الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
-233 -
في مكة سنة 1384ه
ـ
أنا أقرأ الجرائد كلها وأشكر أصحابها الذين يبعثون إليّ بها، إلاّ قليلاً منها لا يصل إليّ، وأنا لا أخرج في العادة من داري لأشتريها وليس عندي من يُحضِرها لي، ومن هذا القليل جريدة البلاد. وقد حمل إليّ اليوم ولدي ومُخرِج برنامجي الأستاذ عبد الله رواس عددَين منها: في أحدهما مقالة عن رسالتي «حلم في نجد» التي نُشرت في مجلة من المجلات من أكثر من ثلاثين سنة وطبعها وحدها طبعاً جميلاً صاحبُ «دار الأصالة» في الرياض بإذن مني، وشكرت له أمانته وأصالته، وما وجدت لكثير من الناشرين أمانة ولا وجدتهم أُصَلاء. والمقالة للأستاذ عبد الله الداري، وهي أحلى من رسالتي التي كتبها عنها فله الشكر عليها.
وفي الثاني مقالة للشاعر الشاعر (ورُبّ معروف بالشعر ليس بشاعر) يصف فيها مرضه شفاه الله منه، وإن أعجز هذا المرض الأطباء فليس بمعجز الله، فالله على كل شيء قدير. لم يمنعه ما يكابد من المتاعب والأوجاع عن أن يجعل من مقالته قصيدة كلها درر، وإن كان درّها منثوراً، وأن يستبكي فيها من غير أن يبكي، ويستمطر الحب له دمعاً من عيون مُحِبّيه ودعاء صادقاً من قلوبهم.
وللعامة من أهل الشام كلمة يقولونها للمريض إذا عاودوه، لو أن أديباً بليغاً أعمل فكره وبيانه لَما جاء بأجود منها ولا أجمع، هي قولهم:«أجر وعافية» ؛ عافية من المرض في الدنيا وأجر عليه في الآخرة. كتبهما الله للأستاذ طاهر الزَّمَخْشري، وشكر له ما أفضل به عليّ فيما قاله عني.
لقد ذكّرني بزيارتي الأولى لمكة حرسها الله سنة 1353هـ، وقد عرفت فيها جماعة من الأفاضل تكلّ اليوم ذاكرتي عن إحصائهم، منهم الأستاذ الشيخ محمد سعيد العامودي، والشيخ ابن بليهد، وشاعر الملك عبد العزيز الأستاذ الشيخ أحمد إبراهيم الغزّاوي، والأستاذ حسن عوّاد. وأطلعني الأستاذ أحمد عبد الغفور عطار -وكنت أزوره في داره- على مقالة كتبها يومئذ عني، وكان كما أظن طالباً، قرأها عليّ من كتاب كان في يده، وما عرفت اسم الكتاب لأحتفظ بالمقال.
وممن كان يوليني يومئذ رعايته اثنان لا يكادان وأنا في مكة يفارقانني، ثم لمّا عدت إلى الشام كانا يراسلانني، أمّا أحدهما فقد شغلته الدنيا عني حتى إني لم أره (وأنا مقيم في مكة من قرابة ربع قرن) إلاّ مرة واحدة مصادفة على باب الحرم، وما بي حاجة إليه ولكن كنت أوثر أن أستديم ودّه. وأما الآخر فقد داوم على الودّ وحفظ العهد وبقي إلى أن توفّاه الله يواصلني، هو الأستاذ عبد الله المَزْروع.
وكان عند الأستاذ المزروع دفتر كلما قدم مكة حاجٌّ أو زائر له اسم في الناس استكتبه فكتب بخطه في هذا الدفتر، يصف ما شاهده ويصوّر ما أحس به. واجتمع له مقدار من خطوط هؤلاء
النبلاء لم يجتمع لغيره، وكنت كلما ذكرت هذا الدفتر بعثتُ أسأل بناته الفُضْلَيات عنه وأرجو أن يصوَّر ويُطبَع مصوَّراً فتبدو فيه خطوط كاتبيه، فيكون منه مرجع تاريخي وأدبي واجتماعي لا أعرف له مثيلاً. وأنا أتمنى الآن أن يتحقق هذا الرجاء على يد مؤسسة تِهامة وقد تولّى الإشراف عليها الأستاذ محمد محمود.
