الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
-234 -
في كلية التربية في مكة
اشتغلت بالتعليم قبل أن أكمل التعلّم، فكنت طالباً في أواخر المدرسة الثانوية ومعلماً لصغار التلاميذ في أوائل الابتدائية، ولبثت أعلّم: علّمت صغاراً وكباراً، وبنين وبنات، ومشايخ وأفندية، في المدارس العادية والمدارس الشرعية، في الثانويات وفي الجامعات، قبل أن ألي القضاء ومع ولايتي القضاء، فما شكوت ولله الحمد يوماً من اضطراب الفصل ولا من شغب الطلاب.
كنت أُطِلّ على الطلاب بوجهي فأبدأ الكلام فلا أدع ثغرة ينفذون بكلامهم منها، وأمضي فيه حتى أخرج من الفصل وأنا أتكلم. وكنت أتتبع المناسبات، فلا أمسك النكتة إن حضرَت ولا يؤذيني ضحك الطلاب إن أضحكَتهم، ولا أدع مسألة ولو كانت خاصة بي ينفعهم أو يُمتعهم سماعها إلاّ ذكرتها، وإن مرّ اسم كتاب وصفت الكتاب، أو اسم عالِم عرّفت بالعالِم. أحافظ على أصل الموضوع ثم أعلّق عليه ما يحتمله من الحواشي والتعليقات والفوائد، لأني عرفت بالتجرِبة أن الموضوع الأصلي قد يُنسى ولكن تبقى هذه الفوائد والتعليقات والحواشي. وقد نسيت الآن بعد إكمال الدراسة بستين سنة، نسيت أكثر المنهج الذي كان
مقرَّراً، ولكني لا أزال أحفظ كلمات قالهنّ المدرس في بعض المناسبات.
ويبقى حبهم إياي ما بقي الامتحان بعيداً، فإذا حلّ الامتحان فهي نهاية الحب! وكان شيخنا الشيخ عبد القادر المبارك رحمه الله يقول: إني أعطي ربع راتبي طول عمري لمن يقوم عني بالامتحان. وأنا من أكثر من نصف قرن أكتب عن الامتحان، أقول: فتّشوا عن طريقة أخرى تسدّ مسدّه وتقوم مقامه، فإنه ليس المقياس الصحيح.
ولقد عرضوا مرة مئة ورقة على مدرس ليقدّر ما تستحقّ من الدرجات فقدرها، ثم عرضوها عليه بعد حين فاختلف التقدير! وكلّفوا مرة أستاذاً كبيراً أن يكتب هو الجواب الصحيح الكامل، فكتبه، فبدّلوا فيه قليلاً وكتبوه بخطّ آخر وعرضوه عليه بين الأوراق فأعطاه درجة فوق الوسط! ويختلف حكم الأستاذ على الجواب باختلاف حاله: رضا وسخطاً وانبساطاً وانقباضاً. وقد يرى الغلطة الصغيرة حيناً ويمرّ حيناً آخر بالكبيرة فلا يراها، وإن كان في خصام مع زوجته، قد هاجت أعصابه وفسد مزاجه، ظهر ذلك في ميزان حكمه على أوراق الطلاب.
ثم إن الامتحان في بلادنا، البلاد العربية، أكثره امتحان للذاكرة وحدها لا للتفكير ولا للعلم. ولقد وقع لصديق لنا من قديم أن أرسل ولده يدرس الاقتصاد في إنكلترا، فاستوعب كتبه وأحاط بقواعده، فلما كان الامتحان لم يجئ السؤال مما حفظ، بل قالوا له: هذا مصرف رأس ماله كذا وله من الديون على الناس كذا وعليه كذا، ووصفوا له حاله ثم قالوا له: استعمل ما تعلمت
خلال دراستك من العلوم برفع شأن المصرف.
وإذا كان الامتحان في الطب مثلاً لا يسألونه عمّا حفظ من أعراض الأمراض ودرجاتها وأدويتها، وإنما يعرضون عليه مريضاً ليكشف عليه وليفحص عن أمره، وليعرف حقيقة مرضه وليصل إلى دوائه.
