المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفقيدان الوزير والمدير،ومن قبلهما فقدنا الأمير - ذكريات - علي الطنطاوي - جـ ٨

[علي الطنطاوي]

فهرس الكتاب

- ‌الجزء الثامن

- ‌وداع المحكمة الشرعية

- ‌في محكمة النقض في القاهرة

- ‌أشتات من الذكريات

- ‌زياراتي القديمة لمكة

- ‌حجة 1381: خواطر وأفكار

- ‌أبو الحسن النَّدْوي ومذكّراته (1)

- ‌أبو الحسن النَّدْوي (2)

- ‌أبو الحسن الندوي (3)

- ‌في مطلع العام 1987

- ‌مؤتمر القمة الإسلامي

- ‌الفقيدان الوزير والمدير،ومن قبلهما فقدنا الأمير

- ‌تعليق على الحلقة السابقة: لبّيكَ اللهمّ لبّيكَ

- ‌كيف جئتُ المملكة

- ‌وقفة على المخيَّمات

- ‌منزلي في الرياض

- ‌لمّا كنت أستاذاً في الكلّيات والمعاهد

- ‌تفسير بعض الآيات

- ‌من المستشفى المركزي في الرياضإلى مستشفى المواساة في دمشق

- ‌في مكة سنة 1384ه

- ‌في كلية التربية في مكة

- ‌يوم الجلاء عن سوريا

- ‌لمّا علّمتُ البنات

- ‌خواطر ومشاهدات عن تعليم البنات

- ‌لغتكم يا أيها العرب (1)

- ‌لغتكم يا أيها العرب (2)

- ‌ذكريات العطلة الصيفية في دمشق (1)

- ‌ذكريات العطلة الصيفية في دمشق (2)

- ‌هذه الحلقة من الذكريات مسروقة

- ‌عندكم نابغون فتّشوا عنهم بين الطلاب

- ‌عزمتُ أن أطوي أوراقيوآوي إلى عزلة فكرية

- ‌رسائل الإصلاح وسيف الإسلامانتقدت الشيوخ الجامدينوالشبان الجاحدين

- ‌الخاتمة

الفصل: ‌الفقيدان الوزير والمدير،ومن قبلهما فقدنا الأمير

-225 -

‌الفقيدان الوزير والمدير،

ومن قبلهما فقدنا الأمير

كنت أهمّ أن أكتب في الحلقة الماضية عن «مدرسة التلفزيون» ، عن اقتراح رفعتُه إلى وزارة المعارف من نحو عشرين سنة ودارت فيه رسائل رسمية وشخصية بين ثلاثة هم: وزير المعارف الشيخ حسن بن عبد الله بن حسن، ووكيلها الشيخ عبد الوهاب عبدالواسع، ومدير مدارس الثغر الشيخ عبد الرحمن بن صالح التونسي. وكنت أرتّب هذه الرسائل وأحاول أن ألخّصها وأن أجلو للقراء صورة عنها، وبينما أنا في ذلك إذ جاءت الجريدة وفيها نبأ أحسست أنه مسّ أعصابي مسّ تيار الكهرباء، نفضني نفضاً، ومعه نبأ مثله، فزُلزلتُ زلزالاً؛ ذلك هو نبأ المصاب بالوزير وبالمدير، أسأل الله لهما الرحمة، وللوكيل (الذي هو اليوم وزير الحجّ والأوقاف) طولَ العمر ودوام التوفيق.

لقد سقط الشيخ حسن كما يسقط المجاهد في المعركة يمضي شهيداً سعيداً، قضى وهو ينظر في داره في المعاملات الرسمية التي لا ينظر غيره فيها إلاّ في المكتب وفي ساعات

ص: 145

الدوام، وبعضهم يسرق جانباً من ساعات الدوام فلا يكون فيها في المكتب، وبعضهم يسوّف ويؤجّل ويدع أصحاب الحاجات يتقلبون من انتظار إنجازها على الجمر. وأذّن المغرب فقام ليلبّي داعي الله، وطلب كأساً من الماء فجاؤوه به، ولكن المقدار عاجله فلم يشرب الماء.

فقعدت أفكر: أهذه هي الدنيا التي نتزاحم عليها ونتسابق إليها ونجعلها أكبر همّنا؟ أفي مثل ردّة الطرف ولمحة البرق يصير الإنسان الحيّ الذي كان ملء الأنظار والأسماع ذكرى تُذكر وحديثاً يؤثر؟ أمّا كأس الماء فإني أسأل الله أن يشربها من أيدي الحور العين في جنة النعيم بفضل الله ورحمته، إننا ندعو ولا نملك له ولا لأنفسنا شيئاً.

