المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌أبو الحسن الندوي ومذكراته (1) - ذكريات - علي الطنطاوي - جـ ٨

[علي الطنطاوي]

فهرس الكتاب

- ‌الجزء الثامن

- ‌وداع المحكمة الشرعية

- ‌في محكمة النقض في القاهرة

- ‌أشتات من الذكريات

- ‌زياراتي القديمة لمكة

- ‌حجة 1381: خواطر وأفكار

- ‌أبو الحسن النَّدْوي ومذكّراته (1)

- ‌أبو الحسن النَّدْوي (2)

- ‌أبو الحسن الندوي (3)

- ‌في مطلع العام 1987

- ‌مؤتمر القمة الإسلامي

- ‌الفقيدان الوزير والمدير،ومن قبلهما فقدنا الأمير

- ‌تعليق على الحلقة السابقة: لبّيكَ اللهمّ لبّيكَ

- ‌كيف جئتُ المملكة

- ‌وقفة على المخيَّمات

- ‌منزلي في الرياض

- ‌لمّا كنت أستاذاً في الكلّيات والمعاهد

- ‌تفسير بعض الآيات

- ‌من المستشفى المركزي في الرياضإلى مستشفى المواساة في دمشق

- ‌في مكة سنة 1384ه

- ‌في كلية التربية في مكة

- ‌يوم الجلاء عن سوريا

- ‌لمّا علّمتُ البنات

- ‌خواطر ومشاهدات عن تعليم البنات

- ‌لغتكم يا أيها العرب (1)

- ‌لغتكم يا أيها العرب (2)

- ‌ذكريات العطلة الصيفية في دمشق (1)

- ‌ذكريات العطلة الصيفية في دمشق (2)

- ‌هذه الحلقة من الذكريات مسروقة

- ‌عندكم نابغون فتّشوا عنهم بين الطلاب

- ‌عزمتُ أن أطوي أوراقيوآوي إلى عزلة فكرية

- ‌رسائل الإصلاح وسيف الإسلامانتقدت الشيوخ الجامدينوالشبان الجاحدين

- ‌الخاتمة

الفصل: ‌أبو الحسن الندوي ومذكراته (1)

-220 -

‌أبو الحسن النَّدْوي ومذكّراته (1)

أنا كلما هممت أن أمشي في ذكرياتي هذه كما يمشي الناس صرفني صارف فحوّلني ذات اليمين أو ذات الشمال، أو عثرَت رجلي بعائق قطعني عن مسيرتي ووَقَفني في مكاني.

أما الذي اعترضني اليوم فهو كنز ثمين، ما عثرت به فوقعت ولكن عثرت عليه فربحت؛ هو كتاب قيّم ستُصدِره المطبعة إن شاء الله عما قريب لداعية من أكابر الدعاة إلى الله في هذا العصر، وصديق من أكرم الأصدقاء، ومؤلّف مُكثر له كتب يعرفها الناس. ولكن لهذا الكتاب فضلاً (أي زيادة) عليها، لأنه يسرد سيرة المؤلّف الأستاذ السيد أبي الحسن الندوي، ومعه رسالة منه يشرّفني فيها فيكلّفني بأن أكتب له مقدّمة الكتاب.

وأنا لم أكن يوماً في موضع القيادة في الدعوة الإسلامية، ولكنني أمشي معها من يوم كنت أدرس في مصر سنة 1347، فشهدت بداية الدعوة النظامية بإنشاء جمعية الشبان المسلمين، وعرفت رجالاً من أعيان الدعاة إلى الله ومن أكابرهم كما عرفت أبا الحسن؛ عرفت الشيخ البنا قبل أن تظهر جماعة الإخوان

ص: 79

المسلمين، وكنت في فصل واحد في دار العلوم مع سيد قطب، وعرفت الشيخ البشير الإبراهيمي في مصر وفي دمشق وفي بغداد وفي القدس، وعرفت المودودي، ومحب الدين الخطيب خالي وأستاذي، والسيد الخضر الحسين شيخي وشيخ مشايخي، ومحمد محمود الصوّاف أخي وصديقي، ومصطفى السباعي أخي، وعصام العطار أخي وولدي. وعرفت بالسماع لا باللقاء النّورسي في تركيا، وممن لقيت الأستاذ علاّل الفاسي ولبثت معه أياماً في القدس وفي دمشق. والدعاة إلى الله كثير، ولكن مَن ذكرت من أبرزهم شخصية ومن أخلصهم إخلاصاً، ومن أسيَرهم ذكراً وأعمقهم أثراً.

