الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
-228 -
وقفة على المخيَّمات
كان عليّ أن أُكمِل ما شرعت فيه من قصة قدومي للمملكة وبقائي فيها، ولكن عرض لي ما استوقفني، فقفوا قليلاً معي. إنها الكلمة التي قرأتها أمس للأستاذ محمد معروف الشيباني يقول فيها: ما أظن أيام الحَجّاج بن يوسف التي عاث فيها ضرباً وتنكيلاً وقتلاً للمسلمين وعلمائهم بأشدّ وطأة من هذه الأيام التي يتعرّض فيها مسلمون عُزْل فيهم نساء وأطفال للموت جوعاً، لأن حَجّاج هذا الزمان وشرذمته قرّروا حصارهم ومنع الماء والغذاء والدواء عنهم. وإذا كان الحصار الآن قد تعدّى المئة يوم حتى أكل سكّان المخيَّمات لحوم القطط والكلاب والفئران، وسقطت نساؤهم برصاص القنص وهنّ يحاولن الاقتراب من ترعة ماء قذر ليروين ظمأهن بعد أن نضب الماء، بينما المحاصرون يسكبونه زلالاً في كؤوس الخمر التي تُدير رؤوسَهم نشوة واحتفاء بهذا النصر المؤزّر
…
(إلى أن قال): نودّ أن نسمع من علماء المسلمين الأفاضل تقييمهم لِما حدث ويحدث
…
إلى آخر الكلمة.
* * *
لا تظلم الحَجّاج ياأستاذ وتضعْه مع هؤلاء في نسق واحد، وتجعَلْه قريناً لهم محسوباً معهم؛ فالحَجّاج عصى وخالف وقتل على الظن وسَفَك الدماء، ولكنه ما عاث في الأرض فساداً، بل حاول أن يُصلِح ما كان فيها من فساد فأخطأ الطريق وأساء الوسيلة. لقد قضى على الفتن ونشر الأمن، وكان فيه نبل العربي وكان في قلبه -بعد ذلك- بقية من إيمان وأثارة من إنسانية، وكان ربما ذُكّر فذكر وعاد إلى الحقّ وعدل. ولست أدافع عن الحَجّاج، ولقد بسطت رأيي فيه في ثلاث قصص كنت نشرتها في «الرسالة» و «الرواية» من خمسين سنة كاملة ثم أودعتها كتابي «قصص من التاريخ» (1)، وأتمنى الآن أن يأتي مثله ليُقِرّ الأمن في لبنان.
أمّا حُكم الإسلام في هذا الذي وقع ويقع في المخيمات في لبنان فلا والله، لا الإسلام دين الحقّ يجوّزه ولا النصرانية ولا اليهودية، ولا تُقِرّه أعراف اللصوص وقُطّاع الطرق، ولا طبائع الذئاب في الغاب والحيّات والعقارب في الجحر والسرداب
…
كل أولئك يُنكِرونه ويأبونه ويصرخون -لو كان لهم لسان- بالبراءة منه، ولو نُسب إلى واحد منهم فعله لعُدّت نسبته إليه إهانة له.