ومن قبلُ فاجأني وهزّني نعي الشيخ إبراهيم بن عبد العزيزبن إبراهيم. ثلاثة عرفت آباءهم قبل أن أعرفهم.

أما الشيخ إبراهيم فكان فتى يافعاً يوم عرفت أباه وأنزلني ضيفاً عليه مع الشيخ ياسين الروّاف في قصر الإمارة، أيام مقامنا في المدينة المنورة. وقد جالست الشيخ إبراهيم يومئذ فرأيت ذهناً متوقداً وذكاء حاداً، ورغبة في العلم والأدب واطّلاعاً على آثار الكبار من أدباء ذلك الزمان، كالعقّاد والمازني والرافعي والزيات وهيكل (حسين لا حسنين). ثم سافرت وانقطع ما بيني وبينه، حتى قدمت المملكة سنة 1963 وكان وكيل إمارة مكة المكرمة، فلم يُنسِه طول المدى ولا كبر المنصب أنني جالسته ساعات قبل نحو ثلاثين سنة، فدعاني. وحاولت -على عادتي- الفرار من الدعوة،

ص: 146

فسدّ عليّ مسالك الهرب حتى استسلمت وألقيت السلاح. وكانت جلسة استمرّت خمس ساعات، ولو استمرت خمسة أيام لَما مللتها ولا ضقت بها، لأنني وجدته قد نضج وكملَت فضائله وازدادت معارفه.

أمّا الشيخ حسن والشيخ عبد الرحمن فلم ألقَهما في قَدْمتي تلك إلى المملكة سنة 1353هـ لأنهما وُلدا سنة 1352.

* * *

وكذلك يغدو الإنسان في هذه الدنيا حديثاً بعده. ولكن الحديث عن هؤلاء الثلاثة يعبق منه العطر وترتاح له كل أذن ويصدقه كل سامع، وإذا ذكر فَقْدَهما المفاجئ قطر من عينه الدمع فشاركَت فيه كل عين وأسِيَ له كل قلب.

ما عرفت لهؤلاء الثلاثة كارهاً، فكأنهم وسعوا الناس بحسن الخلق ولين المعاملة، مع الاستقامة على طريق الحقّ. وإذا كانت ألسنة الخلق أقلام الحقّ كما يقول الناس، فإني لأرجو أن يكون هذا الكثير الطيب الذي كُتب عنهم شهادة عند الله لهم.

أنا ما كنت ألقى الشيخ حسن والشيخ عبد الرحمن عليهما رحمة الله مرتين في السنة، ولكني كنت مطمئناً عليهما اطمئنان الأخ على أخيه وهو بعيد عنه، فإن أصابته مصيبة شاركه مصابه وإن أنعم الله عليه نعمة فرح بها له.

ولم أكن أتوقع أبداً أن أقرأ خبر وفاتهما، لذلك صُدمت به لمّا سمعته، كما صدمني من قبلُ خبر وفاة الشيخ إبراهيم لمّا

ص: 147

قرأته، لأنني عرفت آباء الثلاثة قبل أن أعرفهم. ولو كان الموت يأتي بالدَور يُصيب الأكبر فالأكبر لكنت أنا سابق الثلاثة، ولكن لله حكمة تقف دونها أفهام الناس.

أمّا الشيخ عبد الله بن حسن فقد كان يوم قدمتُ المملكة قاضي القضاة، وكنت أزوره كل يوم في المحكمة التي كانت في شمالي الحرم ودخلَت الآن فيه لمّا وُسّع وجُدّد بناؤه، وكان صدّاعاً بالحقّ مقيماً للشرع، ورأيت منه -على ذلك- شفقة وعاطفة ورقّة قلب. كان متعبداً صالحاً، ما جئت للحرم للصلاة مدّة إقامتي القصيرة في مكة إلاّ وجدته في الصف الأول يقرأ القرآن ينتظر الصلاة. ومَن كان في انتظار الصلاة كان في صلاة. وكان يفتي على مذهب الإمام أحمد، فإذا جاء الحديث الصحيح على غير المعتمَد في المذهب أخذ بالحديث. وهذا هو الحقّ، ولقد وفّقني الله إليه بعدما لبثت دهراً من عمري حنفياً لا أعدل بمذهبي شيئاً ولا أدعه بحال، وأنا أستغفر الله الآن مما كنت عليه وأحمده على ما صرت إليه.

