المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌لما كنت أستاذا في الكليات والمعاهد - ذكريات - علي الطنطاوي - جـ ٨

[علي الطنطاوي]

فهرس الكتاب

- ‌الجزء الثامن

- ‌وداع المحكمة الشرعية

- ‌في محكمة النقض في القاهرة

- ‌أشتات من الذكريات

- ‌زياراتي القديمة لمكة

- ‌حجة 1381: خواطر وأفكار

- ‌أبو الحسن النَّدْوي ومذكّراته (1)

- ‌أبو الحسن النَّدْوي (2)

- ‌أبو الحسن الندوي (3)

- ‌في مطلع العام 1987

- ‌مؤتمر القمة الإسلامي

- ‌الفقيدان الوزير والمدير،ومن قبلهما فقدنا الأمير

- ‌تعليق على الحلقة السابقة: لبّيكَ اللهمّ لبّيكَ

- ‌كيف جئتُ المملكة

- ‌وقفة على المخيَّمات

- ‌منزلي في الرياض

- ‌لمّا كنت أستاذاً في الكلّيات والمعاهد

- ‌تفسير بعض الآيات

- ‌من المستشفى المركزي في الرياضإلى مستشفى المواساة في دمشق

- ‌في مكة سنة 1384ه

- ‌في كلية التربية في مكة

- ‌يوم الجلاء عن سوريا

- ‌لمّا علّمتُ البنات

- ‌خواطر ومشاهدات عن تعليم البنات

- ‌لغتكم يا أيها العرب (1)

- ‌لغتكم يا أيها العرب (2)

- ‌ذكريات العطلة الصيفية في دمشق (1)

- ‌ذكريات العطلة الصيفية في دمشق (2)

- ‌هذه الحلقة من الذكريات مسروقة

- ‌عندكم نابغون فتّشوا عنهم بين الطلاب

- ‌عزمتُ أن أطوي أوراقيوآوي إلى عزلة فكرية

- ‌رسائل الإصلاح وسيف الإسلامانتقدت الشيوخ الجامدينوالشبان الجاحدين

- ‌الخاتمة

الفصل: ‌لما كنت أستاذا في الكليات والمعاهد

-230 -

‌لمّا كنت أستاذاً في الكلّيات والمعاهد

كان في كل قرية من قرى الجبل في الشام ولبنان بيّاع واحد عنده من كل شيء شيء؛ إن شئتَ طعاماً وجدت عنده ما تحتاج إليه من طعام، إن أردت الثياب فعنده الثياب معدة والقماش الذي تُصنع منه الثياب، وإن أردت الأقلام والدفاتر وما يحتاج إليه ولدك في المدرسة وجدت عنده كل ما يحتاج إليه ولدك في المدرسة. وعنده من أدوات المطبخ ومن فرش الدار ومن مصابيح الإضاءة ما يطلبه أهل القرية، بل إن عنده علبة الأسبرين وبعض المسكّنات وقارورة زيت الخَرْوَع وبعض المسهّلات والمليّنات

فلا يطلب أهل القرية شيئاً يحتاجون إليه إلاّ وجدوه عنده.

وإن شئتم مثلاً أقرب وأعلى قدراً فهو السوق الشاملة (السوبرماركت) التي عرفناها أول ما عرفناها في مصر من أكثر من خمسين سنة عند «عمر أفندي» (الذي صار اسمه «أوروزدي باك») وعند شيكوريل وصيدناوي، ثم وجدناها على مقياس أكبر في مدن أوربا الكبار.

وفي مقابلها وكالات المصانع والشركات: الأولى فيها

ص: 211

الأنواع الكثيرة ولكن بمقادير قليلة، والوكالة فيها الكثير الكثير ولكن النوع واحد أو هي أنواع معدودة.

هذا مثال العالِم المتخصص الذي قصر جهدَه على علم من العلوم فأحاط به وجمعه من أطرافه وغاص في أعماقه، والرجل الموسوعي (كما يُقال اليوم) أو الأديب (كما كان يُدعى قديماً)، وهو الذي أخذ من كل شيء بطرف كما دعاه ابن خلدون. هذا هو الفرق بينهما.

لمّا جئت الكلية امتحنت نفسي فوجدت أني إن لم أبلغ أن أكون من الصنف الأول فأنا ملحَق به، أستطيع تدريس علوم الدين وعلوم العربية، ولكن بقليل من الإعداد وبعد قليل من المراجَعة، وأمّا الذي هو أسهل عليّ وأحَبّ إليّ فهو الأدب والفقه.

