المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌زياراتي القديمة لمكة - ذكريات - علي الطنطاوي - جـ ٨

[علي الطنطاوي]

فهرس الكتاب

- ‌الجزء الثامن

- ‌وداع المحكمة الشرعية

- ‌في محكمة النقض في القاهرة

- ‌أشتات من الذكريات

- ‌زياراتي القديمة لمكة

- ‌حجة 1381: خواطر وأفكار

- ‌أبو الحسن النَّدْوي ومذكّراته (1)

- ‌أبو الحسن النَّدْوي (2)

- ‌أبو الحسن الندوي (3)

- ‌في مطلع العام 1987

- ‌مؤتمر القمة الإسلامي

- ‌الفقيدان الوزير والمدير،ومن قبلهما فقدنا الأمير

- ‌تعليق على الحلقة السابقة: لبّيكَ اللهمّ لبّيكَ

- ‌كيف جئتُ المملكة

- ‌وقفة على المخيَّمات

- ‌منزلي في الرياض

- ‌لمّا كنت أستاذاً في الكلّيات والمعاهد

- ‌تفسير بعض الآيات

- ‌من المستشفى المركزي في الرياضإلى مستشفى المواساة في دمشق

- ‌في مكة سنة 1384ه

- ‌في كلية التربية في مكة

- ‌يوم الجلاء عن سوريا

- ‌لمّا علّمتُ البنات

- ‌خواطر ومشاهدات عن تعليم البنات

- ‌لغتكم يا أيها العرب (1)

- ‌لغتكم يا أيها العرب (2)

- ‌ذكريات العطلة الصيفية في دمشق (1)

- ‌ذكريات العطلة الصيفية في دمشق (2)

- ‌هذه الحلقة من الذكريات مسروقة

- ‌عندكم نابغون فتّشوا عنهم بين الطلاب

- ‌عزمتُ أن أطوي أوراقيوآوي إلى عزلة فكرية

- ‌رسائل الإصلاح وسيف الإسلامانتقدت الشيوخ الجامدينوالشبان الجاحدين

- ‌الخاتمة

الفصل: ‌زياراتي القديمة لمكة

-218 -

‌زياراتي القديمة لمكة

سكنت أجياد إحدى وعشرين سنة، فكنت ربما أُطِلّ على الشارع في السحَر من داري في الطبقة الثامنة فأرى الذاهبين إلى الحرم لصلاة الفجر أوزاعاً متفرقين، فأميزهم من هيئاتهم ومشيتهم وأعرف ناساً منهم، فإذا قُضيَت الصلاة وخرجوا يملؤون الشارع لم أعُد أميّز واحداً من واحد لأنهم ازدحموا وتداخلوا واستتر بعضهم ببعض.

هذا مثال ذكرياتي؛ كانت قليلة وكانت واضحة محفورة على صفحة قلبي كأنها النقر في الحجر، فلما كثرت وتداخلت لم أعُد أميّزها ولا أستطيع أن أحصرها.

أريد أن أكتب عن المملكة، عن مكة، العاصمة الروحية لها ولبلاد المسلمين كلها. وأنا حين أهمّ بالكتابة عن بلد لا أصف طبيعة أرضه ولا أحدد مساحته وحاصلاته، ولكن أحاول أن أصف مدى شعوري به ومبلغ ما له في نفسي. وهل أستطيع أن أصوّر المشاعر والعواطف التي ينطوي عليها قلبي لمكة، أم القرى وقِبلة المسلمين ومبعث النور وأحبّ البلاد إليّ بعد بلدي، لا بل

ص: 51

قبل بلدي، فهي بلدي الأول وبلد كل مسلم؛ ما يسرّني أن يسلم بلدي بأذاها، بل إني أدفع عنها الأذى ببلدي وداري وأهلي، لأنها إن سلمت فكل شيء سالم وإن أصابها شيء لم يسلم لنا بعدها شيء، لأنها تكاد تكون لنا كل شيء.

أرأيتم المغناطيس كيف يجذب قطع الحديد من حوله؟ كذلك تجذب مكةُ الناس. ولست أدري لماذا يذهب أهلها فيسيحون في البلدان والبلدانُ كلها تكون كلَّ سنة هنا، تدور حول هذا البيت من الغرب إلى الشرق كما تدور الأفلاك على قطبها، فكأن كل حاجّ كوكبٌ وهذا المطاف هو الفضاء الأرحب الذي تسبح فيه النجوم والكواكب.

