الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
-245 -
رسائل الإصلاح وسيف الإسلام
انتقدت الشيوخ الجامدين
والشبان الجاحدين
طبعتُ رسالتي «دمشق بعد تسعين عاماً» سنة 1348هـ، وأنا أتخيل الآن ماذا تكون حالي لو أنني نمت عشية ذلك اليوم في الكهف الذي نام فيه الفتية الذين آمنوا بربهم فلم أستيقظ إلاّ سنة 1408هـ، فإذا الأرض غير الأرض والناس غير الناس، وإذا كل شيء قد تبدّل: انقلبت الموازين واختلّت المقاييس، كَبُرَ الصغير وصَغُرَ الكبير، وعزّ الذليل وذلّ العزيز، ولم تعُد العظمة دائماً بما تحوي الرؤوس ولكن بما تصنع الأقدام، فالذي يرمي الكرة برجله فيُدخِلها الشبكة في الملعب أشهر وأكبر في الناس من الذي يكشف في العلم مجهولاً، أو يحلّ معضلة، أو يبني في صرح الأدب رفرفاً يكون لأمّته ذخراً وفخراً. والذي يسلّي الناس على المسرح أشهر من الذي يعظهم في المسجد على المنبر، أو يعلّم في الجامعة أبناءهم، أو يداوي في المستشفى مرضاهم. وغدا أمثال عادل إمام ودريد لحّام أعرفَ في الناس من مدير الجامعة أو من شيخ الأزهر وأذْيَعَ اسماً وأشهر.
ولكن من نعم الله على الإنسان أن الطفرة لا مكان لها في نظام هذا الكون وأن كل شيء يتبدّل ولكنه يجري في تبدُّله على مهل؛ إنك ترى ظل الشمس عند الجدار تحسبه ثابتاً لا يتحرك، ولكن عد إليه بعد ساعتين تجده قد انتقل من مكانه، والعقرب الصغير في الساعة تبصره واقفاً ولكنه يمشي.
والإنسان ينتقل من الضعف إلى القوة ويعود بعد القوة إلى الضعف. يكون طفلاً لا يملك نفعاً ولا ضراً، لا يستطيع أن يطرد الذباب إذا حطّ على أنفه الذباب، ثم يقوى حتى يطوي الأرض فيعلو متن الهواء ثم يخترق طرف الفضاء. ولو سألته: في أيّ ساعة من أيّ يوم انتقلتَ من الطفولة إلى الشباب ومن الشباب إلى الكهولة؟ لما استطاع أن يُجيب.
والليل يكون أسْوَدَ داجياً، فمَن كان في غرفة مغلقة لا يبصر مما حوله شيئاً، إذا أخرج يده لم يكَد يراها، فإذا كانت الظهيرة من الغد ملأ الضوء المكان وكشف كل ما فيه، فهل انتقلنا من ظلمة الليل إلى وهج الظهيرة في لحظة واحدة؟ إن سنّة الله في خلقه أنه يولج الليل في النهار، وأنه يُخرِج من الطفل الضعيف رجلاً قوياً، ثم يعود القوي ضعيفاً كما بدأ.
