الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
-221 -
أبو الحسن النَّدْوي (2)
أنا لا أعرف أهل معهد أو مدرسة لهم تعلُّق بمعهدهم أو مدرستهم كتعلق النَّدْويين بنَدْوتهم، ينتسبون إذا انتسبوا إليها لا إلى آبائهم، ويجتمعون عليها أكثر مما يجتمع أفراد الأسرة على أنسبائهم، فكل مَن دخلها حمل لقب «النَّدْوي» فعُرف به لا بلقب أهله. لا أعرف مثل ذلك إلاّ للأزهر، الذي انتسب إليه مِن طلبة العلم فيه جماعة فصاروا يُعرفون في بلادهم ويُعرف بنوهم من بعدهم بآل الأزهري.
أما «الأزهر» فشيخ طال به العمر ومرّت به الأحداث والغِيَر، أُقيمَ أولاً لغير الحقّ فأبى الله إلاّ أن يجعله للحقّ، وأن يكون مثابة العلم حين مرّت بالمسلمين عصور أقفرت فيها من أهلها منازل العلم، منها ما أُغلقت أبوابه وأُطفئت مصابيحه، وبقي الأزهر مفتَّح الأبواب ساطع الأنوار، يقصده الشباب والطلاّب من كل بلد من بلدان المسلمين. ثم أدركه الكِبَر ووَنَت منه الخُطا فقصر عن مسايرة الجامعات والمعاهد، فجاؤوا بالأطباء ليعالجوه، فسمعوا شكواه وعرفوا أوجاعه، ولكنهم (إما لنقص في علومهم، أو لغرض في نفوسهم، أو لرغبة أبداها لهم مَن كان إليه أمر انتخابهم
واختيارهم) لواحد من هذه الأسباب رأوا أن يُريحوه بالسمّ يدسّونه له في الدواء، فإذا الأزهر الذي بقي أكثر من ألف سنة يحمل مشعل العلم فيضوّئ للسالكين السبيل، والذي أُقيمَ بأموال الأوقاف التي وقفها نفرٌ من المسلمين لتعليم أولاد المسلمين، والذي كان فحل الجامعات لأنه الجامع وهي جامعات
…
إذا الأزهر الذي يجرّ وراءه أمجادَ عشرة قرون تكسّرت أمواجُها على جدرانه كما يتكسّر عاتي الموج على صخور الشاطئ، فيقعد الموج ويبقى الجدار قائماً، إذا الجامع الأزهر المتفرد وحدَه بتلك المزايا قد مات وهو كامل الأعضاء واقف على قدميه، وإذا هم قد أقاموا مكانه جامعة لا تمتاز من أي جامعة في الدنيا، بل تكاد تقصر عن كثير منها!
كان الأزهر للدين والدنيا، فجعلوه للدنيا، وكان لأبناء المسلمين يتعلمون فيه دينهم أولاً، لأنه بُني بأموال المسلمين بدافع من الدين لرضا ربّ العالمين، فصار
…
وأنتم أدرى بما إليه صار.
أمّا «الندوة» فمثل الشابّ الناشئ في طاعة الله؛ ما لها قِدَم الأزهر ولا لها مثل أمجاده، ولكنها أُسّست من أول يوم على التقوى؛ رُسم لها الطريق السوي فمشت فيه، لا الطريق انحرف بها عن الغاية ولا هي قد تنكّبَت الطريق.
كانت طريقاً وسطاً بين الأزهر بعدما شاخ وتخلّف شيئاً قليلاً عن الركب ومعهد ديوبَنْد في الهند الذي أقيمَ على غراره ومشى يتبعه في مساره، وبين جامعة عُلَيكرة التي أنشأها أحمد خان لتساير الزمان؛ فلم تجمُد «الندوة» جمود ديوبند والأزهر
القديم، ولم تَسِل وتَمِع ميَعَان عليكرة، بل أخذت من طرفَي الأمور بأحسنها وكانت تجرِبة كتب الله لها النجاح.