وأمّا الشيخ صالح التونسي فكان شيخي، لزمتُه سنين وسنين يوم كان مقيماً في دمشق، وكان مدرّساً لنا في المدرسة الجقمقية عند الباب الشمالي للجامع الأموي، وقد سبق الكلام عنه وعنها في هذه الذكريات. وكان صديق أبي، فأرسلني إليه أقرأ عليه دروساً خاصة في غرفته في المدرسة البادرائية، وهي مما بنى الأجداد من المدارس.

وكنت قبل ذلك أقف على حلقته في الجامع الأموي يوم

ص: 148

كانت حلقات الدروس في هذا الجامع كثيرة، وكانت الحلقة الكبرى منها تحت قبة النسر يتولاّها أكبر علماء الحديث في البلد، وكان مدرّسها على عهدنا الشيخ بدر الدين الحسَني شيخ علماء الشام. وكانت حلقة الشيخ صالح تمتاز منها كلها لأنها كانت كالمدرسة الجامعة، فيها حديث وفيها قواعد في المصطلح وفي الأصول وفيها تاريخ وشعر وأدب، وكان الشيخ فصيح العبارة طلق اللسان كثير السجع، يأتي معه عفواً بلا تكلُّف بلهجته التونسية الجميلة.

وفي هذه الحلقة عرفت أول مرة الأستاذ سعيد الأفغاني سنة 1338هـ، واستمرّت صحبتنا العمر كله ثم صار عديلي، جدّ زوجتَينا (والد أمّهما) الشيخ بدر الدين الحسني.

وقدّمت القول بأن الشيخ صالح كان شديداً فما كنا نحبّه ونحن صغار، فلما كبرنا وأدركنا مبلغ ما استفدنا منه من علم ومن أدب، بل ومِن دين ومن خُلُق، أحببناه. ثم ودّعَنا وهاجر إلى المدينة المنورة فكان مدرّس المسجد النبوي، وكان ذلك في الأربعينيات من هذا القرن الهجري، لأنني لمّا جئت المدينة في رحلتنا تلك من أربع وخمسين سنة كان قد مرّ عليه زمان وهو فيها.

وفي المدينة تزوّج (كما أظن) ووُلد له الفقيد الأستاذ عبدالرحمن رحمه الله، ومن قبله الأستاذ الطيّب الذي بلغ أعلى السلّم في الرتَب العسكرية، على علم وفضل وسعة اطلاع، أطال الله عمره. وله إخوة ما عرفتهم. وفهمت أن عمّ أمهم هو شيخنا وأستاذنا في المدرسة السلطانية الثانية في دمشق سنة 1337هـ

ص: 149

وهو الشيخ زين العابدين التونسي، الأخ الأصغر لشيخ مشايخنا السيد الخضر الحسين، الذي ولي مشيخة الأزهر وأسّس جمعية الهداية الإسلامية في مصر يوم أُسّسَت جمعية الشبان. وكنت ألقاه في المطبعة السلفية عند صديقه خالي محب الدين، وهو صديقه، كما ألقى العالِم النبيل المؤرّخ المحقق أحمد تيمور باشا، وكانا متشابهَين في سعة العلم وشدّة الحياء وكثرة التواضع ولين الجانب.

وعندي عن الشيخ صالح رحمه الله الكثير الكثير، ولو جمعت ذهني يوماً لكتبتُ له ترجمة كاملة، أسأل الله أن يوفّقني إليها.

* * *

أكتب هذا الكلام وأمامي رسائل كثيرة من الشيخ حسن والشيخ عبد الرحمن رحمهما الله، والشيخ عبد الوهاب عبد الواسع أطال الله عمره، لو أنني نشرتها وأمثالَها لجاء منها كتاب فيه تاريخ وفيه أدب وفيه فوائد، كما نشر الأمير شكيب أرسلان رسائل السيد رشيد رضا، وكما نشر الشيخ أبو ريّة رسائل الأستاذ الرافعي.

وكانوا من تواضعهم يكتبون بخطوطهم، وإذا كانت معاملة رسمية (وفي المعاملات الرسمية بعض الجفاف) بلّلها الوزير الشيخ حسن بكلمات يكتبها بخطه الرقعيّ الجميل يضعها إلى جنب العنوان الرسمي، أقلها كلمة «الأخ» ، ويضع مع السلام في آخر الرسالة دعوة صالحة أو تحية حلوة، تحوّلها من رسالة نمطية روتينية رسمية إلى رسالة أخوية عاطفية.

