المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ذكريات العطلة الصيفية في دمشق (1) - ذكريات - علي الطنطاوي - جـ ٨

[علي الطنطاوي]

فهرس الكتاب

- ‌الجزء الثامن

- ‌وداع المحكمة الشرعية

- ‌في محكمة النقض في القاهرة

- ‌أشتات من الذكريات

- ‌زياراتي القديمة لمكة

- ‌حجة 1381: خواطر وأفكار

- ‌أبو الحسن النَّدْوي ومذكّراته (1)

- ‌أبو الحسن النَّدْوي (2)

- ‌أبو الحسن الندوي (3)

- ‌في مطلع العام 1987

- ‌مؤتمر القمة الإسلامي

- ‌الفقيدان الوزير والمدير،ومن قبلهما فقدنا الأمير

- ‌تعليق على الحلقة السابقة: لبّيكَ اللهمّ لبّيكَ

- ‌كيف جئتُ المملكة

- ‌وقفة على المخيَّمات

- ‌منزلي في الرياض

- ‌لمّا كنت أستاذاً في الكلّيات والمعاهد

- ‌تفسير بعض الآيات

- ‌من المستشفى المركزي في الرياضإلى مستشفى المواساة في دمشق

- ‌في مكة سنة 1384ه

- ‌في كلية التربية في مكة

- ‌يوم الجلاء عن سوريا

- ‌لمّا علّمتُ البنات

- ‌خواطر ومشاهدات عن تعليم البنات

- ‌لغتكم يا أيها العرب (1)

- ‌لغتكم يا أيها العرب (2)

- ‌ذكريات العطلة الصيفية في دمشق (1)

- ‌ذكريات العطلة الصيفية في دمشق (2)

- ‌هذه الحلقة من الذكريات مسروقة

- ‌عندكم نابغون فتّشوا عنهم بين الطلاب

- ‌عزمتُ أن أطوي أوراقيوآوي إلى عزلة فكرية

- ‌رسائل الإصلاح وسيف الإسلامانتقدت الشيوخ الجامدينوالشبان الجاحدين

- ‌الخاتمة

الفصل: ‌ذكريات العطلة الصيفية في دمشق (1)

-240 -

‌ذكريات العطلة الصيفية في دمشق (1)

بيان واعتذار: كان النقد عند الطبقة التي قبلنا من الأدباء مثل المصارعة الحرة؛ لَيّاً للأيدي وخلعاً للأكتاف وكسراً للأصابع، نطحاً وبطحاً ورفساً وعضاً ورفعاً وخفضاً، وكل ما تصنع الوحوش المتقاتلة في الغاب وما لا تصنعه الوحوش، حتى إن الواحد ليرفع الآخر في الهواء ويداه ممدوتان ثم يُلقي به على الأرض فيختلط طوله بالعرض! وكنتُ -ولا فخر- من أقدر أصحابي ومَن هم في طبقتي في هذا، وكنت أشَدّهم على الخصم وأكثرَهم احتمالاً من الخصم، على أنني ما كنت أضرب وأهرب، بل أقف مُقيم الصلب مبدياً صفحة الصدر قد شددت عضلاتي، أدعوه ليضربني خمساً أو ستاً فلا أتزلزل ولا أتزعزع، وأضربه ضربة واحدة فيخرّ منها للوجه ولليدين.

ثم قُلبت صفحة وفُتحت صفحة جديدة، أرادوا (وإن لم يحقّقوا ما أرادوا) أن يكون النقد -كما قالوا- موضوعياً ناعماً، ليس فيه لكم ولا لطم ولا رفس ولا دعس، ولكنه شيء كالعناق والتقبيل ومسّ بالأيدي الناعمة وتربيت على الأكتاف الليّنة، أو أن يغمض الناقد عينيه (إن لم يكن ذا خبرة بهذا الفنّ) ويلوح بذراعيه

ص: 333

ويضرب بلا قصد، لا يبالي أين تقع يده، كأنه لا يفكّر برأسه الذي بين كتفيه بل بإبهاميه اللذين في قدمَيه، فيخرج من المعركة محطَّماً سواء في ذلك أكانت المعركة له أو كانت عليه.

