المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌من المستشفى المركزي في الرياضإلى مستشفى المواساة في دمشق - ذكريات - علي الطنطاوي - جـ ٨

[علي الطنطاوي]

فهرس الكتاب

- ‌الجزء الثامن

- ‌وداع المحكمة الشرعية

- ‌في محكمة النقض في القاهرة

- ‌أشتات من الذكريات

- ‌زياراتي القديمة لمكة

- ‌حجة 1381: خواطر وأفكار

- ‌أبو الحسن النَّدْوي ومذكّراته (1)

- ‌أبو الحسن النَّدْوي (2)

- ‌أبو الحسن الندوي (3)

- ‌في مطلع العام 1987

- ‌مؤتمر القمة الإسلامي

- ‌الفقيدان الوزير والمدير،ومن قبلهما فقدنا الأمير

- ‌تعليق على الحلقة السابقة: لبّيكَ اللهمّ لبّيكَ

- ‌كيف جئتُ المملكة

- ‌وقفة على المخيَّمات

- ‌منزلي في الرياض

- ‌لمّا كنت أستاذاً في الكلّيات والمعاهد

- ‌تفسير بعض الآيات

- ‌من المستشفى المركزي في الرياضإلى مستشفى المواساة في دمشق

- ‌في مكة سنة 1384ه

- ‌في كلية التربية في مكة

- ‌يوم الجلاء عن سوريا

- ‌لمّا علّمتُ البنات

- ‌خواطر ومشاهدات عن تعليم البنات

- ‌لغتكم يا أيها العرب (1)

- ‌لغتكم يا أيها العرب (2)

- ‌ذكريات العطلة الصيفية في دمشق (1)

- ‌ذكريات العطلة الصيفية في دمشق (2)

- ‌هذه الحلقة من الذكريات مسروقة

- ‌عندكم نابغون فتّشوا عنهم بين الطلاب

- ‌عزمتُ أن أطوي أوراقيوآوي إلى عزلة فكرية

- ‌رسائل الإصلاح وسيف الإسلامانتقدت الشيوخ الجامدينوالشبان الجاحدين

- ‌الخاتمة

الفصل: ‌من المستشفى المركزي في الرياضإلى مستشفى المواساة في دمشق

-232 -

‌من المستشفى المركزي في الرياض

إلى مستشفى المواساة في دمشق

عرفتم أني انتقلت في شتاء سنة 1963 (1383هـ) إلى الرياض، وانتقل معي من دمشق شتاؤه وبرده، ولكن لم تنتقل مدافئه ولا الوسائل التي كنا نتخذها لدفعه؛ فكأنه عدوّ داهم بلدة كانت آمنة مطمئنّة لم تستعدّ لحربه، بل هي لم ترتقب هجومه. وأحسب أنه من تلك السنة بدأ الناس في الرياض يستعدّون للشتاء بالمدافئ: ما كان منها يوقَد بالحطب، وهو قليل، وما يوقَد بالنفط وما يُشعَل بالكهرباء.

وكنت امرءاً يؤذيه البرد ويهون عليه معه حرّ الصيف مهما اشتدّ، لا لأني شيخ يقول:

إذا جاءَ الشتاءُ فأَدْفئوني

فإنّ الشيخَ يؤذيهِ الشتاءُ

لأنني لم أكن قد صرت يومئذ شيخاً بل كنت كهلاً في الخامسة والخمسين، وكنت لا أزال على بقية صالحة من قوة الشباب واحتماله. وأنا بحمد الله حمداً كثيراً قوي البناء متين الأعضاء، أمشي سويّاً قوياً ثابت الخطو، لكنني تزحلقت في حياتي مرات،

ص: 235

ثم ما زلت أعود فأتزحلق فأقع على ظهري أو جنبي، فأبقى مُلقى أياماً ربما طالت حتى صارت أسابيع وشهوراً. وكان الذي أتزحلق به حصاة صغيرة جداً لا تزيد في مقدارها على الحمصة، بل ربما نقصَت عنها. ولو كانت على الطريق لدعست عليها (ولا تقُل دهست) أو لتنحّيت عنها، ولكنها كانت حيث لا تصل يدي إليها ولا أملك أن أحرّكها فأدفع أذاها، كانت في الكُلْية أو في حوضها (وهذا أهون ما يكون من شرّها) أو كانت في الحالب. وهو مجرى ضيّق، إذا كانت ساكنةً فيه سكَتَ عني ألمُها، فإن تحرّكت أو شدّ عليها فضاق عنها كان الذي عرفت من ألمها. فهذا الألم يجيء في لحظة، كما يجيء القدَر النازل نعوذ بالله منه، ويذهب في لحظة، فكأن الذي كان ما كان.