* * *
كان ذلك من ذكريات زيارتي الأولى أثاره في نفسي ما كتب الأستاذ الزمخشري شفاه الله وعافاه، فلما جئت مكة هذه المرة أول العام الجامعي 1384هـ كان أول من لقيته ممن أعرف الشيخ محمد علي الصابوني، وجدته في المطار حملَته الطيارة التي حملتني إلى جدة ومعه أهله وأولاده، فدلّني على فندق شبرا.
وأنا رجل مبتلى بالسهر جلّ نومي بعد صلاة الفجر، أنام حين يستيقظ الناس، فطلبت غرفة منعزلة فأعطوني غرفة تُفضي إلى أخرى، فأخذتهما ابتغاء الهدوء وخشية الإزعاج وأغلقت على نفسي البابين: الباب البرّاني والباب الجوّاني، فما كدت أغرق في النوم حتى أيقظتني حركة عند رأسي وكلام قريب يقع في أذني، فصحوت وقمت مذعوراً أحسب أن قد دخل عليّ أحد، وإذا الحركة والكلام من وراء الجدار الرقيق الذي يفصل بين المكانين. فشدّ ذلك أعصابي وأطار النومَ من أجفاني، فذهبت إلى الحرم، وكان يخلو في الليل حتى ما تلقى في المطاف إلاّ أفراداً يُعَدّون، فلم يَعُد الآن يخلو ساعة من ليل أو نهار.
ووجدت في المَطاف الدكتور عبد الحميد الهاشمي، وكان قد جاء المملكة قبلي بسنة، يطوف معتمراً ومعه أهله، وهي سيدة
فاضلة من قوم فضلاء أبوها الشيخ إبراهيم زينَل، عرفته في كراتشي فعرفت فيه كرم النفس ونبالة الأصل. ورحّب الدكتور بي، وسألته عن مكان أنزله فدلّني على العمارة التي يسكن فيها، وهي عمارة الكعكي إلى جنب فندق شبرا، ضخمة عالية فيها عشرة أدوار ولها مصعد أحسب أنه أول مصعد رُكّب في مكة. وكانت المساكن في الأدوار الدنيا من العمارة من غرفتين وفي العليا من أربع، فأخذت داراً في الدور الثامن، وهو في الواقع تاسع أو فوق التاسع لأنه لا يوصل إلى المصعد من أرض الشارع إلاّ بارتقاء سُلّم فيه اثنتان وثلاثون درجة. أخذت الدار بأربعة آلاف ريال في السنة، وسألوني: متى تأتي بالأثاث؟ فضحكت وقلت: قريباً إن شاء الله.
ولم يكن عندي من الأثاث شيء. ووجدت بين سكان العمارة الأستاذ صلاح الدين الأزهري، ولم أكن أعرفه من قبل. وهو من اللاذقية، أزهريّ الاسم وأزهري الدراسة، وهو رجل نبيل كريم. ومن عجيب أمري أني ذهبت إلى أقصى الشرق حتى قاربت أستراليا وإلى أقصى الغرب حتى بلغت شمالي هولندا، ولم أرَ اللاذقية ولا الساحل السوري إلى الآن! لقيت من الأستاذ الأزهري كل رعاية وعناية، نزل معي إلى السوق فاشترينا سريراً وفراشاً وسجادة، وكان في السوق شابّ متخرج في كلية الشريعة، ولكنه آثر العمل الحرّ فاشتغل بالتجارة، فاشترينا منه أدوات المطبخ. ثم ذهب بي فاشترينا ثلاّجة. ولا نعرف أنواع الثلاجات، ولكن وجدنا اسمها «جبسون» ، وكان رئيس أمريكا «جونسون» ، فقلت بأنها رئيسة في الثلاجات كالرئيس جونسون في الدول، وإن اختلف فجاءت نقطته من فوق ونقطتها من تحت، ولم يبقَ
في هذه الأيام فرق بين فوق وتحت، فقد اختلطت طبقات الناس ولم يعُد يميّز العالي من الواطي إلاّ قليل.