وقد تركت من قديم خوض المعارك وابتعدت عنها وألزمني الكِبَر ابتغاء السلامة منها، ولكن غاظني من بعض المجلات أن فيها صفحة للأدب ولكن ليس فيها أدب، ما فيها إلاّ كلام مصفوف بلا نظام مرصوف بلا إحكام، ألفاظ لها مثل صوت الطبل وهي فارغة فراغ الطبل. يُعلِنون عن القصيدة الجديدة للشاعر الكبير، فتأخذ أنت المجلة فلا ترى قصيداً ولا رجزاً ولا موشَّحاً ولا شيئاً مما يُقال له شعر، ولا ترى شاعراً كبيراً ولا صغيراً ولا وسطاً بين الكبير والصغير، ما ترى إلاّ صافّاً كلاماً لا تفهم منه شيئاً لأن كاتبه ما عنده شيء يريد أن تفهمه منه.

يقولون إنه «الغموض» وإن من مزايا الشعر الحديث هذا الغموض. لقد عرّفه شاعر فرنسي عبقري مشهور عُرف به هو بول فاليري، الذي ألقى عنه محاضرة سبق أن أشرتُ إليها وبيّنت رأيه فيها، وهو صاحب القصيدة التي اشتهرت في الأدب الفرنسي الحديث، «المقبرة البحرية» ، فكانت قطعة أدبية رائعة ولكنها غامضة، فكان كل ناقد يفسّرها تفسيراً جديداً، حتى إن أستاذاً جامعياً يهودياً اسمه كوهين ألقى محاضرة في شرحها حضرها الشاعر نفسه، فلما انتهى منها قال له: شكراً، لقد أفهمتَني شعري! فما عرف الناس أيشكره حقيقة أم يسخر منه.

ولقد عرف العرب نوعاً من الغموض، ولكنه غموض

ص: 334

يفتح آفاق الفكر وأبواب الخيال وينبّه أذهان السامعين، كقول الشاعر:

لو كُنتُ أعلَمُ أنّ آخِرَ عهدِكُمْ

يَومُ الفِراقِ فعَلتُ ما لم أفعَلِ

فذهب النقاد يبحثون عن هذا الذي يمكن أن يفعله. وكقول شوقي:

إنْ رأَتني تميلُ عنّي كأن لم

تَكُ بيني وبينَها أشياءُ

فذهبوا المذاهب في بيان هذه الأشياء، وأمثال هذا كثير في الشعر.

لقد نسيت أنه قد مضى عهد النقد الذي عرفناه وترك الناس (وتركتُ معهم) أسلوبَ الشيخين الرافعي والعقاد وأمثالهما، وأنها قد رقّت الأجساد واسترخت العضلات وأرهفت المشاعر، ولم يعُد الأديب أو الشاعر (ولو كان من أهل الحدَث الأكبر الذي يوجِب الغُسل، أعني «الحداثة» في الشعر) لم يعُد ذلك المصارع الذي يكيل للخصم الضربات ويحتمل منه الضربات، بل صار كالأغيَد الناعم:

خَطَراتُ النّسيمِ تجرَحُ خدَّيـ

ـهِ ولَمسُ الحريرِ يُدمي بنانَهْ

قلت هذا الكلام لأبيّن ما كان في الحلقة السابقة ولأعتذر مما وقع فيها من الخلل، ذلك أني كتبت في نقد هذا المذهب الجديد في الشعر وفي الأدب على طريقة الرافعي والعقاد التي كنا نكتب بها، ونسيت أن الزمان قد جاوزها وأن النفوس لم تعُد تحتملها. فلما نبّهوني في الجريدة إليها فوّضتهم أن يعدّلوها،

ص: 335

فكان من هذا التفويض وهذا التعديل ما وقع من الاضطراب في الحلقة السابقة (1).

هذا، وأرجو أن لا ترقّ النفوس حتى عن احتمال هذا الاعتذار فيحذفوه، فإن لم يفعلوا وقرأتموه منشوراً فاحمدوا الله.