* * *

وبتّ الليلة لا أشكو شيئاً، فلما كان هزيع من الليل سُمع في الحيّ صوت: آه، يقتلعها مرسلُها من قرارة القلب ويبعثها مسربَلة بالألم، يسمعها الجيران مرّة كل دقيقتين، ثم صارت مرّتين كل ثلاث دقائق، ثم تسارعت حتى صارت تمشي مع دقة الثواني في الساعة، فكلما قالت الساعة «طق» قال هذا الصوت «آه» ! وكان مطلقها هو أنا. وكنت أعرف هذه الآلام من القديم، ما شكوت في عمري غيرها. تقول التي تصاب من النساء بها (وهي تعرف آلام الولادة) أن آلامها تُشبِه آلام الولادة، فهل سمعتم بما تقاسي الوالدة حين الطلْق وما تتحمل حتى يخرج الولد إلى هذه الدنيا؟ لذلك كان أحطّ الناس وأخسّ الناس وألأم الناس من يعقّ أمه، وينسى صنيعها له ويعاملها بالشرّ والأذى.

ص: 236

ولي مع هذا المرض تاريخ طويل طويل، دخلتُ معه المستشفيات في دمشق والمستشفى الأميركي في بيروت ومستشفى الرياض هذه المرة، ودخلت مستشفى قصر العيني في مصر مرة، ودخلت بعض المستشفيات في أوربا، وما أشكو في ذلك كله إلاّ هذه الحصاة. وربما حدّثت القراء يوماً حديثها إن سمحوا بذلك ووعدوا أن يصبروا عليه.

وسمع صوتي جارُنا في غرفته التي بناها خلسة فنقمت عليه بناءها، ولكنني وجدتها الآن نعمة. وما في الدنيا شرٌّ لا خيرَ معه ولا خيرٌ لا شرَّ معه إلاّ طاعة الله وابتغاء الآخرة، فهذا هو الخير الخالص. وكان جارنا، صاحب الدار، يعلم أنه ليس معي من يحتشمه من النساء، ولم يكن أخي ناجي تلك الليلة في الدار، ففتح الباب بالمفتاح (وهو معه) ودخل عليّ، ودخل معه جار آخر سمع من صراخي ما سمع فأقبل معه لمّا أقبل، جفَوا فراشهما الدافئ في هذا الليل البارد وجاءا يؤدّيان حقّ الجار على الجار، فجزاهما الله خيراً.

وجعل يسائلني، وما بي طاقة على الجواب إلاّ أن أختلس لحظة بين آهتين من آهاتي، وسمعني في هذه اللحظة أذكر اسم الأستاذ محمد الصباغ والأستاذ سليمان الحافظ، فاتصل بهما. ولم يكن في الرياض في تلك الأيام هواتف في البيوت، ما كانت فيها إلاّ هواتف قليلة تُدار باليد، ولكن الحيّ حيّ عسكري فسَهُلَ عليه أن يتصل بمن يذهب إلى أحد الأستاذين فيخبرهما بما أنا فيه.

ومن مزايا المسلمين أنهم عند الشدة يصيرون كأبناء الأم الواحدة والأب الواحد، وما من ذلك شيء إلاّ شيئاً قليلاً عند

ص: 237

الذين نسمّيهم بأهل الحضارة من أهل أوربا أو أميركا (وكان أجدادنا يدعون أوربا «أورَفّي»، بتشديد الفاء). ولست أعمّم الحكم ولكن أقول عمّن رأيت منهم وعمّا سمعت عنهم.

