الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
-236 -
لمّا علّمتُ البنات
نبّهني بعض أهلي من أيام إلى ندوة تُعرض في الرائي يتكلم فيها الشيخ الدكتور صبحي الصالح. وأنا في العادة لا أميل إلى هذه الندوات لأن عريفها يضايقني غالباً حين يُقيم من نفسه شيخ كُتّاب، ويجعل من المنتدين (أي أعضاء الندوة) تلاميذَ له، ولعلّ فيهم مَن هو أعلم منه، فيقول: اسكت أنت، وربما قطع على المتحدث كلامه ليقول شيئاً يخطر على باله لعلّه لا يفيد السامع علماً ولا يَزيد عمّا يقوله المتحدث شيئاً، ولكنه يريد أن يقول: أنا هنا!
بيد أن حضور الشيخ صبحي رحمه الله الندوةَ رغّبني في سماعها، لأني كنت أحبه في الله. ولمّا كنت أشرف على تحرير مجلة الرسالة سنة 1947 لمرض الأستاذ الزيات رحمة الله عليه (أو تمارُضه) زارني يوماً الشيخ صبحي. وكان طالباً يَدرس في مصر، وجاءني بمقالة له يريد نشرها، فلمست فيها وفيه فضلاً ونبلاً، فنشرتها له وشجّعته ثم كنت أتابع ما يكتب وما ينشر.
وما جئت الآن لأثني عليه هنا وإن كان يستحقّ الثناء،
ولا لأرثيه وإن كان أهلاً للرثاء، وحسبه أنه نال أقصى ما يطمع عالِم مسلم بنبله وهو الشهادة في سبيل الله، رحمه الله ورحم كل من فاضت روحه من المسلمين في هذه الفتنة العمياء التي عمّت لبنان، فلم تُبقِ ولم تَذَر. بل لأنني فوجئت حين رأيت في الندوة طالبات سافرات كاشفات يجلسن إلى جنب شباب كبار مجلس الإخوة مع الأخوات أو الأزواج مع الزوجات، يختلطن بمن حرّم الله عليهن الاختلاط بهم والتكشّف أمامهم.
ثم رجعت إلى نفسي فعجبت من عجبي، وسألتها: كيف صدمني هذا المشهد؟ كأنني لم أرَ مثله من قبل وكأنني لم أعلّم بنات بالغات كبيرات ولم أرَ من قبلُ اختلاطاً وتكشُّفاً، في الشام وفي مصر وفي بيروت وما زرت من مدن أوربا الغربية، وإن كنت قد دخلت أكثر من عشرين مدينة كبيرة فيها أرى منها ما يراه الماشي في الطريق، لم أدخل ملاهيها ولا مواطن الفجور فيها، فلم أرَ فيها كلها (أقول الحقّ) ولا فيما زرت من مدن آسيا: الهند وسنغافورة وأندونيسيا وطرفاً من سيام (التي صارت تُدعى الآن تايلاند)، لم أرَ فيها كلها ما كنت أراه في الطريق في بيروت: في الزيتونة ورأس بيروت وعلى طول الساحل الذي تستلقي عليه آلاف من البنات، ما يسترن من أجسادهن إلاّ ما يقبح مرآه وما عدا ذلك بادٍ مكشوفٌ يراه كل من يمرّ في الطريق حتى الحمار.
فكيف إذن فوجئت بما رأيت في هذه الندوة بعد كل هذا الذي رأيت من قبل؟ وفكّرت فعرفت السبب. لقد كنت كمَن يضمّه المجلس الحافل في الغرفة المغلقة التي تختلط فيها الأنفاس، من الفم والأنف ومن غيرهما من منافذ الجسم! ويطول المجلس
ساعات لا تُفتَح فيها النوافذ ولا يتجدّد فيه الهواء، ولكنّ مَن فيه لا يحسّ بفساد هوائه. فإذا خرج ساعة إلى النسيم الرخيّ والهواء النظيف ثم عاد إلى المجلس أدرك ما كان في جوّه من فساد. أو كالمزكوم الذي عطّل الزكامُ شمّه، أو كذي الفم المُرّ الذي وصفه المتنبي:«يجِدْ مُرّاً بِهِ الماءَ الزُّلالا» (1).
