الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
-216 -
في محكمة النقض في القاهرة
لقيَني قبل العيد جماعة من المعلمين من الذين يدرّس الواحد منهم أربعة وعشرين درساً في الأسبوع، يحضّر لها بالمراجعة والإعداد ويصحّح وظائف التلاميذ، ولَنقْلُ الحجارة أسهل من تصحيح الوظائف! ويضبط الفصل ويُديره، وضبط الفصل وإدارته أصعب من إدارة وزارة كاملة، لأن الوزير يكلّم ناساً كباراً يعقلون ويقدّرون النتائج ويفكّرون قبل أن يعملوا، والمعلّم يخاطب صغاراً لا يقدّرون العواقب، أيديهم إلى العمل أسرع من رؤوسهم إلى التفكير، بل لعلّهم لا يكادون يفكّرون! ومَن عند الوزير مسؤولون عن أنفسهم، ومَن في المدرسة من التلاميذ وراءهم أولياؤهم، إن أحسنتَ رعايتهم وصَدَقتَ في تعليمهم وتهذيبهم لم يشكروك لأنك إنما تؤدّي واجباً وجب عليك، وإن قصّرت في العمل أو شدّدت في العقوبة ذهب الأولاد إلى أبيهم مساءً يبكون، قالوا: ياأبانا المعلم ضربنا! وربما كان الأب عالي المكان أو كان من ذوي السلطان، فنال المعلم الأذى.
أعرف هذا لأني بلوته حيناً من الدهر، بل ابتُليت به ومسّني من أجله الضرّ. هذا وربما كان في المعلمين مقصّر بلا عذر، قاسٍ
بلا مبرّر، يضرب الأولاد ضرب منتقم لا ضرب مربٍّ معلم، لذلك مُنع الضرب في المدارس وتُرك لراعي الإبل في البرّ لا للمعلم في المدرسة.
رأيت هؤلاء الإخوان المعلمين مبتهجين بالعيد فرحين بالعطلة، فقلت لهم: هنيئاً لكم عيدكم، ويا ليتني أجد عطلة أفرح بها! قالوا: أوَليس عندك عطلة ولا راحة؟ قلت: إني من سنوات طوال، من يوم انتقلت في الشام إلى محكمة النقض (محكمة التمييز) لا أشكو إلاّ شيئاً واحداً، هو دوام العطلة وطول الراحة؛ فقد ألِفت عملي في المحكمة وعرفته حتى ما أحسّ ولله الحمد تعباً في دراسة قضية ولا في إعداد حكم، ثم إن العمل قليل أو إني أُنجِزه بسرعة فأجده قليلاً، ويبقى وقتي فارغاً. ثم جئت المملكة أُدرّس في الكلية في الرياض أولاً ثم في مكة، ولا أحتاج في إعداد الدرس (والحمد لله) إلاّ إلى مراجعة قصيرة وموادّ المنهج حاضرة في ذهني، فيبقى وقتي فارغاً.
قالوا: فلماذا لا تملؤه بالقراءة؟ قلت: ومن يقرأ أكثر مني؟ أنا من سبعين سنة إلى الآن، من يوم كنت صبياً، أقرأ كل يوم مئة صفحة على الأقل، وأقرأ أحياناً ثلاثمئة أو أكثر، ما لي عمل إلاّ القراءة، لا أقطعها إلاّ أن أكون مريضاً أو على سفر. فاحسبوا كم صفحة قرأت في عمري. لقد قرأت أكثر من نصف مليون صفحة. وأعرف مَن قرأ أكثر مني كالأستاذ العقاد والأمير شكيب أرسلان ومحمد كرد علي ومحب الدين الخطيب رحمهم الله.
فأنا لا أتكلم على القراءة ولا أشكو الضيق والفراغ، ولكن
أحببت أن أقول لكم إن المرء لا يحسّ بالراحة إلاّ إن جاءت بعد التعب: «أُعِدّتِ الراحةُ الكبرى لِمَن تعِبا» . ولا يشعر بلذّة العطلة إلاّ بعد مشقّة العمل، فعطلة يوم للموظف المرهق تعدل في لذّتها عطلة شهر لمثلي.