أما الأدب فلأني كنت عاكفاً عليه عمري كله: اقرأ الشعر وأنقده وأفهمه وأحفظ منه الكثير، وقد بقيَت في ذهني إلى الآن بقايا تبلغ مئات ومئات من الأبيات المفردة والمقطوعات، وبعض القصائد المطوَّلات، لا أزال أحفظها وأرويها. ولي في شرحه للطلاب طريقة قلّ اليوم سالكوها لعلّي استفدتها من اثنين: من الأستاذ أحمد الإسكندري لمّا كنت أحضر دروسه في دار العلوم العليا (التي صارت تُدعى اليوم كلية دار العلوم) من ستين سنة كاملة، والشيخ عبد القادر المبارك الذي لم أرَ فيمَن قرأتُ عليه (وكنت تلميذاً له) ولا فيمَن رافقتُه في التدريس (وكنت زميلاً له) من كان في درسه حياة كحياة درس الشيخ المبارك.

ثم إنني درست أروع ما في الأدب الفرنسي: أدب كورناي

ص: 212

وراسين وموليير ولافونتين وباقي الأدباء المنهجيين (أي الكلاسيك)، وأدب روسو وشاتوبريان ولامارتين ودوموسه وهوغو وأعلام الأدباء الرومانسيين. ثم اطّلعت (مجبَراً في المدرسة لا مخيَّراً) على أدب الواقعيين والوضعيين وأصحاب المذاهب التي جدّت من بعد؛ كنا نُلزَم على عهد الفرنسيين في الشام بكل ما يُلزَم به الطالب الفرنسي في باريس، ونحفظ من مختارات الشعر والنثر مثل الذي يحفظ.

وأما الفقه فلأنني قرأت «مراقي الفلاح» في المدرسة (وكان مقرَّراً على طلاب الثانوية) وقسماً كبيراً من «فتح القدير» ، قرأته على أبي ثم على المفتي الفقيه الشيخ عطا الكَسْم مع تلاميذ أبي الذين انتقلوا إليه لمّا مات أبي، وكتباً أخرى على مشايخ أُخَر، وكتباً قرأتها وحدي ثم لمّا وليت القضاء، عكفت على الفقه وانقطعت إليه حتى صار لي نوع إلمام بالفقه الحنفي والمعرفة بكتبه.

ثم لمّا طبع أخونا الكريم الأستاذ زهير الشاويش كتبَ مذهب الإمام أحمد للشيخ علي آل ثاني أمير قطر، وكانت له رحمه الله مشاركة في العلم وفي الأدب، أهداها كلها إليّ. وأنا لا يأتيني كتاب فأنام حتى أقرأه، فإن كان كبيراً يضيق الوقت عن قراءته تصفّحته وقرأت مقدّمته ونظرت في فهرسه، واطّلعت على بعض فصوله حتى أُلِمّ بموضوعه وأعرف أسلوبه. فألممت بذلك بالمذهب الحنبلي، لا أقول إني صرت فقيهاً فيه ولكن أقول إني أَنِست به ولم أعُد غريباً عنه، وصرت أقلّده في بعض الأحكام. وكنت أعرف الشيخ عبد القادر بَدران رحمه الله، فرجعت إلى كتابه «المدخل» فازددتُ معرفة بمذهب الإمام أحمد.

ص: 213

فلما كُلفت بوضع مشروع قانون الأحوال الشخصية (وهو الذي صدر سنة 1953، وهو المعمول به الآن في الشام بعد تعديل طفيف) اضطُررت إلى الرجوع إلى أُمّات الكتب (1) ككتاب «المُغني» لابن قُدَامة الذي أحببته حتى لا أعدل الآن به كتاباً غيره، و «المجموع» للنووي، والفتاوى لابن تيمية، وكتب علم الخلاف كبداية المجتهد، وكتب أحكام القرآن للجَصّاص ولابن العربي، وكتب فقه الحديث كسبل السلام ونيل الأوطار.

وكنا على عهد الطلب نقرأ الحُكم وندع دليله، بل ما كنا نسأل عن الدليل ونكتفي بعزو القول إلى إمام المذهب. فتعلمت من السيد رشيد رضا والشيخ بهجة البيطار والشيخ عبد الوهاب خلاّف والسيد الخضر حسين، ومما قرأت من كتب الشيخ سعيد الباني والشيخ جمال القاسمي، ومن دراسة علم أصول الفقه في كلية الحقوق على الفقيه الطبيب مفتي الشام الشيخ أبي اليسر عابدين رحمه الله ورحم كل من ذكرت، تعلّمت أنه لا يكفي بيان حُكم الله أن يُعزى إلى أبي حنيفة أو مالك أو الشافعي أو أحمد أو غيرهم من العلماء، لأنهم جميعاً غير معصومين من الخطأ، وأن العلم قال الله قال رسوله. فما لم ترد فيه آية صريحة أو حديث صحيح صريح أو إجماع ثابت أو قياس صحيح، فليس مما يُلزَم المسلم بقبوله ولا مما يمتنع عليه ردّه، على أن يردّه بدليل لا بمجرد التشهّي والعناد.