لقد صدر في أعقاب الحرب الأولى، يوم كنت تلميذاً في أواخر المدرسة الابتدائية، كتاب تُرجم إلى أكثر اللغات وقُرئ في أكثر البلدان، ألّفه شبنكلر، ينتقد ما يقرَّر على الطلاب في المدارس من أن القرون الأولى تنتهي بسقوط روما وأمثال هذه التحديدات. ومثلها ما يدرَّس عندنا في تاريخ الأدب من أن العصر
الأموي قد خُتم بقتل مروان، الذي كان يُدعى لصبره بالحمار مدحاً له لا ذمّاً وانتقاصاً. فلو أن روما سقطت يوم الجمعة فهل كان يوم الخميس قبلَها من القرون الأولى ويوم السبت من القرون الوسطى؟ ولو قُتل مروان يوم السبت هل يكون الأحد من العهد العباسي؟ إن من الشعراء من عاش في العهدين، نظم فيهما الشعر وقال فيهما القصائد، فهل القصيدة التي قالها بشار مثلاً في العهد الأموي تختلف بخصائصها وصفاتها عن التي قالها في العهد العباسي؟
الدنيا التي عاش فيها أبي ووُلدتُ فيها أنا وأكثرُ إخوتي ما زالت تنقص من أطرافها وتتغير معالمها حتى لم يكَد يبقى منها إلاّ أقلّ من القليل، وجاءت دنيا جديدة. فلو أن أبي بعثه الله من مرقده الآن لَما عرف كيف يمشي في دمشق ولا عرفه أحدٌ من أهل دمشق، ولغدا جاهلاً بها مجهولاً من أهلها، وقد كان علَماً من أعلام علمائها. ولرأى ولده سعيداً الذي تركه ابنَ ثلاثة أشهر صار في الخامسة والستين. ولقد غدونا كلنا -نحن الإخوة الأربعة وأختان لنا- كلنا صرنا أكبرَ سنّاً من أبينا ومن أمنا اللذين قضيا ولم يجاوز أكبرُهما الثالثةَ والأربعين. فهل رأيتم أو سمعتم بأولاد أبواهم أصغر سنّاً منهم؟
* * *
أنا إنما أنشأت هذا الفصل ليكون مقدّمة لكتاب من كتب أخي ناجي. وناجي وأخواه عبد الغني وسعيد كلهم أنبغ مني، ولكني خطفتُ الأضواء منهم كما يقولون في التعبير الحديث. دخلت
حلبة المصارعة (وما الحياة إلاّ مصارعة) بطبل وزمر وضجّة وصخب؛ نشرتُ سنة 1348هـ «رسائل في سبيل الإصلاح» التي أتكلم الآن عنها، فانتقدت فيها المشايخ وأساليبَهم في التدريس واختيارهم للكتب وبُعدَهم عن العلوم الجديدة، فأثَرتُهم عليّ حتى أُلّفت في الردّ علي كتب منها «الإفصاح عن رسائل الإصلاح» للشيخ أحمد الصابوني رحمه الله. وقد كان خطيباً من أبرع مَن عرفت من الخطباء، يخطب في المساجد يذمّ الشباب المنحرفين ويدعو إلى التمسّك بالدين، يضرب المثل بي وبرسائلي، ولا يخرج حتى يبيع ما يحمله أتباعُه من رسالته. ولمّا تيقّن أنني بعيد عما اتهمني به من مخالفة الدين كتب في آخر الرسالة أنه يسلّني مما قال سلَّ الشعرة من العجين، ولكن ذلك لم يمنعه أن يبيع الكتاب وفيه العجين وفيه الشعرة التي سلّها، وأن يحدّث عنه في المساجد!
ثم أصدرتُ السنة التي بعدها «رسائل سيف الإسلام» التي كانت تُطبع على نفقة طائفة من خيار التجار وتوزَّع بالمجان، هجمتُ فيها على الشبان الجاحدين كما هجمت في الرسائل الأولى على الشيوخ الجامدين، فوضعتُ نفسي بين حجرَي الرحى، وصرت كالواقف في الحرب بين الصفّين يتلقى السهام من الجانبَين.
نبّهت الناس إليّ فظلمتُ إخوتي الذين هم أنبغ مني؛ ذلك لتعلموا أن الشهرة ليست مقياس العظمة ولا المدار عليها في تقدير قِيَم الرجال. لقد عرفت الشهرة وذاع اسمي وأنا ابن إحدى وعشرين سنة، ولي كتاب اسمه «الهيثميات» ، لأنني كنت أنشر بإمضاء
«أبو الهيثم» ، وكنت أولَ من سمّى نفسه به في دمشق، وكلُّ مَن تعرفونه باسم «هيثم» في دمشق إنما وُلد بعد إصدار هذا الكتاب (1).
