المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌عزمت أن أطوي أوراقيوآوي إلى عزلة فكرية - ذكريات - علي الطنطاوي - جـ ٨

[علي الطنطاوي]

فهرس الكتاب

- ‌الجزء الثامن

- ‌وداع المحكمة الشرعية

- ‌في محكمة النقض في القاهرة

- ‌أشتات من الذكريات

- ‌زياراتي القديمة لمكة

- ‌حجة 1381: خواطر وأفكار

- ‌أبو الحسن النَّدْوي ومذكّراته (1)

- ‌أبو الحسن النَّدْوي (2)

- ‌أبو الحسن الندوي (3)

- ‌في مطلع العام 1987

- ‌مؤتمر القمة الإسلامي

- ‌الفقيدان الوزير والمدير،ومن قبلهما فقدنا الأمير

- ‌تعليق على الحلقة السابقة: لبّيكَ اللهمّ لبّيكَ

- ‌كيف جئتُ المملكة

- ‌وقفة على المخيَّمات

- ‌منزلي في الرياض

- ‌لمّا كنت أستاذاً في الكلّيات والمعاهد

- ‌تفسير بعض الآيات

- ‌من المستشفى المركزي في الرياضإلى مستشفى المواساة في دمشق

- ‌في مكة سنة 1384ه

- ‌في كلية التربية في مكة

- ‌يوم الجلاء عن سوريا

- ‌لمّا علّمتُ البنات

- ‌خواطر ومشاهدات عن تعليم البنات

- ‌لغتكم يا أيها العرب (1)

- ‌لغتكم يا أيها العرب (2)

- ‌ذكريات العطلة الصيفية في دمشق (1)

- ‌ذكريات العطلة الصيفية في دمشق (2)

- ‌هذه الحلقة من الذكريات مسروقة

- ‌عندكم نابغون فتّشوا عنهم بين الطلاب

- ‌عزمتُ أن أطوي أوراقيوآوي إلى عزلة فكرية

- ‌رسائل الإصلاح وسيف الإسلامانتقدت الشيوخ الجامدينوالشبان الجاحدين

- ‌الخاتمة

الفصل: ‌عزمت أن أطوي أوراقيوآوي إلى عزلة فكرية

-244 -

‌عزمتُ أن أطوي أوراقي

وآوي إلى عزلة فكرية

لمّا شرعت أكتب هذه الذكريات ما كنت أقدّر أن تبلغ أربعاً وعشرين حلقة، فوفّق الله حتى صارت مئتين وأربعين، وما استنفدت كل ما عندي ولا أفرغت كل ما في ذهني، فقد جاءت على نمط عجيب، ما سرتُ فيها على الطريق المعروف ولا اتّبعت فيها الأسلوب المألوف، فلم تجِئ مرتَّبة مع السنين ولا مقسَّمة تقسيم الأحداث والوقائع، وما كانت تستقيم دائماً على الجادة بل تذهب يميناً وتذهب شمالاً، أبدأ الحديث فلا أُتِمّه وأشرع في آخرَ فلا أستكمله، وما أدري كيف احتمل القراء واحتمل الأستاذان الكريمان الناشران هذا كله مني.

وأنا أعرف أن من عيوبي الاستطراد، ولكني لا أملك التخلص من هذا العيب، ولعلّه من أثر إدمان النظر في كتب الأدب العربي القديم، كتب شيخنا الجاحظ ومن نحا منحاه واتّبع أثره. وأنا عاكف على هذه الكتب أنظر فيها لا أفارقها، من يوم تعلّمت القراءة وأنا ابن عشر سنين إلى أن جاوزت الثمانين.

ص: 377

ومن سيّئ عاداتي أنني أكتب من ستين سنة كاملة ولكني لا أكتب إلاّ للنشر، وأني أسوّف وأؤخّر حتى لا يبقى بيني وبين موعد تسليم المقالة أو إلقاء المحاضرة أو إعداد البحث إلاّ الوقت الذي لا يتّسع إلاّ له، فأركض ركض الأرنب لا أمشي مشي السلحفاة. وأنا أقول من قديم أنْ قد كذب لافونتين وافترى، فما سبقَت السلحفاة أرنباً قطّ ولو نام على الطريق!