وقد حاولت لمّا كنت مدرّساً في القسم العالي أن أبدّل من نظام الامتحان، وتحت يدي وثيقة رسمية أُثبِتها بنصها للتاريخ:
"كلية الشريعة والدراسات الإسلامية، مكة المكرمة، قسم الدراسات العليا، التاريخ 3/ 3/1390 الرقم 263/ 14. نُرفِق لفضيلتكم صورة من اقتراح الأستاذ علي الطنطاوي الذي أدلى به شفاهياً في جلسة قسم الدراسات العليا للاطّلاع عليه ودراسته في الجلسة القادمة التي تُعقَد يوم الإثنين 5/ 3/1390هـ (الموافق 11 مايو). عميد كلية الدراسات الإسلامية بمكة عبد الله عبدالمجيد بغدادي".
أما الاقتراح فهذا نصّه:
"السادة أعضاء مجلس قسم الدراسات العليا، السلام عليكم ورحمة الله
تنفيذاً لقرار المجلس الكريم في جلسة 22 صفر أعرض عليكم خطّياً الاقتراح الذي كنت أدليت به شفهياً في الجلسة ليدرسه المجلس إذا وجد فيه ما يستحقّ الدراسة. هو أن القسم العالي إنما أُنشئَ ليتخرج فيه علماء في الشريعة. والعلم كما قالوا: «في الصدور لا في السطور» ، ولا بدّ للعالِم من أن يكون في ذهنه
صورة واضحة لقواعد العلم الأساسية ومسائله المشهورة، ولكنْ لا يُطلَب منه أن يستظهر فروع المسائل وغرائبها ولا أن يُحيط بدقائق العلم بحيث يُجيب كل مستفتٍ مِن حِفظه، ولا أن يعرف درجة كل حديث ومخرّجه ويحفظ ذلك عن ظهر قلب. بل يجوز له، بل ويحسن به، أن يرجع إلى الكتب قبل أن يُفتي. أي أن عمل العالِم أن يعرف المراجع أولاً، فإن كان مسؤولاً عن حكم فقهي عرف مظانّ وجوده، وإن كان يريد التحقّق من درجة حديث عرف أين يبحث عنه، ثم يقوّم هذه المراجع بأن يميّز ما يُعتمَد عليه ويُوثَق به منها وما لا يُوثَق به ولا يُعتمد عليه. ثالثاً: أن يعرف موضع المسألة من المرجع. رابعاً: أن يفهم العبارة إذا وصل إليها ويدرك المراد منها.
لذلك أقترح أن يكون الامتحان امتحانين: امتحاناً لاختبار ملَكة الطالب ومبلغ إلمامه بمسائل العلم واستظهاره لأُمّات (أي لأمّهات) مسائله، يُجيب فيها بلا استعانة بكتاب ولا رجوع إلى مرجع كما هي الحال في الامتحانات العادية. وامتحاناً أهمّ، يُلقى عليه فيه (في الفقه مثلاً) مسائل مما يقع للناس ويسألون عنه العلماء ليُفتي فيها، أو نُلقي عليه في الحديث حديثاً مما يشتهر على الألسنة ويتردد على الأقلام ليبيّن درجته ومبلغ الحُجّية فيه. ونسمح له أن يستعين بما شاء من المراجع القديمة، لا المباحث العصرية الجديدة، بشرط أن لا يكون عليه تعليقات خطّية ولا إشارات إلى بعض الصفحات ولا هوامش ولا تعليقات.
وإذا كان الامتحان الأول (أي اختبار الملَكة) شفهياً كان أحسن. وبذلك نختبر علم الطالب ومقدرتَه على المراجعة. أمّا أن
يقتصر السؤال على مواد الكتاب الذي درسه أو المقدار الذي درسه من الكتاب فلا يختلف عن امتحان المرحلة الابتدائية والإعدادية.
هذا اقتراحي أقدّمه مع تحياتي، 23 صفر 1390هـ. علي الطنطاوي.
* * *
وأنا هنا كالطبيب الذي يعالج المريض؛ إن جامله وأرضاه فكتم عنه مرضه يكون قد خانه، بل لا بدّ أن نبيّن المرض لنجد له الدواء. والمشاهَد أن كثيراً من التلاميذ مشوا في الدراسة على غير طريق وأقاموا بناءهم على غير أساس، فكانوا -وهم طلاّب في الجامعة- يخطئون في النحو والصرف، بل هم لا يُحسِنون معرفة قواعد الإملاء! وأنا أكاد أحتمل من الطلاب كل شيء إلاّ أن أرى طالباً جامعياً عربياً ما أتقن ما يُطلَب إتقانه من تلميذ الابتدائية.