وإذا شئتم مثالاً فتصوّروا مَن يمشي في الصحراء المنبسطة فلا يرى من حوله حيثما تلفّت إلاّ منظراً واحداً، ليس أمامه ما يأمل أن يصل إليه وليس وراءه ما يأسف عليه. ومَن يصعد في الجبال ويهبط الأودية، فهو يُسرِع أملاً بالمشهد الذي ينكشف له إن بلغ الذروة فينسى تعبَه بهذا الأمل الذي يأمُله، فإذا وصل إليه ووقف والتقط أنفاسه واستراح وتمتّع بهذا العالَم الجديد الذي أطلّ عليه وجد جزاء تعبه.
وأنا أظنّ أن في السامعين من يشكّ في هذا الكلام ويقول: كيف تكون الراحة متعبة؟ ولو جرّب مثل تجرِبتي لصدّق مقالتي. كالفقير الذي يعيش على الخبز والفول، إذا وضعتَه مرة على المائدة الحافلة في الفندق الكبير يجد فيها من اللذّة ما لا يجده من يُقيم دائماً في هذا الفندق ويأكل دائماً على هذه المائدة. ومن يمشي كل يوم على رجليه، إذا أركبتَه يوماً السيارة الجديدة الفخمة يشعر في ركوبها من المتعة بما لا يشعر به صاحبها الذي يركبها كل يوم.
فالعمل نعمة، إي والله، ومن أكبر النعم.
وأنا أعلم أن العمال المرهَقين الذين يضربون بالمعاول من الصباح إلى المساء والموظفين المتعَبين والمعلمين الذين يدرّسون
أربع ساعات أو خمساً كل يوم سيسخرون من هذا الكلام، لأنهم ينظرون إلى الغنيّ الذي يعيش من ريع أملاكه لا يكلَّف عملاً فيحسبون أنه في نعيم ويتمنون لأنفسهم مثل حياته. ولو علموا ما في البطالة والفراغ لحمدوا الله على نعمة العمل.
هذا ملك بريطانيا الأسبق، الملك إدوارد دوق وندسور، الذي باع تاج المُلك بما توهّمه من نعيم الحب وترك العرش من أجل أرملة نَصَف، أي أنها على الحدود عند آخر الشباب («روائحُ الجنّةِ في الشبابِ» كما قال أبو العتاهية) وأول مراحل العجز، ولم يسمع قول الشاعر:
فإنْ أتَوكَ وقالوا إنها نَصَفٌ
…
فإنّ أحسنَ نِصفَيها الذي ذهبا
إنها كالروض يجفّ وينشف ويذهب عطره ويتساقط زهره، فلا يبقى منه إلاّ حطب به شوك.
إن دوق وندسور هذا كان يملك المال والجاه والحب، وهو يتنقل في البلدان ينزل في أعظم الفنادق ويأكل أطيب الطعام ويركب أفخم السيارات، فهل تظنون أنه كان مستريحاً. لقد قرأت طرفاً من مذكّراته التي نشرها في حياته، فرأيته يشكو من ملل البطالة أضعاف ما يشكو العامل من مشقّة العمل. إنه يسهر الليل ويقوم في الضحوة الكبرى، فيُفطر حين يعود الفلاّح إلى بيته للغداء، يأكل لا شهوةً بل أداءً للواجب على حين يأكل الفلاح أكل المستمتع الهانئ الجوعان، وينتهي الطعام فلا يدري الدوق ماذا يعمل، إنه لا يرقب شيئاً ولا يذكر شيئاً لأن حياته كالنهر الهادئ.
أرأيتم النيل حين يمشي -على عِظَمه وكبره- كالشيخ العاجز
الذي يخطو بطيئاً وعينه في الأرض، أو دجلة أو الفرات حين يمشيان كما يمشي النيل؟ هل تقيسونها ببردى وهو يجري -على صغره وضيقه وقلّة مائه- في الوادي متوثّباً يعلوه الزبَد، تتدافع مياهه تدافُع صبية يزدحمون على باب الملعب، تتكسر أمواجه في شعاع الشمس فيكون لها بريق أيّ بريق؟
لو عاش دوق وندسور مع الفلاّح يشاركه حياته، ورأى القرية كلها تُفيق مع العصفور الذي يقفز على الأغصان والديك الذي يصيح على السياج، ومع الشمس التي تبسم للدنيا وهي تُلقي عليها تحية الصباح، لَعرف لذّة العيش ونأى عنه الضيق والملل. فيا أيها القراء، إن العمل نعمة، ولا يدفع عن الإنسان همَّ الوَحدة ولا ينسيه أحزان الدهر ولا يجعله يعرف قيمة العطلة أو العيد إلاّ العمل. وهذا كلام مجرّب عرف ثقل البطالة وملل الكسل، فاسألوا مجرّباً فلا يُنبئك مثل خبير.