وأخذنا صندوق الثلاجة فجعلنا كل وجه منه وجهاً لنضد (طاولة)، ثم اشترينا خشباً ومنشاراً وما تحتاج إليه النجارة. أقول «اشترينا» و «أخذنا» ، وإنما الذي اشترى وأخذ هو أخونا الأزهري جزاه الله خيراً. ثم صنعنا (أعني أنه صنع، وأنا أعمل تحت يده) طاولات للأكل وللكتابة، جميلة كاملة لا يعيبها إلاّ أنها تسقط بك إن استندت إليها وتميل معك إن ملت معها وتهتزّ إن هززتها! ثم اشترينا ستة من كراسيّ الخيزران، فاكتمل فرش الدار.
وزارني الأستاذ الشيخ سعيد العامودي مع صديق له شيخ لوبي (أي ليبي، من طرابلس الغرب) فصيح اللهجة يُشبِه في كلامه وفصاحة لسانه صديقَنا العالِم الأستاذ عبد الغني الباجقي رحمة الله عليه، وربما كتبت عنه إذا عُدت إلى الكتابة عمّن عرفت من الرجال. زارني الشيخ سعيد وصاحبه، فلم يكن عندي من فرش الدار الذي حسبته اكتمل إلاّ سجادة ليس حولها مساند ولا مخدات، فقعدوا عليها وظهورهم إلى الجدار.
* * *
وكان الأستاذ سعيد العامودي رئيسَ تحرير مجلة «الحج» ، وكانت إدارتها في العمارة التي تقابل دارنا، فكنت كلما وجدت وقتاً فارغاً من العمل ملأته بالمتعة بمجلس الشيخ سعيد والاستفادة منه، وذكّرني بمجلس خالي محب الدين في المطبعة السلفية في مصر ومن كان فيه من مرتاديه، وعلى رأسهم اثنان كانا من الأعلام
في مصر في تلك الأيام: أحمد تيمور باشا والشيخ الخضر الحسين التونسي الذي صار شيخ الأزهر، ومنهم الشيخ عبد الوهاب النجار والشيخ أحمد إبراهيم، وكنت ألقى فيها الرافعي أحياناً وأحمد زكي (أبا شادي) حيناً. وبمجلس أستاذي الزيّات في «الرسالة» ، وأهل هذا المجلس هم كبار الأدباء الذين كانوا يكتبون فيها (وإن لم يجتمعوا جميعاً معاً)، كالرافعي والعقاد وزكي مبارك والمازني أحياناً. وبمجلس الأستاذ أحمد أمين في لجنة التأليف والترجمة والنشر (وكان رئيسها) ومَن يضمّ هذا المجلس من الأعلام الكبار في مصر. ومجلس الشيوخ في دمشق الذي سبق الكلام عنه، شيوخ الأدب والعلم لا شيوخ السياسة. ومجلس الأستاذ كرد علي في داره وفي المجمع العلمي، ومجلس الشيخ عبد القادر المغربي، ومجالس أخرى لست أُحصيها.
ولست أدري لماذا بدّلوا اسم مجلة «الحج» بعدما شرّق وغرّب وعرفه الناس وصار عنواناً لها وعلَماً عليها دهراً طويلاً؟ والناسُ يحرصون على الأسماء المشهورة لا يفرّطون بها، فمَن الذي أمات هذا الاسم ومحاه وسمّاه باسم جديد لا يعرفه أحد، فسمّوها مجلة «التضامن الإسلامي» ؟
كما أنهم بدّلوا الآن اسم مجلة «رابطة العالم الإسلامي» وجعلوه «الرابطة» (فقط)! رابطة العلماء؟ رابطة الأدباء؟ رابطة سائقي السيارات ومرقّعي الإطارات؟ الرابطة اسم عامّ، ثوب يصلح لكل لابس، فكأنهم كرهوا اسم العالَم الإسلامي، وإن كتبوا كلمة «الإسلامية» بخطّ صغير لا يُرى إلاّ بالمجهر الكهربي (الإلكتروني).