ولقد كنا في الشام على أيام الحكم الفرنسي نحاسب التلاميذ على قواعد الإملاء، وكل غلطة منها يُقتطَع عليه درجتان من عشر (وكانت الدرجات الكاملة عشراً)، فإن اجتمع للتلميذ خمس غلطات أُعطيَ صفراً، فلم ينفعه بعده أن ينال أعلى الدرجات في العلوم كلها.
فكيف أتغاضى عن مثلها من الطالب الجامعي في البلد العربي؟ من هنا، من الامتحان يتحوّل حب الطلاب لي بغضاً أو شيئاً قريباً من البغض، ويكون فتقٌ ما له رَتْق وعلّة ما لها دواء؛ لاالطالب بعدما وصل إلى الجامعة يستطيع أن يعود فيتعلم ما كان عليه أن يتعلمه في الابتدائية من مبادئ النحو والصرف وقواعد
الإملاء، ولا أنا أستطيع، ولا يحتمل ضميري ولا يرضى لي ديني، أن أشهد لشابّ لا يعرف كيف يكتب أنه صار عالِماً.
وعُدت أشرح لهم قواعد الإملاء. وهي تُشرَح في بعض ساعة من الزمان إن أرادوا الفهم وأحسنوا الإصغاء؛ وهي أن الهمزة في أول الكلمة لا تكون إلاّ على الألف، أما التي تجيء في وسطها وتجيء المشكلات منها فقاعدتها هي: إن أقوى الحركات الكسر، ثم الضم، ثم الفتح. فإن كانت الهمزة مكسورة أو كان ما قبلَها مكسوراً كُتبت على نَبِرة (أي على سنّ). فإن لم يكن كسْر وكان ضمّ كُتبت على واو، وإن كانت مفتوحة فعلى ألف، إلاّ إن كان قبلها ياء (مثل: هَيْئَة) فتُكتب على سنّ. والهمزة في آخر الكلمة تَتبع حركةَ ما قبلَها، فإذا كان ما قبلَها ساكناً وُضعت على السطر وحدها.
في هذه الجُمَل المعدودة خلاصة شاملة عن كتابة الهمزة في وسط الكلمة. وكنت أسخر من نفسي إذ أعلّم أمثال هؤلاء أمثال تلكم الأشياء!
* * *
يا إخواننا، الدين النصيحة. وإني ناصح لكم، فاهتمّوا بمعلّم الابتدائية قبل أستاذ الجامعة، وأعطوه الكثير ثم طالبوه بالكثير، فإنه الأساس. والبناء الذي يعلو مئة طبقة في الهواء ولكن يكون أساسه ضعيفاً يهوي وينهار.
لا أعرف أمة في الدنيا يجهل أبناؤها لسانَها جهلَ أبناء العرب
بلغة العرب. إني لأكاد أسمع اللحن المنكَر والخطأ الفاحش في كل مكان وأراه يمشي على كل لسان، حتى على ألسنة مَن نعُدّهم من كبار الأدباء، لا سيما إن قرؤوا نصاً مروياً. ولو عملتم مسابقة بين الأدباء في قراءة صفحة واحدة بلا غلط ولا تسكين أواخر الكلمات من كتاب أدبي (ككتاب البيان والتبيين مثلاً، أو أمالي أبي علي القالي أو كامل المبرّد) وجعلتم لذلك جائزة ما نالها إلاّ القليل.
وقد كنت وأنا شابّ أقول لإخواني: افتحوا لي أيّ كتاب واختاروا أية صفحة من هذا الكتاب وهاتوها أقرأها لكم، فإن أمسكتم عليّ غلطة فلكم حكمكم. وكنت أخطب مرتجلاً الساعة وما يقرب من الساعة وما يقرب من الساعتين فلا يزلّ لساني بلَحْنة، فسرى إليّ الآن الداء، بل أدركني الوَباء، فصرت أسمع في بعض أحاديثي المسجَّلة لحناً يسبق إليه لساني حيناً.