ولم يكن الطب في المملكة في تلك الأيام قد بلغ عُشر ما نجده عليه الآن ولا أقلّ من العُشر، ولكن المستشفى المركزي في الرياض كان عامراً بالأطباء، وكان مديره شاباً نبيلاً سامي الخلق حسن العشرة محبوباً، لا يردّ طالب إسعاف ولو لم يكن يعرفه، فكيف بهؤلاء الإخوان وفيهم مَن هو صديقه ورفيقه؟ وكان في المستشفى جناح أُعِدّ لكبار المرضى من ذوي الأقدار والمنازل، فأنزلوني فيه كرماً منهم. وكان فيه ممرّضتان يبدو أنهما ألِفتا رؤية المتمارضين من الشباب ممّن كان ينزل عندهما رغبة في لقائهما، كان همهم هذا اللقاء لا التداوي والشفاء. فما أدري كيف ضربهما العمى فلم تبصرا في رأسي ووجهي الشيب والصلع، وأصابهما الصمَم فلم تسمعا صراخي؟ وأظنّ أنهما حسبَتاني مثل أولئك الشباب ولم تدركا أني إلى حقنة مورفين (وما كان يسكّن الآلام في تلك الأيام غيره) أحوَج مني إلى معاقرة كؤوس الجمال ومطارحة أحاديث الغرام. فتلفّتَت إحداهما تقول: حضرة الأستاذ من طنطا؟ وتكركر ضاحكة: هئ هئ، من طنطا بتاعتنا؟ هئ هئ!

والمرأة إن ضحكَت غالباً قالت: «هي هي» ، والرجل يقول:«ها ها» ، والولد يقول:«هو هو» . فصببتُ نقمتي كلها عليها، ووجّهت إليها كلاماً ما سمعَته حتى انكمشت وتضاءلت وكفّت عما كانت فيه. وجاء مدير المستشفى يزورني يسأل عن حالي مع طائفة من الإخوان الكرام وعما آمر به، فقلت له: أول ما أطلبه أن

ص: 238

تصرف عني هذه الممرضة الحمقاء.

فلما تدفّق الإخوان عليّ وتَكرّم بزيارتي الوزيران الصديقان الشيخ محمد عمر توفيق وزير المواصلات ووزير الحج بالنيابة، والشيخ حسن رحمة الله عليه وزير المعارف ووزير الصحة بالنيابة، زادت عناية القوم بي واهتمامهم بمرضي.

وتَبيّن أنه لا بدّ من عملية جراحية، ففضّلت أن أعملها في الشام؛ لا لأنه لم يكن في مستشفى الرياض أطباء يقدرون عليها، بل لأن هناك من أعرفه من قديم وهناك أهلي وأقربائي، والمريض يأنس بزيارة أهله وأقربائه. وكان على رأس الأطباء الذين يُعنَون بي في الشام الدكتور حسني سبح، وهو شيخ جاوز التسعين (وقد بلغني أنه توُفّي من قريب، رحمه الله، وهو بقية جماعة كانوا أساتذة أطباء الشام جميعاً. منهم الدكتور حمدي الخياط، وقد خلّف ولداً عبقرياً نابغاً طبيباً عالِماً هو الدكتور هيثم الخياط، ومنهم الدكتور عِزّة مريدن، وكان يومئذ عميد كلية الطب في الشام، ومنهم الأخ الطبيب الحبيب الدكتور مظهر المَهايني، الذي أجرى لي في مستشفى كلية الطب من قبلُ ثلاثَ عمليات لم يأخذ عليها لنفسه أجراً. فجزاه الله وجزاهم خيراً.

* * *

وأخذوني إلى مستشفى المواساة الذي أقامه جماعة من كرام الشاميين بسعي من الدكتور حسني سبح رحمة الله عليه، الذي توفّي وهو رئيس مجمع اللغة العربية في دمشق، وهو أحد الأطباء الذين جمعوا بين الطب في أحدث ما سما إليه وبين اللغة العربية، إحاطة بها وتحقيقاً لفصيحها وشواردها. وسأكتب عنه إن شاء الله

ص: 239

فصلاً طويلاً حين أعود فأكتب عمّن عرفت من الرجال.

ودمشق كما يعرف الناس أجمل مدينة على وجه الأرض، وموضعُ مستشفى المواساة (الذي كان يُدعى من قبل مَصْطبة الهبل) أجمل موقع في دمشق. وكان مديرُه أحسنَ مدير لمستشفى عرفته في عمري وأضبطَه لعمله، على رقّة فيه ولطف، وهو الأستاذ كامل الرّوماني، وكان من قبل زميلاً لنا في التعليم، ولست أدري أهو حيّ فأهديه سلامي أم قد توفّاه الله فيمَن توفّى من أصحابي فأسأل الله الرحمة له؟ وعرفت عدداً من الأطباء الشباب يومئذ الذين كانوا يتدرّبون في هذا المستشفى، منهم الدكتور مأمون العظمة الذي صار بعدُ طبيباً كبيراً.