وتحت يدي الآن العدد الأول من مجلة «البعث» التي كنت أُصدِرها من نحو ستين سنة، قبل أن يولد حزب البعث وقبل أن يتخذ لنفسه هذا الاسم. وكان المسؤول عنها أمام الحكومة والذي يتولى إدارتها جمعية التهذيب والتعليم، ورئيسها الشيخ هاشم الخطيب رحمه الله. في هذا العدد الذي صدر في غرة جمادى الأولى سنة 1350هـ قصيدة لشاعر لم يصرّح باسمه، ولكنْ وقّع في ذيل قصيدته باسم «أبو النضر». جاء فيها:
وَيلٌ لِمَن ملَكَ القويُّ قِيادَهُ
…
وغدا يُبدّدُ مالَهُ وبلادَهُ
ويُذيقُهُ مُرَّ العذابِ وليسَ مَنْ
…
يُنجِيه من مَضَضٍ أذابَ فؤادَهُ
ما للقويِّ سوى الضعيفِ فريسةٌ
…
والذئبُ يَلقى في الشياه مُرادَهُ
يعدو على الحَمَلِ البريءِ مُقادِعاً
…
فيُريه منه البِشْرَ كي يَصطادَهُ
فِعلَ الفِرَنْجَةِ بالضّعيفِ منَ الشعو
…
بِ، توَدُّهُ إذ تبتغي استعبادَهُ
يا شرقُ فاذكُرْ عهدَ عِزٍّ قدْ مضى
…
كيما تُعيدَ إلى الوجودِ تِلادَهُ
أيامَ كانَ العِلمُ فيكَ ونورُهُ
…
يَهدي ببازغِ شَمسِهِ رُوّادَهُ
أيامَ كنا للوجودِ أئمّةً
…
ونُري الوجودَ ضَلالَهُ ورَشادَهُ
اُذكُرْ أُسودَ اللهِ مَنْ حكَموا الورى
…
بسيوفِهمْ يتسلّمونَ قِيادَهُ
وانظُرْ ديارَهُمُ تراها بَلْقَعاً
…
والغربُ يُؤوي ربعُها أجنادَهُ
ملَكوا أئمّتَها وساموا شعبَها
…
خسفاً وهدّوا ظالمينَ عمادَهُ
الضَّعفُ في شَرعِ الحياةِ جريمةٌ
…
يا وَيلَ مَنْ ملَكَ القويُّ قِيادَهُ
(1) أحسب أن من تمام الجملة السابقة ذكر السنة التي نُشر فيها كتاب «الهيثميات» ، فلعلّه أراد أن يقول "ولي كتاب اسمه «الهيثميات» أصدرته سنة 1349هـ"، ثم شغله الاستطراد بالإشارة إلى اسم «الهيثم» الذي تكنّى به عن إتمام الجملة، والله أعلم (مجاهد).
وَيلٌ لِمَن ملَكَ القويُّ قِيادَهُ
…
وغدا يُبدّدُ مالَهُ وبلادَهُ
ويُذيقُهُ مُرَّ العذابِ وليسَ مَنْ
…
يُنجِيه من مَضَضٍ أذابَ فؤادَهُ
ما للقويِّ سوى الضعيفِ فريسةٌ
…
والذئبُ يَلقى في الشياه مُرادَهُ
يعدو على الحَمَلِ البريءِ مُقادِعاً
…
فيُريه منه البِشْرَ كي يَصطادَهُ
فِعلَ الفِرَنْجَةِ بالضّعيفِ منَ الشعو
…
بِ، توَدُّهُ إذ تبتغي استعبادَهُ
يا شرقُ فاذكُرْ عهدَ عِزٍّ قدْ مضى
…
كيما تُعيدَ إلى الوجودِ تِلادَهُ
أيامَ كانَ العِلمُ فيكَ ونورُهُ
…
يَهدي ببازغِ شَمسِهِ رُوّادَهُ
أيامَ كنا للوجودِ أئمّةً
…
ونُري الوجودَ ضَلالَهُ ورَشادَهُ
اُذكُرْ أُسودَ اللهِ مَنْ حكَموا الورى
…
بسيوفِهمْ يتسلّمونَ قِيادَهُ
وانظُرْ ديارَهُمُ تراها بَلْقَعاً
…
والغربُ يُؤوي ربعُها أجنادَهُ
ملَكوا أئمّتَها وساموا شعبَها
…
خسفاً وهدّوا ظالمينَ عمادَهُ
الضَّعفُ في شَرعِ الحياةِ جريمةٌ
…
يا وَيلَ مَنْ ملَكَ القويُّ قِيادَهُ
أترون هذه الأبيات؟ فلمن تحسبوها؟ إنها لطالب في الثانوية في السابعة عشرة من عمره، وأكثر طلاب الثانوية الآن في كثير من البلدان لا يستطيعون قراءة أمثالها بلا خطأ.
