المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

فهرس الكتاب

- ‌الجزء الثامن

- ‌وداع المحكمة الشرعية

- ‌في محكمة النقض في القاهرة

- ‌أشتات من الذكريات

- ‌زياراتي القديمة لمكة

- ‌حجة 1381: خواطر وأفكار

- ‌أبو الحسن النَّدْوي ومذكّراته (1)

- ‌أبو الحسن النَّدْوي (2)

- ‌أبو الحسن الندوي (3)

- ‌في مطلع العام 1987

- ‌مؤتمر القمة الإسلامي

- ‌الفقيدان الوزير والمدير،ومن قبلهما فقدنا الأمير

- ‌تعليق على الحلقة السابقة: لبّيكَ اللهمّ لبّيكَ

- ‌كيف جئتُ المملكة

- ‌وقفة على المخيَّمات

- ‌منزلي في الرياض

- ‌لمّا كنت أستاذاً في الكلّيات والمعاهد

- ‌تفسير بعض الآيات

- ‌من المستشفى المركزي في الرياضإلى مستشفى المواساة في دمشق

- ‌في مكة سنة 1384ه

- ‌في كلية التربية في مكة

- ‌يوم الجلاء عن سوريا

- ‌لمّا علّمتُ البنات

- ‌خواطر ومشاهدات عن تعليم البنات

- ‌لغتكم يا أيها العرب (1)

- ‌لغتكم يا أيها العرب (2)

- ‌ذكريات العطلة الصيفية في دمشق (1)

- ‌ذكريات العطلة الصيفية في دمشق (2)

- ‌هذه الحلقة من الذكريات مسروقة

- ‌عندكم نابغون فتّشوا عنهم بين الطلاب

- ‌عزمتُ أن أطوي أوراقيوآوي إلى عزلة فكرية

- ‌رسائل الإصلاح وسيف الإسلامانتقدت الشيوخ الجامدينوالشبان الجاحدين

- ‌الخاتمة

الفصل: ‌منزلي في الرياض

-229 -

‌منزلي في الرياض

ما كان مطلبي الأول يوم قدمت الرياض سنة 1383هـ طعاماً يملأ المعدة ويُقيم الأوَد، فليس يخلو البلد من مطعم فيه من الطعام ألوان أو شوّاء عنده من اللحم أشكال، فإن لم يكن ففطيرة (سندويش) تحملها إلى حديقة عامة تجد فيها ركناً تأكلها فيه وقارورة شراب بارد تسيغها بها، فإن لم تجد ففي الماء غَناء. ولكن المطلب الأول مكان تأوي إليه، تشعر فيه بالقرار وتحسّ فيه الأمان.

وكان إخواننا المدرّسون ينزلون في شقق صغيرة (أو غرف من شقق) ينفرد فيها الرجل مع أسرته، قد فُرشت أيسر فرش وأرخصه: بساط فوقه حشية ينام عليها ووسادة يستند إليها، وما لا بدّ منه للطاعم من الأطباق والكاسات والملاعق والشوكات. فإن كان عزَباً أقام في غرفة أو اجتمع في الغرفة الواحدة اثنان. وقد تَفرّد أخونا الأستاذ عزّة النص رحمة الله عليه، فأخذ جناحاً صغيراً في فندق اليمامة، وكان أكبر فنادق الرياض، استأجره مُشاهَرة واتخذه له داراً، يستريح فيه من تدارك الفرش ومن إعداد الطعام ومن تعب الخدمة والتنظيف.

ص: 197

وقد خطر لي أن أصنع مثله، فقد كنت آخذ أكبر مرتَّب يأخذه أستاذ جامعي في المملكة، لأنهم كانوا يقدّرون راتب الأستاذ المعاقِد في الجامعة بثلاثة أضعاف راتبه في بلده، وقد كنت في بلدي آخذ مثل راتب وكيل وزارة. ثم إنهم كانوا يعدلون يومئذ كل مئة ليرة سورية بمئة وثلاثين ريالاً (إن لم أكن قد أخطأت أو نسيت). خطر لي هذا، ولكن وجدت أني أكره الفنادق ولا أحس الاطمئنان فيها، وقد نزلت كبارها وصغارها وغاليها ورخيصها في شرقي الأرض وفي غربيّها، فكنت أنام فيها مشتَّت الذهن فاقد الأمن، كأني أنام على رصيف الشارع لا أدري مَن ينظر إليّ ولا مَن يدنو مني!