لا تبدؤوا الإصلاح من الجامعة بل من الابتدائية. إن جدار الإسمنت يومَ صَبِّه يُدخِل الصبي فيه أصبعه فتحدث فيه خَرقاً يبقى ما بقي الجدار، فإن جئتَ تُزيله بعدما يبس وصار كالصخر الجلمد أو أردت أن تُحدِث مثله وطرقته بالمطارق الثقال لم تصنع فيه شيئاً.
لسان الأمة من مقوّمات حياتها، فإن فرّطَت فيه فقد فرّطَت فيها. فإن جئت إلى أمتنا المسلمة، إلى أمة محمد ‘، لا سيما من كان من أبنائها عربياً، وجدت اللسان العربي الفصيح الصحيح حياتَه كلها، لأنه يرتبط به قرآنُه الذي هو قوام دينه ودنياه؛ لذلك يحرص جنود إبليس وخصوم الإسلام على إضعاف العربية
وصرف أبنائها عنها، وما يريدون إلاّ أن يصرفوهم عن القرآن.
* * *
ما كنت وأنا أدرّس أريد أن أعلّم الطلاّب مسائل بعينها ليحفظوها، بل أن أضع في نفوسهم حب العلم حتى يتعلموا هم المسائل كلها. ما كنت أقصد أن يحفظوا بل أن يعرفوا كيف يراجعون؛ كنت أريد أن أعلّمهم صيد السمك لا أن أغدّيهم سمكاً. لذلك كنت أدفعهم إلى معرفة الكتب وما فيها ومحبتها ومعرفة الرجوع إليها.
وجرّبت في سنتين متعاقبتين في القسم العالي أن آذن للطلاب أن يحملوا معهم ما شاؤوا من المراجع، أو أن أجعل الامتحان في المكتبة حيث المراجع موفورة أمامهم ليرجعوا إليها. وكنت أختار لهم من فيض الرسائل الهائلة التي تَرِد على برنامجَيّ:«نور وهداية» في الرائي و «مسائل ومشكلات» في الإذاعة، أختار لهم بعضها مما يكون فيه مسألة فقهية، ليُجيبوا هم عليها بعد أن يرجعوا إلى ما شاؤوا من الكتب التي هي أمامهم. ولا يضرّ العالِمَ إذا أراد أن يفتح الكتاب، بل إن ذلك لَيحسُن به. وما أدري لماذا يُقبَل من المدرّس أن يفتح الكتاب وأن ينظر فيه عند إلقاء الدرس أو المحاضرة ولا يُقبَل ذلك من الطالب يوم الامتحان، بل نمسكه إذا فعله بالجرم المشهود ونُقيم القيامة على رأسه ونعقد مجلس الأساتذة لمحاكمته ولعقوبته. هل يُحرَّم على التلميذ ما يكون حلالاً للأستاذ؟!
* * *
لم يكن في حيّ العزيزية لمّا جئتها سنة 1384هـ إلاّ أبنية معدودة: كلية التربية، وكانت كما عرفتم بناء واحداً صغيراً، وإلى جواره بضعة مساكن، وقبله الثانوية المركزية ولا شيء غير ذلك. وكان الحيّ يُعرف بالحوض، أو «حوض البَقَر» ؛ إذ كان فيه حوض يسيل إليه الماء من مجرى عين زَبيدة، فلما وسّعها الملك عبد العزيز رحمة الله عليه وضمّ إليها عيوناً أخرى سُمّيَت العزيزية، ثم صار ذلك اسماً للحيّ كله. وهو حوض قديم موقوف تشرب منه البقر والجمال والغنم.