* * *

(1) الأُمّات للأشياء كالأمهات للناس.

ص: 214

ولكني لمّا جئت الكلّيات، وهما كلّيتان: كلية الشريعة وكلية اللغة العربية، والكليات جمع وإطلاق لفظ الجمع على الاثنين مذهب صحيح، فقد قال تعالى:{وداودَ وَسُلَيْمانَ إذْ يَحْكُمانِ في الحَرْثِ إذْ نَفَشَتْ فيه غَنَمُ القَوْمِ وكُنّا لِحُكْمِهِم شَاهِدين} . أقول: لمّا جئت الكليات وجدت للفقه بفروعه كلها أساتذة يدرّسونها هم أعلم مني، ولم أجد من علوم العربية خالياً من مدرّس إلاّ البلاغة. والعجيب أن الاهتمام كله كان في الكليات بالبلاغة، وأن الوقت أو أكثره لها. وأنا أرى أن دراسة البلاغة على هيئتها التي انتهت إليها الآن تكاد تكون تعباً في غير طائل، فهي لا تجعل دارسها بليغاً ولا تصله بروائع الأدب كما كانت أولَ أمرها، لمّا كانت نقداً منظَّماً يمشي مع الأدب، فكلما ابتدع الأدباء جديداً جاء هؤلاء النقّاد فوضعوا له اسماً وصنّفوه مع أشباهه ونظائره، حتى لخّص القزويني كتاب السكّاكي فوقفت البلاغة عند هذا التلخيص وعلقت به، فما استطاعت الخلاص منه ولا جاء من يُعينها على التخليص من قيد التلخيص. وانحصرت شواهدها في نطاق محدود، فلا يزال المدرّسون يكرّرونها ويعيدونها حتى ملّوا وملّ الطلاب منها، ولم يبقَ للبلاغة إلاّ نفع قليل في فهم بعض آيات الكتاب والسنّة وما وصل إلينا من روائع ما قال الأولون.

فاخترت مادة الإنشاء حين لم أجد غيرها. والإنشاء يضعونه في المناهج تكملة عدد لا يُقيمون له وزناً، ولو أنصفوا لجعلوه في رأس الموادّ التي يُطلَب إجادتها من الطلاب، لأن الدعوة إلى الله إنما تكون بالقلم واللسان، عليهما يقوم البيان وبهما يثبت الإيمان وتتفاوت أقدار الإنسان.

ص: 215

ولكن الأسلوب الذي يُتّبع في هذه المادة في البلاد العربية التي عرفت أكثرها يزيدها هواناً على هوانها عند المدرسين والطلاب، إذ يُكلَّف الطلاّب، بل يُكلَّف التلاميذ في المدرسة الابتدائية الذين لم يبلغوا أن يُسمَّوا طلاباً، بالكتابة في موضوع يختاره لهم المدرس، ولا يكون في الغالب إلاّ موضوعاً بارداً بعيداً عن حياة الطلاب ميتاً لا روح فيه، ثم لا يرسم للتلميذ الخطة التي يسير عليها ولا ينصب له مثالاً ينحو نحوه أو يحتذيه. وأنا رجل قد احترفت الكتابة وأنا أكتب من ستين سنة، وما أخذت يوماً في درس الإنشاء درجة عالية.

اخترت درس الإنشاء لأني وجدت فيه مجالاً أتحرّك فيه. وقد تعجّب معالي الوزير الشيخ حسن لمّا علم رحمه الله أنني اخترت درس الإنشاء، وكان يراني أصلح لِما هو أكبر منه كالفقه أو النحو أو البلاغة، ولكني وجدت لها أساتذة يدرّسونها، ثم إني إن تسلّمت تدريسها كنت كالذي يمشي مقيَّداً في مجال ضيّق، قد رُبطَت رجلاه وكُتّفت يداه بمنهج محدود وكتاب معيَّن لا يملك أن يخرج عنه، ولا عمل له إلاّ أن يفسّر عبارته ويُظهِر مقصد مؤلّفه. كأنه وهو أستاذ في الجامعة يعلّم في مدرسة متوسطة، والجامعة إنما كانت ليتجاوز فيها الطالب عهدَ التلقّي وإعمال الذاكرة وحدها إلى عهد المناقشة وتشغيل الفكر، وأن يتولى هو العمل لا أن يعتمد في عمله كله على أستاذه.