لقد قرأت مرة لناقد فرنسي تقريظاً لقصة لم يجد أبلغَ في الدلالة على عمق أثرها في نفس قارئها من أن يقول: "إني أتمني أن أنساها ثم أعود فأقرأها من جديد، فأستمتع بها كما استمتعت أول مرة". إذا كان هذا يُقال في قصة أدبية فماذا ترونني أقول في بيان شعوري لمّا رأيت الكعبة أول مرة؟ كنت أتوجّه إليها في صلاتي وأنا في بلدي، كما يتوجّه إليها كل مسلم وبينه وبينها صحارى وبحار وجبال وأنهار ومدن كبار وصغار، يتخيّلها على البعد يحنّ إليها ويتمنى رؤيتها.

وما نعبد الكعبة ولا نعظّمها لِذاتها، ولا نقدّس جدرانها وبابها ولا كسوتها وأثوابها، ولكننا نحبها لأنها بيت ربنا الذي نتوجه إليه حين نقف بين يديه. وإن قلت «بيت ربي» فإنما أعني البيت الذي شرّفه بنسبته إليه، وتعالى الله عن أن يُحيط به بيت أو أن يحدّه زمان

ص: 52

أو مكان، وهو الذي كان قبل أن يُخلق الزمان والمكان.

كنت كالعاشق الذي نأَت به الحياة عن صاحبته فهو دوماً في شوق إليها، إن لمح البرق من نحو أرضها ذكّره بها لَمَعانُ البرق، وإن لمح النجم الذي تراه هزّه إليها لَمْحُ النجم، يمدّ يديه ليعانقها ونفسُه مَشوقة إليها وبينه وبينها الآماد البِعاد، فإذا حمله رحله إليها جعل كلّما دنا منها خطوة أحسّ أنْ قد فُتح له باب ورُفع له من دونها حجاب، حتى إذا انزاحت الحُجُب واختُصرت المسافات وذاب البعد رآها عياناً ولمسها، وألقى بصره عليها، وعانقها قلبه قبل أن تعانقها يده وقبّلها فؤاده قبل أن يقبّلها فمه.

ويا أسفا! لقد فقدت بإقامتي في مكة ذلك الشعور الذي هزّ قلبي يوماً هزّة ما أظنّ أني شعرت بمثلها.

كحّلت عيني بمشهد الكعبة أول مرة سنة 1353هـ، في رحلتنا تلك التي حدّثتكم حديثها مفصّلاً. الرحلة التي كشفنا فيها طريق السيارات من دمشق إلى مكة، والتي صرمنا فيها ثمانية وخمسين يوماً على الطريق، نعتسف البوادي، نقتحم المجهول، نغوص في الرمل، نربط الحبال بأعناقنا ونجرّ سياراتنا لنُخرِجها من تلك الرمال. صلينا الشمس التي تُلهِب قحوفَ الرؤوس وتعصر الأجسام فتُسيل منها ماءها عرقاً، ثم لا نجد من الماء ما نشربه فنعوّض به ما سال من أجسادنا.

لقد طالما ضللنا الطريق أياماً، بل ما كان أمامنا طريق نهتدي إليه أو نضلّ عنه، إنما خرجنا لنفتح هذا الطريق! قطعنا عند «خور حمار» قبل مدائن صالح بضعة أكيال فقط (كيلومترات) في نهار

ص: 53

كامل، عطشنا وجُعنا وتعبنا، وبلغ منا التعب أني كنت أضع تحت رأسي وسادة أو شيئاً أجده أجعله كالوسادة، وأغفو من حين يلامس رأسي الأرض. لقد بتنا ليلة والله والعقارب تدبّ من حولنا، ولقد خفت منها ولكني لم أجد قوّة أستعين بها على قتلها. ورأينا النمر يحوم من حولنا، نمر كما قال الدليل، لا تحسبوه ثعلباً ولا ذئباً، لكن لم أجد قوّة أهرب بها من النمر!