وأنا هنا -من أربع وعشرين سنة- تشابهت أيامي وتماثلت ليالي، فلا أستطيع أن أحدّد تاريخ حادثة مما حدث لي. ما عندي عمل رسمي، وإن كان عليّ ما هو أثقل من العمل الرسمي، هذه الذكريات مثلاً لا يعلم أحدٌ ماذا أقاسي منها، لأني مثل مسافر سلك طريقاً في البرّ ما فيه معالم ولا له حدود، فلما وصل إلى بلده واستقرّ فيها، ومرّ عليه الزمان فنسي طريقه إليها، قيل له: ارجع فحدّد معالم الطريق الذي مشيت فيه. وكيف؟ وما للطريق أثر ولا مع الرجل مصوَّر، وليس له رفيق يذكّره بما نسي.
هذه الذكريات، وأحاديث الرائي!
تقولون: ما الصعوبة في هذه الأحاديث وأنت تُلقيها ارتجالاً، وقد جعلتَها أجوبة على أسئلة السامعين والمشاهدين لتهرب من اختيار الموضوع؟
الصعوبة ياسادة أني أقرأ الأسئلة فأجد أكثرها قصصاً شخصية لا تهمّ إلاّ مرسلها، وأجد بعضها مكرَّراً مُعاداً سبق القول فيه، فأتخيّر من كل مئة سؤال ستّة أو سبعة، وبعضها أُعِدّ الجواب عليه إعداداً ثم أُلقيه ارتجالاً، أراجع من أجله الكتب. فهي تعب لي، وأحسّها تعباً للسامعين الذين لبثوا عشرين سنة ودخلَت عليهم السنة الحادية والعشرون وهم يستمعون إليها، فأحبَّ الصديقُ القديم الأستاذ حيدر مشيخ أن يريح منها سكان المنطقة الغربية، أهل الحرمين، ويخلّصهم من سماعها فأخرجها لهم وهم في المساجد في صلاة الجمعة، يقول الإمام: السلام عليكم ورحمة الله، فيبدأ الحديث. وليس في المساجد جهاز للرائي، وإذا خرجوا منها وصلوا إلى المنازل بعدما انتهى الحديث أو ذهب أكثره.
* * *
تركتكم في الحلقة الماضية وقد انتقلتُ إلى محكمة النقض في دمشق. والعُرف المتّبَع (لا القانون المكتوب) على أن المستشارين فيها لا يقيَّدون بالدوام، فهم يأخذون المرتَّب على عمل يؤدّونه لا على وقت يُمضونه، على حين أن سائر الموظفين (1) يأخذونها على الاثنين معاً. فمَن جاء من المستشارين
(1) السائر: الباقي.
المحكمة درس قضاياه ومَن حملها إلى بيته يدرسها فيه، وإن كان الحقّ أن القضايا لا يجوز أن تخرج أوراقها من المحكمة أبداً.
قلت إني أدرس القضايا، قد تعوّدت عليها فلم تعُد تهولني بضخامة حجمها ولا بكثرة ورقها، لأني تعلمت لمّا طال عليّ العمل في المحكمة كيف أدرسها ومن أين أبدأ فيها، وما يجب أن أقرأه من أوراقها وما لا حاجة لقراءته منها.
وكنت أنظر بمنظارين: منظار العدل أولاً، والقانون ثانياً. فإن كان حكم القاضي الذي رُفع إلى محكمتنا لننظر فيه عادلاً وقانونياً صدّقته، أي أبرمته، وإن كان قانونياً غيرَ عادل حاولت أن أجد فيه ثغرة أدخل منها إلى نقضه، ولو كانت ضيّقة. وإن كان عادلاً مخالفاً لحرفية القانون وكان فيه ثغرات سددته، حفاظاً على العدل لا ممالأة للقاضي.