وأنا مهما تمسّكت بفضيلة التواضع فلا أُنكِر أن لديّ ما أستطيع أن أدرّس به غير الإنشاء من المواد، فأنا طول عمري معتزل في بيتي أمضي أكثر يومي في ليلي ونهاري في المطالعة،

ص: 216

من حين تعلّمت القراءة وأنا ابن عشر سنين إلى الآن (وقد جاوزت الثمانين)، أقرأ كل يوم عشر ساعات أو أكثر، فما ظنّك بمن يقرأ كل يوم عشر ساعات على مدى سبعين سنة في جميع العلوم والفنون؟ وكنت بحمد الله أحفظ كل ما أقرأ وكل ما أسمع، فصرت الآن أحفظ الموضوع ولكن أنسى أين قرأته أو ممن سمعته.

* * *

نهجت في درس الإنشاء نهجاً جديداً لا عهد للمدارس ولا للجامعات بمثله، فلمّا ذاق الطلاب حلاوته ورأوا ساعة الدرس تضيق عنه سألوني وقتاً آخر أكمل لهم فيه ما شرعت به، فكانوا يحضرون برضاهم واختيارهم في غير ساعات الدوام، ويدخل معهم وينضمّ إليهم طلاب من الفصول الأخرى وطلاب من كلية الشريعة، ولمّا شاع أمر هذه الدروس صار يحضرها فريق من طلاب الجامعة ومن غيرهم.

وأنا كنت أقترح من قديم أن نبدأ في تدريس الأدب من أدباء عصرنا لأن أساليبهم أقرب إلينا وموضوعاتهم أمسّ بنا، لا من العصر الجاهلي (كما كنا نفعل) ثم ننتقل منه إلى العصر الأموي فالعباسي. فلمّا استلمت مادة الإنشاء في كلية اللغة العربية وجدت فيها مجالاً لتحقيق هذا الاقتراح. لا أن أجعله درساً في تاريخ الأدب، بل أن أعرض على الطلاب ألواناً من أساليب الكتّاب أبيّن لهم مزاياها وعيوبها.

ولست أذكر الآن كل ما ألقيته، ولم أكن كتبته فاستبقيته، ولكني أذكر أني عرّفتهم بأساليب طائفة صالحة من كتّاب العصر،

ص: 217

كالرافعي؛ وهو من أصحاب الأساليب المتميزة، فتجد اسمَه في كل فقرة مما يكتب وإن لم يضع اسمه على ما كتب. وميزة الرافعي في توليده المعاني، ولكنه -مع هذه القدرة على التوليد- لا يخلو من الوقوع في التعقيد، لا سيما إن كتب فيما كان يسمّيه «فلسفة الحب والجمال» في مثل كتاب «السحاب الأحمر» . وكنت أنصح الطلاب أن لا يعمدوا إلى تقليده، لأنهم سيعجزون عن مثل توليده ويقعون في تعقيده! وأكثر ما كنت أنصحهم بقراءته من كتب الرافعي «تحت راية القرآن» و «وحي القلم» ، أما «السحاب الأحمر» وأمثاله فأوصيهم بالابتعاد عنه.

وطه حسين؛ وأسلوبه صحيح فصحيح ولكنه خالٍ من الجمال الذي يستهوي القارئ ويشدّه إليه، ثم إنه يكرّر ويعيد، ولذلك سببان أولهما أنه مكفوف يملي إملاء، ثم أنه مدرّس، ومهنة الكاتب ربما بدت ملامحها في آثاره. وتقليد طه حسين سهل، وإن كنت أنصحهم دائماً أن لا يعمدوا إلى تقليد أحد من الكتّاب بل أن يقرؤوا ما تميل نفوسهم إليه، ثم ينظروا أثره فيها ثم يكتبوا في تصوير هذا الأثر، فيرَوا أنه سيبدو في الأسلوب الذي سيكتبون به.

والمازني؛ وأسلوبه من السهل الممتنع، فهو يكتب كما يتحدث فيحسّ قارئه أنه يستطيع أن يكتب مثله، فإن جرّب رآه عاجزاً مقصّراً عنه. ثم إن المازني أوتي براعة في السخرية حتى من نفسه فتجيء سخريته عفوية غير متكلّفة، فإن تَعمّد الطالب مثلَها ربما جاءت متكلَّفة ثقيلة.