واختلفنا في العودة، شأننا نحن العرب في كل أمر نعالجه مجتمعين فلا نخرج منه إلاّ متفرقين. فعدنا أنا والشيخ ياسين الرواف رحمة الله عليه في سيارة واحدة صاحبها السيد جمال الحفار، من دمشق رحمه الله وأخوه السيد علي، قطعنا البادية وحدنا في هذه السيارة على غير طريق. ما أكلت فيها من المدينة إلى دمشق إلاّ أُقّة (والأقة كيل وربع الكيل) من التمر شريتها من المدينة.

ولكن كل ليل معه نهار، وكل شتاء بعده ربيع، وكل شوكة إلى جوارها وردة، ومع هذه الشدة وهذا الهول الذي وجدناه في الصحراء وجدنا في الصحراء حسنات تكاد تمحو تلك السيئات: نسيم الليل الرخيّ الناعش الذي يُحيي الأرواح، وأن تستلقي فترى من فوقك السماء الصافية مرصَّعة بالنجوم، وأن ترى الفجر حين يشقّ أديمَ الشرق شقاً ثم يتمدّد عليه ويغمره بالضياء. هل يعرف سكان المدن ما الفجر؟ ومَن منهم رأى الفجر؟ وهل يراه مَن حبس نفسه في صناديق من الإسمنت تُشعَل فيها المصابيح الليل والنهار، حتى لا يفرّق أحدنا بين الليل والنهار إلاّ بالنظر إلى الساعة أو سماع الرادّ (الراديو)؟

لقد حملنا تلك المشاقّ كلها، ولكن ربحنا منها مشاعر

ص: 54

وذكريات أستطيع أن أتحدث عنها اليوم وقد مرّ عليها ثلاث وخمسون سنة. فخبّروني: ما الذي يستبقيه المسافر في الطيارة حين يقطع هذه المسافة كلها في ساعتين؟ ما الذي يستبقيه من ذكريات سفره؟ وما الذي يحدّث به عنها بعد عشر سنين؟ لقد ربحنا بهذه الحضارة الوقت ولكن خسرنا العواطف والذكريات.

بل أين مكة التي نُقشت صورتها على صفحة قلبي نقشاً لا يزول؟ كانت تعيش كلها ما بين المعابدة والبيبان، وكانت تتكدس بيوتها من حول الحرم، تأوي إليه كما يأوي الطفل الصغير إلى حِجر أمه لا تستطيع أن تبتعد عنه.

إن مكة الآن أجمل وأكمل وأبدع وأوسع؛ أوسع بلا شك وأبدع، ولكن الإنسان يحبّ ما هو له. هل تبادل بولدك فتُعطيه وتأخذ أجمل طفل في الدنيا؟ فالماضي لي، صار ملكي، صار قطعة من ذكرياتي، لذلك أحتفظ بصورته في نفسي.

* * *

أما زيارتي مكة سنة 1353هـ فقد عرفتم في هذه الذكريات أطرافاً من حديثها كنت أودعتها كتابي «من نفحات الحرم» . والزيارة التي تليها كانت في حِجّتي سنة 1373هـ التي صحبتُ فيها وفد المؤتمر الإسلامي في القدس. وهو المؤتمر الذي لم أحضر غيره، والذي جمع ممثّلين عن أقطار المسلمين كلها، والذي انتخب لجاناً ثلاثة (1) جعلوني رئيس إحداها، وهي «لجنة

(1) لو تأخر المعدود عن لفظ العدد لوجبت المخالفة (أي تذكير لفظ العدد مع المعدود المؤنَّث، والعكس) فنقول: "ثلاث لجان". أما =

ص: 55

الدعاية»، ثم كلّفوني الرحلة التي تكلّمت من قبل عنها، فلا أُعيد الكلام فيها، فزُرت فيها باكستان والهند وسنغافورة والملايا وأندونيسيا.

وكان الذي جرّني إليها وإلى هذه الحِجّة من بعدها، والذي كان هو سبب تشرّفي بالحياة هنا في المملكة، هو أخي وصديقي الشيخ محمد محمود الصوّاف، كما كان سبب كتابة هذه الذكريات ولولاه لَما كتبتها، هو وولدي وصديقي الأستاذ زهير الأيوبي.