* * *
أقمت في عمارة الكعكي عشرين سنة، فما رأيت من صاحبَيها تعدّياً أو ظلماً أشكوه منهما، ولا لمست فضلاً أو نبلاً أذكره فأشكره لهما. إنما وجدت الفضل والنبل حقيقة عند الشيخ إبراهيم الجفالي رحمة الله عليه. والثلاثة من كبار رجال المال والأعمال، ولكن الرجال إنما تتفاوت أقدارها بما قدمت من فعال.
وكان عملي في كلية التربية، وهي بنت كلية الشريعة. وكلية الشريعة في مكة أمّ الكليات كلها وأول معهد عالٍ أُقيمَ للناس في هذا البلد، وكانت بنتها، كلية التربية، قد بلغت في تلك السنة السنّ التي تستغني فيها عن الحضانة، فخرجت تستقلّ بنفسها وتسكن وحدها، فانتقلت نقلة واحدة من أقصى المدينة، من «الزّاهر» حيث كانت كلية الشريعة إلى «الحوض» ، حيث لم يكن إلاّ بناء صغير أُقيمَ ليكون مدرسة ابتدائية فاستولَت عليه الكلّية وجعلَته داراً لها.
وكنتُ إذا جاوزتُ الشُّشَّة وبلغت دار الملك فيصل عليه رحمة الله فقد بلغت آخر العمران، الطريق عندها شعبتان: شعبة إلى اليمين تسلكها إلى الكلية في الحوض ثم تنتهي إلى عَرَفات، وشعبة إلى اليسار تمشي فيها إلى «الشّرائع» (1). وما بعد دار الملك فيصل رحمه الله (التي صارت الآن مقرّ إمارة العاصمة المقدسة) إلاّ الطريق يتمدّد وحده بين الجبال، حتى يصل إلى الثانوية العزيزية التي كانت تقوم منفردة في هذه المنطقة، ما معها غيرها وليس حولها من البنيان سواها. وكان قِبَلها جندي في غرفة صغيرة من الخشب كالتي يتخذها الحراس، قائمة في صلب الجبل يراقب
(1) الذي لا يعرف مكة لن يعرف ما هي هذه الشرائع والشُّشّة والزّاهر والحَوْض، وهي كلها أحياء من أحياء مكة المكرمة (مجاهد).
منها الطريق، وكلما مررتُ به أشفقت عليه ورثيت لحاله.
وأنا أسكن اليوم في حيّ العزيزية، ومن حولي من كل جانب شوارع معبَّدات وعمارات عاليات وحدائق ذات بهجة فيها زرع ونبات وأشجار باسقات، فأحاول أن أتذكر: أين كان يقف ذلك الجندي؟ وأين كان مصنع الثلج الذي كنا نراه أبعد شيء عن مكة، ونذهب إليه في العَشيّات وفي الليالي المُقْمرات؟ لقد تبدّل كل شيء؛ مُحيت صورة ونُقشت صورة جديدة تماماً.
إن الأحياء التي وُجدت هنا أكبر مساحة من مكة التي عرفتها في أول زيارة لي إليها، فكيف إذن إن ذهبت إلى تبوك؟ سموّ الأمير دعاني لإلقاء محاضرة هناك ونسي أني لم أعُد أستطيع أن أرحل هذه الرحلات الطِّوال. إني أرى في الرائي (التلفزيون) مناظر تبوك فما أكاد أصدّق ما أرى؛ إن تبوك التي أعرفها ما فيها إلاّ المحطة تقف خالية تراقب هذا الخط الذي لا يمشي عليه قطار، وإلى جنبها غرف صغار كانت يوماً مستشفى ملحقاً بالمحطة (والصورةُ منطبعة في نفسي كأنني أراها الآن) وأمام المحطة فضاء واسع في صدره بيوت من الطين ما أظن أنها تزيد عن مئة بيت، وإلى شمالك وأنت تنظر إليها بستان واسع على نبع يشرب منه الناس لأن له صلة -كما يقولون- بغزوة تبوك!