لا إله إلاّ الله، إنه على كل شيء قدير، يخلق على هيئة الإنسان مَن ليس فيه شيء من الإنسانية! وإلاّ فكيف يتلذّذ هؤلاء
(1) انظر في الكتاب قصة «هجرة معلم» ، وقد بسط فيها علي الطنطاوي في نحو ثلاثين صفحة قصة الحَجّاج كما استوحاها من سطر واحد وجده في كتب التاريخ (كما جاء في حاشية في ختام القصة). وانظر قصتَي «ليلة الوداع» و «يوم اللقاء» أيضاً، فهذه هي القصص الثلاث التي أشار هنا إليها (مجاهد)
برؤية طفل رضيع ما جنى جناية ولا ارتكب إثماً، على صدر أم ما حملت سلاحاً ولا خاضت حرباً، يُمنع الطعام والشراب عنها حتى يجفّ ثديها ويغيض في عروقها دمها، وتموت مرتين قبل الممات: مرّة من جوعها ومرة من تمزُّق قلبها حزناً على ولدها الذي يذوي ويذوب بين يديها؟ أهذا إنسان؟
ماذا كان الإنسان سيفعل لو أبصر على جانب الطريق كلبة هزيلة قد ولدت، فلما جاءت تُرضِع جِراءها من أطْبائها (أي أثدائها) لم تجد فيها لبناً، والمولود ينبح حتى أخفى الجوع صوته، والأم تتلفّت حولها ينطلق لسانها الأعجم من غير كلام، وتُلقي عيناها الحائرتان قصيدة استغاثة يسمعها ويستجيب لها كل من كان في قلبه من الإنسانية أدنى ميراث ومن كان له قلب وفي قلبه من الشعور أيسر نصيب، فجاءها رجل بقليل من الحليب تتقوّى به الأم وتعيش به الوليدة، فأقبل صبي ليس له عقل يُدرِك ولا قلب يعطف فرمى الرجل بحجر أصاب الإناء فكبّ ما كان فيه، ووقف يمنعه أن يدنو منها أو أن يسعفهما لئلاّ تفسد عليه لذّته بمنظر موتهما.
هذا والذي يراه حيوان أعجم. فكيف لا أقطع حديث ذكرياتي وأقف اليوم لأصف مشهداً ما رأيت مثله في عمري الذي طال، ولا قرأت مثله في أخبار الأولين وأساطير الماضين، وما أظن أنه وقع مثله في مغارات اللصوص وقُطّاع الطرق ولا في أوكار المجرمين؟
إنه شيء لا أعرف له في اللغة العربية اسماً يدلّ عليه، فيا ضيعة عمري في دراستها ورواية أشعارها ومعرفة أخبارها وكشف
أسرارها! لقد تبيّن لي اليوم أني جاهل بها لأني لا أجد ألفاظاً تعبر عما في نفسي من الإنكار ومن الاحتقار، ولما لا أعرف كيف أعبّر عنه من المشاعر على ما يصنع أناس يقولون إنهم من البشر مع الأطفال والنساء في المخيمات في لبنان.
لقد كتبتُ من قبل في هذه الذكريات عن الخبيثَين بيغن وشارون، وقلت: ليكونا ملعونَين على كل لسان لعنة مسلسَلة في الذراري ممتدّة في الزمان، متنقلة في أصلاب الرجال وفي أرحام النساء، تتحوّل مرضاً في أجسامهم ما له دواء وقلقاً في نفوسهم ما منه شفاء. فما أقول عمّن يصنع بالأمهات وبالأطفال شراً مما صنع ذانك الشيطانان؟
يرى الطفل يذوب جسده كما تذوب الشمعة، وتغور عيناه من الجوع كما يغور النبع الذي جفّ مَعينه، ويمشي الموت في أعضائه فيموت ألف مرة قبل أن يصل إلى الموتة الأخيرة
…
ماذا أقول عمّن يصنع هذا؟ لو قلت إنه وحش برّيّ لشتمت الوحش وأسأت إليه، لأن الوحش ربما رقّ قلبه ولانت نفسه وأدركه شيء من الشفقة والرأفة، فماذا أقول لمن خلقهم الله على صورة البشر ولكن حرمهم من تلك الرقّة التي ربما داخلت قلوب الوحوش؟
لو قرأنا مثل هذا الذي نرى عن طغاة القرون الأولى، من قبل أربعة آلاف سنة، لَما محَت أربعةُ آلاف سنة هذا الإثم ولَما غفرناه لهم بالتقادم ومرور الزمان.