* * *

جاءتني رسالة من طالب يستأذنني أولاً أن أسمح له أن يدعوني «جَدّه» ، لأنني أشبهه كما قال ولأنه يحبّني كما كان يحبّه، ولأن جدّه مات قريباً في الحادية والثمانين، وأنه يراني مثله. فإذا اكتمل هذا الشبه بيننا حتى في العمر فقد بقيَت لي ستة أشهر لألحق به.

يقول لي: ألا تخبرنا ياجدّي عن العطلة الصيفية على أيامكم ماذا كنتم تصنعون فيها؟ كيف كنتم تقضونها؟ هل تقصدون المصايف هرباً من الحرّ أو تسافرون في البلاد؟ إلى آخر ما قال، هذه أفكاره كتبتها بأسلوبي أنا. أمّا الجواب فأقول:

يا حسرة على مَن دعوتَه جدّك، ياحسرة عليّ، ما عرفتُ العطلة الصيفية قط. لقد كنت في مدارس تعمل دائماً، تصل الصيفَ بالشتاء والشتاءَ بالصيف، وتكاد تُلحِق الليل بالنهار، لا تستريح ولا تُريح. ولذلك قصة لا بدّ من بيانها، ولو أفضتُ في هذا البيان فإنه تاريخ لم يعُد يعرفه إلاّ القليل.

(1) لم يعد هذا الاضطراب ظاهراً، فقد أصلحته ما استطعت (مجاهد).

ص: 336

كانت مدارسنا في دمشق في تلك الأيام أصنافاً ثلاثة: مدارس حكومية كنا ندعوها المدارس الأميرية (1)، وهي قليلة ما كان عندنا منها إلاّ أربع ابتدائيات للبنين وقريب منها للبنات، وثانوية واحدة معها دار للمعلّمين، وثانوية للبنات معها دار للمعلّمات، ومدارس أوّلية قليلة نمرّ منها إلى الابتدائية.

كانت في دمشق -لمّا دخلت أنا المدرسةَ قُبَيل الحرب الأولى، حرب 1914 (أي نحو سنة 1332هـ) - أربع ابتدائيات للبنين هي:«مدرسة الملك الظاهر» ؛ ما سُمّيَت باسمه إحياء له أو تبرُّكاً به كما تُسمّى المدارس الآن، بل لأنها افتُتحت في مدرسته التي فيها قبره عالياً مزخرَفاً تحت قبّة رفيعة جميلة، تُعَدّ تحفة في الآثار ولكنها ليست إلاّ مخالفة وبدعة في الدين. وبابُها العظيم (بقوسه الشامخ جداً ومُقَرْنَصاته الرائعة) يقابل بابَ المدرسة العادلية الذي يماثله في روعته وفنه، ووراءه المجمع العلمي (الذي صار يُدعى الآن مجمع اللغة العربية، وهو أكبر المجامع سناً وأقدمها قِدَماً، أنشأه الأستاذ محمد كرد علي سنة 1919).

و «مدرسة المهاجرين» . وحيّ «المهاجرين» أقامه ناظم باشا الوالي المصلح على سفح جبل قاسيون للمهاجرين من جزيرة كريت (إقريطش) لمّا سقطت بيد اليونان، وبنى لهم فيه بيوتاً

(1) الصنف الأول هو «المدارس الأميرية» الآتي ذكرها، ولم تكن كثيرة، والثاني «المدارس النصرانية» وهي قليلة أيضاً، والثالث «المدارس الأهلية» ، وهي كثيرة تضم جلّ أبناء البلد كما سيأتي بعد بعض الاستطراد (مجاهد).