وكان المثل الأكمل لهذه الطريقة هو أبو الحسن؛ أمسك الخَيرَين باليدين، فما أضاع القديم ولا أهمل الانتفاع بالجديد. وإذا كان أول ما يؤخذ على أكثر علمائنا ومشايخنا والدعاة إلى الله منا أن جمهورهم لا يُحسِن لغة أجنبية، فأبو الحسن يُتقِن ثلاث لغات إتقاناً كاملاً، الثلاث التي هي أكثر أَلسُن الأرض ناطقين بها: العربية والأوردية والإنكليزية، ويعرف فوقها الفارسية. وإذا كان الشاعر القديم صادقاً حين قال:«فكلُّ لسانٍ في الحقيقةِ إنسان» ، فأبو الحسن ثلاثة في واحد. لا أقول إنه كتثليث النصارى، تعالى الله لا إله إلاّ هو الربّ الواحد، بل أقول إنه جمع الفضل مثلثاً.
وإذا كان منا من يدفع أحياناً دين ولده وخلقه ثمن تعلُّم اللغات (والإنكليزية خاصة) فإن أبا الحسن تعلّمها في بلده من غير أن يفارق أهله. وما ذاك بالمستحيل، فإن أخي الدكتور عبد الغني الأستاذ الآن في جامعة أم القرى، الذي ابتُعث إلى باريس ليدرس الرياضيات في السوربون سنة 1938، أي قبل نصف قرن، ما كان يعرف كلمة من الإنكليزية. فلما كسدت سوق الفرنسية وتمّت الغلبة للإنكليزية عليها درَسها بنفسه من غير معلّم حتى صار يقرأ نصوصها ويعرف قواعدها، بل درس بعد ذلك الألمانية وحده وأتقنها.
فما لنا نولي اللغة الإنكليزية من الاهتمام أكثر مما لها؟ كنت مرة في زيارة الشيخ الدكتور مصطفى السباعي رحمة الله عليه، فوجدت عنده تاجراً من تجار الشام المعروفين يريد أن يبعث بولده
الذي لم يُكمِل التاسعة عشرة، وهو شابّ عزب، إلى إنكلترا ليتعلم اللغة فيها. فحاولت أن أبيّن له مخاطر ما هو مُقدِم عليه، وهو يجادلني يُصرّ على أن الإنكليزية ضرورة له في عمله. فقلت له: ناشدتك الله أن تصدُقني، وأنا لا أعرفك إلاّ صادقاً. لو كان في البلد الذي تبعث به إليه مرض سارٍ احتمالُ أن يُصاب به عشرة في المئة، أكنت مرسله أم كنت تقول إن الصحة أثمن من تعلُّم الإنكليزية؟ فتردّد قليلاً ثم قال: لم أكن إذن مرسله. قلت: فلماذا لا تهتمّ بدين الولد وأخلاقه مثل اهتمامك بصحّته، واحتمال أن يُصاب في دينه ثمانون في المئة لا عشرة؟
واللغة العربية أكمل اللغات ما عرفها التاريخ إلاّ كاملة، حتى تعجّب من ذلك أرنست رينان. وهي أوسع اللغات، ولا يغرنّكم أن في القاموس المحيط ستين ألف مادة وفي لسان العرب ثمانين ألفاً وأن المعاجم الإنكليزية فيها مئات الآلاف، لأن مثلنا ومثلهم مثل رجل له سبعة أولاد فقط، لكنهم خرجوا جميعاً من صلبه وولدتهم امرأته، وآخر عنده مئة ولد ولكنهم لقطاء وملمومون لمّاً من الملاجئ والشوارع.