وللصديق على صديقه حقوق أقلّها أن يأمره فيطيع أمره. فلما جاءني كتاب أبي الحسن فتحته لأرى ما فيه، فعلقت به وعكفت عليه أقلب صفحاته لا أستطيع أن أدعه، وكلما ازددت فيه إيغالاً ازددت به تعلقاً. وكنت أقرأ وأدوّن على صفحة بيدي ما يخطر على بالي من تعليقات أبني منها المقدّمة التي طُلبت مني، فأمضيت في ذلك خمس ساعات متصلات ما بسطت فيها رجلي ولا عدّلت جلستي، أكملت فيها جمع عناصر المقدمة. حتى إذا انتهيت منها تشهّدت وألقيت القلم، وقلت: الحمد لله، لقد فرغت. وأخذت كُداسَة (1) أوراقي التي سوّدتُها، أنظر فيها لأرى ثمرة تعبي وكدّي، فإذا أنا لم أصنع شيئاً!

البدوية تمخض اللبن ساعات لتستخرج الزبد منه فتملأ به

(1) والعامة تقول: كَدْسة ورق.

ص: 80

إناءها، وأنا قد خرجت وملء إنائي الزبد، ولكن عملي كان عبثاً لأني لم أُعطَ لبناً أمخضه ليكون زبداً، بل كان الذي أُعطيتُه زبداً خالصاً، فإذا ثمرة تعبي أني نقصت منه بما أخذت ولم أزِد عليه بما تعبت.

أفكان أخي الحبيب وسميّي الأستاذ علي أبو الحسَن يسخر مني؟ أم كان يمتحنني؟ أم كان يريد أن يعجّزني؟ إن كان امتحاناً (وعند الامتحان يُكرَم المرء أو يُهان) فأنا أعترف أنني قد خرجت بالهوان ورسبت في الامتحان، وإن كان في الأمر تعجيز فقد أقررت بالعجز وألقيت السلاح ورفعت الراية البيضاء.

أنا أكتب في الصحف والمجلات من ستين سنة وكان أول كتاب نُشر لي سنة 1348هـ، فما ضقت يوماً بمقالة ولا أحسست التعب بها كما أحسست عند هذه المقدّمة ومقدّمة كتاب أخي ناجي الطنطاوي (1). لا لأن مجال القول في أبي الحسن ضيق:

لقدْ وجَدت مجالَ القولِ ذا سَعَةٍ

فإنْ وجدتَ لساناً قائلاً فقُلِ

وماذا أقول، وقد سدّ عليّ مسالك القول فلم يدَعْ لي مسافة أنملة لأدخل منها فأكتب عنها؟ لقد قرأت مذكّرات كثير من أدباء

(1) فأما مقدمة كتاب أبي الحسن النّدْوي فهذه هي، تقرؤونها في هذه الحلقة والحلقتين من بعدها، وأما مقدمة كتاب ناجي الطنطاوي، «كلمات نافعة» ، فهي منشورة -بتصرف يسير- في آخر حلقتين من «الذكريات» ، فمن شاء قرأها هناك. رحم الله صاحبَي الكتابين وكاتب المقدّمتين (مجاهد).

ص: 81

العصر، ممن سار فيها مع السنين وجاء بها مرتَّبة ترتيب الأيام في مجرى الزمان كأحمد أمين، ومَن اتخذ منها مواقف فصّلها تفصيل الأديب وعرضها عرض المنشئ البليغ كطه حسين، ومن أخذ مما رأى وسمع مشاهد علّق عليها، وإن لم يستوفِ عناصرها ولم يجمع أطرافها، كمحمد كرد علي. أما أخونا الأستاذ أبوالحسن فقد جمع في سيرته بين الحديث عن أصله ومنبته، وعن بيته وبلده، وعن دراسته وتحصيله، وعن أصحابه وتلاميذه، فلم يدَعْ شيئاً إلاّ قاله. فماذا ترونني قائلاً اليوم؟