ص: 150

أما الأستاذ عبد الرحمن فلم يكتب إليّ يوماً إلاّ بخطه، وكان يصدّر رسائله بعبارات تدلّ على نبله وعلى أدبه لا على أني أستحقّها أو أني أهل لها.

ولولا أن الانكماش مستقرّ في طبعي وأن حب العزلة والهرب من المجالس غالب عليّ، ولو أني تعودت أن أغشى المجالس وأن أدنو من الأعلام لكتبت عنهما وعن غيرهما ما لا يكتب مثله كثير من الناس؛ ذلك لأنني مُنحت بحمد الله عيناً تلحظ وذهناً يحفظ وأذناً تلتقط وقلماً يعبّر، ولو أني تعودت مخالطة الرجال وغشيان مجالسهم التي كانت مفتوحة لي ترحّب بي لكتبت الكثير الكثير.

مرّ عليّ الآن وأنا أعمل في المملكة نحو ربع قرن، لو أني كتبت عن أيامها مفصّلاً لَما خلت نصف أحداثها من ذِكر وزير المعارف الشيخ حسن رحمه الله (الذي صار بعدُ وزير التعليم العالي) ووكيل الوزارة الأستاذ عبد الوهاب (الذي صار بعدُ وزير الحج والأوقاف) وصديقهما وصديقي الأستاذ عبد الرحمن رحمه الله.

وأنا قلما أزور أحداً، ولكنني زرت الشيخ حسن في داره في الرياض، ودعاني إلى طعامه فتلفّتُّ أجد المهرب فما استطعت، فأجبت، ووجدت في طعامه الشفاء لأنه رجل صالح كريم. وزرته في داره في الطائف وفي دار أمه في مكة، إلى جنب مسجد أبيه الذي جُدّد الآن رحمه الله ورحم أباه، وأشهد أنه كان من أبرّ الناس بأمهاتهم، وهذا من دلائل الصلاح. ولا نزكّي على الله

ص: 151

أحداً ولكن نشهد بما علمنا. ومن دلائل صلاحه هذه الورقة التي كانت يكتبها لنفسه وهو في مجلس الوزراء في اليوم الذي توُفّي فيه في لحظات راحة تأتي خلال المذاكرات، ومثل هذه الأوراق تدلّ على ما في عقل صاحبها الباطن، فمن الناس من يرسم عليها صوراً أو يكتب شيئاً لا معنى له، وهذه ورقة كتبها لنفسه، لولا أن الله توفّاه فبقيَت على مكتبه في مجلس الوزراء فاطّلعَت عليها فنشرَتها بخطّه جريدةُ الرياض (عدد 21 جمادى الأولى 1407) لَما علم بها أحد، فهي شيء بينه وبين ربه.

وهذه هي الكلمة منشوره بخطه، فيها: أشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وصفيّه من خلقه، أدّى الأمانة وبلّغ الرسالة، وجاهد في الله حقّ جهاده حتى أتاه اليقين. اللهم اهدِنا لِما اختُلف فيه من الحقّ بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم. ربنا لا علم لنا إلاّ ما علّمتنا إنك أنت العليم الحكيم. سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلاّ أنت، أستغفرك اللهمّ وأتوب إليك.

وكتبت الجريدة تحتها: كان هذا الدعاء هو آخر ما خطّه بيده معالي الشيخ حسن بن عبد الله آل الشيخ رحمه الله في آخر جلسة حضرها لمجلس الوزراء، أطلع عليه خادمَ الحرمين الشريفين صاحبُ السموّ الملكي الأمير سعود الفيصل الذي وجده مكتوباً في الملف الذي أمام مقعد الفقيد الراحل، تقبّل الله دعاءه وتغمّده بواسع رحمته وغفرانه.

هذا ما كتبَته الجريدة، وأنا أقول مخلصاً من قلب مؤمن:

ص: 152

اللهمّ آمين، فقولوا «آمين» ياأيها القراء واستغفروا له وللفقيد الآخر، واستغفروا الله لأنفسكم وللمسلمين.

ولا تظنوا أني ذهبت إليه أزوره في جدة وفي مكة وفي الطائف وفي الرياض لحاجة لي، لا، ولكن مشيت في حاجات الناس لمّا كانت لي طاقة على المشي فيها، أمّا الآن فقد صرت متقاعداً، وحقّ لي ذلك فأنا أكتب هذه الحلقة عصر يوم الجمعة 23 جمادى الأولى من عام 1407، وقد وُلدت فجر يوم الجمعة 23 جمادى الأولى عام 1327.