وفي عدد جمادى الأولى 1352هـ من مجلة «الرسالة» قصيدة مترجَمة شعراً عن أندريه شينيه، الشاعر الفرنسي المولود في إسطنبول سنة 1762 (كما وُلد فيها أخوه الأديب ماري جوزيف شينيه بعده بسنتين)، وهو شاعر معروف. وترجمة الشعر شعراً مع المحافظة الممكنة على المعنى من أصعب الصعاب. عنوان القصيدة «اللقاء العجيب» ، هذه أبياتها تصوّر الشاعر العاشق وصاحبتَه تائهَين في الغاب، كلٌّ يطلب الآخر ولا يجده ويبحث عنه ولا يصل إليه، فتقول هي:
أيها الغابُ، هل رأيتَ حبيبي
…
قُربَ ماءِ الغديرِ عندَ الغروبِ؟
كمْ صباحٍ أتاكَ بلْ كمْ مساءٍ
…
عندَ همسِ الصَّبا وشدوِ الجنوبِ؟
سوفَ أُصغي لكلِّ صوتٍ بعيدٍ
…
فلعلّي أحظى بِهِ مِنْ قريبِ
ويقول هو (وهو في الجهة الأخرى من الغاب، لا يراها ولا يعرف مكانها):
إيهِ ياموجةَ الغديرِ سلاماً
…
يا عروسَ الماءِ النّميرِ السَّكوبِ
اِحمِلي لي حبيبتي فهْيَ عندي
…
زهرةُ الحبِّ، فَوقَ غُصنٍ رطيبِ
كمْ لثمتُ العشبَ الذي وطِئَتهُ
…
قدماها في الغاب دونَ رقيبِ
هي:
آهِ لو يعلَمُ الحبيبُ بشوقي
…
وحنيني وحُرْقتي وشُحوبي
هلْ أراهُ في الغابِ؟ إنّ خيالي
…
لَيراهُ في ذا المكانِ الرّحيبِ
سوفَ أدعوهُ بابتسامٍ وعطفٍ
…
فعساهُ يكونُ يوماً مُجيبي
هو:
رَبِّ هبْ لي رُحماكَ صبراً جميلاً
…
إنّما الصبرُ جنّةُ المَكْروبِ
هلْ أتاها أنّي لَيخفِقُ قلبي
…
لِسَماعِ اسمِها الجميلِ الطَّروبِ؟
سأنادي دوماً بصوتٍ حنونٍ
…
علّها أن تُجيبَ صوتَ الحبيبِ
هي:
آهِ إني لمَحتُه فأعِنّي
…
يا لساني في ذا اللقاءِ الرهيبِ
أهُنا أنتَ؟ إنّ ذا لَعجيبٌ
…
أنا وحدي في ذا المكانِ الرّحيبِ
لم أفكّرْ في أن أراكَ ولكنْ
…
جُزتُهُ نحوَ بيتِيَ المحبوبِ
هو:
أنا ألهو برؤيةِ الموجِ وحدي
…
وذُرى الزَّيْزَفونِ تجلو كُروبي
لم أفكّرْ في أن أراكِ أمامي
…
لم أفكّر في ذا «اللقاءِ العجيبِ»
* * *
هاتان المقطوعتان نُشرتا من نحو ستين سنة لطالب كان يومئذ في المدرسة الثانوية، هو أخي ناجي الطنطاوي. نظم بعدها ما لا يُحصى من المقطوعات ومن القصائد ولكنه لم يجمع منها شيئاً، ولولا أنني وجدت بعضه في مجموعة «الرسالة» ومجموعة
مجلة «البعث» من قبلها لضاعتا فيما ضاع.