أما العقّاد فلا خلاف في أنه مفكّر كبير وكاتب قدير، ولكنه

ص: 218

ليس من أصحاب الأساليب الأدبية التي يعرف الناظرُ إليها صاحبهَا وإن لم يَرِد اسمه معها. وعلى الضدّ منه زكي مبارك، فهو صاحب أجمل أسلوب في العربية في هذا العصر، ولكنه ضحل الأفكار. ولقد قرأت كتابه «ليلى المريضة في العراق» ثلاث مرات، مرة لمّا كان ينشره مقالات في الرسالة، ومرتين لمّا جُمعَت هذه المقالات في كتاب، ولا آبى أن أقرأه مرة رابعة، ثم إن سألتَني بعد هذا كله: ماذا يعني بليلى المريضة بالعراق؟ أهي امرأة بعينها أم هي رمز من الرموز وكناية من الكنايات؟ لقلت لك إنني لا أدري!

ومن الكتّاب من يكتب بأسلوب الصحفيين، لكنه أعلى منها. والأسلوب الصحفي بليغ في موضعه ولكنه لا يصلح للأدب، فليس فيه مزيّة تستدعي الإعجاب ولا عيب يستوجب النقد. ومن هؤلاء توفيق الحكم وأحمد أمين وحسين (لا حسنين) هيكل. وأكثر ما يُفيد ناشئةَ الأدب من هؤلاء وينير لهم طريق الكتابة هو أحمد أمين، لأنه يأخذ من الحياة مشهداً يشهده أو قصة يسمعها أو خبراً يقرؤه فيبني مقالته عليه، و «فيض الخاطر» في رأيي أنفع كتاب يتعلّم فيه المبتدئ الإنشاء.

ولست أريد الآن (ولا أقدر إن أردتُ) أن ألخّص كل ما قلت لهم وما ألقيت عليهم، أو أن أستقصي كبار كتّاب العربية فأصف أساليبهم جميعاً، ولكني أقول إني حرصت على أن أربّي في الطلاب الحسّ الأدبيّ، وأن يفرّقوا بين الأدب الأصيل والأدب المقلَّد، بين الذهب الخالص والنحاس المطليّ بالذهب. وكنت أنبّههم إلى أن المقاييس تختلف، فما يرجح في ميزان الأدب قد يكون مرجوحاً في نظر الدين، ورُبّ أديب أو شاعر يملأ اسمُه

ص: 219

الدنيا ويشغل أدبه الناس لا يساوي عند الله طرفاً من جناح ذبابة، كابن هانئ وأبي نواس من الأولين، وكثير من الشعراء والأدباء في الآخِرين.

وكنت أنبّههم إلى نصوص في الأدب لا يلتفت إليها المدرّسون وواضعو المناهج، ويشتغلون عنها بما كتب الحريري والصاحب بن عبّاد في المقامات، وما في ذلك كله إلاّ رصفألفاظ وتلاعب بها، كساحر السيرك حين يُخرِج من كفّه عشرات المناديل الملوَّنة ويأتي بما يحسبه الناس حقاً وهو باطل في باطل.

كنت أُرشِدهم إلى نصوص في السيرة فيها قصص أدبية كاملة، تجمع مع صحّة الحديث ومع أنها حقّ لا يداخله شيء من الباطل، تجمع شروط القصة كلها؛ كقصة الإفك حين ترويها أم المؤمنين عائشة، وقصة كعب بن مالك لمّا تَخلّف عن تبوك، وقصة عمر لمّا سمع أن الرسول طلق نساءه. وكنت أنبّههم إلى كلمات تسمو إلى أعلى درجات الفصاحة والبيان ولا يكاد يهتمّ بها أساتذة الأدب والإنشاء، كتوقيعات الخلفاء والأمراء التي تجدونها في مثل «العقد الفريد» ، كلمات قليلة تجمع من بلاغة اللفظ ومن عمق المعنى ما لا يكون في الكلام الطويل. وفي كتب الفقه الأولى قبل أن تفسد الملَكة ويختلّ الأسلوب كالأم للشافعي والمبسوط للسّرَخْسي. وقد كنت أقرأ فيه صفحات كثيرة لا لمعرفة الحكم الفقهي ولكن للاستمتاع بذلك البيان!

وبقية الكلام في الحلقات الآتية إن شاء الله.

* * *

ص: 220