: إن دار بنتي قريبة من وزارة الخارجية، وسأبقى إلى جنب الهاتف فإن طلبتموني جئت، ولكني أستحلفك بالله أن تُعفيني من النزول في الفندق ومن أن أكون من الوفود.

وكان هذا هو الاجتماع التمهيدي الأول للقمة الإسلامية التي توالى عقدها، والتي تنعقد للمرة الخامسة في هذه الأيام في الكويت. إنه من يوم ذهب عبد الرحمن الأموي إلى الأندلس

ص: 141

سنة 138هـ إلى حين انعقاد القمة الإسلامية الأولى، في هذا التاريخ الطويل الذي امتدّ أكثر من ألف ومئتَي سنة لم يجتمع حُكّام المسلمين في مكان واحد تحت سقف واحد ولم يتفقوا على رأي واحد، حتى اجتمعوا هذه المرة، اجتمعوا بعد التفرّق وتقاربوا بعد التباعد، وصدروا ببيان واحد فيه رأي واحد. لا أقول إنه أعاد الوحدة ولا جدّد الخلافة، ولا أقول إنها رجعت به دولة عمر بن الخطاب ولا دولة عمر بن عبد العزيز ولا دولة الرشيد ولا المأمون، بل أقول إنها بداية مرحلة جديدة ومولد عهد جديد.

إنه الفجر بعد الليل الذي طال حتى كدنا نيأس فيه من رؤية النهار. والفجر فجران: الفجر الذي تبدو فيه خيوط النور متفرقة على حاشية الأفق، ثم يأتي بعده الفجر الصادق الذي يملأ الأفق نوراً ويطلع على الدنيا نهاراً حقيقياً، والذي ينادي عنده المؤذن:«حيّ على الفلاح، الصلاة خير من النوم» فينفض النائمون الأغطية عنهم وينهضون يستقبلون يوماً جديداً بعزم جديد، ينبّهون العزائم بالوضوء الذي يُزيل عن أعضائهم بقايا المنام، ثم يستمدّون العون من الله بالصلاة التي يستنزلون بها النصر ويرجون الفلاح.

وقد يكون هذا الحدَث فجراً كاذباً لا يجب به الصوم ولا تصحّ فيه صلاة الفجر، ولكنه فجر على كل حال. إن لم يكن نهايةَ الليل فإنه دليل على أننا صرنا في أواخر الليل، وإن لم يكن بداية النهار فإنه دليل على أننا دنونا من النهار.

وكل شيء يبدأ صغيراً ثم يكبر: السنديانة الضخمة تبدأ نبتة صغيرة يستطيع العصفور أن يتناولها بمنقاره، والمنارة العالية تبدأ

ص: 142

سدّة واطية يقدر الولد أن يتخطاها برجله، والإنسان يُولَد قطعة جامدة من اللحم والعظم لا تنطق ولا تتحرك. ثم تكبر السنديانة حتى تصير دوحة راسية لا تزعزعها الأعاصير، وترتفع المنارة حتى تغدو صرحاً عالياً لا يصل إلى ذُراه إلاّ النسر والعقاب، وينطق الولد الأبكم حتى يأتي بروائع البيان وخوالد القصائد، ويمشي حتى يجزع الأرض ثم يعلو الجبل ثم يركب الفضاء إلى القمر.

وهذا المؤتمر إن بدأ صغيراً فسيكبر إن شاء الله، وستجتمع في مثله القلوب كما اجتمعت فيه الأجساد والآراء، ثم يصير المؤتمر جامعة للدول الإسلامية، ثم تصير الجامعة اتحاداً، ثم يغدو الاتحاد وحدة. وحدة إسلامية كما أمر الله أن تكون، أمة واحدة الله ربّها ومحمد إمامها، والقرآن دستورها، والحكم لها والعلم فيها، تمتدّ من غانة إلى فرغانة، تجمعها الكعبة التي نُطيف بها ونقوم صفوفاً من حولها، دوائر وسط دوائر، وهي مركز مدارها وقطب رحاها.

لا تستكثروا شيئاً على الله، فالله الذي منح أجدادكم السيادة والسعادة والحضارة والسلطان هو الله باقٍ لا يزال، قادر على نصركم إن نصرتموه، يدافع عنكم كما وعدكم، ولكنّ لكل شيء سبباً؛ فمَن حرث وزرع أعطاه الله الثمر، ومن درس وقرأ منّ الله عليه بالنجاح، ومن تداوى نال من الله الشفاء. وسببُ نصركم أن تنصروا ربكم، وتتبعوا شرعكم، وتتمسّكوا بدينكم.

يا أيها الإخوان، إلى متى نقول هذا الكلام فلا يستمع له أحد؟

* * *

ص: 143