وناجي أحد الذين يجري الشعر على ألسنتهم كما يجري الماء، ينظمونه عفواً ويرتجلونه ارتجالاً. ولقد عرفت من الشعراء الكبار في هذا العصر مَن يرتجل، منهم الشاعر الكبير الشيخ عبدالمحسن الكاظمي. قال له مرة الأستاذ خير الدين الزركلي في مصر: وجدت أبياتاً أحب أن تُجيزها. قال: هاتِ. فقرأ عليه أبياتاً من بحر الطويل وقافية الراء، فتدفّق الكاظمي بقصيدة من البحر والرويّ، فلما بلغ منها بضعة عشر بيتاً قال له خير الدين: لا لا، عفواً بل من البحر الكامل وقافية النون. قال له: هل تمتحنني ياخير الدين؟ وأجاز هذه الأبيات بقصيدة ارتجلها بلغَت أبياتها خمسة وأربعين بيتاً، تدفّق بها تدفّقاً من غير إعداد ولا تحضير. وحدّثني بها الأستاذ الزركلي رحمه الله والأستاذ أحمد عبيد.
وجُزتُ يوماً بأخي ناجي، وكان وحده في الدار يعالج شيئاً فيها. قلت: ماذا تصنع؟ قال: هذا القميص وجدتُه متوسّخاً فنزعته. قلت: هذا كلام موزون فأتمِم القصة. قال:
هذا القَميصُ معَ اللّباسِ (1) وجَدتُهُ
…
متوسّخاً فنزَعتُه وخلَعتُه
ووجَدتُ قِدراً فارغاً فوضَعتُهُ
…
فيها وماءً صافياً فنقَعتُه
ووضَعتُ «تَيْداً» فوقَهُ ومزَجتُهُ
…
وترَكتُهُ في جوفِها ونقَعتُه
وخرَجتُ منْ بيتي وقدْ أقفلتُهُ
…
ورأيتُ قُربي مسجداً فدخَلتُهُ
والفرضَ خلفَ إمامِهِ أدّيتُهُ
…
ومشَيتُ في سوقٍ هناكَ رأيتُهُ
(1)«اللباس» هو التعبير الدّارج في لغة عامة أهل الشام عن السّراويل الجوّانية التي تُلبَس على الجسم تحت البنطال (مجاهد).