ماذا أقول؟ أقول كلمة واحدة أبكي فيها على نفسي وأرثي بها قلمي. لقد كان لي قلم ربما رقّ حتى إنني لو وضعته على لهب
النار لأطفأها، وربما اشتدّ وحمي حتى لو رميت به أمواج البحار لأشعلها فجعلها ألسنة النار، ولو شئت لاستدررت به الدمع من عيون الجلاميد، ولو واجهت به أسلحة الظالمين لوقف وحده في وجوه الظالمين. فما لي اليوم قد شِختُ وشِبتُ وعجزت حتى صرت أرى هذا كله فلا أصنع شيئاً؟
أصخرة أنا؟ ما لي لا تحرّكني هذه الفواجع؟ أم أنه أدركني ما أدرك قومي من السبات فصرنا نُمسي ونصبح نائمين لا نسمع ولا نرى ولا يهزّنا مشهد ربما هزّ رواسي الجبال؟
لو أن مجرماً عدا على طفل رضيع فحرمه لبن أمه وثنّى بالأم فمنعها الطعام الذي جعله الله قواماً لحياتها وحوّله لبناً لولدها، لقامت على هذا المجرم الدنيا وزُلزلت به الأرض وتصايحت من حوله بالإنكار الألسنة والأقلام. فهل يكون الظلم المفرد جريمة والظلم الشامل بطولة؟ هل يكون:
قتل امرئ في غابة جريمة لا تُغتفَر
…
وقتلُ شعب آمن مسألة فيها نظر؟
ولكن أين النظر؟ لو كنا ننظر ونُبصِر لرأينا أن ما يحدث في المخيمات لم يصنع مثلَه نيرون ولا جنكيز ولا الذئاب في الغاب، ولا العقارب والحيّات في الشقوق والجحور! لقد أثبت العلم أن الثعبان لا يلسع إلاّ دفاعاً عن نفسه، وأن الحيّة ربما طلبت الدفء فدخلت في لحاف الإنسان وهو نائم فلا تمسّه إلاّ إذا تحرّك. وكذلك تصنع العقرب، تحسب أنه يريد بها الشرّ بحركته فتدفع بسمّها الشرّ عنها. والذئب لا يؤذي الإنسان ما لم يؤذِه الإنسان.
أفيكون فيمن نعدّهم بشراً مَن ينزل في مرتبته عن الذئب والحيّة والعقرب؟
والناس يتحاربون منذ كانت الحروب، ولكن الفارس المسلَّح لا ينازل إلاّ فارساً مسلَّحاً، ما عهدنا رجلاً شريفاً وبطلاً معروفاً يحارب النساء والأطفال. وربما حاصر الجيشُ قلعةَ عدوّه ليسلّم، ولكن ما عهدنا مقاتلاً شريفاً يحاصر نساء وأطفالاً حتى يموتوا.
أنا أفهم أن يُمنع وصول السلاح إلى الجند المحاصَرين، أما أن يُمنع وصول الطعام إلى الجائعات والجائعين من النساء والأطفال ممن لا يحمل السلاح ولا يخوض المعارك فشيء لا نستطيع أن نفهم له معنى.