وقد طالما حاولت أن أتخلص من هذا الشعور الذي ما له سبب فما استطعت. لذلك كنت أستأجر داراً مفروشة، أغلق عليّ بابها لا يراني فيها أحد ولا أرى منها أحداً، آكل فيها ما أريد وأنام كيف أشاء، وإن كانت أغلى من الفندق، وإن كانت إقامتي في البلد شهراً واحداً.

كما أنني لا أجد الراحة في السكن الموقَّت أو المشترَك كما صنع جمهور الإخوان، فطلبت من الصديق الأستاذ سليمان الحافظ، المستشار القانوني في وزارة الدفاع، أن يجد لي داراً مفروشة، فوجدها في الحيّ العسكري في طريق المطار، أعني المطار الذي صار الآن قديماً. وهي ثلاث غرف متداخلة يُفضي بعضها إلى بعض، فيها فرش ليس بالفخم ولا الغالي وحولها حديقة واسعة مونقة، ولكنني شعرت لمّا دخلتها بضيق الصدر من أول دقيقة قضيتها فيها، ذلك لأن لها أسواراً عالية تجعلها أقرب

ص: 198

عمري في دمشق أسكن في الجبل، أفتح النافذة فأجمع دمشق كلها بنظرة واحدة وغوطتيها اللتين تعانقانها وتحفّان بها من الشرق ومن الغرب والبساط الأخضر الممتدّ إلى الجنوبي منهما حتى يلامس أقدام هضبة الكسوة وجبل المانع، فإن رحلت عن دمشق اخترت الطبقات العالية من العمارات الكبيرة، أسكن فيها فأرى منها بعض ما كنت أرى من نافذتي في دمشق. منظر لا كمنظر دمشق (1).

وقد ذكرت الغوطتين هنا لأنني أصف ما كان، وقد ذهبَت الآن الغوطة الغربية وذهب بعض الشرقية، أكلتهما صناديق الإسمنت التي يتكدس فيها الناس كَسَمَك السردين في العلب، وضاعت تلك البساتين التي كانت تتعانق متصلة مترابطة الأيدي حتى يزيد طولها عن الأكيال. ولو عقلنا يومئذ لتركناها مسرحاً للنظر ومصفاة للهواء ومثابة للجمال، وبنينا عماراتنا من حولها على سفوح جبال المِزّة وفي سهل بَرْزة وعلى هضاب قاسيون. وقد صنعنا ذلك الآن، ولكن بعد فوات الأوان!

* * *

ما لي كنت أتكلم عن منزلي في الرياض فجرّتني عواطف القلب إلى داري في دمشق وإلى أيامي فيها؟ سقى الله تلك الأيام!

(1) والناس حتى بعض الكبار من الكتّاب يقولون: هذا رجل ولا كالرجال، يظنون أنهم يمدحونه ويفضّلونه على الرجال، وهم إنما يذمّونه ويقولون إنه رجل ولكن لا يبلغ أن يكون مثل سائر الرجال!

ص: 199

كان في طريق المطار القديم في الرياض حيّ لصغار الضباط فيه دار لرجل مدني يعمل مع الجيش. و «المدني» المنسوبُ إلى المدينة المنورة، ولا أدري لماذا يُصِرّ أحد إخواننا من الأدباء من أهل المدينة على قوله في النسبة إليها «مديني» ، مع أن المديني، المحدّث المشهور، منسوب إلى مدينة المنصور في بغداد لا إلى المدينة المنورة. ثم إن المدني في الاصطلاح اليوم من لم يكن عسكرياً.