وكنت أفارقكم كل خميس على أن ألقاكم في الخميس الذي بعده، ولكن فراق اليوم إلى غير لقاء. لقد أحسستُ أنكم مللتم من ذكرياتي، وحقّ لكم أن تملّوا، فما أنا بالسياسي الذي يشارك في صنع التاريخ فيسرد عليكم جانباً من التاريخ الذي شارك في صنعه، ولا بالزعيم الذي يعمل على توجيه الشعب فيحدّثكم عمّا وجّه إليه شعبه، ولا بالناقد الذي استحدث مذهباً في الأدب مشى فيه ودعا إليه، فيحدّد لكم مذهبه ويبيّن لكم معالمه. ما أنا إلاّ واحد من غمار الناس، إن كتبت فلقد كتب كثيرون مثلَ الذي كتبت، وإن علّمت التلاميذ أو قضيت بين الناس فلقد كان واحداً من مئات المعلّمين والقضاة، ولكن الله أكرمه فجاء مبكّراً ونبغ قبل أوان نبوغ أمثاله. وقد يُقبَل من السابق ما لا يُقبَل من اللاحق، ولو أن رجلاً صنع الآن طيّارة كالتي طار بها رايت وأخوه وعرضها للبيع لَما اشتراها أحد بمئة ريال، ولكن طيارة الأخوين لو وُجدت لبيعت بمئات الآلاف. وسيارة فورد التي كنت أركبها إلى مدرستي في غوطة دمشق التي كنت أعلّم فيها الأولاد سنة 1931 لو طُرحت في المزاد لعدل ثمنها أثمان عشر سيارات جديدة.

ص: 378

لقد ظهرتُ مبكّراً فالتفتَت إليّ الأنظار. وما كان ذلك لأنني جئت بما لم تجئ به الأوائل أو لأن عندي عبقرية قلّ مثيلها بين الناس، بل لأن الساحة كانت خالية، أو كأنها لقلّة مَن فيها كالخالية. والبِركةُ الساكنة إن ألقيتَ فيها حصاة حرّكتها وانداحت فيها -كما يقول ابن الرومي- الدوائر، والنهر الهادر الجياش المتحدّر من الأعالي إلى الأعماق إن رميتَ فيه صخراً لم تجد للصخر أثراً. والدهر أيام ثلاثة (1):

ثلاثةُ أيامٍ هيَ الدهرُ كلُّهُ

وما هُنّ غيرُ الأمسِ واليومِ والغدِ

أما الغد فللشبان يصبّون فيه أحلامهم ويستودعونه أمانيّهم وآمالهم ويتوقعون منه المستحيل، لقد كانوا يُنشِدون ذلك النشيد الذي كان يوماً على كل لسان وكان يُسمَع في كل محفل ونادٍ:«نحنُ الشبابُ لنا الغدُ» . أمّا الأمس فللشيوخ، يستعيدون بالذكرى أيامه ويبكون بعد الفقد أحلامه، يتصورون مُرَّه حلواً وسوادَه بياضاً، لا يرون غيره، لا يقول أحدهم: سأكون؛ ولكن يقول: كنتُ، لذلك دعا العرب الشيخ الكبير «الكُنْتِيّ» (نسبة على غير قياس إلى قوله «كُنْتُ»).

وأمّا اليوم فلغافل جاهل وقفَت به همّته حيث تقف الأنعام، فكان مطلبه الشراب والطعام، فإن أخذ حاجته منهما طلب الزواج، فهمّه طعامه وشرابه ونكاحه، لا يكاد يذكر ما مضى ولا

(1) من هنا إلى آخر الحلقة الآتية هي المقدمة التي كتبها علي الطنطاوي لكتاب أخيه ناجي «كلمات نافعة» ، ونشرته دار المنارة (مجاهد).

ص: 379

يستعدّ لِما هو آتٍ. وعلى ذلك أكثر الناس، وقليل منهم مَن يعمل في حاضره لمستقبله ويزرع في يومه ليحصد في غده، فمَن زرع قمحاً حصد قمحاً، ومن ترك أرضه للشوك لم يحصد إلاّ الشوك في أصابعه والدم يخرج منها.

المستقبل للشباب. ولَطالما قاسيت من هذا المستقبل لمّا كنت شاباً، كان يقول لي أبي: اعمل لمستقبلك، ويسألني معلّمي: ماذا تريد أن تكون في المستقبل؟ فإذا أجبتُ جاء معلّم آخر غيره فأعاد عليّ السؤال، حتى تَكرّر عليّ خمسين مرة بدّلت فيها الغايات وعددتُ الطرق، وما كان شيء مما قدّرت. كنت والمستقبل كحصان ربطوا بظهره عصا طويلة ثم علّقوا فيها حزمة من الحشيش وقالوا له: اسعَ لتدركها! فمهما سعى فلن يصل إليها لأنها معه مربوطة به، تمشي إن مشى وتقف إن وقف. أطلب المستقبل في غد، فإذا جاء الغد صار المستقبل حاضراً وذهبتُ أفتّش عن مستقبل غيره.