العربية كبنت الأصل المعروفة النسب، لذلك نفهم اليوم شعر المهلهل وعُدَيّ بن زيد، وكثير من شعراء الجاهلية الذين كانوا قبل ألف وخمسمئة سنة، بل نفهم الأفْوَه الأَوْدي إذ يقول:
لا يَصلُحُ الناسُ فوضى لا سُراةَ لَهُمْ
…
ولا سُراةَ إذا جُهّالُهم سادوا
والبيتُ لا يُبتنى إلاّ لهُ عَمَدٌ
…
ولا عِمادَ إذا لم تُرسَ أوتادُ
نفهم هذا الكلام مع أن صاحبه، أي الأفوه الأودي، كان كما يقولون يعيش في عهد قريب من عهد المسيح بن مريم عبد الله ورسوله، صلّى الله عليه وعلى جميع رسله. فهل يفهم الإنكليز اليوم شعر مَن كان قبل شكسبير؟ وهل يفهم الفرنسيون شعر القرن الثالث عشر الميلادي؟
لقد قُلت من قديم كلمة تناقلها الناس وقرّظها وأيّدها أستاذنا عزّ الدين التنوخي، هي أن العربية تأتي في الدرجة الأولى، أمّا الدرجة الثانية والثالثة فشاغرتان فارغتان، وفي الدرجة الرابعة الفرنسية والألمانية معاً، أما اللغة الإنكليزية فتجيء متأخرة في المرتبة. وأنا لا أعرف منها إلاّ ثلاث كلمات: إذا أردت أن أرجو أحداً ذكرت اسم «إبليس» ، وإن أردت أن أرحّب به قلت له:«ويلَكُم» ، وإذا سألت عن شيء قلت للبيّاع:«هَمَج» ! وفهمت أنها لغة ليس لها قواعد مضبوطة، وأن أكثرها سماعي، وأن فيها حروفاً تُقرأ تارة على شكل وتارة على شكل آخر؛ فهي لغة عرجاء، ولكن يقظة قومها سيّرَتها في أرجاء الأرض وجعلَتها اللغة الأولى.
ولست أدري لماذا يُدرس الطب والهندسة في كثير من بلدان العرب بالإنكليزية، وهو يُدرس في الشام من أكثر من ستين سنة باللغة العربية فما ضاقت به ولا عجزَت عن أداء ما تحتاج هذه الدراسة إليه. وقد نهض بهذا العبء جماعة من الأساتذة مضوا جميعاً إلى رحمة الله، ما قامت به حكومة ولا قامت به مؤسسة.
وأنا أذهب في ذلك مذهباً وسطاً، هو أن تدريس الطبّ يقتضي استعمال كلمات من اللغة العامّة وكلمات هي مصطلحات
خاصة بأهل الطبّ، فما كان من اللغة العامة (كأسماء أعضاء الجسد وشرح عمليات الجراحة ووصف مكانها وإعداده لها) هذا وأمثاله ندرسه بالعربية، وهذا ما عليه الأمم كلها. هل يدرّس الفرنسيون طلابَ الطبّ عندهم بالإنكليزية؟ أو الإنكليز بالفرنسية؟ أو الألمان بالطليانية؟
أمّا المصطلحات فما كان منها عالَمياً فإننا نلقّنه كما هو، لئلاّ نقطع ما بين الطبيب إذا تَخرّج وبين الاستزادة من العلم.
* * *
وأنا أقول هذا هنا لأن أخانا أبا الحسن، فوق عنايته بالدعوة إلى الله وأنه ركن من أركانها وعضو ظاهر من أعضائها، يهتمّ بالأدب الإسلامي، وقد أنشأ له هو وأخونا الأستاذ عبد الرحمن رأفت الباشا (رحمة الله عليه) وآخرون رابطةً تربط أهله، تجمعهم وتشدّ من أزرهم وتُعينهم في أمرهم.