وجدت الدار صغيرة متداخلة ولكن حولها حديقة واسعة في وسطها بِركة كبيرة تصلح للسباحة (ولي مع السباحة قصّة ربما قصصتها عليكم يوماً قريباً، ما فيها منفعة ولكن ربما كان فيها متعة، ونحن نطلب في هذه الحياة بعض المتع والتسليات). أعجبتني الدار واتفقنا على أن تكون أجرتها أربعة آلاف ريال في السنة، وكانت أغلى دار قد استأجرها الإخوان لا تزيد أجرتها عن بضع مئات في العام.

وأحببت أن أُحصي المتاع وأن أكتبه فأبى، وحسبت إباءه ثقة منه بي، فإذا هو مبيّت نية في نفسه لا ينوي مثلَها شريف، ذلك أني تسلمت الدار وأخذت مفتاحها وذهبت إلى الكلّية، فلما عدت وجدت ما كان فيها ينقص شيئاً بعد شيء؛ كان على السرير غطاء مطرَّز كالذي يكون في الأعراس (وأنا لا أريده ولو طلبه لدفعته إليه) ولكن ساءني أن يأخذه في غيابي، ثم سدّ الباب الخلفي للدار وبنى غرفة جديدة أقام فيها هو وأهله، فقيّدَتني وسلبتني بعض حرّيتي. أمّا الحديقة فلا أنكر أنها جميلة، ولكن الجدار العالي من حولها يُشعِرني كأنني محبوس فيها كما يُحبَس

ص: 200

العصفور في قفص من ذهب.

هنالك وأنا كالذي يختنق غرقاً في لُجّ البحر مُدّت إليّ يد قوية كريمة تُخرِجني إلى الهواء الطلق، إلى النسيم الرخي على البرّ الآمن، كانت يد معالي الشيخ محمد عمر توفيق. وكنت قد عرفته قراءة له قبل أن يُكتب لي اللقاء به؛ عرفته من كتاب «طه حسين والشيخان» ، فعجبت لمّا قرأته أن أجد كاتباً حجازياً لا نعرفه ولم يصل إلينا اسمه، ينقد بحكمة البنّاء الحاذق لا بمعول العامل المخرّب بناء شاده أوسع أدباء العربية شهرة طه حسين، ثم لا يضعف عنه ولا يروعه منه انتشار اسمه وكثرة أوليائه. فسألت عنه فعلمت أنه أديب معروف وله منصب عالٍ، ثم إنه يكاد يكون نصف شامي، ذلك أن الترك في خوالف أيامهم شرّدوا على عهد فخري باشا كثيراً من أهل المدينة عن منازلهم فهاجروا إلى الشام، فكانوا ضيوفاً كراماً واتصلَت العِشرة بينهم وبين أهل دمشق، ثم صارت مصاهرة، وكان من ذلك أن جدّ الشيخ محمد عمر صاهر شيخ مشايخنا الشيخ جمال الدين القاسمي.

كما عرفت جماعة من أهل المدينة، منها الشيخ الخياري الذي كان يسكن شيخنا الشيخ الكافي في داره، وأحسبه كان يدفع أجرة الدار كلها وهم يُعِدّون له الطعام، أو لعلّ الصلة بينهم وبينه شيء آخر فما أعرفها على حقيقتها. وممن عرفنا من أهل المدينة الذين قدموا علينا أيام الحرب الأولى وفي أعقابها شيخ صوفي خرافي مكفوف البصر طلق اللسان، اسمه الشيخ العطية، كان يدرّس في الأموي فتجتمع عليه العامة وتتّسع حلقته حتى لا تكاد تقاربها حلقة أخرى، واتخذ داراً في حيّ النّوفرة بجوار المسجد،

ص: 201

فكان يُقيم فيها ما يدعوه الناس بحلقات الذكر. وما هو بالذكر المشروع وإنما هو مزيج من البدع ومن الشعوذات ومن الرقص كما كان يدعوه العلماء، ومن ذلك ما قاله ناظم «الوَهْبانية» التي يستشهد ابن عابدين في حاشيته كثيراً بما جاء فيها، ومن قوله فيها:

ومَنْ يستحلّ الرقصَ قالوا بكُفرِهِ

ولا سيّما بالدُّفِّ يلهو ويزمرُ

وتفصيل ذلك في الجزء الثالث من حاشية ابن عابدين التي هي عمدة الفتوى في المذهب الحنفي.