إنْ كان الذي يفعل هذا يُعَدّ إنساناً فأنا أخجل بعد اليوم أن أكون من بني الإنسان! أين الإنسانية وأين العدل؟ العدل موجود له وزارة، ولكن وزير العدل له اسم مثل اسم مجوّع النساء وقاتل الأطفال، فهل في الدنيا مفارقة مضحكة ضحكاً يفطر من الألم الأكبادَ ويمزّق القلوب كهذه المفارقات؟ فقولوا لمعالي الوزير: أهذا هو العدل الذي نصّبوك لتكون وزيره ولتُقيمه بين الناس؟ قولوا له: أما لك أطفال؟ أتنام إن كان طفلك يبكي من الجوع؟ ماذا تملك لنفسك لو مدّت أيديها أولئك الأمهات اللواتي جوّعت أطفالهن فدعون الله في سواد الليل أن ينتقم منك، وأن يُريك العقوبة في الدنيا قبل الآخرة، وأن يكتب على أطفالك وعلى نسائك مثل الذي صنعتَه بأطفال المخيمات ونسائها، وأنت ترى ولا تملك دفعاً ولا منعاً؟
قولوا لقائد كتائب «أمل» الشيعية: ألقوا عن وجوهكم قناع الشيعة، فإن أمير المؤمنين علياً ابن عمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وزوجَه سيدتنا فاطمة أم الحسنين لا يرضيان بكم شيعة لهما. أعليٌّ (رضي الله عن علي) قال لكم: جوّعوا المسلمين حتى تضطرّوهم إلى أكل القطط والكلاب والفئران؟ أعليٌّ قال لكم: حاربوهم وسالموا اليهود؟ أعليٌّ قال لكم: دعوهم حتى يهزلوا من الجوع ويصبحوا عظاماً مكسوّة جلوداً، وكلوا أنتم واسمنوا حتى لا تتّسع لكم ثيابكم؟ إن سيدنا عليّاً وآله رضي الله عنه وعن آله) كانوا أتقى لله وأبرّ بالإنسانية، وكانوا أكبر قلوباً وأسمى مقاماً من أن يتخذوا الجناة القساة البغاة شيعة لهم. لا والله ما كان عليٌّ رضي الله عنه ليرضاكم شيعة له.
* * *
تذكُر الحَجّاجَ ياأخا شيبان؟ فهل بلغك أن الحَجّاج صنع مثل هذا؟ أم أن الحَجّاج أراد أن يُطفئ الفتنة وأن يُعيد الاستقرار إلى بلد قد زلزلَته الأحداث والفتن، ولكنه لم يداوِ الداء بما يوافق الشرع بل جار وظلم؟ وأعود فأقول مرة ثانية إني ما أدافع عن الحَجّاج وما أُقِرّ الظلم، وحكم الشرع فوق رأس الحَجّاج ومَن كان وراء الحجّاج يؤيّده ويمدّه بالقوة وبالسلطان، وللشرع ربّ يحميه وعنده العذاب لمن يخالف شرعه أو يُلحِد فيه.
فيا من عطس إبليس في منخره ومشى في عروقه مع دمه فأوهمه أنه يستطيع أن يحارب الله: إن ما تحشدون من جيوش وما تملكون من مدافع ودبابات وطيارات وقنابل ذرّية ونووية، كل ذلك لا يقوى على أصغر مخلوق من مخلوقات الله، مخلوق بلغ
من صغره ومن هوانه ومن ضآلته أنها لا تراه العيون وأنها لا تدركه المجاهر الكهربية (الإلكترونية). هذا هو الإيدز سلّطه عليكم، فها أنتم هؤلاء تضجّون منه وتشكون وترتجفون منه خوفاً وهلعاً، ولاتقدرون له على شيء. ولو وُفِّقتم إلى الوصول إلى ما جعله الله دواء له (والله ما أنزل داء إلاّ أنزل له دواء) ولو أنكم فررتم منه لابتلاكم بما هو أشدّ وأقسى.
فيا أيها الذين يظنّون أنهم يقدرون أن يحاربوا الله وأن يجاهروه بالكفر وبالعصيان: إنكم مساكين، مساكين تستحقّون الشفقة عليكم والسخرية بكم، تحاربون الله وأنتم عاجزون عن حرب أهون مخلوق من مخلوقات الله!
أفلا يخشى هؤلاء الذين يتلذّذون بمشهد الأطفال وهم يموتون من الجوع بين أيدي أمهاتهم ويمنعون الرِّفد عنهم، ألا يخشون الإيدز وما هو شرّ من الإيدز أن يُبتلى به نساؤهم وأطفالهم، وأن يذوبوا أمام أعينهم فلا يملكون شيئاً لهم؟ وهذا كله في الدنيا، أفلا فكّرتم بما هو وراء الدنيا؟ أنسيتم أن في الدنيا موتاً، وأن بعد الموت نشراً وحشراً ووقفة بين يدَي ربّ الأرباب يوم الحساب، ثم بعد ذلك جهنم؟
وما جهنم؟ إن هؤلاء، بل إننا جميعاً في سَكْرة، في غفلة، في نَومة عميقة، فمتى نصحو؟ ومتى نتنبّه؟ ومتى نفيق فنفكّر في جهنم؟ إن نار الدنيا ياأيها الناس نعمة، تدفّئ المَقرور وتُنضِج الطعام ولها المنافع الجسام، ولكن نار الآخرة محض عذاب.