ولا يزال في الناس من يختلط عليه أمر تعريف «الأدب الإسلامي» ، ويُدخِل فيه كتابات إسلامية ليست أدباً وكتابات أدبية ليست موافقة للإسلام. والذي أفهمه أنا بذهني الكليل وفهمي القليل، أن الأدب الإسلامي هو ما كان أدباً مستكملاً شرائطه جامعاً عناصره، سواء في ذلك أكان قصيدة أم كان قصة أم كان مسرحية أم كان رواية، فالشرط فيها أن تكون بالميزان الأدبي راجحة لا مرجوحة، وأن يكون الأثر الذي تتركه في نفس قارئها إذا انتهى منها مرغّباً له في الإسلام دافعاً له إلى الاقتراب منه. لا أن تكون بحثاً فقهياً ولا تاريخياً، ولا شرح حديث ولا تفسير آية،
فهذا كله ليس أدباً وإن كان شيئاً أغلى وأثمن وأعلى من الأدب.
ولقد كنت ممن دعا الأستاذ أبا الحسن إلى تأليف كتاب «روائع إقبال» ، ذلك أننا ما زلنا نسمع بإقبال، وبأن له شعراً علا فيه حتى وصل إلى طبقة قلّ مِن الشعراء مَن يصل إليها أو يحلّق فيها، ثم نقرأ ما تُرجم منه فلا نجد فيه مصداق ما سمعنا. ورأيت أنّ أقدر من يستطيع أن ينقله إلينا أبو الحسن، لأنه متمكن من اللسانين أديب في اللغتين، في العربية وفي الأوردية. وصدر الكتاب، وإذا هو لم يترجم قصائد إقبال ولكنه لخّصها، ولولا أن أُغضِب أباالحسن (وأنا واثق أن الحقّ لا يُغضِبه إن شاء الله) لقُلت إننا لا نزال في حيرتنا نردّد سؤالنا وننتظر من ينقل شعر إقبال إلينا.
وما ذلك عن تقصير من أبي الحسن، لأنني لمّا بلغت لكنو وقابلته قلت له إن صديقنا علي حيدر الركابي (ابن الفريق رضا باشا الركابي الذي بلغ في الجيش العثماني قديماً رتبة لم يبلغها عربي غيره، رحمة الله عليه وعلى ولده علِيّ) كان قد نقل إليّ معاني قصيدة سمعت الثناء عليها، هي «مقبرة القرية» للشاعر الإنجليزي غراي، فلمّا فهمت هذه المعاني تصوّرت أنها لي، فصغتها صياغة أدبية لا أخرج فيها عنها ونشرتها في الرسالة سنة 1935 (1)، فعلّق عليها كثير واستحسنوها، وقالوا إنها من باب ترجمة فيترجرالد «رباعيات الخيام» إلى الإنكليزية.
فطلبت من الأستاذ أبي الحسن أن يختار لي تلميذاً من
(1) وهي في كتاب «صور وخواطر» (مجاهد).
تلاميذه النابغين الذين يعرفون اللسان الذي كان يَنظم به إقبال ويُحسِنون العربية، فاختار لي واحداً أغلب الظنّ أنه الأستاذ محمد الرابع الندوي وهو ابن أخته، وكان ذلك من ثلاثين سنة وقد صار الآن أستاذاً كبيراً. فسألته أن يختار لي من أجود قصائد إقبال، فاختار واحدة عنوانها كما أذكر «نداء الجبل» أو شيء قريب من هذا، وترجمها لي ترجمة حرفية حاول أن يوضحها. فلم أفهمها، وما فهمته منها ما استطعت أن أسيغه ولا أن أبتلعه فضلاً عن أن أهضمه، وفكّرت في ذلك فوجدت أن ترجمتها غير ممكنة لأن الذوق العربي لا يستطيع أن يقبلها.
إن ذوقنا أقرب إلى الوضوح، فإن عمدنا إلى بعض التغطية الفنية (إن صحّت هذه التسمية) جئنا باستعارة، فإن زدنا مزَجنا بها كناية وأتينا بهما معاً، فسمّيناها استعارة مكنية. فإذا أنا أرى في لغة هذه القصيدة (وأحسبها الفارسية) أن إقبالاً يكاد يُدخِل فيها ثلاث استعارات في ثلاث كنايات، وهذا ما لا يمكن التعبير عنه بلغة العرب، ولو استطعنا أن نعبّر عنه ما فهموه ولا تذوّقوه.