ص: 337

صغيرة متشابهة ذات سقف مائل (وبقيَت كذلك مدة طويلة) وجعلها نمطاً واحداً صفوفاً وراء صفوف، بينها طرق صاعدة إلى الجبل وجادّات معترضة أدناها، أوسعها الجادة الأولى التي يسير فيها خطّ الترام من تلك الأيام، وتأتي بعدها الجادة الثانية، ثم تصاعدت الجادّات وتعاقبت حتى بلغت (أو كادت) ذروة الجبل. وبنى في آخرها (1) قصراً كبيراً على هيئة دار المعلّمين التي أقامها على كتف بردى، بناهما على هيئة الحصون الصغيرة في أوربا في القرون الوسطى. ثم أقام مصطفى باشا العابد إلى جنبه قصراً آخر، وصار قصر ناظم باشا فيما بعد دار رياسة الجمهورية، حتى كان الرئيس شكري بك فتشاءمت منه أمه فبادل العابد، وصار قصر العابد هو قصر الرياسة الآن.

و «مدرسة البحصة» . وهي قائمة في النصف الذي سرقوه من صحن جامع يَلْبُغا، حتى إن البِركة الكبيرة قسموها بين المدرسة والجامع، وأقاموا بينهما حاجزاً. ولقد ذكرت الآن وأنا أُملي هذا المقال أني كتبت هذا من قبل (2)، فإن كنتُ فعلت فسامحوني، فإن الشيوخ يكرّرون الأحاديث، ويسمعهم الناس ويستحيون منهم فلا يخبرونهم. ولقد صرت شيخاً كبيراً، وهل أجرؤ أن أُنكِر هذا وقد جاوزت الثمانين؟ فإن رأيتموني أُعيد حديثاً سبق أن حدّثت به في هذه الذكريات أو في الرائي أو في أحاديثي في الإذاعة

(1) آخر البيوت لا آخر الجادّات (مجاهد).

(2)

في الحلقة السادسة، وكانت هذه المدرسة تسمى «السلطانية الثانية» . وأكثر مادة هذه الحلقة سبق فيما مضى من هذه الذكريات (مجاهد).

ص: 338

فنبّهوني يكن ذلك التنبيه فضلاً منكم، واذكروا أن «العصا قُرِعت لذي الحِلْم» . وأنتم تعرفون هذا المثل وقصته (1)، فإن لم تكونوا تعرفونه فاشتروا كتاب «مجمع الأمثال» للميداني واقرؤوا فيه شرح المثل، ولكن دعوا قصته فإن أكثر قصص الأمثال مصنوعة مركَّبة وُضعَت في الزمن الأخير.

والمدرسة الابتدائية الرابعة هي «مدرسة الميدان» (الذي كان يُدعى قديماً «ميدان الحصى»، وفيه الآن الحيّ الجنوبي من دمشق)، وكان يدرّس فيها الشيخ بهجة البيطار والشيخ زين العابدين التونسي والشيخ رفيق السباعي والأستاذ جميل سلطان.

وكانت هذه المدارس الأميرية قليلة، وكان إلى جانبها مدارس نصرانية قليلة أيضاً، وكان أكثر المدارس أهلية تضم جلّ أبناء البلد، ومنها ثانويات كبيرة أكبرها المدرسة التي دعوها «اتحاد وترقّي مكتبي إعدادي سي» (ومعناها في العربية:«مدرسة الاتحاد والترقي الإعدادية» ، ولكن اللغة التركية التي كانت اللغة الرسمية في الشام تقدّم المضاف إليه على المضاف وتربطهما بلفظ سي) فترك الناس هذا الاسم الطويل ودعوها «المدرسة التجارية» ، وكان يموّلها ويُنفِق عليها جماعة من أفاضل التجار، وكانت ثانوية وإعدادية وابتدائية، وكان لكل قسم من هذه الأقسام مدير والمدير

(1) زعموا أن ذا الحِلْم هذا هو عامر بن الظّرب العدواني، وكان من حكماء العرب في الجاهلية، فلما طعن في السن أنكر من عقله شيئاً فقال لبنيه: إنه قد كبرت سنّي وعرض لي سهو، فإذا رأيتموني خرجت من كلامي وأخذت في غيره فاقرعوا لي المِجَنّ بالعصا (مجاهد).