كنت كراكب زورق في بحر هائج يوجّه زورقه الوجهة التي يراها، فتضربه موجة عاتية فتحوّله فتبدّل وجهته حيث تتجه الموجة لا حيث يريد الراكب. أحسستُ أني كصاعد الجبل، كلما بدت له صخرة حسبها الذروة فحاول الوصول إليها، حتى إذا بلغها بدت له ذروة أخرى من ورائها، فإذا بلغ أعلى الجبل فلم يبقَ أمامه ما يسمو إليه هبط من الجهة الأخرى. وأنا الآن قد بلغت الذروة التي استطعت الوصول إليها ولم يبقَ أمامي ما أسمو إليه، فرجعت أهبط من الوجه الآخر للجبل. عُدت من هذه الرحلة الشاقة، رحلة العمر، وما معي مما رأيت وما سمعت وما

ص: 380

لذذت وما أَلِمْت وما سعدت وما شقيت، إلاّ بقايا صور في ذهني وأحاديث على لساني.

هي هذه الذكريات التي طالت حتى سئمتموها ومللتم منها، فسأدع الآن حديثها.

لقد عزمت على أن أطوي أوراقي وأمسح قلمي، وآوي إلى عزلة فكرية كالعزلة المادية التي أعيشها من سنين، فلا أكاد أخرج من بيتي ولا أكاد ألقى أحداً من رفاقي وصحبي. ثم قلت: أسأل القرّاء وأسأل صاحبَي الجريدة، فإن شاؤوا اعتزلت. ولقد وضعت استقالتي تحت أيديهما من سنين ثلاث. وإن شاؤوا جعلت بدل الذكريات خواطر ومشاهدات (1)، على أن يسمحا لي ويسمح القراء قبل أن أدعها أن أُكمِل شيئاً شرعتُ فيه.

* * *

كان أمامي قبل أن أشرع في كتابة هذه الحلقة كتاب أُنجز طبعه ولم تُخَرّم كراريسه ولم يوضَع غلافه، اسمه «كلمات نافعة» ،

(1) هذا ما كان؛ فقد وقف الشيخ رحمه الله ذكرياته وبدأ بمقالات أسبوعية جعل عنوانها «صور وخواطر» ، بدأها بمقالة عنوانها «مرضى الوهم» صدرت يوم الخميس 22/ 10/1987، وقد أودعتُها كتاب «فصول اجتماعية» . وفي صدر تلك المقالة -لمن شاء أن يقرأ من القراء- مقدمة كتبها للسلسلة الجديدة. وقد تنوعت المقالات الجديدة هذه بين قديم سبق نشره، وهو فيما صدر من كتب، وجديد لم يُنشَر من قبل، وهذا وضعته (أو سأضعه) في كتب الشيخ التي صدرت (أو ستصدر) ممّا لم يصدر في حياته رحمه الله (مجاهد).

ص: 381

حملته إليّ «دار المنارة» في جدة لأقدّم له مقدّمة.

ولقد سبق أن قدّمت لأكثر من خمسين كتاباً في أكثر من خمسين سنة، أولها كان لصحفي ناشئ اسمه عباس الحامض، صار من بعد صحفياً معروفاً ثم مضى حيث يمضي الأحياء رحمه الله، وآخرها مقدّمة شرّفني بها الداعية الكبير أخي الأستاذ أبوالحسن الندوي الذي تعرفونه فلا أحتاج أن أعرّفكم به.