* * *
قلت لكم إني لمّا قرأت وصف أبي الحسن لبلدة أسرته الأولى رايلي بريلي، وهي تبعد عن لكنو مسافة القصر أي ثمانين كيلاً، ذكرت بردى ورأيت فيها شبهاً منه، فلما زرت لَكْنَو جعلت كلما مشيت فيها أو نظرت إليها أجد ذكرى دمشق ماثلة أمامي.
ولعل من تتمّة الكلام أن أذكر كيف لقينا أبا الحسن في لكنو. كان ذلك في رحلة المشرق التي مرّ في ذكرياتي كلام كثير عنها،
لقد زرنا من مدن الهند أربعاً هي: بومباي وكلكتا ودهلي (التي يسمّيها الإنكليز دلهي بتقديم اللام) ولكنو. ولقد كنت أذكر اسم لكنو مرة أمام جماعة من أهل الفضل فما عرفها منهم أحد، فقلت لهم إنها مدينة أبي الحسن الندوي فعرفوها. فكيف تريدون مني أن أعرّف القراء في هذه المقدّمة برجل هو أشهر من بلده، حتى إنها لتُعرَف به قبل أن يُعرف بها؟
كنا أنا والشيخ أمجد كلما جئنا بلداً وجدنا مَن يستقبلنا فيها ويدلنا ويأخذ بأيدينا، فلما وصلنا لكنو وصلناها مطمئنَّين لأنها بلد صديقنا الحبيب أبي الحسن، فيها داره، ومن دخل بيت صديقه فقد دخل بيته. ولكنا لمّا وصلنا لم نجد في استقبالنا أحداً، لأنهم ترقبوا وصولنا بالقطار وانتظرونا في المحطة لم يقدّروا أن نأتي بالطيارة. ولم نكن نعرف لسان القوم لنكلمهم به فوقعنا في لُجّة ما معنا فيها سفينة، ولا نحن ممن يحسن السباحة، فكيف ننجو منها؟ كيف نُقيم في بلد لا نعرفه ولا نعرف فيه أحداً ولا نُحسِن النطق بلسان أهله؟ فرجعت إلى لغة الخرس، لغة البشر الأولين، بعد أن تفرّقوا في البلدان ونسوا الأسماء كلها التي علّمها الله أباهم آدم، وشرعوا يتعلمون النطق من جديد يُصدِرون أصواتاً يوضّحونها بإشارات، فإذا فُهم مرادهم منها وعادوا إلى مثلها استغنوا بالصوت عن الإشارة، فنشأت كلمات تراكم بعضها على بعض فكانت الألسن واللغات (1).
(1) هذا توفيق بين ما يذكرون من نشأة اللغات وما خبّر الله به في القرآن: {وعلّمَ آدمَ الأسماءَ كلَّها} .
ومن الكلمات ما يُفهم في كل مكان، منها كلمة أوتيل (وإن كان الإنكليز يلفظونها «هُطِل» بضم الأول وكسر الثاني، ووقعت لي في هذا حوادث ستأتي عندما أتكلم في ذكرياتي عن الهند إن شاء الله). فلما قلت كلمة «أوتيل» وفهموا عني علمت أن مكتب شركة الطيران التي جئنا معها في فندق كبير في القسم الجديد من المدينة، الذي يُدعى إن صحّ ما أذكر «حضرت كنج» . وكنج كما علمت هو النهر المقدس، ويمرّ من لكنو. وما عندنا نحن المسلمين شيء مقدس لذاته ولكن عندنا أمكنة وردت الآثار بأنها أفضل من غيرها.
وبلغنا الفندق، وكان من الفنادق الكبيرة، له غرف واسعة جداً وأمامها سطح أوسع منها يُطِلّ على منظر من أجمل المناظر التي رأيناها، تظلّله أشجار من أضخم ما رأيت في عمري من الأشجار، والقردة تلعب على أغصانها وتمرح فيها. ومن عجائب المناظر أن الوليد منها يتعلّق ببطن أمه ثم تقفز به القفزة الهائلة من غصن إلى غصن.