ذلك هو السبب. فالحمد لله أن أقامني في المملكة نحواً من ربع قرن وألزمني البقاء في مكة، لم أخرج من حدودها وحدود جدّة من تسع سنين ولم أجاوزهما إلى غيرهما، فأذهبَ ذلك عن أنفي الزكام وعن لساني المرارة، وأعاد إليّ صفاء النفس ومضاء الحسّ، وعُدت أنكر ما ينكره الشرع.
وكنت أفكر في اختيار موضوع لهذه الحلقة من الذكريات كما أفعل كل مرة، أفتّش عنه، فوجدته في هذه الندوة التي عرضها الرائي من أيام، فجئت أصل الآن كلامي عن تعليم الطلاب في الكلية في مكة بالحديث عن تدريس الطالبات فيها.
* * *
نشأت في دمشق قُبَيل الحرب الأولى وفي أثنائها، يوم لم تكن هذه الحضارة قد وصلت إلينا إلاّ لماماً وما عرفناها إلاّ من بعيد، نسمع أخبارها ولكن لا نُبصِر آثارها. فلما انتهت الحرب الأولى سنة 1918، وكنت في أواخر المدرسة الابتدائية، هجمَت
(1) هذا هو الشطر الثاني من البيت، وصدره:«وَمَنْ يَكُ ذا فَمٍ مُرٍّ مَريضٍ» (مجاهد).
علينا فكسرت الباب وصارت بيننا، وجاءت معها بخيرات وجاءت معها بشرور، وكان من شرورها فتح الطرق التي تقصر وتسهل تارة أو تطول وتتوعّر تارة أخرى، ولكنها توصل في النتيجة إلى ارتكاب المحرَّمات وهتك الحرمات.
ولقد قلت من قديم بأن أول مادة في قانون إبليس وأول درس في منهجه هو كشف العورات واختلاط الشبان بالبنات: {يَنْزِعُ عَنْهُما لِبَاسَهُما لِيُريَهُما سَوْءاتِهما} . وكانت مدارس البنات من الأبواب التي دخل منها جنود إبليس من الإنس والجنّ علينا.
ومدارس البنات إن خلت من الفساد ضرورية نافعة لا بدّ منها لرقيّ البلاد وصلاح العباد، فليس اعتراضي عليها ولكن على ما يعرض لها. ومدارس البنات في دمشق قديمة جداً، ولقد كانت لي عمّة رحمها الله تحمل الشهادة الرسمية من المدرسة الرّشْدية (أي المتوسطة) تاريخها سنة 1300هـ، أي قبل مئة وسبع سنين. وهذه المدارس في مصر أقدم تاريخاً وأسبق ظهوراً.
وكان العامل الأول على إنشائها في الشام مربّي الجيل الشيخ طاهر الجزائري، ولقد كتبت عنهُ فيما مرّ من هذه الذكريات، وحضر امتحان عمّتي من وراء ستار نُصب بين لجنة الامتحان وبين البنات والمعلّمات. وأنا لم أدرك من الشيخ طاهر إلاّ أنهم سيّرونا في جنازته لمّا مات في أعقاب الحرب الأولى، وكنا تلاميذ في الابتدائية وكان وزير المعارف أحد تلاميذه المقرَّبين وهو أستاذنا محمد كرد علي.
وكانت التلميذات في المدارس الابتدائية فضلاً عن الثانوية
بالحجاب الكامل، حتى إن أختين لي وزوجتي كُنّ يذهبنَ إلى المدرسة الابتدائية بالملاءة السابغة وعلى وجوههن هذا النقاب، أي القماش المثقَّب الذي كان يُدعى عند العامة «المنديل» . وأذكر أن دمشق أضربت مرة وأغلقت أسواقها كلها وخرجت المظاهرات تمشي في جادّاتها لأن وكيلة مدرسة دار المعلمات جاءت المدرسة سافرة (أي كاشفة الوجه)، وهذه الوكيلة هي بنت أستاذنا في كلية الحقوق، العالِم الجليل الذي ولي الوزارة مرات، شاكر بك الحنبلي رحمه الله.
ومن أدرك تلك الأيام من أهل الشام يشهد بصحة هذا الخبر، ومن هؤلاء الصديقُ رفيق العمر الأستاذ سعيد الأفغاني الذي يدرّس الآن في جامعة الملك سعود، وقد قارب الآن الثمانين من العمر، وإن هم افتقدوه -لا قدّر الله- فلن يجدوا بعده مثله، فهو المرجع في النحو والصرف.