وكان في غرفة إلى جنب غرفتي رفيقُ عمري وشقيق نفسي أنور العطار، مريضاً مثلي، لا يقدر أن ينتقل إليّ حتى أراه ولا أستطيع أن أنتقل إليه فأزوره، فكنت معه كما قال المعرّي في هذا البيت الذي تضمّن معنى عجيباً وتشبيهاً نفيساً غريباً، حين قال:

كتَجَاوُرِ العينينِ لم يتلاقيا

وحِجازُ بينِهِما رقيقُ جِدارِ

وكان إخواننا يخافون أن يقع لي ما وقع في المرّة الماضية (سنة 1957) في مستشفى المُجتهِد، وهو أكبر مستشفيات وزارة الصحّة في دمشق في تلك الأيام، حين جاء طبيب داخلي يتدرّب فيه وكان شيوعياً خبيثاً، فأدخل في دمي جرثومة نادرة هي التي تُسمّى بالعربية «العُصَيّات الزّرقاء» ، فكان من أثر ذلك أن بقيت في هذا المستشفى ثم في مستشفى كلية الطب حين انتقلت إليه أربعة عشر شهراً.

ص: 240

ذكر الإخوان ذلك فخافوا أن يقع مثله، فندب نفسَه ولدي الأستاذُ زهير الشاويش فأبى إلاّ أن يقف على العملية، وجاهد وجالد وسعى حتى سمحوا له أن يلبس ما يلبس الأطباء وأن يضع مثل القناع الذي يضعونه وأن يقف معهم يراقب ما يصنعون. وما كنت أخشى الدكتور مظهر فهو أخي وصديقي، ولكن أخشى بعض صغار الأطباء، ومَن لدغه الثعبان خاف الحبل.

وأنا أسائلكم ياأيها القراء: لو كان لي ولد من صلبي هل كان يصنع أكثر مما صنع الأستاذ زهير أو هل كان يصنع مثله؟ فجزاه الله وجزى إخواننا المخلصين خيراً.

ولمّا كنت في مستشفى كلية الطب كان أخي عبد الغني مريضاً في عمارة أخرى من عمارات المستشفى، وكان الذي أجرى له العملية هو الدكتور مظهر المهايني. وكان من خبر أخي أن جداراً من بناء كان يبنيه انهار عليه ففتّت عظام فخذه، حتى لقد خبّرني الدكتور مظهر أنه رصف قطع العظام كما تُرصَف قطع الفُسَيفساء الصغيرة، ووفّقه الله ونجحت العملية ولكن قصرَت إحدى الساقين قليلاً. والدكتور مظهر المهايني جرّاح عامّ، ولكن الله وفّقه فنجح في كل عملية أجراها في حياته الطويلة مع العمليات، فأرجو ممن يعرف مكانه أن يبلغه هذا الذي كتبته عنه، وأن يُخبِره أنني مهما عشت فلن أنسى حبّه وبراعته وفضله عليّ.

ولم تعاودني النوبة بعد ذلك اليوم. وكلما صوّرت كُلْيتي صورة شعاعية بدَت الحَصاة في مكانها (ولكنها لا تُحدِث حدثاً ولله وحده الحمد ولم يعُد لها ألم)، حتى في الصورة التي استخرجها اثنان من

ص: 241

أعظم مصوّري الأشعة هما الدكتور عيد ابن صديقنا الشيخ ياسين عرفة في دمشق والدكتور بيضون ابن صديقنا وزميلنا في محكمة النقض الأستاذ محمد علي بيضون، وهو يعمل اليوم في مستشفى عرفان وتُحال عليه حتى من المستشفيات في أميركا الحالات التي تحتاج إلى صورة لا يقدر إلاّ قليل من الأطباء على مثلها.

ومن الذين لمستُ براعتهم في التصوير الشعاعي ومعرفتهم به الدكتور الإسكندراني الذي عرفته في المستشفى العسكري بجدة. وأشهد شهادة حقّ لا أبتغي عليها جزاء ولا أنتظر من أحد شكراً، أن الطب في المملكة قد سما حتى قارب أن يصل إلى الذروة التي لا نعرفها إلاّ في قليل من بلاد أوربا وأميركا.

* * *

ومرّت السنة وقاربت نهايتها، وبعثوا يسألون المعاقِدين (الواحد «معاقِد» والاثنان «متعاقدان»): من يريد منهم تجديد العقد؟ فقلت لهم وأنا راضٍ شاكر عارف بالفضل: أعفوني من التجديد.