وكنت أُعِدّ مشروع القرار ثم أعرضه على الأخوين، لأن كل غرفة في محكمة النقض تتألف من ثلاثة مستشارين، فإن وافقا أمضياه وإلاّ اجتمعنا للمذاكرة فيه. وإذا نقضنا الحكم وأصرّ القاضي عليه عُرض على الجمعية العمومية لمحكمة النقض، فإن أيّدَت ما ذهبنا إليه في الغرفة الشرعية التزم القاضي بما تقرره، وكانت له قوة وإن لم تبلغ قوة القانون.
وكنت في كثير من الحالات التي نختلف فيها على مسالة فقهية أقول للرئيس: اسمح لي أن أسأل المفتي (وكان المفتي هو شيخنا أبا اليسر عابدين رحمه الله، فكان الرئيس يتردد أولاً، ثم رضي وصار من الأمور المعتادة أن نسأل المفتي.
وفي الشام أربعة مفتين للمذاهب الأربعة، أكبرهم المفتي الحنفي الذي يُدعى مفتي الجمهورية، وقد عرفت أربعة: أولهم الشيخ أبو الخير عابدين والد الشيخ أبي اليسر، وكان والدي أمين الفتوى عنده، وهو الذي نشر «رسائل ابن عابدين» المشهورة التي أُعيدَ طبعها الآن ووُجدت في الأسواق بعد أن كانت نادرة يكاد يتعذّر وجودها، وكل رسالة منها تصلح أطروحة لنيل شهادة الدكتوراة.
والثاني الشيخ عطا الكَسْم، والد رئيس الوزراء في سوريا الآن، ولمّا توُفّي أبي وذهب تلاميذه (الشيخ عبد الوهاب دبس وزيت والشيخ عبد الرزاق الحفّار ومن كان معهما) يقرؤون عليه (على الشيخ عطا الكسم) ذهبت معهم، وأنا في السنّ والعلم بمنزلة أولادهم. وكان فقيهاً على ما كانت تدلّ عليه كلمة الفقيه في تلك الأيام، وهو الذي يعرف أحكام المذهب المُفتى بها، ومن غير بحث في أدلّتها، أو نظر في قوة هذه الأدلة فهو القاضي أو المحامي الذي يحفظ نصوص القانون، وإن لم يعلم مستمدّها ولا معتمدها.
والثالث الشيخ محمد شكري الأسطواني، وهو مثلهما لا يقلّ عنها. والرابع شيخنا الشيخ أبو اليسر، وهو صورة كاملة للفقيه في عُرف الناس في تلك الأيام، أظنّ أنه قرأ حاشية ابن عابدين وأقرأها عشرات المرات، عشرات حقيقة لا مبالغة. وكان حين أسأله بالهاتف أمام المستشارين أثناء انعقاد الجلسة يجيب فوراً، أو يستمهل قليلاً ثم يأتينا بالجواب ومكانِه من الحاشية ومن غيرها من كتب الفقه. ولم أعرف فيمن عرفت من فقهاء المذهب
الحنفي مَن هو مثله إحاطة بما في الحاشية، والحاشية هي مرجع المُفتين في المذهب الحنفي من أكثر من مئة سنة، ولم أعرف مثله إلاّ قليلاً في علمه بالأصول وإحاطته بقواعده وتطبيقها على النصوص القانونية، وكان المحامون وبعض القضاة يرجعون إليه في ذلك.
وعرفت جماعة من المفتين العلماء في المذاهب الثلاثة، منهم مفتي الحنابلة الشيخ جميل الشطي رحمه الله ورحمهم. ثم انقرضَت هذه الطبقة من العلماء وخلف من بعدهم خلف ليسوا مثلهم، ولا أقول أكثر من هذا عنهم.