فمن يستطيع أن يحتمل نار الدنيا التي هي نعمة؟ أما عند
هؤلاء في بيوتهم موقد غاز؟ قولوا لهم: ليضعوا فوقه حديدة حتى تحمرّ، ثم لينظروا هل يقدرون أن يرفع أحدهم ثوبه ويقعد عليها دقيقة؟ ربع دقيقة؟ ثانية واحدة؟ فما لهم يعرّضون أنفسهم لنار جهنم؟ إن المجرم يُحكَم عليه بالحبس الاحتياطي ثلاثة أيام فلا يباليها، يقول: وما ثلاثة أيام؟ أقضيها -كما يقول عُتاة المجرمين- على جنب واحد.
فهل تدرون ما ثلاثة الأيام في جهنم؟ هل تعرفون كم هو طولها؟ إن يوماً عند ربك كألف سنة مما تعدّون، فالذي مضى من يوم هاجر سيدنا محمد عبدُ الله ورسوله عليه الصلاة والسلام إلى الآن يوم ونصف يوم فقط. والذي مضى من يوم وُلد سيدنا عيسى عبد الله ورسوله عليه الصلاة والسلام إلى الآن أقل من يومين! فهل تدرون ما معنى أن يُحكم على العاصي بشهر واحد في جنهم؟ معناه أنه يمضي ثلاثين ألف سنة. فكيف بمن يُقضى عليه بالبقاء فيها سنين من سنوات الآخرة؟ فكيف بالكافر الذي يُحبس فيها حبساً مؤبداً، أي بمَن يخلد فيها؟
فويل للقاسية قلوبهم الذين لا يفكّرون إلاّ في حاضرهم، الذين يخلدون إلى الأرض فلا يرفعون رؤوسهم إلى السماء، الذين يغترّون بما نالوا من قوة ومن مال ومن سلطان ومن جند وأعوان! أيظنون أنهم باقون في هذه الدنيا أبداً؟ هل خلد من قبلهم أحد فيها حتى يخلدوا؟ ألم يَمُت من هو أقوى منهم وأغنى وأكبر سلطاناً وأكثر جنداً وأعواناً؟ ياأسفي! إن مِن أضيَع الكلام في هذه الأيام كلام الواعظين. ياأسفي على المسلمين! إنهم كثير ولكنهم غثاء كغثاء السيل، إنهم قريب من ألف مليون ولكنهم متفرقون
منقسمون متناحرون متباغضون. رفع الاستعمار يده المباشرة عنهم ولكنه ترك فيهم بيوضَه فخرجت منها فراخ كانت شراً منه، فصنعت بنا ما لم يصنعه المستعمرون.
* * *
يا أيها القراء، أنا ما لي في هذه المعارك ناقة ولا جمل وما لي فيها نعجة ولا دجاجة، وما لي في جماعة «أمل» عدوّ أريد أن أنتصف منه ولا لي في أهل المخيمات صديق أحب أن أنتصر له؛ إن أريد إلاّ الإصلاح ما استطعت، وأن لا تنطبق على المسلمين الأوصافُ التي وصف الله بها الكافرين حين قال:{بأسُهُمْ بينَهُمْ شَديدٌ} ، وأن يتّصف المسلمون بما وصفهم به الله حين قال إنهم:{أشدّاءُ على الكُفّار رُحَماءُ بينَهُمْ} ، وأن لا نسمع عن بلد إسلاميّ أن أهل الرأي فيه يتجادلون في شرع الله: هل يطبّقونه أم يأخذون شرائع الكافرين بدلاً منه؟ وإن منهم مَن يخالف إخوانه من المسلمين ويحالف أعداءه من الكافرين!