فهذه ثمانون سنة كاملة، ودخلتُ اليوم في الحادية والثمانين. والفقيدان الشيخ حسن والأستاذ عبد الرحمن لم يُكمِلا الخامسة والخمسين، ولو كان لي من الأمر شيء ولو ضمنت حسن الخاتمة لفديتهما بنفسي، لأنهما ولأن أمثالهما أنفع لهذه الأمة مني.

* * *

أنا في كل يوم أودع راحلاً كريماً يحمل معه قطعة من نفسي وحزمة من ذكرياتي، وما الحياة إلاّ مجموعة الذكريات. ولقد قلت من قديم إن المرء يحيا بمنظر الحيّ من سطح داره، ومنعطف الشارع من نافذة غرفته، والمنارة التي يرى ذروتها منها، والوجوه التي ألِف أن يراها، والأصوات التي تعوّد أن يسمعها، فإن نقص شيء منها نقص شيء من حياته هو.

لقد ودعت في المملكة أعزّة كنت أحبهم، منهم من لم يكن يدري بي ولا بحبي لأنه كان في الذروة وأنا على السفح؛

ص: 153

ودّعت الملك المؤسّس العبقري عبد العزيز الذي بنى دولة أقامها على تقوى الله، وساسها سياسة أدهشت دهاقين السياسيين ممّن درس في الجامعات وعاش في مراكز الحضارات، وهو الذي لم يدرس إلاّ في جامعة الحياة وهو الذي عاش شطراً من حياته في هذه الصحراء. الصحراء التي لا تعرف النفاق لأنها مكشوفة، ليس فيها كما في المدن سقوف ربما أخفت تحتها الموبقات ولا جدران ربما حجبت الجرائم والخطيئات، الصحراء التي لا يعيش فيها إلاّ الأقوياء، تعيش فيها أُسْد الفلاة ولكن لا تعيش فيها الجراثيم ولا المكروبات. الصحراء التي فقدنا كثيراً من مجدنا لمّا نسينا أخلاقها، كما نسيها يوماً جنود هانيبعل (هانيبال) الذين هبطوا منها على روما من فوق جبال الألب، فلما عاشوا فيها واستسلموا إلى الدعة وألِفوا عيش المدن استرخوا وضعفوا. لذلك ترك ابن تاشفين الأندلس، جنة الأرض، وعاد إلى الصحراء خشية أن يحلّ بجنده ما حلّ بجند هانيبال.

وودّعت من إخواني هنا نفراً كراماً كانوا إخوة حقاً وكانوا أصدقاء. وما كل أخ صديقاً. وكلهم أصغر مني سناً، الدكتور محمد أمين المصري، والأستاذ محمد المبارك، والأستاذ ظافر القاسمي، ومَن كان بعضهم من تلاميذي كالأستاذ عبد الرحمن رأفة الباشا.

فحتّى متى أبقى ويظعَنُ إخوةٌ

أُوَدّعُ منهمْ راحلاً غيرَ آيِبِ؟

* * *

أشهد أني ما راجعت الوزير الشيخ حسن رحمه الله،

ص: 154

ولا الوكيل يومئذ الأستاذ عبد الوهاب أبقاه الله، ولا وسّطت الأستاذ عبد الرحمن رحمه الله إلاّ كان الجواب بالإيجاب. وقد جاءني من أسبوع زوج بنتي الصغرى يذكّرني بأفضال الأستاذ عبد الوهاب عليه يوم نُقل (من غير رضاه) من جدة إلى الرياض قبل ثلاث وعشرين سنة، ولم يكن قد صار زوج بنتي، فكلّمت الأستاذ عبد الوهاب فلما اقتنع بأنه مظلوم أمر بإعادته فوراً.

وإذا كان الشيخ حسن رحمة الله على روحه أقربَ إلى اللين فإن الشيخ عبد الوهاب كان أدنى إلى الحزم، وكلاهما كان مع الحقّ وفي اجتماعهما التكامل. ولمّا كانت قضية إنهاء عقود طائفة من الأساتذة السوريين من أكثر من عشر سنين، بوشاية ما لها أصل تولّى كبرها ناسٌ لم يبقَ منهم أحد، منهم من فارق هذا البلد ومنهم من فارق الدنيا كلها غفر الله لهم وسامحهم، كلّمت الوزير الشيخ حسن، فكان منه ومن الأستاذ عبد الواسع أن أعادهم لمّا تبيّن له أن الحقّ معهم، وكان للأستاذ عبد الرحمن فضل كبير في ذلك.