ص: 339

العامّ لها كلها هو أبي الشيخ مصطفى الطنطاوي. وقد كانت هي والمدرسة الكاملية التي أنشأها الرجل الكبير الذي كان له في التعليم وكان له في السياسة أبرز مقام، هنا في المملكة وفي الشام، كانت المدرسة الكاملية والمدرسة التجارية أكبرَ الثانويات في البلد، تَخرّج فيهما كثير من الأطباء الأولين كالدكتور حمدي الخياط شيخ الأطباء والدكتور محمد سالم والدكتور طاهر الطنطاوي والدكتور سهيل الخياط (وقد ذهبوا جميعاً إلى رحمة الله)، وتخرّج فيها كبار الموظفين كالأستاذ فؤاد المحاسني.

وكانت المدرسة التجارية من أوائل المدارس التي عُنيَت بالرياضة وأقامت لها ملعباً فنياً فيه من الأدوات ما كان جديداً في تلك الأيام، كما أن المدرسة الكاملية كانت من أوائل من اعتنى بالتمثيل، وكان الذي يؤلّف الرواية ويُعِدّها (ويجهل أكثر الناس أنه من رواد التمثيل) هو الدكتور أسعد الحكيم رحمه الله. كما جاء بعده بعشر سنين رائد آخر كان يتفجّر يومئذ نشاطاً وعملاً وإنتاجاً، يؤلّف الرواية ويعلّم التلاميذ تمثيلها ويدرّبهم على إلقاء حوارها، وهو الذي ابتدع فنّ الإلقاء، فكان يضع للقصيدة الشعرية مثل النوتة الموسيقية التي يضعها الملحّن للأغنية، هنا يُشَدّ الصوت وهنا يُرخى وهنا يعلو وهنا ينخفض وهنا يُمَطّ وهنا يُقطَع

وأنا أستحي أن أذكر اسمه لأنه يشبه اسمي! وقد مُثّلت له في المدارس مسرحيات ربما حضر بعضَها قريبٌ من الألف، كما كانوا يحضرون مسرحيات الرائد الأول الدكتور أسعد الحكيم، وكان يُعاد تمثيلها ليالي كثيرة متعاقبة، وكان يعاونه على إخراجها وتلفيق الثياب الصالحة لها ونصب مسرحها رجل عبقري ولكن لا

ص: 340

حظَّ له، كان ضابطاً في الجيش العثماني ثم صار محامياً، وكان أديباً يكتب ويَنْظم ولكن لم يعرفه الناس، عاش فقيراً مغموراً، هو الصديق الأستاذ أحمد حلمي العلاّف رحمه الله ورحم كل من ذكرت.

ومن المدارس الأهلية التي كان لها دور ظاهر في النهضة التعليمية «الكلية العلمية الوطنية» ، وكانت مدرسة ثانوية سُمّيت كلّية يوم لم يحدَّد المعنى الاصطلاحي لكلمة الكلية، أسّسها الشيخ محمد خير (أو أبو الخير الطبّاع)، وكان مديرها على عهدي الدكتور منيف العائدي الأستاذ في كلية الطب التي كانت تُدعى معهد الطب. وكان في الجامعة السورية معهدان (أي كلّيتان) هما معهد الطب ومعهد الحقوق، ولمعهد الطب فرعان: للصيدلة ولطب الأسنان. ثم افتُتحت دار التوليد وبُني لها هذا البناء، فرع للقابلات والمولّدات، فلا يجوز أبداً في شرعة الدين ولا في قانون الأخلاق أن يولّد المرأةَ طبيبٌ أجنبي عنها، لا يجوز له النظر إلى ساعدها ولا إلى ساقها فكيف يكشف -بلا ضرورة ولا داع- عن أخفى مكان فيها؟! والإسلام دين وسط، لا يقول للمرأة ولا لزوجها ولا لأبيها إذا تعسّرَت ولادتها وتعرّضَت للخطر: دعها تموت كيلا يراها الأجنبي! ولا يأذن لها ولا لأبيها ولا لزوجها أن تكشف للطبيب الأجنبي عمّا أمرها الله بستره عنه بلا داعٍ ولا ضرورة، فليتنبّه لذلك النساء وليتنبّه لذلك الأزواج والآباء.