* * *
ثم بدأ الصدع في الجدار والشقّ في الثوب، ثم اتسع الخرق على الراقع وامتد الصدع حتى كاد يهدد الجدار. وقد حدّثتكم في هذه الذكريات عما انتهت إليه مدارسنا على عهد الوحدة مع مصر عبد الناصر وما دخل عليها. كما حدّثتكم عن البنت التي دُعيتُ إلى تدريسها درساً خاصاً، وكانت صبية جميلة في السابعة عشرة وأنا شابّ أكاد أقول -لولا الحياء- إني كنت جميلاً في الرابعة والعشرين. وكان الدرس في الأدب العربي، وكان الموضوع هو شعر بشّار وأبي نُواس، وكان الكتاب الذي نرجع إليه هو «الأغاني»
وكتاب أخبار أبي نُواس لابن مَنْظور صاحب «لسان العرب» . ومن عرف هذا الكتاب منكم عرف ما فيه من أشعار أبينواس التي يخجل من روايتها الساقي في حانات الخمور ومواطن الفجور، فكيف يرويه للطالبات المعلّمُ الذي زعم شوقي أنه كاد يكون رسولاً (1) لولا أن محمداً عليه الصلاة والسلام خاتم الرسل فلا رسول ولا نبي بعده.
وكان أجري على الدرس كبيراً وكنت في أشدّ الحاجة إليه، ولكن خفت والله من الوقوع وقد بلغت حافّة الهاوية ولم يبقَ بيني وبينها إلاّ شبر واحد، فتركت الدرس وعفت المرتَّب ونجوت بنفسي.
وفي سنة 1949 كان أخي أنور العطار رحمه الله يدرّس الأدب العربي لطالبات الثانوية الأولى للبنات ودار المعلّمات، فنُقل وسط السنة المدرسية إلى وزارة المعارف وكُلّف أن يجد مَن يحلّ محلّه، وإلاّ فقد الوظيفة الجديدة التي كان يسعى إليها ويتمنى الحصول عليها، فلجأ إليّ فقبلت. ولم يكن في المدرسة كلها -على كبرها وعلى أنها المدرسة الأولى في دمشق- إلاّ نساء: مدرّسات وطالبات، ولم يكن فيها من الرجال إلاّ البوّاب على الباب والأستاذ أنور الذي حللت محلّه وشيخنا الشيخ محمد بهجة البيطار، وهو والدنا وأستاذنا وقد ارتفع بدينه وسنّه وسيرته فوق الشبهات.
ووجدت الطالبات يغطين رؤوسهن في درسي ودرس الشيخ
(1) في قوله: «كاد المعلم أن يكون رسولا» ، والفصيح أن تُحذف أن.
بالخمار (الإيشارب)، وإن كان منه ما لا يستر إلاّ ربع الرأس. وما كنت أختلط بالمدرّسات بل أعتزلهن أنا والشيخ، إلاّ مرات قليلة لم يكن لنا فيها بُدّ من الاجتماع بهن. وما خرجت في هذه الاجتماعات وفي دروسي مع الطالبات عن موضوع البحث أو الدرس إلاّ مرة واحدة، كنا فيها في اجتماع المدرّسات فسمعت إحداهن تشكو صاخبة غاضبة أن الآذنات (الفرّاشات) لا يهيّئن الشاي مع أن السكر موفور والماء موجود والمدفأة موقَدة، فأحببت أن أرطّب الجو بنكتة فقلت لها: إنه لا ينقصك إلاّ إبريق الشاي، فاشربي كأساً من الماء البارد وخذي ملعقة من السكر وملعقة من الشاي واقعدي على المدفأة، فيكون الشاي المطلوب في معدتك.
واستمرّت الحال لا أُنكِر منها شيئاً، حتى سمعت يوماً وأنا أُلقي درسي أصواتاً التفتُّ بلا شعور إلى مصدرها، فإذا أربعون من الطالبات في درس الرياضة وهُنّ يلبسن فيه ما لا يكاد يستر من نصفهن الأدنى إلاّ أيسره، وكُنّ في وضع لا أحب ولا أستجيز أن أصفه فهو أفظع من أن يوصف. فذهبت بعد الدرس إلى شيخنا الشيخ بهجة وخبّرته، فقرّرنا أن نترك التدريس، وكان قد بقي إلى الامتحان ونهاية العام نحو عشرة أيام.