هذه الكراريس التي وُضعت أمامي لكتاب ألّفه أخي ناجي، القاضي من قبلُ في الشام والمستشار الشرعي الآن في وزارة الأوقاف هنا من نحو ربع قرن، فكيف أكتب مقدّمة لكتاب لأخي؟ كنت أعرف عن مؤلّفي الكتب التي أقدّمها القليل فأصوغ منه الفصل الذي يطلبونه، ولكنني اليوم حيال حياة طويلة أخبارها كلها ماثلة لعيني، أعرفها من يوم وُلد سنة 1332هـ (وكان عمري نحو ستّ سنين) إلى حين بلغت الواحدة والثمانين، فهل يمكن أن أختصر حياة طولها خمس وسبعون سنة حتى أُدخِلها في خمس صفحات تكون مقدّمة لكتاب؟ حياة رأى فيها ورأيت مثل ما يرى الناس جميعاً: أياماً بيضاً وأياماً سوداً، عرفنا فقراً وإن لم يبلغ حدّ الحاجة، واكتفاء وإن لم يصل إلى الغنى، عرفنا السرور عن طريق الحلال وعرفنا الكدر، ورأينا أزواجاً وأشكالاً من البشر، منهم الصالح ومنهم الطالح، ومنهم الوفي ومنهم الغادر، ومنهم الأمين ومنهم الخَؤون. حياة تبدّلت فيها الدنيا التي نشأنا فيها مرّات، دالت دول وحالت أحوال، ومات أقوام ووُلد أقوام، وبادت مذاهب في الفكر وفي الأدب ونشأت مذاهب، وكانت حرب وكان سلام

فما دام سرور وما دام كدر، وما دام نفع وما دام ضرر.

ص: 382

كان عالَمنا صغيراً ولكنا كنا نراه على صغره كبيراً، لم يكن عندنا إلاّ القليل ولكننا كنا راضين بقليلنا، كانت مسرّاتنا محدودة ولكنا لم نكن نطمح إلى أكثر من تلك المسرّات. لقد كنا سعداء، ولكن لم ندرك إلاّ الآن بعدما فات الأوان أننا كنا سعداء.

يحسب الإنسان أنه كلما زاد ماله واتسع اطّلاعه وعلَت منزلته كَبُرَت سعادته، وينسى أن السعادة هي قِصَر المسافة بين ما تجده وما تتمناه؛ فمن كان يجد عشرة ويتمنى عشرين فسعادته تنقص عشرة، ومن كان معه ألف وهو يطلب ألفين فنقص سعادته ألف. فنحن نحنّ إلى أيام الطفولة ونتمنى عودتها ونأسى على فَقدها، لأننا لم نكن نطلب فيها إلاّ القليل. ولست أريد أن ينشأ الشباب بلا طموح، فقد صدق شوقي لمّا قال:

شبابٌ قُنَّعٌ لا خَيرَ فيهمْ

وبُورِكَ في الشّبابِ الطامحينا

* * *

كان عالَمنا بيتنا الصغير في الحارة الضيقة في حيّ في طرف دمشق، بلغ من ضيق الحارة أنه لو مشى فيها اثنان ومدّا أيديهما لنالا جانبَيها. والمسجد الصغير الذي كان أبي إمامه، فلما توفّاه الله ولّوني أنا الإمامة وأنا لم أكمل السابعة عشرة، فقالوا لي: لا بدّ للإمام من عمامة (وإن لم يكن قد اشترطها الشارع ولا أوجبها الدين) فأدرتُ على طربوشي عمامة فصرت شيخاً صغيراً. قالوا: ولا بدّ له من لحية. قلت: العمامة أتينا بها من عند البزّاز (أي بائع القماش) فمن أين آتي باللحية؟

ص: 383

فإذا أردنا تبديلاً ذهبنا إلى بيت خالتي أم المشايخ: الشيخ شريف والشيخ سهيل والشيخ طه والسيد ثابت، وهي الشقيقة الكبرى لمحب الدين الخطيب التي ربّته وكانت له أماً بعد أن فقد أمه طفلاً. وكان هذا البيت مثلاً عجيباً للبيوت الشامية المتداخلة: يركب من جهة على بيت الجيران، له الطابق الأرضي وما فوقه للجيران، وهم يركبون ظهره من الجهة الأخرى فيكون السفل لهم وما فوقه له. ويدخل في بيت عمّي بيتُ جيرانه من الجهة الثالثة، فيكون له الوسط ولهم ما تحته وما فوقه! هندسة عجيبة. والبيوت متصلة السطوح، حتى إننا كنا نستطيع أن نقطع الحيّ كله من أوله إلى آخره من غير أن نضع أقدامنا على الأرض.