وممن عرفنا من أهل المدينة مؤذّن مدني حسن الصوت، علّم بعض المؤذّنين عندنا النغمة المدنية في الأذان، وممن أخذ عنه الشيخ مصطفى العقّاد أبو وجيه، رحمة الله عليهم جميعاً. ومنهم رجل فاضل صالح قوّام الليل كثير الصالحات، كانوا يسمّونه الشيخ توفيق الصغير، وهو والد معالي الشيخ محمد عمر. ولعلّي واهم ولعلّ هذا ليس اسمه، أو لعلّه اسمه ولكنه ليس والد صديقنا الوزير.

* * *

أَحبّ معالي الشيخ محمد عمر أن يعرّفني بكبار الأدباء في وليمة يدعوهم إليها. وأنا أكره الولائم وأهرب منها، ولكني كنت في حالة من الضيق لا يفرّجها عني إلاّ مثل هذه الاجتماعات، وإن تمنيت أن يكون الاجتماع على الكلام من غير طعام، فإن لم يكن بدّ من شيء فالشاي والكعك أو الفَرانيّ (جمع فُرنيّة، وهو الكاتو).

ص: 202

وكانت الوليمة واجتمع كثير من الأفاضل الذين شرّفني الاجتماع بهم، وكنت أرى من كان حولي منهم يتهامسون وتقول نظراتهم وقسمات وجوههم كأنهم يفتقدون واحداً، يترقبونه يتلهفون على حضوره، ثم سمعت اسم زيدان: أين الأستاذ زيدان؟ لماذا لم يحضر الأستاذ زيدان؟

وكأنهم لمّا يئسوا من حضوره خلصوا نَجِيّاً. ثم تخيّروا واحداً منهم أقاموه إلى جنبي، وكنت أتكلم على سجيتي، تأتي المناسبة بقصة فأقصها، فإذا هو يسرد قصة تكون مثلها أو قريبة منها أو هو يظنّ ذلك، وإن رويت أبياتاً من الشعر روى أبياتاً، وإن ذكرت طرفة جاء بطرفة. فراق لي ذلك ورأيت فيه شيئاً جديداً، وكنت أنا الذي يتخيّر الموضوع ويفتتح الكلام. وطال المجلس، وعرفت بضاعة الرجل كما يعرف المصارع قوة عضلات خصمه ومبلغ علمه بأبواب المصارعة بعد جولات يجولها معه، وإذا هو قد وعى شيئاً كثيراً مما في كتب الأدب المتأخرة (كالمستطرَف والكشكول) وعنده بعض الأخبار مما هو أسبق زماناً وأعلى شأناً، ونظرت فإذا أنا أستطيع أن أتكلم في موضوع لا يُحسِنه ولا يستطيع أن يجاريني فيه فأسدّ عليه طريق هذه المناظرة السخيفة، ولكني ذكرت أن المقام مقام مجاملة لا مساجلة، وأنا لم ألقَ الرجل من قبلُ ولعلّي لا ألقاه بعد يومي، فأعرضتُ عن هذا الخاطر وارتفعت بنفسي عنه وتركته يتكلم وأقللتُ من الكلام، ثم سكتُّ فرأيت البِشر على وجوه النفر الذين قدموه وبريق الظفر في عيونهم. هذا ومعالي الشيخ الداعي لم يلتفت إلى شيء من هذا، ولعلّه لم يرَه.

ص: 203

وكان من بركات هذا الاجتماع أن ردّني إلى نفسي ونفى عني ما كنت أحسّه من الضياع، وعرّفني بإخوة كرام.