متجوّلاً فيهِ وقدْ أحببتُهُ
…
ورجعتُ للبيتِ الذي خلّفتُه
وبدا القميصُ لناظري فأخذتُهُ
…
وبهمّةٍ وعزيمةٍ نظّفتُهُ
ومضى يكمل القصة على هذا النمط. وما هذا بالشعر السامي ولا بالفن الرفيع، ولكنه لسهولته ولقربه من الناشئة يصلح أن يُتّخَذ لنظم الأشعار للأطفال كما يصلح للمسرحيات المنظومة. وأنا أعرف من الشعراء القدماء والمحدَثين من كان له مثل هذا الأسلوب، وليست تحت يدي وأنا أكتب هذا الفصل مراجع أرجع إليها فأكتفي بما أحفظ من أسماء الشعراء وبما بقي في ذهني مما قالوا (1)، فمن هؤلاء البهاء زهير وأحفظ قوله:
مِنَ اليومِ تعارَفْنا
…
ونطوي ما جرى مِنّا
فلا كانَ ولا صارَ
…
ولا كُنتُمْ ولا كنّا
ومن الشعراء المعاصرين شاعر عندي ديوانه في مكتبتي في الشام اسمه رستم (ونسيتُ بقية الاسم)، ديوانه كله من هذا النمط الذي يمكن أن تسميه العامي الفصيح كقوله:
لقَدْ زُرتُ زيداً وما زارني
…
وما عجَبٌ أنْ قبلتُ اعتذارَه
فإنّ الحمار بإصطبْلِهِ
…
يُزارُ وليسَ يَرُدّ الزياره
وفي أول الديوان بيتان عالقان في ذهني هما:
قالوا: متى يطلُعُ ديوانُكُمْ؟
…
فوقَعوا في غلطةٍ مُفظِعه
صوابُه: «ينزِلُ» ، إذْ أنّهُ
…
في الطابقِ الأعلى منَ المطبعه
(1) ولشوقي من هذا الشعر طائفة تصلح أن تُطبَع ديواناً للأطفال، وهي في الجزء الرابع من «الشوقيات» (مجاهد).
وقد لحظتم أن الشطر الثاني من البيت الأول حشو ليس له مكان إلاّ إقامة الوزن.
* * *
وأخي ناجي شاعر وفقيه. ولا تعجبوا أن يجمع رجل بين الفقه والفتوى والقضاء وبين الشعر منظوماً ومترجَماً عن لغة أخرى، فإن تاريخنا العلمي مترَع بأمثال هذه النماذج، وحسبكم واحداً هو ابن رشد الحفيد، وقيل «الحفيد» لأن جدّه كان أيضاً فقيهاً وكان قاضياً، فهو في هذا كتقي الدين ابن تيميّة المشهور الذي كان جده مجد الدين مثلَه فقيهاً معروفاً، ولكن اسم الحفيد غطّى على اسم الجَدّ.
ابن رشد مثلاً كان قاضي الجماعة في الأندلس. ولقب «قاضي الجماعة» فيها يعدل لقب «قاضي القضاة» في بغداد. وكان من أكبر فقهاء المذهب المالكي، مع مشاركة قوية واطّلاع واسع على المذاهب الأخرى، ويكفي دليلاً على ذلك كتابه العظيم «بداية المجتهد ونهاية المقتصد» ، وهو من أجود الكتب فيما يدعونه الآن في كلّيات الشريعة بالفقه المقارن، وهي ترجمة حرفية لاسمه عند غيرنا، ولو رجعوا إلى ما كان يسمّيه به أجدادنا لكان خيراً وأجدى وهو «علم الخلاف» ، فإذا قالوا «فلان عالِم باختلاف الفقهاء» قصدوا اختلاف العلماء في المذهب الواحد، وإذا قالوا «علم الخلاف» فإنما يريدون به ما يُراد الآن باسم الفقه المقارن.
ابن رشد هذا كان أكبر الفقهاء، وكان في الوقت نفسه أكبر الأطباء وكان المرجع في علم الطب يُرجَع فيه إليه ويؤخَذ عنه،
وكان أكبر عالِم بالفلسفة، ردّ على الغزالي بعد موته بزمن طويل. وذلك أن الغزالي كان أستاذاً في «المدرسة النظامية» يوم كانت تُعَدّ الجامعةَ الكبرى في العالَم المتحضر، فلخّص مذاهب الفلاسفة وشرَحها شرحاً واضحاً بيّناً على عادته في كل ما يكتب، وصار كتابه هذا «مقاصد الفلاسفة» مرجعاً لكل من درَسها، ثم ردّ عليها ونقدها في كتابه المشهور «تهافت الفلاسفة» ، هذا الذي ردّ عليه ابن رشد في كتابه «تهافت التهافت» ، وقد طُبع الكتابان معاً (ومعهما رسالة لمؤلّف ليس من طبقتهما ولا من أقرانهما، حشر نفسه أو حشروه معهما).