وكان الثوار (أيام الثورة السورية سنة 1925) يمشون من جوار الأموي إلى قرب باب الجابية على السطوح المتصلة. ولبعض هذه الدور بابان (كدار الشيخ هاشم الخطيب ودار الشيخ صلاح الدين الزعيم، وهو الأخ الأكبر لحسني الزعيم صاحب بدعة الانقلاب) فكان المتظاهرون يدخلون الحارة يتعقّبهم الفرنسيون ومَن كان معهم بسلاحهم ليحصروهم، فإذا ولَجوا لم يجدوا فيها أحداً. كانوا (أي الثوار) يدخلون من باب الخيضرية (الخضيرية) إلى زقاق البرغل عند باب الجابية، فيجتازون خُمس دمشق من داخل بيت الشيخ هاشم الخطيب رحمه الله! كما يدخلون بيت الشيخ صلاح الزعيم في حيّ السمّانة من طرف دمشق فيخرجون من الباب الآخر إلى طرف بساتين الغوطة.

كان متنفَّسنا حين نريد متنفَّساً أن نذهب إلى بيت خالتي عند المدرسة البادرائية بين الأموي وباب السلام، الذي كان يُدعى

ص: 384

قديماً باب السلامة. وهو أحد أبواب دمشق السبعة، وقد بقيَت ستة منها على حالها كما بقي أكثر السور سليماً. ولدمشق سوران وبينهما حي لا يزال يُسمّى إلى الآن «حيّ بين السّورين» (وإن كانت العامة تبدل السين صاداً). فإذا مشيت من باب السلام مشرّقاً بلغت باب توما ثم الباب الشرقي، وهو آخر الطريق المستقيم الذي ذُكر -كما أظنّ- في التوراة، فيكون بذلك أشهرَ شارع في التاريخ. وقد ورد في الأثر أن المسيح ينزل في آخر الزمان عند «المنارة البيضاء» شرقيّ دمشق، والله أعلم بصحّة الذي رُوي (1).

وأول هذه الطريق بابُ الجابِيَة الذي دخل منه أبو عبيدة دمشق صلحاً، كما دخلها خالد من الباب الشرقي فتحاً فالتقيا وسط معبد دمشق، الذي كان معبداً وثنياً ثم صار كنيسة نصرانية، ثم غدا مسجداً من أقدم مساجد الإسلام وأجملها، فقسموه بين المسلمين والنصارى، فكان ما حازه خالد عنوة مسجداً وما كان في حيّز أبي عبيدة بقي بالصلح كنيسة، فلما كان عهد الوليد ارتفع الصوت بالشكوى: المسلمون يشكون من قرع النواقيس وقت الصلاة والنصارى يشكون من ارتفاع الأذان، فبنى الوليد للنصارى الكنيسة الكبرى، بُنيت لهم بأموال المسلمين وبأيديهم ونقلهم برضاهم إليها، وأخذ منهم الكنيسة فضمّها إلى المسجد.

(1) لا أعلم سبب هذا التعليق هنا؛ فحديث الدجّال الذي فيه خبر نزول عيسى بن مريم عليه السلام عند المنارة البيضاء شرقي دمشق، هذا الحديث في صحيح مسلم وسنن الترمذي وأبي داود وابن ماجه، وفي شرح النووي لصحيح مسلم أنه من الأحاديث الصحيحة في هذا الباب (مجاهد).

ص: 385

ولي كتاب صغير عن «الجامع الأموي» ألّفته لوزارة الأوقاف أيام الوحدة، جمعتُ فيه تاريخ المسجد: أبوابه ومآذنه ومحاريبه وكل ما يتصل بخبره، ولم أذكر فيه المراجع التي رجعت إليها لأني وجدت أساتذة كباراً جداً أخذوا ما كنت جمعت من أخبار أبي بكر وعمر في الكتابين الجامعَين اللذين ألّفتهما عنهما وطُبعا في أوائل الثلاثينيات من هذا القرن الميلادي (نحو سنة 1352هـ) أخذوها ونسبوها إلى المصادر التي نقلتُ عنها، وهم لم يروا هذه المصادر ولم يصلوا إليها لأن بعضها مخطوط في الظاهرية! وأبطلوا جهدي وهدروا تعبي، ولذلك حديث طويل ليس هنا مكانه.