جئت في وفد المؤتمر مع الأستاذ سعيد رمضان والأستاذ كامل الشريف. وكامل أشهد أنه من أكمل الرجال، عرفته في المؤتمر شاباً صغير السنّ كبير العقل، رزيناً في أدب، بليغاً من غير فضول، لا يحسّ جليسه بثقله. ورُبّ جليس تجالسه تحسّ أنه يجثم على صدرك كأنه كتلة ضخمة متحجرة من الثلج في يوم بارد.

كان الأستاذ سعيد يذهب هنا وهناك، فهو رجل خَرّاج وَلاّج، وأبقى أنا وكامل، يُصغي إذا تكلمت أنا ويُحسِن ويُفيد إذا تكلّم هو. كان يرفق بي فلا أجد منه إلاّ ما يسرّ. ثم صحبتُه كرّة أخرى إلى طهران لمّا انتخبونا لنسعى لإنقاذ صديقنا نواب صفوي رحمه الله من الموت الذي حكموا به عليه، ولذلك

= إذا تأخر المعدود عن لفظ العدد (كما هو هنا) فكلا الشكلين جائز: الموافقة والمخالفة؛ فيصح أن نقول "انتخب لجاناً ثلاثة" أو "انتخب لجاناً ثلاثاً". وقد أدرجت هذا التوضيح هنا لئلا يظن قارئٌ (بسبب ما يحفظه من دروس المدرسة) أن الشيخ أخطأ في جملته التي علقتُ عليها (مجاهد).

ص: 56

حديث آخر (1).

نزلنا في فندق مصر، وكان هو الفندق الوحيد في مكة أو كان أكبر الفنادق وأفخرها (2). وليس عندي من آثار تلك الحِجّة إلاّ خلاصة المحاضرة التي ألقيتها في حفلة تعارف الحُجّاج في قاعة الفندق وحضر جانباً منها الملك سعود رحمه الله. ولم أُعِدّها ولم أحضّرها، وما من عادتي أن أُعِدّ المحاضرات، إنما أفكّر فيها وفي أعمالي كلها في اللحظة الأخيرة، حتى إنهم لو كلّفوني بمحاضرة أو مقالة يريدونها بعد شهر أو شهرين لَما فكّرت فيها ولَما أخطرتُها على بالي إلاّ حين يبقى دون الموعد يوم أو يومان، هنالك أجمع لها ذهني وأحتشد لها فيوفّقني الله بفضله فيها. ولا يضرّني ضيق الوقت إذا تركّز الذهن وكان كعدسة البلّور التي تجمع أشعة الشمس، فتحرق بها الورق لو اجتمع الشعاع في مكان ضيق المساحة قليل الطول والعرض.

كان عنوان المحاضرة «طرق الدعوة إلى الله» ، من قرأها حسب أني اشتغلت بإعدادها وقتاً طويلاً. بيّنت فيها أساليب الدعاة وطرق الدعوة:

طريق الدعوة إلى الله بإصلاح الملك أو الحاكم، يجعله الداعي قصدَه ويبلغ في إصلاحه جهده، كما فعل السَّرْهَنْديّ في الهند حين رأى الإمبراطور أكبر يكفر ويحمل الناس على الكفر ويحاول أن يمحو الإسلام من تلك البلاد ومن نفوس أهلها، وكان

(1) سبق في أواخر الحلقة 139 من هذه الذكريات (مجاهد).

(2)

قال في الحلقة 121: "وهو فندق الكعكي الآن"(مجاهد).

ص: 57

الجيش معه والزعماء يؤازرونه والحكم له والمال تحت يده، وكان الشعب عاجزاً ضعيفاً لا يستطيع أن يأمره بمعروف ولا أن ينهاه عن منكَر، فجعل الشيخ يتصل بأسرته وحاشيته لعلّه يستخلص منهم واحداً للإسلام، وما زال يعمل هو وأولاده وتلامذته حتى وُفّق إلى ما يشبه المعجزة، حين أخرج الله به وبتلاميذه من صلب ذلك الإمبراطور المرتدّ الكافر ملكاً كان من أفضل ملوك الإسلام، ومن أعدلهم وأتقاهم وأشدّهم حزماً وأكثرهم إصلاحاً، وكان بقية الخلفاء الراشدين (كما لقّبته في كتابي «رجال من التاريخ»)، هو عالم كير أورَنْك زيب بن شاه جيهان بن جيهان كير بن أكبر. وهذا الطريق قصير المدى، عاجل النفع، سريع الثمرة، ولكن ثمرته تبقى ما بقي هذا الحاكم الصالح، فإن زال زالت.