واستطعنا بالإشارة أن نأخذ أحسن غرفتين في الفندق. وصعدنا إليهما تحت الأمطار، وأمطارُ الهند كأمطار مكة، ولكنها لا تستمرّ مثلها ساعة أو ساعتين، بل استمر هطولها اليوم كله والليلة التي جاءت بعده. وأصبحنا من الغد والمطر نازل لم ينقطع ولم يخفّ ونحن محبوسان في الفندق، لا المقصد الذي جئنا من أجله حققناه ولا صديقنا الندوي وجدناه، فضاق صدر الشيخ أمجد وطفق يأمرني بأن آخذه إلى أبي الحسن، يكرّر الأمر يلين به تارة ويشتدّ به أخرى، يكرّره ثلاث مرات كل نصف ساعة!
وأنا حائر لا أريد أن أُغضِبه، ولا أعرف الطريق إلى أبي الحسن، ولا أعرف لسان القوم لأسألهم عنه، ولا أجد حولي من يفهم عني فيترجم لي.
فلما نفد صبره قلت: أنا ذاهب أفتّش عنه. وما كنت أدري أين أفتّش عنه في بلد كبير، فأخذت سيارة وأشرت إلى السائق أن يمشي بي، وأنا أتأمل وجوه الناس، والسيارة تلفّ الشوارع والعداد يعدّ عليّ، وكلما عرض لنا مفرق طريقين أخذت الأيمن منهما، لست أدري إلى أين يوصلني، واسم الفندق معي حتى إذا يئست رجعت إليه.
ما زلنا نمشي حتى لمحت وجه شابّ وقع في قلبي أنه مسلم. وللمسلم نور في وجهه يُدرِكه المسلم، فوقفتُ السيارةَ وأشرت إليه، فأقبل عليّ فقلت له: السلام عليكم ورحمة الله. فأجاب بلسان عربي متين: وعليكم السلام ورحمة الله. فقلت له: أتعرف أبا الحسن الندوي؟ وكان لقاؤه في تلك الساعة أحب إليّ من عطيّة كبيرة أُعطاها وكان هو طلبتي ومقصدي. قال وقد انطلقت أساريره وبرقت عيناه: نعم، وأنا من تلاميذه، فهل أنت الشيخ أمجد أو الطنطاوي؟ قلت: نعم، أنا الطنطاوي. فأقبل عليّ معانقاً ومرحّباً، وتعانقنا وتصافح قلبانا. وأذكر أن اسم الفتى كان عبد المحسن، أحسن الله إليه إن كان حياً ورحمه إن كان قد سبقنا إلى لقاء الله، وأخذني إلى الندوة.
أرأيتم الضالّ في الصحراء جوعان عطشان قد هدّه وبرّح به التعب وكاد يصل إلى حافّة اليأس، وإذا هو أمام مضارب أهله
ومنازل ذويه؟ أنا ذلكم الرجل. لقد كانت هذه إحدى الفرحات التي فرحها قلبي طول عمري.
ولقيت أبا الحسن وصحبه وتلاميذه. ولا تزال بقايا تلك الفرحة تشرق في نفسي إلى الآن كلما ذُكرَت أمامي لكنو، أو سمعت اسم الندوة أو اسم أحد من أهلها.
كنت مرة في مقابلة إذاعية في الرائي (في التلفزيون) فسألني المحدّث (وأحسبه كان الأستاذ ماجد الشبل) عن المكان الذي أتمنى أن أقضي فيه بقية أيامي، قلت: إن لم أستطع أن أعود إلى بلدي، وبلدي دمشق، ولم أقدر أن أبقى بجوار بيت الله هنا في مكة، فإن أحبّ مكان إليّ هو لكنو، وأن أقيم في معهد ندوة العلماء، فأجمع فيها بين الظلّ والماء وصحبة العلماء.
وللحديث بقية.
* * *