أنا رجل متقاعد خرجتُ من الميدان من زمان، بل إنني سأخرج من هذه الحياة عما قريب، لا أعلم متى فالآجال بيد الله، ولكنني لا أطمع أن أعيش مثل الذي عشته، ولا نصفه، ولا ربعه. ولو أردت الراحة لجفّفت قلمي وطويت أوراقي وأرحت الناس مني، ولكن الله أوجب على مَن علم الحقّ أن يبيّنه للناس، والحقُّ أننا جرّبنا استعمال كل دواء فما شفى، وسلكنا كل طريق فما أوصل. الدواء الشافي والطريق الموصل هو الإسلام وحده، على أن يكون رجوعنا إليه بالمحبّة وبالتعاون لا بالنزاع والخصام، وأن نضع جميعاً، حُكّاماً
ومحكومين، خوفَ الله وتصوُّر موقف يوم الحساب أمام أعيننا، وأن نعمل على ما يُنجينا في غدنا يوم العرض على ربنا.
إن فعلنا فلن يحكم حاكمٌ منا بغير ما شرع الله، ولن يؤثِر أحدٌ من علمائنا رضا الناس على رضا الله، ولن يَشغلوا الناس بالمعارك الفرعية عن المعركة الكبرى، معركة الكفر والإيمان. وليعلم الناس جميعاً -في لبنان وفي غير لبنان- أن هذه الحال لايمكن أن تدوم:
لا يصلُحُ الناسُ فَوضى لا سُراةَ لَهُمْ
…
ولا سُراةَ إذا جُهّالُهم سادوا
وليعلموا أن أدنى العذاب في الدنيا عذاب الضمير، وربما تنبّه الضمير الغارق في سباته. هذا بيغن لم يعُد يستطيع أن يلقى الناس، فقبر نفسه في بيته قبل أن يُقبر وتوارى عن الأنظار. ولكن كيف يتوارى من الله؟ لمّا كان حكم صدقي باشا في مصر (والذي شكوناه منه لا يعدل نقطة من كأس مما وجدناه بعده) قال فيه حافظ إبراهيم مقطوعة لم يجرؤ على نشرها، ولكن تناقل الناس أبياتاً منها، ومنها:
لاهُمَّ (1) أَحيِ ضميرَهُ ليذوقَها
…
غُصَصاً وتَقتُلَ نَفْسَهُ الآلامُ
فأول العقاب في الدنيا عذاب الضمير إذا تيقّظ. إذن فليحاول هؤلاء إصلاح ما أمكن إصلاحه مما أفسدوه، وهيهات أن يقدروا! هل يردّون الروح على من مات؟ هل يأملون أن
(1) أي «اللهمّ» ؛ دعاء إلى الله (مجاهد).
يفقد الناس كلهم ذاكرتهم فينسوا ما كان؟ إن هذا الذي نرى في المخيمات سيُقرأ تاريخه في المدارس بعد ألف سنة، فيصبّ المدرّس والتلاميذ اللعنات على أجداث مرتكبيه ولو فنيَت عظامهم واستحالت تراباً.
* * *
أنا أكتب هذه الكلمة يوم الجمعة 22/ 6/1407هـ، ولعلها لا تُنشر حتى تكون هذه الغمة قد انكشفت وقد عاد هؤلاء إلى إنسانيتهم وإلى دينهم فرفعوا الأذى عن أهل المخيمات، ولعلّ الله يُلهِمهم أن يتوبوا التوبة الصادقة النصوح، ومن شروطها أن تؤدّي الحقّ الذي أضعتَه بظلمك أو أن تعوّض صاحبه عنه حتى يسامحك به، وأن تقوّم سَيرك وتعدّل وجهتك فلا تعود إلى مثله. فهل نعيش حتى نرى المسلمين قد عادوا إخوة متصافين؟
* * *