وطريق الدعوة الشعبية التي يحميها الحاكم، فيؤيّدها بسلطانه ويردّ عنها الأذى بسيفه، كما فعل الشيخ محمد بن عبدالوهاب في نجد حين حالف الإمام محمد بن سعود، ووجّها همّتهما للدعوة إلى الله باللسان وبالسنان حين لا ينفع اللسان، فنجحَت واستمرّت.

وطريق الدعوة الشعبية التي تحميها الثورة المسلّحة، كما فعل أحمد بن عرفان في الهند حين جنّد أتباعه وحمل أمامه راية الجهاد، وواتاه النصر حتى أقام دولة إسلامية في شمالي الهند تحكم بالكتاب والسنّة وتوشك أن تُعيد الهند كلها إلى الإسلام، لولا أن الإنكليز لمّا عجزوا عن هدمها بقوة النمر حاربوها بمكر الثعلب، وأثاروا عليها المسلمين من رجال القبائل القوية المسلحة فهدموا دولتهم بأيديهم، فكانت النتيجة الفاجعة، إذ ذهبت الدولة

ص: 58

الإسلامية الناشئة وعادت الهند إلى الإنكليز بدلاً من عودتها إلى الإسلام (1).

وكما فعل عز الدين القسّام، هذا الشيخ المؤمن القوي الذي استحى من الله أن يُقرئ تلامذته أحكام الجهاد في كتب الفقه وأنه يكون فرضاً على المسلمين جميعاً إذا احتلّ الكافر الأرض الإسلامية، ثم يذهب إلى داره فيأكل الرز واللحم ويشرب الشاي وينام مطمئناً إلى أنه قام بكل ما يطلبه الإسلام من الرجل المسلم؛ فخرج معهم بعد أن تدرّب على القتال ودرّبهم، وباشر الجهاد فعلاً، يوقع بالإنكليز ويحارب اليهود لإعلاء كلمة الله ولتخلص فلسطين لأهلها، ولبث على ذلك حتى سقط شهيداً.

والدعوة ببثّ الأفكار وعرض الحقائق على أفراد الناس في المجالس والمجامع والطرق وفي كل مكان، بالأسلوب المناسب والتعبير الموافق لما تقتضيه الحال، من غير دخول في جدل أو اشتباك مع مخالف، كما فعل جمال الدين الأفغاني. وله جملة واحدة مشهورة يلخّص فيها مذهبه هذا، هي:«قُل كلمتك وامشِ» .

وكما فعل الشيخ طاهر الجزائري، الذي زاد عليه بأنه إذا

(1) اقرؤوا تفصيل القصة في رسالة «أحمد بن عرفان الشهيد» ، وهي جزء من سلسلة «أعلام التاريخ» التي تضمّ رسائل أو كتيّبات يصلح أن يكون كل منها مقالة طويلة في كتاب، وأنا أرجو أن أضمّها إلى كتاب «رجال من التاريخ» في طبعة جديدة له لأن هذه السلسلة لا تكاد تصل إلى أيدي الناس (مجاهد).

ص: 59

رأى مخالفاً له أظهر له التواضع وتجاهل ما يعرفه أمامه، وجاءه بكتاب من الكتب التي تصحّح له خطأه وتردّه عنه فقال له: إني وجدت هذا الكتاب في مكتبتي ولم أعرف ما فيه، وأنا أحبّ أن تراه ثم تخبرني هل هو نافع لي لأقرأه أم هو من الكتب الضارة؟ ويترك له الكتاب، فلا تمر أيام ويستكمل قراءته حتى يكون قد رجع عن خلافه. وهذه طريقة مضمونة النتائج، ولكنها طويلة والثمرة فيها بطيئة الظهور.

والدعوة إلى الله بالتعليم والإقراء وتأليف الكتب العلمية ونشر القديم النافع منها، وبالدروس والمحاضرات المستمرّة، كما فعل وليّ الله الدهلوي بالهند ومحمد عبده ورشيد رضا في مصر وعبد الحميد بن باديس في الجزائر.