* * *
ولابن رشد أمثال من الذين جمعوا علوماً مختلفة أو كانوا أدباء وكانوا فقهاء وعلماء، أعرف من هؤلاء الكثير الكثير، ولكن لمّا ضَعُفَت الملَكات وكان ما يُدعى بعصر الانحطاط، انفكّت الصلة بين الأدب والعلم وضاعت الملَكة البيانية فافتقدها أكثر المؤلّفين. ولمّا كنا صغاراً كان العلماء بين اثنين: عالِم بالعلوم الشرعية لكنه وقف عند القديم الموروث فلم يجاوزه وجَهِلَ مااستُحدث في العلوم بعد عصر النهضة فلم يعرفه، وعالِم درس العلوم الحديثة (التي كانوا يدرسونها على أيامنا في إسطنبول، ثم صاروا يدرسونها في لندن أو باريس أو أمريكا).
كان من علمائنا في الشام من يُنكِر كروية الأرض، مع أن المسلمين عرفوها من قديم، بل إنهم قاسوا طول خطّ الاستواء أيام المأمون إذ أوفد (كما أحفظ، ولعلّي لا أكون ناسياً أو
مخطئاً) أوفد بعثتين، واحدة إلى صحراء سِنْجار والثانية إلى جوار تدمر (1)، فرصدوا نجم القطب ومشوا بخطّ مستقيم حتى رأوه قد ارتفع درجة واحدة، فقاسوا المسافة على الأرض وضربوها بثلاثمئة وستين التي هي درجات الدائرة عرفاً، فعرفوا طول محيط الأرض. والرقم الذي وصلوا إليه لا يختلف عن الرقم المعترَف به الآن علمياً إلاّ بقدر يسير.
فجاء من مشايخنا الذين كنا نقرأ عليهم بعد أكثر من ألف ومئتَي سنة مَن يشكّ في كروية الأرض، ثم جاء شيخنا الشيخ الكافي التونسي (الذي كتبتُ عنه في ذكرياتي هذه) فألّف في الشام لمّا هاجر إليها كتابَيه «الأجوبة الكافية» أولاً و «المسائل الكافية» ثانياً، ذهب فيها شتّى المذاهب وجاء بما توهّمه دليلاً (وليس بدليل) على إنكار حركة الأرض والزعم بأنها ثابتة والشمس تدور من حولها، كما كان يعتقد الفلاسفة من اليونان. وعن الشيخ الكافي أخذ مَن قال هذه المقالة من العلماء هنا. ثم رأينا من يُنكِر حقائق فلكية ثابتة فلا يصدّق أن الشمس إنما تُكسَف في أوائل الشهر العربي وأن القمر إنما يُخسَف في أواسطه.
وكان منهم من يدَع الطبّ الحديث ويلجأ إلى تذكرة داود الأنطاكي في الصيدلة، وإلى كتب الطبّ القديمة التي تأخذ عن جالينوس وأبقراط. وأصغر تلميذ اليوم في كلية الطب يعرف من
(1) هذا صحيح، وذكر ابن خَلّكان في «وَفَيَات الأعيان» أن المأمون كلّف بهذا العمل أبناءَ موسى بن شاكر الثلاثة فنفّذوه. وأحسب (ولا أحقق) أن صحراء سِنجار قريبة من الموصل، والله أعلم (مجاهد).