ولمّا خرجنا أبى (جزاه الله خيراً) إلاّ أن يوصلني بسيارته، وسألني عن أحوالي في الشام وعن أخي ناجي الذي كان يقرأ له بعض ما يكتب، فخبّرته أنه من قضاة دمشق ومقرّه في دوما. قال: لماذا لا يأتي فيعمل هنا؟ ففتح لي باباً للكلام كنت أتمنى ولوجَه وأتهيّب قرع بابه. وكان من بركات هذا الاجتماع أن استقدمه وجعله مستشاراً قانونياً بوزارة المواصلات التي كان يتولاها يومئذ من وزارة الحج، فلما انفصلَت وزارة الحج بقي يعمل فيها مستشاراً إلى الآن (1)، لأن معالي الشيخ عبد الواسع أبقاه، فله الشكر والشكر لمعالي الشيخ محمد عمر، وجزاهم الله خيراً.

* * *

كنت أمضي في الكلية ساعتين أُلقي فيهما درسي، فإذا قُضي الدرس فتّشت عمّن أكلّمه ومشيت مع أبعدهم داراً وأطولهم طريقاً، حتى إذا وصل ودخل بيته لم يبقَ لي مكان أذهب إليه ولا مَن آنس به. وكان ذلك قبل قدوم أخي إلى المملكة. وأين أذهب والكلية أغلقت أبوابها وانصرف مدرّسوها وطلاّبها، والدار ينتظرني فيها الفراغ والملل وضيق الصدر، وقد سئمت منظر البِركة والنظر إلى الشجرات من حولها، حتى إنني من طول نظري إليها كدت أحفظ عدد فروعها وأوراقها؟

(1) أي إلى سنة 1409 التي طُبع فيها هذا الجزء من الذكريات.

ص: 204

لم أكن أريد مَن يطعمني أو يسقيني ولا أفتّش عمّن يُسعِدني ويُعطيني، إنما أريد من يؤنس وحدتي ويفرّج كربتي، لأنني لا أجد ما أعمله فيما بقي من نهاري. فإذا أمسى المساء وكان الليل لم أستطع المنام، ولم تكن مكتبتي معي ولا اقتنيت غيرها كما صنعت الآن. وكنت طول عمري مرتبطاً بمجلة أو جريدة أكتب فيها، فأنا أبداً في تفكُّر في الموضوع الذي أكتب فيه، أو جمع لأجزائه، أو عكوف على إنشائه، أو انتظار المجلة أو الجريدة التي أجده منشوراً فيها. وكنت من أوائل الثلاثينيات من هذا القرن الميلادي أذيع الأحاديث من إذاعة الشرق الأدنى في يافا (التي أُنشئَت بعد إذاعة مصر بسنة واحدة)، لم ينقطع حديثي إلاّ فترات قليلة خلال هذه المدة الطويلة. فغدوت الآن (أعني سنة 1383) في الرياض ولا جريدةَ ولا مجلة أكتب فيها، ولا إذاعةَ أُعِدّ الأحاديث لها، ولا عمل أؤدّيه، لأن الكلية كانت أيامَ الحجّ في شبه عطلة وقد ذهب كل من أعرفه للحج وكادت تخلو شوارع الرياض من الناس.

الأستاذ الصبّاغ ترك أولاده عند زميله الأستاذ اللبابيدي وذهب مع أهله إلى الحج، والأستاذ عمر عودة الخطيب ترك أولاده عند الأستاذ الشيخ مصطفى الخنّ وذهب مع أهله إلى الحج، وذهب أخي ناجي الذي كنت آنس به بعد أن قدم الرياض وسكن معي في تلك الدار، فلم يبقَ أحدٌ أزوره. كنت أذهب إلى دار الشيخ مصطفى الخنّ فأجده بين القُدور والأطباق يُعِدّ الطعام لهذا الفيلق من الأولاد حرسهم الله، وكنت أقعد معهم أحاول أن أحدّثهم وأكتب لهم لوحات بخطّ الثلث والفارسي (وأنا أجيد

ص: 205

الكتابة بهما وبالقلم الديواني).