وكنت أمرّ بالثانوية كل يوم في ذهابي إلى الكلية وفي عودتي منها، فدعَوني يوماً إلى إلقاء محاضرة فيها، فقبلت على أن تكون محاضرتي أجوبة على أسئلة الطلاب. ذلك أن أصعب شيء عليّ هو اختيار الموضوع الذي أتكلم فيه، لا لقلّة ما عندي بل لكثرته! ولا تحسبوا قولي من باب الفخر والحماسة والتفاخر بالعلم، بل هو من باب تقرير الواقع؛ فقد تعلمت القراءة وأتقنتها سنة 1337هـ قبل سبعين سنة، ولم أكن ألعب مع الصبيان في الزقاق ولا أصاحب الأقران في الغدوات والروحات ولا أقعد في مقهى ولا أؤمّ ملهى، فكان وقتي كله للمطالعة. وكان في دارنا مكتبة كبيرة هي لأبي وكانت قبله لجدّي، فكنت أتخيّر منها الكتاب بعد الكتاب أفتحه فأنظر فيه، فإن فهمته وأعجبني موضوعه قرأته وإن لم أفهمه أعدته إلى مكانه. وكنت أقرأ كل يوم عشر ساعات أو أكثر منها ما لم أكن مسافراً أو أكن مشغولاً، وقلّما كنت أُشغَل أو أسافر. فما ظنكم بمن كان يقرأ كل يوم عشر ساعات واستمرّ على ذلك سبعين سنة؟ إنه لو كان أغبى الأغبياء لاجتمعَت عنده
من هذه القراءات في كل موضوع يقع بصره عليه وتصل يده إليه، لاجتمع عنده حصيلة كبيرة. ولكني كنت أحتار: ما الذي أقدّمه منها في المحاضرة وما الذي أختاره لموضوعاتها؟ لذلك كنت أُحيل اختيار الموضوع على الحاضرين، يسألون وأجيب.
أمّا أصل المسألة فهو أنني ذهبت إلى مصر سنة 1945، أي منذ اثنتين وأربعين سنة، بعد أن غبت عنها غيبة امتدّت سبع عشرة سنة. وكنت قد تركت الشيخ حسن البنا رحمة الله عليه وهو شابّ كسائر الشبان، وإن كان يميّزه عنهم تديُّن صادق وخُلُق عظيم يحبّبه إلى الناس جميعاً. فلما جئت هذه المرة وجدته قد صار عَلَم البلد وأظهرَ شخصية فيها: ذِكره في كل مكان واسمه على كل لسان، والإخوان صاروا أقوى الجماعات وأنشطها نشاطاً وأظهرها أثراً. فاحتفى بي في دار الإخوان بالحلمية الجديدة، وكان اجتماعٌ خطابيّ حاشد فيه غذاء للعقل وللقلب وفيه دعوة إلى الله.
وسألني عن الإخوان، فقلت إنهم قد بلغوا الغاية في اليقين والإيمان ولكن ما بلغوها في العلم والاطّلاع، وهم يحتاجون إلى مَن يعرّفهم بما لا بدّ منه من الحلال والحرام وأحكام الإسلام. قال: لماذا لا تساعدنا على ما تقترحه؟ قلت: أنا جندي في الجبهة الإسلامية، وإن كنت جندياً متطوّعاً، أُومَر فأنفّذ ابتغاء الثواب ورجاء الأجر، فكلّفني بما تريد مدةَ إقامتي هنا الآن، وأنا مقيم شهرين إن شاء الله.
فجمع لي جماعة يسمّونهم «أسرة» ، وهم أفراد من أسر شتّى تجمعهم الصلة بالشيخ البنا وبجماعة الإخوان. وكانت لهم
عادة مستحَبّة هي أن يعرّفوا بأنفسهم أولاً، وكانوا يقولون قديماً في مثل هذا المقام: ينتسبون، أي يكشف كلٌّ عن نسَبه ليُعرَف به. فلما عرّفوا بأنفسهم وجدت أن فيهم أستاذاً في الجامعة وتلميذاً في المتوسطة ونجّاراً وبدّالاً (ويدعون «البَدّال» «البَقّال»، والأولى أصحّ)، وربما جمعَت هذه الأسر بين فرّاش الدائرة ورئيسها!
فلما رأيت ذلك حرت كيف أكلّمهم وبأيّ أسلوب أخاطبهم، ومن هنا وتخلّصاً من اختيار الموضوع طلبتُ منهم أن يسألوا هم عمّا يريدون لأجيب أنا. وقلت لهم: إنني لا أعرف جواب كل مسألة، فما عرفت جوابه وكان الجواب مقرَّراً متفَقاً عليه أجبت به، وما كان فيه خلاف بين العلماء أشرت إلى هذا الخلاف، وما كان غائباً جوابه عني الآن وأستطيع أن أراجعه استمهلتكم فرجعت إلى الكتب وجئتكم بالجواب، وما لا أعرف جوابه أقول:«لا أدري» . ومن قال «لا أدري» فقد أجاب؛ ذلك لأن الجواب درجات، فمَن أجاب بعلم وقال صواباً فهذا هو المطلوب، ومن قال لا أدري فقد أيأسك منه وأحالك على غيره، وهذا هو الحدّ الوسط، أما ما هو الأدنى وما لا يُقبَل من عالِم فهو أن يُجيب بجهل، فيغشّ السائل ويتعرض للإثم.