لقد كتب عن أسرته، أهل أبيه وأهل أمه، وإذا هو المُعَمّ المخوَّل (1) كما كانت تقول العرب، وإذا هو عالِم من نسل علماء. ولقد عرفت من مطالعاتي أسراً توارث أبناؤها العلم فكانوا وكان نساؤهم من العلماء، كأسرة آل قدامة الذين منهم مؤلّف «المغني» أعظم كتب الفقه الإسلامي، وابن أخيه صاحب «الشرح الكبير» ، والحافظ صاحب «المختارة» التي هي أصحّ كتب الزوائد على الصحيحَين. ولقد أُولِعت زمناً بتتبّع تاريخ هذه الأسرة فحصل معي من سِيَر نسائها العالِمات فضلاً عن رجالها العلماء أكثر من إحدى عشرة سيرة. ومن هذه الأسر في التاريخ القريب أسرة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وأنتم تعرفون من نشأ فيها من العلماء، وأسرة ولي الله الدهلوي في الهند، وأسر من أمثالها كثير أحصيت الكثير من أخبارها.

وأسرة المُهَلَّب، القائد الذي ظلمناه فلم نضعه في مكانه

(1) أي الكريم الأعمام والأخوال.

ص: 82

مع القوّاد العِظام في تاريخ المعارك، والذي تسلسلت البطولة في نسله أربعة بطون فكان منهم رَوْح بن حاتم بن قَبَيصة بن المهلب. وأسرة طاهر بن الحسين في القيادة والسيادة. وأسرة قُتيبةبن مسلم، القائد الذي فتح من الأرض ضعف ما فتح نابليون، فذهب ما فتحه نابليون وعاد إلى أهله وبقيَت فتوح قتيبة للإسلام إلى يوم القيامة، وإن غشيَتها اليوم غاشية من الكفر والكدر فستعود إن شاء الله إلى إيمانها وإلى صفائها. وأسرة جرير في الشعر. وأسرة يمكن أن ندعوها بأسرة الوزراء، هي أسرة وَهْب الذي كان وزيراً، وابنه سليمان الذي كان وزيراً، وابن سليمان عبيد الله، والقاسمبن عبيدالله، ومحمد بن القاسم، وكلهم كانوا وزراء.

ولو عددت من هذه الأسر أسرة أبي الحسن الندوي لما أبعدت، فأبوه عالِم طبيب مؤلّف، وأخوه لأبيه عالِم طبيب، وأخته مؤلّفة ولها ترجمة «رياض الصالحين» ، وأخته الأخرى عالمة وهي أم لعلماء كلهم اسمه محمد، عرفت منهم محمداً الرابع الذي كان شاباً يوم زرت الهند وكان -جزاه الله خيراً- يمشي معي يدلّني ويأخذ بيدي ويترجم لي، وعرفت أخاه محمداً الخامس الذي كان في إذاعة دهلي، وقد دُعيت إليها فسجلوا لي أربعة أحاديث، واستقبلوني بالترحيب والإكرام وودّعوني بالتحية والسلام وأعطوني عليها أكبر المكافآت، ثم لم يُذيعوا شيئاً منها لأني قلت فيها غير ما كانوا ينتظرون مني.

ولا تعجبوا من تسميتهم جميعاً بمحمد، فإنما صنع أبوهم ذلك تبرّكاً باسم محمد. وهذه عادة من عاداتنا في الشام، يضيفون إلى كل اسم اسمَ محمد، فأنا اسمي «علي» ولكنه في القيود

ص: 83

الرسمية «محمد علي» ، ولقد لقيت من ذلك نصَباً، إذ تأتيني رسالة مسجَّلة أو حوالة مالية فلا يدفعونها لي بل يطلبون مني أن آتيهم بابني محمد لتُسلَّم إليه، وما رزقني الله ابناً لأنني من الصنف الأول من الأصناف الأربعة التي وردت في القرآن في سورة الشورى!

ولعل من يتابع الإذاعات منكم تنبّه إلى أن إذاعة مصر أضافت إلى اسم أنور السادات يوم ولي الرياسة كلمة محمد فصاروا يقولون سيادة الرئيس محمد أنور السادات، وقد صنعوا مثل ذلك مع الرئيس حسني مبارك فصاروا يقولون محمد حسني مبارك، وما أدري: هل أخذنا هذه العادة منهم أو هم قد أخذوها منا؟

أما والد أبي الحسن فهو مؤرّخ الهند حقيقة، ولقد استفدت من كتابه العظيم «نزهة الخواطر» فوائد جليلة في تراجم عظماء الهند التي أودعتُها كتابي «رجال من التاريخ» وفي رسالتي عن أحمد بن عرفان، العالِم المجاهد الصالح المصلح الذي ذهب شهيداً في المعركة الإسلامية لإعلاء كلمة الله، أصدرتُ عنه رسالة في سلسلة لي عنوانها «أعلام التاريخ» ، ثم كتب عنه الأستاذ أبوالحسن كتابَه الجامع بعد سنين، فكفى ووفى ولم يدَع بعده مجالاً لمقال.