الطب أكثر مما كان يعرف أبقراط وجالينوس! (1)
والعجيب أن أسامة بن منقذ لمّا كانت الهدنة بين المسلمين والإفرنج خلال الحروب الصليبية ورُفعَت الحواجز بينهما ذهب فخالط الإفرنج من قرب، فرأى كيف كانوا يداوون المرضى بالسحر والطلاسم وبأشياء يقرؤونها عليهم لطرد الشياطين منهم لاعتقادهم أن الجنّ تدخل في الإنسان فتُمرِضه. وكان من مشايخنا من يقول بهذا ويصدّقه! والعجيب أن علماء كباراً جداً يتكلمون عن الصرع ينسبونه إلى الأرواح السفلية والأرواح العلوية والأرواح الطيّبة والأرواح الشريرة والنزاع بينها، يأخذون ذلك عن اليونان ولا يتنبهون -على جلالة أقدارهم وعلى علوّ منازلهم- إلى أن هذا من فروع تعدُّد الآلهة (أي الشِّرك) عند اليونان الذين كانوا يجعلون لكل شيء إلهاً، ثم يجعلون لهؤلاء الآلهة مكاناً يجتمعون فيه هو جبل الأولمب، ورئيساً لهم يُشرِف عليهم هو زيوس (الذي سمّاه الرومان لمّا أخذوا هذه «المثولوجيا» عن اليونان جوبيتير).
(1) ما بقي من هذه الحلقة ليس من أصل مقدمة كتاب «كلمات نافعة» ، وقد بقيَت من المقدمة الأصلية ثلاث صفحات لم تُدرَج هنا، فمَن شاء قرأها في كتاب «مقدّمات الشيخ علي الطنطاوي» ، وفي آخرها:"لقد فتحتَ عليّ -يا ناجي- بابَ الذكريات، ولو دخلتُه لم أخرج منه ولبلغَتْ هذه المقدمة مئةَ صفحة، كانت فيها أيام لم يبقَ منها إلا ذكريات. وأين منا الآن تلك الأيام؟ وأين مَن كان فيها من الأهل والإخوان والأصدقاء والخِلاّن؟ لقد مضوا، ونحن ماضون على آثارهم. فاللهمّ لك الحمد أن نَسَلتَنا من أبوين مسلمَين صالحَين، وأن أنشأتنا في دار علم وتقى، ونسألك اللهمّ أن تجعل نهايتنا خيراً من بدايتنا وأن تختم لنا بالحسنى". قلت: اللهمّ آمين (مجاهد).
وزعموا أن للأرواح بعض التصرّف بالكون وأن منها الخيّر وأن منها الشرير. والإسلام يأبى ذلك كله ويرفضه، ولا يؤمن المسلم بالنفع والضرر إلاّ من الله أو بالأسباب والقوانين الواضحة التي وضعها الله لهذا الوجود. وقد بيّن الله في القرآن بياناً شافياً أن الجنّ (أو كفّار الجنّ الذين هم الشياطين) لا يملكون إلاّ الوسوسة، ففي صريح القرآن أنه إذا كان يوم المحاكمة الكبرى أمام ربّ العالَمين يقول الشيطان للكافرين:{ومَا كانَ لي عليكُمْ مِنْ سُلطانٍ إلاّ أنْ دَعَوْتُكم فاسْتَجَبْتُم لي، فلا تَلوموني ولوموا أنفسَكمْ} . والله يقول: {إنّ كَيدَ الشّيطانِ كانَ ضعيفاً} ، فالشيطانُ لا يعلم الغيب ولا يملك النفع ولا الضرر وليس عنده إلاّ الوسواس، وما نُشر رداً عليّ في مجلة «المجتمع» وفي مجلة «أخبار العالم الإسلامي» عندي ما ينقضه من أساسه وليس فيه دليل شرعي قطعي واحد على دخول الجني في أجساد الناس، ولا ثبت ذلك بدليل شرعي صحيح ولا بدليل عقلي ثابت. أمّا أن تتكلم المرأة بصوت الرجل فيكون هذا دليلاً على أن رجلاً خفياً من غير الإنس يتكلم بلسانها فهذا كلام إذا قيل على أنه نكتة لطيفة فهو مقبول، وإن قيل على أنه جِدّ فيكون الممثل عبد العزيز الهزّاع قد دخل فيه عشرون جنياً، لأنه يؤلّف رواية كاملة ينطق فيها الرجل بصوته وتنطق فيها المرأة بصوتها ويتكلم فيها الصبي بصوته، وكل ذلك يخرج من فمه!
* * *