واتّبعت هذه العادة حتى ألِفتها وسَهُلَت عليّ، ومشيت عليها في كل محاضرة أُدعى إليها وفي أحاديثي في الإذاعة وفي الرائي، وقلّدني فيها جماعة من الأساتذة الأجلاّء، فمنهم من مشى قليلاً ثم وقف، ومنهم من استمرّ برنامجه إلى الآن ولكنه يكاد يقتصر على الأحوال الشخصية، يبين أحكامها ويؤلّف بحكمته وعلمه بين أعضاء الأسرة الواحدة، ولا يتعرض لغيرها من المسائل العلمية الأخرى.
وأنا أتمنى لو أن أحاديث رمضان كانت على هذه الصورة، فإنني لا أمرّ بأيام هي أثقل عليّ من أيام الإعداد لأحاديث رمضان، لأن مَن فكّر في موضوع واحد أو موضوعات قليلة جمع لها ذهنه وحشد لها فكره، وأنا أسجّل كل رمضان ثلاثين حلقة في بضعة أيام، فيتشتّت الذهن ولا يكون التركيز. ثم إن عنوانها من أسباب صعوبتها عليّ، العنوان:«على مائدة الإفطار» ، والأحاديث التي تُلقى على المائدة تكون في العادة خفيفة ظريفة تفتح الشهية وتُنعِش السامع، وأحاديثي هذه السنة ستكون -كما طلب المشاهدون لمّا استفتيتهم- أحاديثَ دينية جدّية نافعة. فماذا يقول عني مَن يسمعها وهو يأكل فتعطّل هضمه؟ أسأل الله المعونة عليها.
* * *
ووفّق الله وكان لقاء الثانوية المركزية بالعزيزية ناجحاً، ووجدتهم قد جمعوا فيه الأساتذة كلهم والطلاب جميعاً، أمّا الطلاب فإن بضاعتي تصلح لهم والأثواب على طول أجسادهم، وإن كان فيهم من هو أطول وأعرض وأذهب ارتفاعاً في الجوّ من ربع بني آدم، ولكن ما بال الأساتذة؟ المشكلة في الأساتذة. هل جاؤوا بهم ليمتحنوني؟ إذن سيجدونني راسباً وسأرفع الراية البيضاء وأعترف بالهزيمة سلفاً، لكنهم كانوا كراماً فغضّوا البصر عني فتسامحوا معي، فجزاهم الله خيراً.
ثم توالت الاجتماعات. فكنت مرة في المعهد العالي للمعلمين، ففاجأت الطلاب بسؤال: لماذا دخلتم هذا المعهد ولماذا اخترتم مهنة التعليم؟ وتبيّن لي أن أكثرهم، بل أن أكثر
الناس يعملون ما يعملون بلا نيّة، ولو استحضروا نيّة لكان كل عمل لهم عبادة؛ يأكلون ويكون أكلهم عبادة، وينامون ويكون نومهم عبادة، ويجتمع أحدهم بأهله ويكون هذا الاجتماع عبادة
…
تَبيّن لي أن أكثر الطلاب ما فكّروا بشيء من هذا، بل بلغوا سنّ المدرسة فأدخلوهم إليها، وانتقلوا من صف إلى صف حتى أكملوا الابتدائية، فدخلوا مع مَن دخل في المتوسطة، ثم تدرّجوا فيها درجة درجة سنة بعد سنة، حتى وصلوا إلى الدراسة العالية. فنبّهتُهم إلى النية وأثرها في أعمال الإنسان، وأنها هي التي تجعل المباح الذي لا يُثاب فاعله ولا يُعاقَب عبادةً تستحقّ من الله بكرمه الثواب.