* * *

يقول العرب:

إنّ الفتى مَن يقولُ ها أنَذا

ليسَ الفتى مَن يقولُ كانَ أبي

أما إذا اجتمع العلم والأدب مع الحسب والنسب، فتلك

ص: 84

الغاية التي لا غاية بعدها، ولولا أن يُظنّ أني صرت شاعراً مدّاحاً عملي الثناءُ لقلت إن أبا الحسن جمع الأمرين. وكان الشعراء إنما يمدحون ليأخذوا الجوائز والعطايا، وليس عند أبي الحسن ما يُعطيني منه جائزة أو عطيّة وليس عندي بحمد الله حاجة إليها، فأنا أقول ما أقول صادقاً لا متزلفاً.

إن أكثرنا يجهل تاريخنا في الهند. وتاريخ الإسلام في الهند يعدل ربع التاريخ العامّ، ذلك أننا -كما قلت من قبل- حكمنا هذه القارة الهندية نحواً من ألف سنة، وكانت يوماً لنا وحدنا وكنا نحن سادتها. ولئن كانت لنا في إسبانيا أندلس أضعناها فإن لنا هنا أندلساً أكبر، ولئن تركنا في الأندلس تلالاً من بقايا شهدائنا وسواقي من دماء أبطالنا فلقد خلّفنا في الهند أضعاف ما تركنا في الأندلس. ولئن كان لنا في الأندلس مسجد قرطبة وقصر الحمراء فإن لنا في كل شبر من هذه القارة دماً زكياً أرقناه، وحضارة خيّرة وُشّيَت جنباتها وطُرّزت حواشيها بالعلم والعدل والمَكرُمات والبطولات. وإن لنا فيها معاهد ومدارس كم أنارت عقولاً وفتحت للحقّ قلوباً، ولا تزال تفتح القلوب وتُنير العقول. وإن لنا فيها آثاراً تفوق بجمالها وجلالها «الحمراء» ، وحسبكم «تاج محل» ، أجمل بناء علا ظهرَ هذه الأرض.

ولقد وصلت دهلي وأقمت فيها زمناً، وكانت أكرا (التي فيها تاج محل) على مرمى حجر منا كما كانوا يقولون، ولكنني لم أزُرها ولم أرَها. وقد كتبت عنها مع ذلك ما أحسب أنه لم يُكتب مثله إلاّ قليل. كان مما قلت: وكان لشاه جيهان زوجة لا نظير لحسنها في الحسن ولا مثيل لحبّه إياها في الحب، هي ممتاز

ص: 85

محل، فماتت. فرثاها، ولكن لا بقصيدة من الشعر، وخلّدها، ولكن لا بصورة ولا تمثال؛ لقد رثاها فخلّدها بقطعة فنية من الرخام ما قال شاعرٌ قصيدةً أشعر منها، فهي شعر وهي أغنية وهي صورة، وهي أعظم تحفة في فنّ العمران، هي تاج محل. هذا البناء العجيب الذي أدهش بجماله الدنيا، وما زال يدهشها، والذي لان فيه الرخام لهذه الأيدي العبقرية فجعلت منه أجملَ بناء شيد على ظهر هذه الأرض بلا خلاف، ونقشته هذا النقش الذي لم يُعرَف نقش في مثل دقّته وسحره. هذا الذي يأتي اليومَ السيّاحُ من أقصى أميركا ليشاهدوه ويسمعوا قصته، وهي أعظم قصص الحب: لقد صدع موت هذه الزوجة الحبيبة قلبَ الإمبراطور، فزهد في دنياه لأنها كانت هي دنياه، وحقر ملك الهند لأنها كانت عنده أجلّ من مُلك الهند، ولم يعُد له أرب بعدها إلاّ أن يملص من حاضره ويوغل بذكرياته في مسارب الماضي ليعيش بخياله معها، ينشق عطرها ويستجلي جمالها، ويسمع خفيّ نجواها ويحسّ حرارة أنفاسها، ثم استحال حبُّه إياها حباً لهذا القبر الذي شاده لها فجُنّ به جنوناً، وصار يحسّ في برودته حرارتها، وفي جموده خطراتها، وفي صمته حديثها، إلخ (1).