* * *
كان نائب عميد كلية التربية لمّا جئتها الدكتور خالد القِرِمْلي، وكانت هيئة التدريس لا يصل عدد أفرادها إلى ستة عشر ما بين أستاذ ومدرّس ومعيد. وفي يدي الآن رسالة رسمية تاريخها 10/ 2/1385هـ (ورقمها 165/ 1) أُثبِتها هنا للتاريخ:
"كلية التربية بمكة. إلى الأساتذة: علي الطنطاوي، رشيد العبيدي، الدكتور جعفر، الدكتور محمد المعتصم، الدكتور محمد الحاج حسن، الدكتور باقر سماكة، الدكتور إبراهيم المشهداني، الدكتور محسن الهمذاني، الدكتور مسارع الراوي، الدكتور محمد جواد رضا، الدكتور سيد رضوان علي، الدكتور علي توفيق قادر، الدكتور علي أبا حسين، الأستاذ فيّاض النجم، الأستاذ رشاد الزَّمْريق، الأستاذ حكمت عبد الكريم.
بعد التحية، بمناسبة انتهاء العام الدراسي 84/ 85 فإنه يتوجب عليّ إبلاغ إخواننا المدرسين الذين مُنحوا تأشيرة العودة للعمل في الكلية للعام الدراسي القادم وهم أوفر نشاطاً وأكثر قوة بأن حضورهم قد حُدّد بتاريخ 18/ 5/85 استعداداً لامتحان الدور الثاني الذي يبدأ في 20/ 5/85، وإحاطتكم علماً بأن من يصل في الوقت المحدد تُصرف له الرواتب من تاريخ توقفها وأما من يتأخر عن ذلك فيُصرف له من تاريخ المغادرة ويُعتبر تاريخ بدء عقده. ويطيب لي أن أنتهز هذه الفرصة فأوجّه لإخواننا المدرسين جميعاً المجدَّدة عقودهم والذين حالت ظروفهم عن العمل في العام الدراسي القادم شكري الجزيل على ما بذلوا من جهد وإخلاص وحسن تجاوب خلال تأدية عملهم، متمنّين للجميع أياماً سعيدة. عميد كلية التربية بالنيابة، السيد محسن أحمد باروم".
وأنتم ترون أن أكثر مَن ذُكرت أسماؤهم من العراق؛ ذلك أنها لمّا بدأت النهضة التعليمية في المملكة اضطُرّت (كما يُضطرّ كل من كان في مثل حالها) إلى الاستعانة بإخوة لها هم أقدم عهداً بالتدريس في الجامعات وفي العمل في الدوائر. فكان الخبراء على
عهد الملك المؤسّس عبد العزيز رحمه الله أكثرهم من الشام، أي من سوريا، هم الذين وضعوا الأساس، أذكر منهم الآن الشيخ يوسف ياسين ثم خير الدين الزِّرِكْلي في الخارجية، ورشدي مَلْحَس الذي كان أخوه الأستاذ عبد الفتاح أستاذاً لنا في مكتب عنبر، وهو فلسطيني، والدكتور حمدي حمودة والدكتور بشير الرومي والدكتور مدحت شيخ الأرض، وهم من الشام، للصحّة. والشيخ كامل القصّاب، وقد ساعده الشيخ بهجة البيطار للمعارف. ثم جاء الحُسامي ونسيب السباعي ومن كان معهما للمالية.
وأقول بالمناسبة إن الأستاذ نسيب السباعي كان مدير المال في دوما يوم كنت القاضي الشرعي فيها، وكان فيها موظفون يمثّلون وزارات الدولة كلها، كبيرهم قائم المقام، يليه في التشريفات القاضي الشرعي، ثم القاضي المدني (أي حاكم الصلح)، ثم مدير المال. فلما قدمتُ المملكة كان أول مَن قصدته في الزيارة الأستاذ نسيب، فهرب مني، ولعلّه حسب أني جئته أطلب منه شيئاً، وأنا بحمد الله مستغنٍ عنه. وتجاهلني وفرّ من مقابلتي.
وكنا نأخذ سيارة الأجرة (التاكسي) إلى حيث شئنا من أحياء مكة بريالين، وكان أبعد مكان حديقة الزاهر التي كانت عروس الحدائق، فجاء مَن نَقَصها من أطرافها فأعطى المركز الإعلامي قسماً منها وأعطى ملاعب الأطفال قسماً، وما بقي جعلوه لقصور الأفراح. يُدخِلون الناس إلى الملاعب والقصور بالمال، وإنما جُعلت الحديقة لتكون للناس كلهم بالمجان! كنا نركب بريالين إلى حيث شئنا، فإذا قلت للسائق: أريد أن أذهب إلى الحوض، قال: بثلاثة. يشترطها عليّ من أول الطريق لئلاّ نختلف في آخره، والمثل
العامي يقول: «شرطٌ في الحقل خير من خصومة في البَيْدَر» .