والدعوة عن طريق الصحف والمجلات والمقالات والمباحث، كما فعل محب الدين الخطيب، وهو أبو الحركة الإسلامية الجديدة في مصر، كان قلمه أول قلم دعا إليها، وكانت مطبعته «السلفية» أول مطبعة وُقفت عليها، وكانت مجلته «الفتح» أول مجلة إسلامية في مصر. وكما فعل أمير البيان شكيب أرسلان الذي كان كاتب الإسلام الأول.

والمحاضرة طويلة، وهي في كتابي فصول إسلامية.

* * *

وجاءت سنة 1381هـ فرأيت من حقّ زوجي عليّ أن أذهب بها إلى الحجّ. وإذا كانت نفقة المرأة واجبة على زوجها يضمن

ص: 60

لها ما هو ضروري لها، فإن من هذه الضروريات حجّ بيت الله، حجّة الفرض، إن كان يستطيع أن يضمنها لها.

ولكن فكّرت: كيف أذهب بها وأنا أعجز الناس عن النهوض بأمر نفسي في الحضر، فكيف أنهض بأمرها وأمري في السفر؟ وحِرتُ ماذا أصنع وفكرت فيمن يأخذ بيدي، في أخ مخلص لا يُشَكّ في إخلاصه قدير لا يُمارى في مقدرته، فوجدته؛ إنه الشيخ الصوّاف. فأبرقت إليه ليحجز لي مكاناً في فندق مصر في أجياد، ولكني استحييت أن أعود فأبرق إليه بوصولي، فوصلت مطار جدة بعد موهن من الليل (أي بعد منتصف الليل)، وكان في الطيارة جماعة من دمشق منهم من أعرفه معرفة ومنهم من كان بيني وبينه صداقة، فلما هبطنا من الطيارة شُغل كل منهم بأهله ومتاعه فلم يلتفت إليّ أحد منهم ولم يعرج عليّ، ووقفتُ كالأصمّ في الزفّة -كما يقولون- لا يُبدئ ولا يُعيد ولا يعرف له متجَهاً ولا مقصداً.

وأنا كما قلت لكم أُدعى إلى خطبة في مئة ألف أو يزيدون بلا استعداد لها ولا احتشاد لإلقائها فأقوم إليها لا أجد مشقّة فيها، وأكتب المقالة في نصف ساعة لا أحسّ صعوبتها، ولله عليّ أفضال لا أنكِرها وأعمال صعبة سهّلها لي وأقدرَني عليها، ولكني أعجز عمّا يستسهله الناس وأغرق في شبر ماء على حين أجد مَن يسبح في اللجّ العميق.

هنالك وقد كدت أصل إلى حافّة اليأس جاءني رجل لا أعرفه يسأل عني باسمي، وعند الضيق يأتي الفرج. فعجبت منه

ص: 61

واستوضحته، وإذا هو رسول من عند وكيل للمطوفين معروف في جدة، اسمه أبو زيد، وكان نسيب كاتب عندنا في المحكمة في دمشق ذي نجدة ووفاء اسمه السيد كمال الأظن، فأبرق له ليساعدنا، فأخذَنا إلى مكتبه وأقعدنا وأتانا بالشراب البارد والقهوة الحارة، وبعث من يُنجِز لنا معاملاتنا. فلما رأى ذلك مَن كان في الطيارة معنا أقبلوا علينا بعد أن كانوا مُعرِضين عنا، وسألوه أن يدلّهم على السوق فبعث معهم من يدلّهم ويشتري لهم، فلما رأوا ذلك اشتروا على حسابه ما كانوا يحتاجون إليه وما ليسوا إليه في حاجة (ولم أعلم بذلك إلاّ بعد حين)، وأحضر لنا سيارات حملتنا إلى مكة فركبوا هم ونساؤهم وأولادهم معنا!

وكذلك يصنع الطمع وضعف الوازع الخلقي. رجل لا يعرفونه، لماذا يستغلّون كرمه؟ أنا المقصود بالإكرام كنت متحرّجاً أخاف أن أُزعِج الرجل أو أن آخذ منه أكثر مما ينبغي، وأحاول أن أتملص من قيود كرمه التي قيّدنا بها، وهؤلاء وجدوا طعمة فأكلوها لم يسألوا عن مصدرها (1).