* * *
لم أكن أدَع على مكتبي قضية تبيت إلى الغد، بل كنت أنظر فيها وأكتب قرارها يوم وصولها، إلاّ في حالات نادرة تحتاج فيها القضية إلى الرجوع إلى كتاب لم يكن موجوداً في المحكمة أو سماع رأي خبير لا بدّ من انتظار الاجتماع به. وربما جاءت قضية في وسط النهار وقد تعبتُ وهممت بالانصراف فنظرت إليها فوجدتها معقّدة صعبة، فأدعها وأعود إليها من صبيحة الغد فإذا هي منبسطة هيّنة، وإذا ما توهّمته فيها من الصعوبة والتعقيد سببه ما كنت أحسّ به من التعب.
وقعت لي وأنا في محكمة النقض وقائع ليست من صلب عملي فيها ولكنها جاءت معها، ربما عُدت إليها فتكلمت عنها: منها أني حضرت حلقة الدراسات الاجتماعية التي تنظّمها جامعة الدول العربية، وكنت أحد ممثلي سوريا فيها. ومنها رحلتي مع
الأستاذ عبد القادر الأسود والزميل الأستاذ نورس الجندي إلى المملكة العربية السعودية بدعوة منها، وأمثال لهما سيأتي إن شاء الله ذكرها.
وكانت الوحدة بين سوريا ومصر، وتَقرّر دمج محكمتَي النقض في البلدين في محكمة واحدة مكانها القاهرة، فجاءنا هذا الكتاب (أنشره هنا بحروفه):
محكمة النقض في القاهرة، مكتب الرئيس الرقم 8/ 1/1306 والتاريخ 30/ 3/1959، السيد المستشار محمد علي الطنطاوي: ندعو سيادتكم لحضور جلسة الجمعية العمومية للمحكمة التي ستُعقد في القاهرة الساعة الثانية عشرة ظهر يوم الثلاثاء 6 من شوال 1378 الموافق 14 من أبريل سنة 1959 (6 من نيسان سنة خمسة آلاف وسبعمئة وتسعة عشر) وذلك للنظر في ترتيب العمل في المحكمة، وتفضّلوا بقبول وافر الاحترام. الإمضاء: رئيس المحكمة.
* * *
وذهبنا إلى مصر. وأعدّوا لنا حفلة شاي في نادي القضاة، ولم يكن في منهج الحفلة ولا في ذهني أني سأُدعى إلى الكلام، ففاجأ الحضورَ زميلُنا الأستاذ نورس الجندي فأعلن أن الطنطاوي سيُلقي كلمة، وفوجئت حقيقة وألقيت كلمة كانت بحمد الله جيدة، وصرت بعدها محطّ الأنظار، وسارع القضاة إلى الجلوس والحديث معي. ولست أذكر مما قلته فيها إلاّ هذه الكلمات، قلت لهم:
نحن في بلدنا لا نجمع بين الطعام والكلام، فإما حفلة للأكل نُعِدّ لها طعاماً شهياً وبطناً خالياً، وإما حفلة للكلام نهيّئ لها فكراً واعياً وبياناً صافياً. ثم إني قاضٍ وأديب، هذا عملي وتلك صناعتي، لذلك أتردّد بين وقار المهنة الذي من شأنه أن أزن كل كلمة بالميزان المعلَّق في صدر المحكمة (الذي قالوا إنه ميزان العدالة) وأن أعدّ من الواحد إلى اثنَي عشر قبل أن أنطق بها، وبين الأديب الذي من شأنه البيان والإعلان، وأن يكشف عما في نفسه ويُطلِع الناس على ما في قلبه، ويُبيحهم أعمق أسراره ويقول ما يُقال عادة وما لا يُقال. فهل أستطيع أن أجمع بين الأمرين؟ وهل ترون من العدل، وأنتم حماة العدل، أن أقوم أنا فأتكلم وتقعدوا أنتم فتأكلوا، فلا ينتهي الكلام حتى نفقد الطعام؟
أنا شاميّ المولد مصري الأصل، مولدي في دمشق وجدّي من طنطا، فأنا دليل من آلاف الأدلة على قضية لا تحتاج إلى دليل، هي أن الشام ومصر بلد واحد. ولي في الشام أهل ولي في مصر أقرباء، ولكني لا أعرف أقربائي في مصر. ولقد بحثت عنهم مرة، لا لأزداد لمصر حباً ومن مصر قرباً، فحبي لمصر وقربي منها قد كَمُلا فلا يحتملان الزيادة، بل كنت آمل أن ألقى فيهم قريباً غنياً لا يكون له وارث، فأوفّر على الدولة عناء البحث عن وارثه وأفوز بثرائه. ثم خفت أن يكون أقربائي هنا أفلسَ مني فيرثوني هم، فأكون «كالعير الذي ذهب يطلب قرنين فرجع بلا أذنين» كما جاء في المثل.