كان الثلاثة دائماً معاً، وهم مَثَلٌ عالٍ للصداقة الصافية. ولمّا ولي الأستاذ عبد الرحمن إدارة مدارس الثغر زُرته فوجدت منه بعض اللين، فخِفت عليه -لا أكذب القراء- لأن سلفه رحمه الله كان موصوفاً ببعض الشدة من غير ظلم، وفي مدارس الثغر أبناء الأكابر وهم غالباً مدلَّلون يصعب قيادهم، وقد تعوّدوا على ما كان من سلفه، فكيف يقوم أودهم ويضمن طاعتهم؟ ثم تبيّن لي أنه ليس كل ليّن ضعفاً. وأنتم تعرفون مَثَل الفلاح لمّا كان عليه المعطف الثقيل فتنافسَت الريح والشمس أيهما يستطيع أن ينزع

ص: 155

عنه معطفه؟ فعصفَت الريح وزعزعت الأشجار وأثارت الغبار، فبرد الفلاّح فأضاف إلى المعطف عباءة، ثم طلعَت الشمس صامتة هادئة فسَرَت الحرارة في جسده فألقى عنه المعطف.

كان الأستاذ عبد الرحمن يسوس الطلاب سياسة أب رفيق ولكنه حازم، وكان مع الأساتذة أخاً لطيفاً ولكنه أخ مُطاع. كنت أزوره في النهار تارة وأزوره في الليل حينما أقدم جدة، فأراه مع الطلاب يبشّ في وجوههم وينبسط إليهم ولا يعلو عليهم، وكذلك يعامل الأساتذة والمدرسين.

كنت أحدّثه يوماً عن التلبية في الحج، إذ تُذاع من الإذاعة والرائي بنغمة رتيبة ليس فيها حماسة المسلم ولا تتجلّى فيها روعة المناجاة، وقلت له: لو وجدت مَن يلبّي معي لجعلت لإلقائها أسلوباً آخر. فقال: لولا أني تعِب لذهبت معك فلبّيت مع الشباب، تقول أنت ما تقول فإذا وصلتَ إلى التلبية لبّينا معك. وسمع ذلك وكيلُ المدرسة، وأظنّ أن اسمه الأستاذ أبو الخير، فذهب معي إلى الرائي (التلفزيون) وذهب بعض المدرسين، وكان فيهم مدرّس من الشام نسيت اسمه له صوت جميل ومعرفة بالألحان، فسجّلنا التلبية بأسلوب جديد أذاعوه وأُعجب به الناس، ثم لم يعودوا إلى إذاعته. فانظروا كيف استطاع بلينه أن يجعل وكيل مدارس الثغر يذهب فيكون في جوقة (كومبارس) في الرائي لايجد في ذلك بأساً، ولو أمره بذلك أمراً لاستنكف وعصى.

* * *

هؤلاء الثلاثة الذين عرفت آباءهم حقّ المعرفة، ثم عرفتهم

ص: 156

وأحببتهم وخالطتهم، ثم فُجعت بهم، كانوا نماذج في حُسن الخلق وفي نبل النفس، وفي محبتهم الناسَ ومحبة الناس إياهم، وفي الإقبال على العمل والدأب عليه، والذين حزنتُ عليهم حقاً ودعوت لهم من قلبي بالرحمة والغفران ولآلهم وذويهم بالصبر والسلوان: للأستاذ الجليل الشيخ عبد العزيز، الأخ الأكبر للشيخ حسن الذي كان وزير المعارف قبله، والفريق (الجنرال) الأستاذ الطيب، وهو الأخ الأكبر كما أظن للأستاذ عبد الرحمن، ولأولادهم الذين لم أشرف بمعرفتهم، لا لأن مثلهم يُجهل مكانه بل لأنني فرضت على نفسي من سنين عزلة كاملة، فلا أخرج من داري إلاّ إلى المسجد أو إلى الإذاعة أو الرائي. ولقد عرفت من أنسباء الأستاذ عبد الرحمن أن معالي الأستاذ الكاتب الفاضل الشيخ عبد العزيز السالم هو عديله (وربما سُمّي مسلم ابن عبدالله المسلم في مقالاته الجِياد)، فلهؤلاء مني أجمل العزاء ولمن اختاره الله إلى جواره الرحمة والغفران.

* * *

ص: 157