وذهبت مرة إلى دار اللبابيدي أسأل زوجته مِن وراء الباب عن حالها مع أولادها وأولاد الصباغ، فشكت إليّ ما تلقى، فأخذتني نوبة مفاجئة من الأريحية والكرم ليتني ما أحسست بها! فقلت لها: هاتيهم ليُمضوا اليوم عندي في الحديقة. ويا ليتني لم أقُل، فقد جنيت على نفسي وجلبت الهمّ لها! وقلت أطبخ لهم طعاماً مثلما يطبخ الشيخ الدكتور مصطفى الخن (ولم يكن قد صار دكتوراً) ونسيت أنه أشبه الناس بأخي ورفيقي الشيخ مصطفى الزرقا على بعد ما بينهما في السن، يشبهه في إتقان كل عمل يعمله وفي سعة صدره وطول باله، فأردت أن أتشبّه به، فكان مثلي مثل القرد والنجّار في كتاب كليلة ودمنة.

أعددتُ لهم طعاماً وصببته لهم في الأطباق ووضعت لهم الملاعق، وحاولت أن أعمل من أطفال صغار رجالاً كباراً. فعبثوا بالطعام وكَبّوه ولطّخ به الصغار وجوههم وأيديهم، ثم كفّوا عن الأكل وأبوا أن يُتِمّوا طعامهم لأنه لم يعجبهم ولأنهم يريدون مثل الطعام الذي تصنعه لهم أمهاتهم في بيوتهم. وأنّى؟ ثم كانت الطامة إذ نفشوا (1) في الحديقة فعاثوا فيها، وكانت فيها شجرة رُمّان قد أزهرت وعقدت، وكنت أنتظر يَنْعَها، فقطعوا زهرها وكسروا أغصانها، ثم جاؤوا إلى البركة يريدون أن ينزلوا فيها فحُلْتُ بينهم وبينها. وكان للأستاذ الصباغ ولد صغير جداً نسيت

ص: 206

اسمه (أظنه الآن صار أباً بعد أن مرّ على هذه الحادثة التي أحدّث بها أربع وعشرون سنة) فغطس في المياه، فوثبتُ فأخرجته وقد ابتلّت ثيابه كلها!

فلم يبقَ في صبري بقية فشتمتهم وهدّدتهم بالضرب، وجئت بقضيب خوّفتهم به، ولكن الضرب لا يأتي الصغير بالثياب وثيابي لا تصلح له ولا أستطيع أن أدعه بأثوابه التي ينقط منها الماء. فنزعتها عنه وأخذت قميصي فربطته من حوله، وهو يصرخ ويأبى، ووضعت فوقه عمامة (غترة) لففته بها، وهو يرفض هذا الزيّ العجيب. والحقّ معه، ولكن ماذا أصنع له؟ ثم قلت لكبيرهم (وهو لطفي ابن الأستاذ الصباغ، وأحسبه صار الآن أستاذاً معروفاً) قلت له: يالطفي الله يرضى عليك أريد أن أنام نصف ساعة، فأسكتهم ولا تدعهم يوقظوني بصراخهم.

قال: نعم. وكدت أغفو وإذا به يصرخ صرخة توقظ الأموات، قال لهم: اسكتوا، عمو الشيخ قد نام، هل تريدون أن توقظوه؟ فأيقظني بصراخه ولم أعُد أستطيع أن أنام! ثم قالوا إنهم جاعوا ويريدون طعاماً، فلم أدرِ ماذا أصنع لهم، وأخذتهم إلى بيّاع أمام الباب في دكان تُقام من العيدان ومن صفائح الحديد (يسمّيها العامة هنا «صَنْدَقَة») وكان يمانيّاً أو حضرميّاً اسمه يَسْلَم، فقلت له: اعرض عليهم ما عندك من الحلويات ومن السكاكر ومن البسكوت. فأبى أكثرهم إلاّ طعاماً كطعام بيوتهم، وقبل فريق منهم أن يأخذوا مما عُرض عليهم وأدخلوه معهم الدار، فامتلأت الدار كلها بكسارة البسكوت وعلب الحلويات، وصارت تحتاج إلى تنظيف شامل كامل.