وكان في المدارس المشهورة مدرسة قديمة يقوم عليها مربٍّ قديم، لبث يعلّم أكثر من سبعين سنة، تَعلّم والدي عنده ثم صار معلّماً في مدرسته، وتعلّمت أنا عنده ثم صرت معلماً في

ص: 341

مدرسته، ورأيت في السجلاّت أنه كان من تلاميذه الولد وأبوه وجدّه، ثلاثة بطون تعاقبت على الدراسة في مدرسته والتلقّي عنه! وكان معلّماً قديراً وكان خطّاطاً وكان مربّياً عظيماً، وهو من الذين تركوا في نفسي أعمق الأثر، هو الشيخ عيد السّفَرْجلاني الذي كتبتُ عنه كثيراً وتحدّثت عنه كثيراً ولم أوفِه من حقّه إلاّ قليلاً. لم يكن يجمعنا ليُلقي الموعظة علينا يبدؤها كما تبدأ خطبة الجمعة بالحمد لله والصلاة على النبي ‘، وإن كان ذلك من السنّة لا نكران له ولا اعتراض عليه، ولكنه كان يراعي حالة الطلاب فيُلقي الكلمة علينا حين تجيء مناسبتها، يلقيها جاداً وهازلاً ومبتسماً وعابساً، وقد تأتي معها كلمة تأنيب أو شتيمة تنبّه لا تؤذي. وهي سنّة رسول الله عليه الصلاة والسلام، كما قال لمعاذ:«ثكلَتك أمك» ، أي «عدمتك» ، وما أراد الدعاء عليه، ولو دعا عليه لاستجاب الله دعاءه في الحال. وكما قال:«عليك بذات الدين تَرِبَت يداك» ، أي صرتَ على التراب، كما نقول نحن اليوم:"أفلس فلان حتى صار على الحديدة" وكما تقول العرب: "أرمل القوم" أي صاروا على الرمل، وفي القرآن {يَتيمَاً ذا مَتْرَبة} . وقد وجدتُ بالتجرِبة الطويلة أن هذا الأسلوب في الوعظ هو الذي يبقى وهو الذي يُفيد.

كان القائمون على هذه المدارس شيوخاً صالحين يخافون الله ويحرصون على تنشئة الأولاد على خوف الله، ولكن أسلوبهم في التربية ونظامهم في التعليم أسوأ أسلوب يخطر على البال وأبشع نظام؛ كانوا يراقبون التلميذ في المدرسة، ويبعثون من رفاقه من يراقبه في الطريق فيرفع عنه التقارير السرّية إلى المدير.

ص: 342

يعلّمون الطلاب التجسّس على إخوانهم! وكانت عمدة التربية بالفلق (الفلق الذي يسمّيه العامة الفلقة أو الفلكة)، وكان الآباء يعاونون المعلّمين على هذا فيقولون لمدير المدرسة حين يسلّمونه أولادهم: لك اللحم ولنا العظم!

كان الضرب بالعصا ووضع الأقدام في الفلق هو عماد التربية، ولقد رأيت بعيني مشاهد أخشى إن رويتُها أن لا تصدّقوها، ولعلّي أشرت فيما مضى من هذه الذكريات إلى بعض منها، هي أن مدير مدرسة كان عنده تلميذ جاء أبوه يطلب أن يأخذه معه قبل أن تنتهي الدروس، وكان الأب من قبل تلميذاً عند الشيخ (1)، فأبى أن يسمح له بإخراجه، فجادله الأب، فأمر الشيخ شابّين قويَّين أن يمسكا الأب ويضعا قدميه في الفلق وضربه أمام الولد وأمام التلاميذ! ومما رأيت أن مديراً آخر (2) أراد أن يدرّب الطلاب الكبار في مدرسته على تعليم الأطفال الصغار، ومرّ عليهم يرى تدريسهم فأبصر من أحدهم خطأ فضربه أمام التلاميذ الذين يعلّمهم!