ونشأت ياسادة على التشوّق إلى مصر والرغبة في زيارتها، فلما تحقّق الحلم جئت مصر بعد أن أمضيت على الطريق يومين
واستأذنت في المجيء حكومتين غاصبتين؛ خرجتُ من دمشق بإذن من باريس ودخلت مصر بإذن من لندن! وما لأهل باريس ولا لأهل لندن حقّ في الشام ولا في مصر حتى أستأذنهما في الخروج وفي الدخول. وكان ذلك سنة 1928، وكنت أحمل شهادة البكالوريا، فقدّمت طلباً إلى الجامعة المصرية فلما أبطأ الجواب دخلت دار العلوم، ولم أكملها.
وكنت أتوقع من الطلاّب أن يرحبوا بي ترحيب الأخ للأخ، ولكني وجدتهم ينفرون مني نَفرة الأُلاّف من الغريب، ثم يضحكون من لهجتي ويسخرون من كلامي، ووجدت أكثرهم لا يعرفون عن الشام إلاّ أنها التي يأتي منها «قمَر الدين» في رمضان والصابون النابلسي، لذلك كان الصبيان في الحارات يضحكون مني إذا سمعوا كلامي، يقولون القولة المعروفة (وأعتذر إليكم من إيرادها): «شامي
…
حامي».
ولم يكن الأدباء والعلماء بأعرف بالشام وأهله من العامة والطلاّب؛ فلقد جاءتني مرة رسالة من الأستاذ أحمد أمين لا تزال عندي بين أوراقي، عليها أي على ظرفها تحت العنوان: دمشق، فلسطين! وكانوا يخلطون بين دمشق وبغداد وبيروت ويقولون:"كلهم إخواننا العرب". وقد خبّرني صديقنا وزير العدل الآن (أي يوم ألقيت الكلمة) الأستاذ نهاد القاسم أن ضابطاً مصرياً كبيراً زاره وخبّره أنه نُقل إلى الإقليم الشمالي في الجمهورية العربية المتحدة، فسأله: هل نُقلت إلى دمشق؟ قال: لا، بل إلى الإقليم الشمالي. فسأله: إلى حلب؟ قال: لا، إلى الإقليم الشمالي.
وتبين أنه لم يفهم من الإقليم الشمالي إلاّ ما كان شمالي القاهرة! وإن سمح لي سعادة الرئيس الحاضر هنا (مع أسمى تقديري وأصدق احترامي) أن أقول لقلت إن سيادته أيضاً
…
وقطعت الكلام وقعدت، فصفّقوا وصاحوا من أرجاء القاعة: أتمِمْ أتمِمْ، فقمت وقلت: إذا أتممت ربما غضب مني سيادة الرئيس. قال: لا، أكمل. فقلت: إن سيادة الرئيس أيضاً لا يعرفنا، بدليل أن بطاقة الدعوة إلى هذا الاجتماع مكتوب فيها "أبريل سنة 1959 المقابل لنيسان سنة 5719"، وهذه هي السنة العبرية. فهل حسب سيادته أننا يهود؟ ثم قلت: وأنا أعود فأقرّر أني أقول هذا مع الاعتذار الشديد لسيادته والاحترام العميق.
وهذا الذي قلته عن إخواننا في مصر كان ينطبق عليهم لمّا كانوا معتكفين في ديارهم لا يكادون يخرجون منها، وإن نُقل موظف فيها من الوجه البحري إلى الوجه القبلي أقام الدنيا وأقعدها وحسب أنه نُفي إلى آخرها. أمّا الآن فقد تبدّلَت الحال، وانتشر المدرّسون المصريون والأطباء المصريون في جميع البلاد العربية وعُرفوها وعاشوا فيها، وكان لهم في كل ميدان من ميادينها أعظم الأثر. فعذراً مما قلت لأنني سردت تاريخاً.