ص: 207

فما كان مني إلاّ أن استأجرت سيارة حشرتهم فيها وأعدتهم إلى دار المرأة المسكينة التي أخذتُهم منها، وقلت لها: خذي استلمي الله يقوّيك ويعينك، أما أنا فقد رفعت الراية البيضاء وسلّمت واعترفت بالعجز.

* * *

أمضيت تلك الأيام، أيام الحج، في الرياض كما يُمضي السجينُ أيامَ سجنه؛ لم أكن أنظر إلى أحد لأنني لا أعرف أحداً، كنت أجول في الطرق وحدي لا يلتفت أحد إليّ، فأحسّ كأني صرت كالشجرة المغروسة على جانب الطريق أو العمود الذي حمل المصباح الذي يضيء في الليل الطريق، يراه الناس كلهم ولكن لا يهتمّ به أحد منهم. بل إن الشجرة والعمود كانت أثبت مني وجوداً وكان الناس أكثرَ بهما اهتماماً، لأنها إن قُطعت الشجرة أو انكسر العمود أحسّوا بفقدهما وسألوا عنهما، وأنا لم يكن يشعر أحدٌ إن حضرت أو غبت أو سرت في الطريق مع السائرين أو خلا مني الطريق.

إني لأذكر هذا الآن بعدما استمررت عشرين سنة بلا انقطاع أحدّث الناس في الرائي ومن الإذاعة، يسمعونني كل يوم ويرونني كل أسبوع. أفتحسبون هذا الذي صرت إليه نعمة؟ لا والله، حلفت لكم لتصدّقوا. ليست الشهرة نعمة يُستراح إليها ويُحرَص عليها، ولا ما كنت فيه في الرياض نعمة أرضى برجوعها؛ لقد فقدت هنالك شخصيتي وكدت أنسى وجودي، وأضعت هنا الآن حرّيتي.

ص: 208

لقد تقلّبَت بي في المملكة الأمور وتحوّلت الأحوال، حتى كاد يختلط عليّ حلوها بمُرّها وأبيضها بأسوَدها.

كنت في الرياض كمن يلبس طاقية الإخفاء التي ورد ذكرها في قصص ألف ليلة، فأنا أمشي بين الناس ولا يُبصِرني أحد من الناس كأنني استحلت إلى خيال، وأسير اليوم كأني أحمل على رأسي مصباحاً يجلب إليّ أنظار الناس، فلا أستطيع أن أدخل حديقة أو أقف على بيّاع لأن الناس يُشيرون إليّ. أما من منزلة بين المنزلتين؟ هل خلت الدنيا من التوسّط والاعتدال؟ أكُتب عليّ أن أعيش في الظلمة حتى لا أكاد أبصر طريقي أو أحدّق بعيني في عين الشمس فلا أرى شيئاً؟

إني لأعجب ممّن يسعى للشهرة ويراها شيئاً جميلاً. ما الشهرة؟ هي أن تتفتح عليك الأعيُن كلها ويراقبك الناس جميعاً فتفقد بذلك حرّيتك.

* * *

إني لأذكر تلك الأيام فأتمنى أن لا يمرّ عليّ مثلُها!

كنت في النهار كالضائع بين الناس، فإن أقبل الليل أدبر عني المنام وأقبلَت عليّ سود الأحلام، فلا أهنأ بيقظتي ولا بنومي. وإذا خرجتُ إلى حديقة المنزل سدّت عليّ هذه الجدران العالية الاتصال بالناس فشعرت كأنني سجين، ولو كنت في الفندق لنزلت إلى البهو فرأيت الناس، إن لم أرَ النزلاء رأيت الخدم، وإن لم أرَ من أكلّمه كلّمت النادل أن يأتيني بالشاي أو بالشراب

ص: 209

البارد. وما بي حاجة للشراب ولا للشاي ولكن لأسمع صوتي، فقد نسيت من طول الصمت في تلك الأيام في الرياض رنّة صوتي في الأذن!

* * *

ص: 210