وقد قرأت الكتابين اللذين وصلا إليّ مما ألفه والد السيد أبي الحسن، كتاب «نزهة الخواطر» الذي جمع فيه من سِيَر أعلام الهند ومَن نشأ فيها ما لم يجمعه كتاب غيره، فهو يُغني في هذا

(1) من مقالة «بقية الخلفاء الراشدين» ، وهي في كتاب «رجال من التاريخ» (مجاهد).

ص: 86

الباب عن كل كتاب ولا يُغني عنه كتاب. وكتابه الآخر الذي نشره المجمع العلمي في دمشق وسمّاه (أي المجمع)«ثقافة الهند» ، والذي أودعه المؤلف ما لا يستطيع مثلي أن يجده في خزانة كاملة يكبّ عليها يطالع ما فيها.

لقد تعلمت من هذين الكتابين ومن زيارة الهند منذ ثلاثين سنة (أي سنة 1954) أننا بجهلنا تاريخَ الإسلام في الهند إنما نجهل ربع تاريخنا.

* * *

كتاب الأستاذ أبي الحسن ليس سرداً لأحداث حياته، ولكنه كتاب أدب فيه وصف للأمكنة كأنك تراها، وكتاب علم فيه ذكر العلماء ومجالس العلم، وسجلّ اجتماعي فيه وصف عادات الناس وأوضاعهم في الهند

وكان مما قرأت عن المكان الذي نشأ فيه أنه بُني على طراز الكعبة بطولها وعرضها، إلاّ أنه نُقص من ارتفاعها عدّة أنامل تأدّباً معها واحتراماً لها، وسُقيَت قواعده بماء زمزم! ولم يقُل ماذا أرادوا بذلك، ولم يدّعِ أنه قربة إلى الله أو أنه عمل مشروع، لذلك لا أقول فيه شيئاً، لا أُقِرّه ولا أُنكِره وإنما أرويه وأذكره. وكان هذا البناء مسجداً ورباطاً ومدرسة ودار تدريب على الجهاد، ولم يجعلوا له -كما يقول- قبّة ولا منارة.

ووصَفَ النهرَ الذي يجري تحته فإذا هو يصف (أو كأنه يصف) نهر بردى، في قلّة مائه في الصيف وأنه إذا هطل المطر وكانت السيول هدر وزمجر، وربما طغى ودمّر. ويصف فيضانه العظيم سنة 1915 (وكان عقب ولادة الشيخ) يصفه وصفاً حياً

ص: 87

كأنك تراه، ذكّرني ببردى لمّا فاض مثل ذلك الفيضان سنة 1918 فملأت مياهُه مدرستَنا وصارت مقاعدنا كالزوارق طافية على وجه الماء ونحن نتعلق بها، وكان يوماً من أجمل أيام حياتي في الصغر. وكنت في آخر الدراسة الابتدائية، وأنا قد سبقت الشيخ أبا الحسن في رؤية هذه الدنيا ولكنه سبقني في بلوغ ذُرى الفضائل فيها.

أرأيتم الذي يمسك طبق الأكلة المفضلة لا يستطيع أن يدَعه، والأكل منه يُتخِمه ويملأ معدته بما لا يهضمه؟ أنا ذلك الإنسان مع كتاب الشيخ. لو استمررت أقرأ فيه وأعلّق عليه لَما انتهيت حتى أجيء بمثله (في حجمه لا في فضله وعلمه)، ولا ألخّصه لأن مَن اختصر كتاباً أو لخّصه أساء إلى مؤلّفه.

إن أعظم قصص الحب الأدبية يمكن أن تُلخَّص في كلمتين: رجل تعلّق بامرأة فاجتمع شمله بشملها أو صرفه صارف عنها، إن كانت الأولى فهي قصة بهيجة يطمئنّ القارئ إليها، وإن كانت الأخرى فهي فاجعة أو مأساة يبكي منها. بل إن أعظم ما يتلو البشر من قصص، قصة يوسف التي نزل بها جبريل الأمين على قلب سيد المرسلين، والتي هي كلام الله لا يدانيه ولا يقاربه كلام بشر، لو أردت أن تلخّصها لقلت إن يوسف ألقاه أخوته في الجبّ فضاع منهم ثم وجدوه، وحزن أبوه لمّا فقده ثم سُرّ لمّا وجده.