* * *
كنا نجتمع في دار القضاء العالي، وأذكر أنها كانت في شارع فؤاد، ولست أدري بماذا يدعونه الآن لأنهم في مصر مولَعون بتبديل الأسماء؛ فقد كان لبّ البلد ميدان العتبة الخضراء ثم سُمّي ميدان الملكة فريدة، ولست أدري ما يُسمّى الآن، وميدان قصر
النيل ثم سُمّي ميدان التحرير، وميدان باب اللوق دُعي مرة ميدان الزهور ومرة ميدان الفلكي
…
هذا والشعب في مصر لا يحفل بهذا كله ويبقى على الاسم الذي عرفه وألفه.
ذهبت في إحدى سفراتي أزور الأستاذ الزيات، وكان قد انتقل إلى المنيل إلى شارع سمّاه لي شارع مسجد السلطان قايتباي. فأخذت سيارة وذهبت إلى المنيل أسأل عن هذا الشارع فلم يعرفه أحد ممن سألته عنه، وطُفت في المكان خمسة أشواط وأنا لا أعرف أين يقع هذا الشارع، حتى كانت مصادفة من أعجب المصادفات أرويها لكم على حقيقتها وأحسبكم ستشكّون فيها؛ هي أنني وقفت على باب محلّ تجاري أسأل صاحبه عن الشارع، فاهتمّ بي ولكن ما عرفه، فرفعت رأسي وإذا لوحة باسم الشارع على الجدار فوق هذا المحلّ! فلما نبّهته إليها عجب كثيراً وضحك طويلاً وأقسم أنه لم يرَ اللوحة إلاّ الآن.
وجاءني مرة وأنا في الشام أحد إخواننا هنا، سعودي فاضل من أصدقائنا، يسألني عن شارع سمّاه لي فما عرفته، فأخذت سيارة وانطلقت بها وهو معي ليدلّني عليه لأنه قال إنه يعرف أول الطريق إليه، وإذا هو حيّ الشعلان. وهذا الحيّ كان جديداً أنشأه الشيخ النوري الشعلان شيخ مشايخ «الرولة» (وهم فرع كبير من عنزة) وكان يحكم القريات لمّا كانت الجزيرة إمارات وحكومات كثيرة ضعيفة قبل أن يوحّدها الملك عبد العزيز رحمة الله عليه، فنزل الشام واشترى هذا البستان وأقام فيه مسجداً وإلى جانب المسجد قصراً كبيراً، ثم تتابع البنيان وصار حياً كاملاً.
* * *
اجتمعنا في هذه الرحلة بنخبة كريمة من كبار قضاة مصر، استفدت من مجالستهم وتعلّمت منهم ما لم أكن أعلم من اجتهادات المحاكم الأجنبية ومن المباحث القانونية، وإن لم أجد عند مَن لقيت منهم اطّلاعاً واسعاً على الفقه الإسلامي.
جدّدتُ في هذه السفرة العهد بمن عرفته من رجال مصر، عند خالي محب الدين الخطيب في المطبعة السلفية، وقد عرفت فيها جماعة كالعالِم الجليل أحمد تيمور باشا والشيخ العلامة الخضر الحسين والشاعر أحمد زكي أبو شادي، ومن كانوا يومئذ شباباً مثلي فصاروا من بعدُ من أعلام الأدب وأرباب الكلام، كالأساتذة محمود شاكر وعبد السلام هارون وعبد المنعم خلاّف والدكتور الدردير.
وعند الأستاذ الزيات في الرسالة، كالأساتذة العقاد والرافعي والمازني وزكي مبارك، ومن قابلت عند الأستاذ أحمد أمين في لجنة التأليف والترجمة والنشر، ومن عرفته في مجلس الشيخ عبدالمجيد سليم ممن لست أحصيهم عداً.
وكانت تلك الزيارة آخرَ عهدي بمصر، ما زرتها بعدها ولا أعرف ماذا طرأ عليها وماذا تغيّر فيها.
وإن لي في العراق معارف وفي فلسطين وفي الأردن وفي باكستان والهند وأندونيسيا، وحول المراكز الإسلامية في ألمانيا وهولندا وبلجيكا، فهل يكتب الله لي أن أجدّد العهد بمعارفي في تلك البلاد؟
* * *