* * *

وكنا إذا أردنا نجعة أكبر وتبديلاً أكثر ذهبنا إلى بيت عمّي الأكبر الشيخ عبد القادر، الذي كان المرجع في علم الفلك الإسلامي وكان منزله في العفيف في أوائل حيّ المهاجرين. وقد أنشأ هذا الحيَّ الأتراكُ للمهاجرين من أهل إقريطش (كريت) وما والاها لمّا غلبهم الكفار على أرضهم وانتزعوا منهم جزيرتهم، وكان موضع «المهاجرين» ممتلئاً بالمدارس، تقوم صفاً متصلاً على كتف نهر يزيد متجاورة لا يكاد يُحصى عددها، من الصالحية إلى السفح المطلّ على الوادي. وفي قاسيون واديان: الوادي الأكبر الذي يجري فيه بردى، ويقدّر العلماء أن مجراه هو الذي أنشأ الله به هذا الوادي في سوالف الدهر. وهو من أجمل أودية الدنيا، لا أعرف مثله إلاّ وادي الآرْدِن في بلجيكا الذي يجري فيه نهر الموز، وفيه قرية دينان حيث كانت المعارك في الحربين العالميتين بين الحلفاء والألمان.

ص: 386

فإذا رمينا بأبصارنا إلى بعيد وبلغناه بخيالنا تصوّرتُ مصر وفيها خالي محب الدين الخطيب، وإسطنبول وفيها عمّي الشيخ عبد الوهاب، يلاحق قضية لنا مع آل الصلاحي بقيت في المحاكم بين دمشق وإسطنبول ثلاثاً وثمانين سنة.

وكانت أمي رحمها الله تُلزِمني أن أكتب إلى أخيها رسالة، وكان ذلك سنة 1335هـ لمّا بدأت أتعلم الكتابة وأنشئ الرسائل. تقول لي كل يوم، وربما كرّرت لي القول مرتين في اليوم: ياعلي الله يرضى عليك اكتب لي مكتوباً إلى خالك في مصر. ولم يكن يُرضيها أن تكون الرسالة من إنشائي أنا فلم يكن يعجبها إنشائي، بل أن أختار لها ديباجة حلوة من كتاب «الإنشاء العصري» ، وكان يشتمل على جميع أشكال الرسائل: رسائل الاستعطاف والاعتذار والتهنئة والتعزية، التي تُرسَل إلى الوزراء أو الرؤساء أو الأهل والأقارب أو الإخوان أو الأصدقاء. وتقول لي: اقرأ الديباجة حتى أسمعها. لأنها رحمها الله لم تكن تقرأ أو تكتب، مع أن عمّتي (وهي أسَنّ منها بخمس عشرة سنة) كانت تكتب وتقرأ وتحفظ كثيراً من آيات الكتاب ومن أحكام الفقه، وكانت قد تعلّمته من رسالة لمحمود الحمزاوي، أشهر مُفتٍ في دمشق في القرن الماضي، اسمها «علم حال» ، وهو كُتيّب في أصول الدين وأصول الفقه وفي الحلال والحرام وفي الآداب والأخلاق وضعه لتلاميذ المدارس الابتدائية، ولم يكونوا يفهمون منه شيئاً فكانوا يحفظونه غيباً ويردّدونه كما تردّد الببغاء ما يُلقى عليها! وكانت عمّتي مع أول فوج تَخرّج في مدارس البنات التي أُنشئت بهمّة الشيخ طاهر الجزائري في أواخر القرن الثالث عشر الهجري وكان

ص: 387

تاريخ شهادتها سنة 1300هـ.

أقول وأعود إلى الموضوع بعد أن خرجتُ عليه: إن أمي كانت ترتضي الديباجة فتكلّفني نقلها من الكتاب إلى الورق ثم إرسالها إلى أخيها. فمكرتُ يوماً فكتبتُ إليه: "السلام عليكم ورحمة الله، نحن بخير، والرسالة في الصفحة كذا من كتاب الإنشاء العصري. أقول هذا توفيراً لوقتك ووقتي وتسهيلاً عليك وعليّ"، فرَدّ عليّ مسروراً بما فعلت بكتاب لا يزال عندي، يثني فيه على فعلي لأنني -كما قال- حفظت له وقته.

أما عمّي الذي في إسطنبول فما كنت أكتب إليه لأنني لا أعرف عنوانه.

* * *

يا لله كم تبدّلَت الدنيا من تلك الأيام إلى الآن! ذهب عالَم وجاء عالم آخر. كنت أصدر سنة 1348هـ رسائل متتابعة اسمها رسائل «في سبيل الإصلاح» ، جعلتُ إحداها صورة أدبية خيالية لِما تكون عليه دمشق بعد تسعين عاماً وجعلت ذلك عنوانها، أفتدرون ما الذي كان من ذلك مما نراه الآن، لا بعد تسعين عاماً بل بعد ستين فقط؟ إن الذي تصورتُه بخيالي الجامح الذي لا يقف عند حدّ لم يبلغ ربع ما وقع الآن.

* * *

ص: 388