فحاول الإخوان أحسن الله إليهم استبقائي وظنّوا بأن شيئاً آذاني، فأخبرتهم صادقاً أنني ما وجدت والله إلاّ كل خير من سماحة المفتي الشيخ محمد بن إبراهيم، وهو المشرف الأعلى على الكليات، ومن أخيه الشيخ عبد اللطيف، وهو المشرف القريب عليها، ومن الأخ الكريم الشيخ عبد العزيز المسند الذي كان يديرها، ومن مدير الكلية ومن الزملاء ومن الطلاب. ماوجدت من الجميع إلاّ خيراً سأظل أذكره وأشكره، ولكن القلوب بيد الله يوجّهها حيث يشاء، وقد صرف الله قلبي في تلك السنة عن الرياض

ص: 242

زادها الله عمارة وازدهاراً وأمناً، وعُدت إلى الشام.

وكانت العطلة الصيفية وجاءت معها العطلة القضائية، فطُلبت على الهاتف، فرفعت السماعة، وإذا الذي يطلبني السفارة السعودية في شارع أبي رمّانة (وهو أقبح اسم لأجمل شارع). فذهبت لأرى ما الخبر، وتوقّعت وأنا أهمّ بدخول السفارة أنهم سيطلبون مني العودة إلى الرياض، فدعوت الله وأنا على الباب بدعاء الاستخارة المأثور وتركت الأمر لله، فلما دخلت وجدت السفير، وكان يشرّفني بصداقته وكنت أُكثِر من زيارته، ووجدت عنده شيخنا الشيخ بهجة البيطار ومبعوثاً من قِبَل سماحة المفتي الشيخ محمد بن إبراهيم (رحمة الله عليه وعلى جميع من مضى من هؤلاء)، فقال السفير: إن سماحة المفتي يرغب أن تعود إلى العمل. وأيّده الشيخ بهجة، فقلت: أنتم الثلاثة لكم عليّ حقّ، تأمرون وأنا أطيع، ولكن لا تكلّفوني إلاّ بما لا أُطيق، وقلب الإنسان بين أصبعين من أصابع الرحمن يوجّهه حيث شاء والله يحول بين المرء وقلبه، وأنا لا أدري والله لماذا صرف الله قلبي عن العودة إلى الرياض في تلك الأيام، للوحدة التي وجدتها فيها أم للمرض الذي أصابني؟

وطال الحديث بيننا فقال السفير: تذهب إلى مكة؟ فقلت بلا تردُّد: نعم. فقال: على بركة الله.

* * *

وكان أمر القضاء في سوريا إلى مجلس القضاء الأعلى، وهو مؤلَّف من القضاة أنفسهم من سبعة من كبارهم، ما لوزير

ص: 243

العدل معه أمر ولا نهي ولا له على القضاة حكم، وهذا هو استقلال القضاء. فخجلت أن أطلب منهم إذناً جديداً بأن أعود إلى المملكة وقد جئت منها بالأمس، ولكنهم جزاهم الله خيراً ما تأخّروا بإصدار هذا القرار. وكان أخي الشيخ الدكتور مصطفى السباعي على عزم الذهاب إلى مكة ليدرّس معنا في كلية الشريعة (أو في كلية التربية)، وكان قد أعدّ الأمر وسعى فيه صديقنا الشيخ الصوّاف، وهو الذي جاء بالأستاذ المبارك رحم الله السباعي والمبارك وجاء بآخرين، لأن الشيخ حسن رحمه الله فوّضه في سنة من السنين أن يختار هو المدرّسين المعاقِدين.

واتفقنا على أن نسافر معاً، وكان له أخ في مكة بل أخوان اثنان ينتظرانه، فودّعته على أن ألقاه يوم السفر. فلما كانت صبيحة اليوم التالي رنّ جرس الهاتف، فذهبت أرى من المتكلم فإذا هو بسّام الأسطواني الذي كان يلازم الشيخ السباعي، وأحسبه هو الذي أنشأ دار القرآن للطباعة، فقال لي: عظّم الله أجركم بالدكتور. فخطر على بالي اسم كل دكتور أعرفه إلاّ الشيخ السباعي، لأنني لم أكن أدعوه بالدكتور بل بالشيخ ولأنني ما توقّعت أبداً بأن يسارع إليه الله الأجل، وإن كانت الآجال بيد الله لا تدري نفس متى تموت ولا بأيّ أرض تموت. وكنت أنتظر اليوم الذي أصحبه فيه إلى مكة، وكان مريضاً ولكنه صبر على مرضه وعلى ما يقاسي منه، جعل الله ذلك زيادة في ثوابه عنده رحمة الله عليه.

وجئت مكة.

* * *

ص: 244