أليست هذه خلاصة السورة كلها؟ فما الذي يبقى منها إن لخّصتها؟ وأنا أستغفر الله أن يُفهَم مني أني أقتبس كلام الخالق بكلام المخلوق، وإنما هو مثَل ضربته للناس.

لقد كلّفني الأستاذ أبو الحسن في غرة سنة 1385هـ وشرّفني

ص: 88

بأن أقدّم كتابه، «الطريق إلى المدينة» ، فلم أجد فيه يومئذ من المشقّة ما أجد اليوم لأنه موضوع محدود، وقد كنت سلكت طريق المدينة قبله حين جزعنا الصحراء سنة 1353 ولقينا الأهوال ورأينا الموت عياناً، لمّا جئنا نكشف هذا الطريق الذي تسلكه السيارات اليوم آمنة مطمئنة، يقطعه راكبها مستريحاً مسترخياً يلفّه الهواء المبرَّد في الصيف والمدفَّأ في الشتاء، فيصل بعد يوم واحد من دمشق إلى مكة وقد قطعنا نحن هذه المسافة في ثمانية وخمسين يوماً!

امتثلت يومئذ الأمر وكتبت، وستر الله ومرّت القضية بسلام. أما الآن فأنا أمام حياة كاملة، وحياة مَن؟ حياة أبي الحسن النَّدْوي، الداعية الكاتب المحاضر الأستاذ الذي كان له في كل بلد إسلامي ذِكر، وله فيه أصدقاء ومعارف، وله فيه مآثر ومناقب. فمَنذا الذي يقدر أن يلخّص حياة أبي الحسن في مقالة؟ إلاّ الذي يجمع البحر في قطرة ويختصر الروض في زهرة. ولو كنت أسنَّ منه وكنت في بلده وشهدت بدايته لكتبت عنها، ولكن الذي بيني وبينه في العمر ستّ سنوات، ثم إن بيني وبينه ما بين الهند والشام. أين الهند من الشام؟

لقد كانت أول معرفتي بأبي الحسن من كتابه «ماذا خسر العالَم بانحطاط المسلمين؟» . لمّا رأيت هذا الكتاب لم أكن أعرف مؤلّفه فقلت: من هذا الباحث الهندي الذي يكتب بمثل هذا الأسلوب العربي النقي ويُحيط بأحوال المسلمين هذه الإحاطة؟ ثم علمت أنه هندي المولد ولكنه عربي الأرومة، وكم من العرب الأقحاح الذين عُرفوا بألقاب فارسية أو أعجمية. ولو أن أحدكم

ص: 89

وضع مخطَّط بلاد فارس وقرأ أسماءها لم يجد بلداً إلاّ ومنه علماء وأدباء كثير ملأت أسماؤهم كتبَنا واستقرّت في أذهاننا: التبريزي والشيرازي والقَزويني والجُرْجاني والهَمَذاني والرّازي (نسبة إلى الري، وهي قرب طهران) والطّبَري (نسبة إلى طبرستان، أما النسبة إلى طبريّا فطَبَراني) والشَّهْرسْتاني والنّيْسابوري والإسفراييني، ومَن لست أُحصيهم عداً، ومن هؤلاء كثير من العرب الخُلّص. وحسبكم بمؤلف «الأغاني» الذي يُدعى الأصفهاني، وهو أموي مرواني صريح النسب من خلاصة العرب. ولقد جمعتُ أسماء هؤلاء لأضعها في كتاب، ثم علمت أن أحد الأدباء قديماً ألّف كتاباً في العرب الذين لُقّبوا بألقاب العجم، ولم أرَ الكتاب ولم أعرف مؤلّفه، فمن كان عنده علم به فليتفضل وليخبرني.

وكنت أحسب أن «النَّدْوي» لقَب أسرة يجمع بين أفرادها النسب، وكنت أسأل: ما قرابة السيد سليمان الندوي (الذي كان من أعاظم من كتب في السيرة) والسيد مسعود الندوي (محرّر مجلة «الضياء»، إحدى المجلات الإسلامية الواعية) والسيد أبيالحسن؟ ثم علمت فيما بعد أنهم لا يجمع بينهم النسب، وإنما يجمع بينهم العلمُ والأدب وهذا المعهدُ الذي ينتسبون إليه.

لم ينته الكلام وتتمّته تأتي إن شاء الله.

* * *

ص: 90