فإذا كان في القراء من يعرف مستقَرّ السيد كمال، أو نسيبه هذا السيد أبو زيد، فليبلغهما أن ربع قرن مضى لم يُنسِني فضلهما، وأنني سأبقى ذاكراً لهما شاكراً حسن صنيعهما.

* * *

وكان معنا في الفندق بعض الشباب من جماعة الرئيس

(1) هذه الواقعة وبعض ما يأتي من أخبار حجة سنة 1381 سبق -باختلافات يسيرة- في الحلقة 121 من هذه الذكريات (مجاهد).

ص: 62

عبدالناصر (الذي حجّ في تلك السنة إن صحّ ما أذكر)، وكنا معهم في مناقشات دائمة وجدال. وكان اجتماع في القصر في مكة، وهو الاجتماع الذي انبثقَت عنه رابطة العالَم الإسلامي، وهممت بالاعتذار عنه ولكن الشيخ العالِم الفاضل المعمَّر المفتي الشيخ محمد حسنين مخلوف، قوّاه الله ومدّ في عمره لنفع المسلمين، والمفتي الصديق القَلْقيلي رحمه الله، ضغطا عليّ وألزماني بأن أذهب معهما إلى هذا الاجتماع.

وكان هو الاجتماع الأول لِما دُعي فيما بعد برابطة العالَم الإسلامي، وكان برياسة الملك سعود رحمه الله والمفتي الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله، وكُلّف بإدارة الجلسة أخونا الداعية الفاضل الأديب السيد أبو الحسن النَّدْوي.

فكنت إذن من الهيئة التأسيسية الأولى لرابطة العالَم الإسلامي، ولكني -على عادتي- اعتذرت عنها، فأنا لم أنتسب في عمري كله إلى جماعة أو حزب وإنما أعمل وحدي، أمشي على الطريق السويّ فأساير كل من أجده يمشي فيه، أعاون على ضعفي وعجزي كل داعٍ إلى الخير، ولكني لا أربط نفسي به ولا أُلزِمها السير معه.

ودُعينا مرة إلى المجلس الأعلى للجامعة الإسلامية في المدينة المنورة (ولست أدري ما اسمه على التحقيق)، فحضرتُ جلسات وشاركت في الرأي وعملت ما استطعت، ووجدت أفاضل أجلّة استفدت منهم، منهم الشيخ الشنقيطي صاحب «أضواء البيان» . ولكنني لمّا انتُخبت في هذا المجلس (أو هذه

ص: 63

اللجنة العليا، فلست أدري الآن ما اسمها على وجه التحقيق) اعتذرت عنها وقلت لهم: أنا جندي من بعيد، لا أتقاعس عن عمل نافع أقدر أن أقوم به، فاكتفوا بهذا مني.

ودُعينا مرة إلى طعام عند قاضي المدينة الشيخ عبد العزيز قوّاه الله وأطال عمره (1)، وهو شيخ فاضل وخطيب من الخطباء البلغاء، وله في صوته صفاء عجيب يذكّرني بخطيب الجامع الأموي من نحو نصف قرن الشيخ عبد القادر الخطيب. ورُبّ خطيب يكون أجش الصوت وإن كان بليغ العبارة، فالعبارة والفكرة من عمل الرجل، ولكن الصوت صفاءه وعكره وانخفاضه وارتفاعه هبة من الله.

وأنا في العادة لا أجيب دعوة إلى طعام، لا مخالفة للسنّة ولا فراراً من الاجتماعات النافعة، ولكن لي فيها فلسفة قد تكون سخيفة، هي غلاء حرّيتي عليّ؛ فأنا آكل ما أشاء حين أشاء، وإذا دُعيت أطعموني طعاماً هو أطيب من طعامي في بيتي ولكن سلبوني حرّيتي في اختيار لون الطعام ووقت تناوله واختيار الآكلين معي منه، فتكون خسارتي أكبر من ربحي!

والحديث متصل، ستأتي بقيته في الحلقات المقبلات إن شاء الله.

* * *

(1) هو الشيخ عبد العزيز بن صالح، وقد سبق هذا الخبر (بزيادة ونقصان) في الحلقة 121 من هذه الذكريات (مجاهد).

ص: 64