وقد نبغ من الطالبات اللواتي كنتُ أدرّسهن نابغات، منهن وزيرةٌ الآن في سوريا كانت مضرب المثل في حجابها وفي دينها وكانت من العوامل على تعويد بناتي على الحجاب، وقد أثنيت عليها في مقالة لي في أواخر عهد «الرسالة» بالصدور، ثم زاغت فأزاغ الله قلبها. ولست أدعو عليها وإنما أدعو لها بأن يردّها الله إلى
دينها وإلى حجابها وإلى استعمال ما آتاها الله من المواهب ومن البيان ومن طلاقة اللسان فيما كانت فيه أول أمرها من الدعوة إلى الله، وأن ترجع إلى نهج أبيها وأخيها وأختها الفاضلة التي ثبتت على دينها وحجابها، وأن لا تُؤْثر الدنيا الزائلة على الآخرة الباقية.
وما دام في القلب جذوة بالإيمان فإن الله قادر على أن يُحييه في قلبها، ومن الواجب على المسلمين إذا رأوا انحرافاً من واحد منهم أو واحدة أن يَدْعوا الله لها بالهداية، والله لا يهدي إلاّ من يريد الهداية، وقلوب العباد بين إصبعين من أصابع الرحمن والله يحول بين المرء وقلبه، فادعوا لها بأن يحوّل الله قلبها إلى ما يرضيه عنها وما ينفعها في آخرتها لا بما يمتعها هذه المتعة القصيرة في دنياها.
* * *
فلما جئت مكة أدرّس فيها لم يكن في المملكة إلاّ مدرسة واحدة للبنات (فيما أعلم أنا) هي «المدرسة النَّصيفية» التي أنشأها الرجل العظيم الشيخ محمد نَصيف رحمة الله عليه، فكان رائداً في فتح مدارس البنات، أما الرائد الأول الذي كان أباً للتعليم حقاً في هذه المملكة وكان نادرة بين الرجال قلّما يجود الزمان بمثله، والذي أفضل الله به على أكثر المتعلمين الآن من الشيوخ ومن الكهول، فهو الشيخ محمد علي زَيْنَل، وقد لقيته في كراتشي سنة 1954 لمّا زارها الملك سعود رحمه الله وقدم الشيخ محمد علي للسلام عليه. ثم أقمت أياماً في بومباي مع الشيخ أمجد الزَّهاوي رحمة الله عليه فكنت أزور الشيخ محمد علي كل يوم، وكلما زرته ازدادت منزلته في قلبي رسوخاً ومكانته ارتفاعاً.
لمّا قدمت المملكة سنة 1383 كلّفني الشيخ الأفندي محمد نصيف رحمة الله عليه بأن أعقد ندوة في المدرسة النصيفية أجيب فيها على البنات، فاعتذرت وتنصّلت. قال: ولِمَ؟ هل هذا حرام؟ قلت: التحريم لا بدّ فيه من دليل وأنا ما عندي من دليل، ولا أقول بأن ذلك حرام، بل ربما قلت بأن تعليم البنات أمرَ دينهن واجبٌ على المسلمين، فإن كان المدرّس كبيراً مأموناً وكُنّ متحجبات يكون ذلك مفروضاً لا مرفوضاً، ولكنني أخشى أن أستنّ في المملكة سُنّة يُساء اتّباعها فيكون عليّ وزرها ووزر من عمل بها، لذلك لا أبدأ أنا بها. ولكن إن أُلقيَت محاضرتان تكون محاضرتي الثالثة إن شاء الله، ولا أكون أنا فاتحَ هذا الباب.
فسكت وإن ظهر على وجهه أنه لم يقتنع بما قلت، ثم زرته بعد حين فقال لي: إنها قد ألقيت الآن محاضرتان ونحن نطالبك بوعدك. وكانت الأولى للشيخ عمر الداعوق مؤسّس جماعة «عباد الرّحمن» ، وهو رجل فاضل، إن كان حياً فإنني أدعو له بزيادة التوفيق وإن توفّي فعليه رحمة الله، ونسيت مَن ألقى الثانية، ولعلّه كان أخانا وابن شيخنا الأستاذ محمد المبارك رحمة الله عليه.
وجئت وفاءً بوعدي فوجدت حجاباً كاملاً وجواً إسلامياً شاملاً، ولا عجب في ذلك ومديرةُ المدرسة هي أم الأساتذة النُّجُب العلماء: الدكتور عبد الله نصيف وأخوه الدكتور عبد العزيز وسائر الإخوة الأفاضل. وأخذتُ معي زوجتي وبنتين لي وقد حضرنَ معي من الشام، وكان اجتماعاً موفَّقاً والحمد لله.