وكان حديث الناس يومئذ في محاولة الصعود إلى القمر، وكان كثير من المشايخ يُنكِرون أنهم صعدوا. فسألني الطلاب، فقلت لهم: نعم، لقد وصلوا إلى القمر. فقام شيخ من ورائي من بين الأساتذة فقال بأن هذا مستحيل لأن القمر في السماء، والبشر لا يمكن أن يصلوا إلى السماء. فحاولت أن أردّ عليه رداً رفيقاً، فأبى واشتدّ في الإباء، فقلت للطلاب: إذا قيل لكم إن ما سمعتم من صعودهم إلى القمر كان كذباً فهل تكذّبونه؟ قالوا: لا، قد صعدوا حقيقة وجاؤوا بحجارة من القمر. فقلت للأستاذ: إذا كنت لا تستطيع أن تقنعهم بأن خبر الوصول إلى القمر خبر كاذب، وكانوا مقتنعين وأنا مقتنع معهم بأنهم وصلوا، وكنتَ تُصِرّ على أن الشرع يمنع الوصول إلى القمر، أفليس في ذلك حمل لهم على تكذيب القرآن أو الشك في الإسلام؟
وقلتُ للطلاّب: إن الإسلام لا يحملكم على إنكار ما ترون
وما تشاهدون، والإسلام دين الواقع، والناس لا يتعلمون من العلم إلاّ ما أذن الله لهم بأن يتعلموه:{ولا يُحيطونَ بشيءٍ مِنْ عِلمِهِ إلاّ بما شاءَ} . وليس القمر في السماء، القمر قريب منا، ولو أن مركبة كانت تسير بسرعة الضوء (ثلاثمئة ألف كيل في الثانية) لبلغوا القمر في ثانية وثلث الثانية. هذا بُعدُه عنا بسرعة الضوء، والشمس على بُعدِها الشاسع يصل ضوؤها إلينا في ثماني دقائق، وهذه الأجرام التي ترونها نقطاً مضيئة في السماء الصافية في الليلة الساجية منها ما يبعد عنا سنين ومئات من السنين وآلافاً وملايين، فما بُعد القمر بالنسبة لهذه الأجرام؟
ثم إنها كلها تسبح في هذا الفضاء الذي لم يدرك العلم مداه ولم يعرف عنه إلاّ أقلّ من القليل. هذا الفضاء حولَه كرةٌ كبيرة جداً تحيط به من جوانبه كلها، بناء من مادة حقيقية ليس خطاً وهمياً، فيها أبواب تُفتَح وتُغلَق، هذه هي السماء الدنيا، كرة تُحيط بالفضاء كله وما فيه ولها سُمكٌ، الله أعلم بسُمكها. وبعدها فضاء لا نعرف عنه شيئاً، ثم كرة أخرى تحيط بها من جوانبها لها سُمك كسُمكها وبعدها فضاء كفضائها، تلك هي السماء الثانية، وكذلك حتى تبلغ سبع سماوات لا يستطيع العقل ولا الخيال أن يُلِمّ بها أو أن يتصوّر ضخامتها، وبعدها مخلوقات هي أكبر من هذا كله وأعظم وأجلّ، هي الكرسي والعرش الذي هو أكبر من الكرسي. فأين القمر وبُعدُه عنا؟
وهذه الصورة الهائلة للسماء وما بعدَها مصغَّرةٌ تصغيراً لا يُدرِك العقل مداه ويعجز الخيال عن تصوُّره، مصغَّرة في الذرّة وما في الذرّة من كهارب بعضُها يدور وبعضها يُدار به.
وأفضت في هذا الموضوع بمقدار ما أعرف. وهذا الوصف للسماء لم أقرأه في كتاب من كتب العلماء لأن العلم لم يصل إليه ولم يدركه، ولكن فهمته مما جاء في القرآن في وصف السماوات السبع وأنها طِباق، وأن السماء الدنيا قد زُيّنت بهذه الكواكب، فالكواكب إذن دونَها، وأن السماء مبنيّة بناء وأن لها أبواباً؛ كل ذلك مما استفدته من آيات القرآن وما فهمته منه بعقلي الكليل، ولعلّي إن شاء الله قريب من الصواب (1).
* * *
(1) انظر مقالة «ما قدَروا الله حق قدره» في كتاب «نور وهداية» الذي يصدر قريباً من وقت صدور هذه الطبعة الجديدة من الذكريات بإذن الله، ومقالة «ما هي السماء؟» ، في كتاب «فصول في الثقافة والأدب» الذي أرجو أن يصدر غير بعيد إن شاء الله (مجاهد).