* * *
وأنا أختار من العلوم عادة -إذا درّست- ما يكون مجال القول فيها واسعاً، فلا أتقيد بمنهج ضيق ولا كتاب معيَّن، بل لا يجوز في العرف الجامعي أن نُلزِم الطلاب بكتاب يدرّس المدرس منه ويراجع الطالب فيه. فإن كان الكتاب من تأليف أحد المدرّسين، وسايره زملاؤه فقرّروه على الطلاب لإرضائه أو لجلب منفعة له، كان ذلك أسوأ. فإن تبادلوا المنافع، يقرّر هذا كتاب ذاك أو يُعين على تقريره، فيعود الآخر فيجزيه صنيعاً بصنيع ويقرّر له كتابه (كما هو واقع الآن في بعض الجامعات في بعض البلاد) يكونوا قد بلغوا الغاية التي ليس في السوء غاية بعدها.
اخترت أن أدرّس الثقافة الإسلامية لأني كنت أولَ من درّسها في الشام لمّا وُضعت في المناهج من نحو خمسين سنة (ولم تكن معروفة قبل ذلك)، ولأن فيها مجالاً للتجديد النافع وللبحث المنتج، ولأن الطلاب جميعاً، طلاب الأقسام كلها، يدرسونها؛ فلا يبقى فيهم من لم يمرّ عليّ ويستمع مني. وأكثرُ القائمين الآن على إدارة الجامعة والتدريس فيها كانوا يومئذ (سنة 1384هـ لمّا جئت مكة) كانوا طلاّباً.
وأنا في العادة يُحبّني الطلاب لأني لا أقيّدهم، بل أقول لهم: مَن شاء أن يخرج فليخرج، ومن أراد أن يدخل فليدخل، ومن لم يُعجِبه قولي فليفتح كتاباً فليقرأ فيه، ولو كان قصة من القصص أو مجلة من المجلات، أو يكتب رسالة أو يَنْظم شعراً أو يسمع ما
يشاء، بشرط واحد: هو أن لا يُخرِج صوتاً، لا مِن فيه ولا من أي ثغرة أخرى فيه! ومن كان له سؤال فليطرحه عليّ، ولكن بعد أن أكمل الجملة وأصل إلى موضع يصحّ الوقف عليه، لا أن يدخل بسؤاله بين الفعل والفاعل والمبتدأ والخبر، فيقطع عليّ كلامي ويبعثر أفكاري. ومن كان له اعتراض فأنا أستمع اعتراضه، بشرط أن يكون عالِماً بما يقول وأن يكون له عليه دليل، وإن تبيّن أن الحقّ معه رجعت إلى قوله وشكرته عليه.
وقد وقع لي في أول قدومي مكة أن جاء ذِكر حكم فقهي في مسألة من المسائل في مذهب الإمام أحمد، فذكرت ما أعرفه، فقال لي طالب من الطلاب: إن الحكم في المذهب على غير هذا. فقلت له: درستَ الفقه في المدرسة المتوسطة ثم في الثانوية وأنت لم تتعلم بعد حكمَ هذه المسألة؟ وأطلتُ لساني عليه، وكان مهذَّباً فسكتَ، فلما رُحت إلى الدار رجعت إلى كتب الفقه، فإذا الذي قاله هو الصواب. أفتدرون ماذا صنعت؟ جئت من الغد فقلت للطلاب: سمعتم بالأمس ما قلته لأخيكم هذا. وقد تبيّن لي أن الحقّ معه وأنني أنا المخطئ، لذلك أعتذر إليه أمامكم، أعتذر إليه مرتين: مرة لأني خطّأته وهو المصيب، ومرة لأنني خالفت أخلاق العلماء فأطلت لساني عليه وظلمته بما أسأت به إليه.
وقد كان درساً عملياً أفاد الطلاب أكثر مما تُفيدهم الدروس النظرية التي ألقيها عليهم.
* * *