* * *
ولمّا كثرت الطالبات في كلية التربية في مكة، ولم يكن هذا الرائي (التلفزيون) الداخلي الذي تُلقى منه اليوم الدروس على البنات فيسمعنَها ويرين المدرس ولا يراهن، كُلّفتُ بتدريس الطالبات في مسكنهن في الحفائر، وكانت المشرفة عليهن يومئذ الأستاذة السيدة إصلاح. فوجدت الطالبات مستعدّات، وكُنّ بالحجاب السابغ ومنهن من يُبدين الوجوه فقط، فألقيت عليهنّ الدرس كما ألقيه على الطلاب، أشرح لهنّ كما أشرح لهم وأجيب على أسئلتهنّ كما أجيب على أسئلتهم.
ومرّ العام بسلام، فلما كانت السنة التي بعدها كثر الكاشفات عن الوجوه، ثم أخذ بعضهن يرتفعن بالخمار قليلاً حتى يكشف عن بعض الشعر، فقلت: لا؛ إني في السنّ كالجدّ لأكبركن ولكني لا أعدو أن أكون رجلاً أجنبياً، وإن جاز كشف الوجه من غير فتنة بالمرأة ولا فتنة عليها ولا خلوة للأجنبي بها، فلا يجوز تجاوزه إلى الشعر ولا إلى العنق ولا تجاوز الكفّين إلى الذراع، والستر مع ذلك كله أولى وأفضل.
ولقد عرفت نساء بلدي وأنا صغير بالملاءة، حتى النصرانيات واليهوديات في الشام لا يخرجهن بغيرها، وكل ما يصنعن أنهن يسفرن عن وجوههن فتُعرف بذلك النصرانية من المسلمة. فما زلنَ بالملاءة حتى جعلنها قسمين، ثم استبدلنَ بالقسم الأعلى خماراً ساتراً حول الرأس ويغطّي المنكبين، ثم صغّرنَ الخمار وجعلنَ ينقصنَ من أطرافه وحواشيه، ويقصّرنَ الإزار ويضيّقنَه، وكذلك جعل الثوب يقصر إصبعاً إصبعاً والرأس ينكشف شعرة شعرة، حتى انكشف الشعر كله والعنق وأعلى الصدر والساعد
والساق! ثم قلّدنا اليهود فجعلنا للبنات درساً سمّيناه «درس الفُتُوّة» لتدريبهن -كما زعموا- على الجندية، كأن الشباب لا يملؤون المقاهي والملاهي ولا يتسكعون في الطرقات، وكأنه لم يبقَ للدفاع عن البلاد إلاّ البنات! ثم عمدنا إلى تعميم السفور والحسور حتى جعلنا للبنات مسابقات في السباحة أمام الرجال باسم الرياضة. ولم يبق إلاّ أن نجعل للبنات كلية عسكرية!
فباسم الرياضة تارة وباسم الفن تارة وباسم الدفاع المدني تارة، وأسماء أخرى ما أنزل الله بها من سلطان استبحنا ما حرّم الله. وعمّمنا الاختلاط في المدارس والجامعات، بدأنا بذلك من رياض الأطفال وقلنا: صغار ما لهم عورة ولا يعرفون المعاني الجنسية. ونسينا أن الصغير يكبر وأن ما غُرس في ذاكرته يبقى فيها. نقلد في ذلك غير المسلمين.
ولقد قرأت في جرائد اليوم، الجمعة العاشر من رمضان، أن الإنكليز وغيرهم من الأمم التي ندعوها أمم الحضارة بدأت تعدل عن سنّة إبليس في خلط البنين في المدارس بالبنات وتعود على الفطرة التي فطر الله البشر عليها، فتجعل للذكور مدارس ما فيها إناث ومدارس للإناث ما فيها ذكور. وقد سبقَت إلى ذلك روسيا أم الشيوعية وبنت الصهيونية، ونحن لا نزال سائرين في غيّنا. بل لقد بلغ منا التقليد أن أقمنا مدرّسين شُبّاناً يدرّسون البنات البالغات ومدرّسات شابات للطلاب البالغين، ممّا حمى الله هذه المملكة منه ومن أمثاله، وأسأله أن يُديم حمايتها منه وإبعادها عنه.
* * *