ولقد كان من أثر هذه التربية وأثر الكُتّاب الذي قضيتُ فيه قبلها يوماً واحداً أو بعض يوم أن أورثَتني كرهاً دائماً للمدرسة وبغضاً لا يزول لها من نفسي، حتى إنني لأفرح يوم العطلة كما أفرح إن غاب المدرّس أو شُغل عن الدرس، وبقي ذلك بعدما صرت معلّماً ابتدائياً ثم صرت مدرساً ثانوياً ثم صرت أستاذاً جامعياً. بل إنني لأفرح الآن إذا هتف بي (أي كلّمني بالهاتف)

(1) هو الشيخ شريف الخطيب مدير المدرسة الأمينية، وهو ابن خالتي.

(2)

هو الشيخ محمود العقاد تلميذ أبي وأستاذي.

ص: 343

مخرج برامجي في الرائي أو الإذاعة يُخبِرني أن يوم التسجيل قد أُجِّل أو خُبِّرت أن المحاضرة التي حُدّدت ساعة إلقائها قد أُلغيَت أو أن المقالة التي كُلِّفت بها قد صُرف النظر عنها. صِرتُ أوثر الكسل وأكره العمل وأؤخره إن لم أجد منه مهرباً إلى اللحظات الأخيرة، فلا أكتب المقالة ولا أُعِدّ الحديث ولا أهيّئ المحاضرة إلاّ حين لا يبقى بيني وبين إلقائها إلاّ وقت إعدادها.

وإني لأعجب أن أجد الآن فيما أقرأ من المقالات أو أستمع في الندوات مَن يحنّ إلى عهد الفَلَق ويبكي عليه ويتمنى أن يعوّد أولاده عليه! وأعجب منهم الذين يَدْعون إلى إرجاع الكتاتيب ويُثنون عليها ويحمدون أيامها. ولقد كان في حيّنا في دمشق، حي العُقَيْبة أمام جامع التوبة، مدرسة أثرية هي المدرسة الآجرّية (التي صارت الآن مكتبة عامة) كان فيها كُتّاب أخذني جدي إليه وأنا ابن خمس سنين، وكان الكتّاب مغلق الباب مسدود النوافذ، ولم يكن فيه مقاعد، وكان الأولاد يجلسون على الأرض في صفوف تتراصّ حيناً وتنفسح حيناً، تبعاً لحالة السوق وكثرة الأولاد. إلاّ أن المعروف عن الكُتّاب أنه كجهنم لا يردّ آتياً، وأن الشيخ مستعدّ أبداً لحشوه بالتلاميذ وواثق أنه لن ينفجر من قلّة الهواء وكثرة التنفس وانعدام النوافذ.

وكان الصبيان يخلعون أحذيتهم (وأنا أقول «أحذيتهم» على المجاز، وإلاّ فهي القباقيب غالباً) يخلعونها عند الباب ثم يدخلون فيقبّلون يد الشيخ، أو يضعونها أمامهم بجانب اللوح والصبرة (أي كتاب الهجاء والغَداء) ويجلسون جلسة واحدة إلى المساء، لا يقومون إلاّ للشرب من البِركة القريبة من الكُتّاب ذات

ص: 344

الماء الملوَّث، يُدخِلون فيها رؤوسهم ويعبّون عبّاً كالجمال، وإلاّ لقضاء الحاجة، ويسمّونها «الدّستور» ، فإذا رفع الولد أصبعه وقال «دَسْتور» عرف الشيخ أنه خارج لقضاء حاجته في مراحيض المسجد أمام الكُتّاب. أما الطعام فكانوا يأكلونه وهم قعود في أماكنهم عندما يسمعون المؤذّن ينادي بالظهر، أو يلتهمون اللقمة إثر اللقمة في غير وقت الظهر من غير أن يراهم الأستاذ، أعني الشيخ.

وللحديث بقايا عن المدارس والكَتاتيب، وعن المصايف والاصطياف، وعن الاستفادة من العطلة في تغذية العقل بالمطالعة وتقوية الجسد بالرياضة. بقايا ستأتي إن شاء الله.

* * *

ص: 345