الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
-231 -
تفسير بعض الآيات
لا أزال في الحديث عن أيامي في الرياض، وإني لأعجب من نفسي: لقد كان لي يومَ ذهبتُ إلى الرياض زوج ولي بنات، فلماذا تركتهن في دمشق وقدمت الرياض وحدي؟ إني لأفكر فلا أجد لذلك إلاّ سببين: الأول أني أردت أن أجنّبهن مشقّة الغربة وآثرت أن أحتملها وحدي، والثانية أنني قضيت شطر عمري منفرداً؛ كنت في صغري لا أجد أحداً ألعب معه لأنني كبير إخوتي فليس فيهم من هو في مثل سنّي، ولم تكن لي ولا لأحد من إخوتي رفقة من أبناء الجيران، وما كنت ألعب في الزّقاق (ولم أقُل في الشارع لأنه لم يكن في دمشق شارع!) ولا كان لي من رفاق المدرسة من تُجاوز صلتي به بابَ المدرسة، فكنت إذا خرجت منها مشيت وحدي إلى الدار.
ولمّا كبرت وغامرت في الحياة العامة، وجريت مع من جرى في ميدان السياسة وعملت مع من عمل في الأدب وفي الصحافة، كنت مع الناس من غير أن أداخلهم، حتى حين كنت أعلو المنابر وأخطب في الجماهير تلك الخطب التي كانت تشتعل اشتعالاً وتشعل الحماسة في صدور سامعيها، كنت وحيداً قبل
الخطبة وكنت أعود وحيداً بعدها. وحين احترفت الصحافة لم تجاوز صلتي بأهلها حدودَ المهنة، فلا أحضر مجالسهم ولا أدخل مداخلهم.
ثم صرت معلّماً أولياً في قرى دمشق، فكنت أنام في القرية أحياناً: في سَقْبا في الغوطة الشرقية أولاً، ثم في زاكية من أعمال قَطَنا على ذيل جبل الشيخ، ثم في بغداد مدرّساً فيها، وفي البصرة في جنوبي العراق وفي كركوك في شماليه، وفي بيروت في الكلية الشرعية التي صارت تُدعى الآن أزهر لبنان. وبعد إعلان الحرب الثانية ذهبت مدرّساً إلى دير الزور سنة 1940، ثم جئت الرياض.
وظننت أني ألِفت الوحدة بعدما صحبتها هذه السنوات الطوال وأنها سَهُلت عليّ وصارت كالطبع لي، ولم أدرِ أن ما قاسيت منها من قبل ملأ الكأس حتى قالت قَطْني، وأنه لم يبقَ إلاّ قطرة واحدة لكي تفيض، فجاءت أيامي في الرياض القطرةَ التي فاضت منها الكأس وكانت القشّةَ التي زعموا أنها قصمت ظهر البعير؛ فثقُلَت عليّ الوَحدة فيها حتى كلّت نفسي عن حملها، وما كنت أشكوه من قبلُ وجدتُه صار الآن هيّناً بجنب ما شكوته من الوحدة فيها.
وكانت أمامي وأنا أكتب هذه الحلقة مجموعة كاملة جديدة من مجلة «الرسالة» تفضّل معالي الصديق النبيل الشيخ إبراهيم العنقري فأهداها إليّ، وهممت على عادتي بالاعتذار عن قَبولها، ثم تصوّرت متعة نفسي بها وعظم أثرها فيها فأخذتها شاكراً فضل
مُهديها. ورأيتها تردّني خمسين سنة في طريق العمر فتحملني إلى عهد كان من أجمل عهود حياتي، تردّني إليه حين استحال أن تردّ تلك الأيام عليّ وتحملها إليّ. وسأكتب عما كان لهذه الهدية من الأثر في نفسي وما أثارت من الخواطر والذكريات.
لمّا رأيت مجموعة «الرسالة» ذكرت أن لي فيها مقالة عن الوحدة نُشرت قبل خمسين سنة كاملة، أدَع ما في أولها من كلام عن فلسفة الوحدة وأنقل هنا فقرات مما قلت فيها (1). قلت:
عجزت عن احتمال هذه الوَحدة وثَقُل عليّ الفراغ الذي أحسّه في نفسي، فخالطت الناس واستكثرت من الصحابة، فوجدت ذلك أنساً لنفسي وجمعاً لشملي، فكنت أتحدّث وأمرح وأمزح وأُضحِك وأَضحك حتى ليظنّني الرائي أسعدَ خلق الله وأطربَهم. بَيد أني لم أكن أفارق أصحابي وأنفرد بنفسي حتى يعود هذا الفراغ الرهيب وترجع هذه الوحدة الموحشة.
انغمست في الحياة لأملأ نفسي بمشاغل الحياة وأُغرق وحدتي في لُجّة المجتمع، واتصلت بالسياسة وخببت فيها ووضعت، وكتبت وخطبت، فكنت أحسّ وأنا على المنبر بأني لست منفرداً وإنما أنا مندمج في هذا الحشد الذي يصفّق لي ويهتف، ولكني لا أخرج من النديّ وينفضّ الناس من حولي وأنفرد في غرفتي حتى يعود هذا الفراغ أهول مما كان وترجع الوحدة أثقل، فكأنها ما نقصَت هناك إلاّ لتزداد هنا، كالماء تسدّ
(1) هي مقالة «الوَحدة» ، نُشرت في «الرسالة» سنة 1937، وهي في كتاب «من حديث النفس» (مجاهد).
مخرجه من الصّنبور (الحنفية) فينقطع، ولكنك لا ترفع يدك حتى يتدفق ما كان قد اجتمع فيه. فماذا يُفيدني أن أُذكر في مئة مجلس أو أن يمرّ اسمي على ألف لسان، وأن يتناقش فيّ الناس ويختصموا، إذا كنت أنا في تلك الساعة منفرداً مستوحشاً متألماً؟
(إلى أن قلت): لذلك صرت أكره أن ألتقي بالناس وصرت أنفر من المجتمعات لأني لم أجد في كل ذلك إلا اجتماعاً مزيّفاً. وجدتُني غريباً بين الناس فتركت الناس، وانصرفت إلى نفسي أكشف عالَمها وأجوب فيافيها، وأخوض بحارها وأدرس نواميسها، وجعلت من أفكاري وعواطفي أصدقاء وأعداء، وعشت بحب الأصدقاء وحرب الأعداء.
(إلى أن قلت): وسيظلّ الناس تحت أثقال العزلة المخيفة حتى يتصلوا بالله، ويفكّروا دائماً بأنه معهم وأنه يراهم ويسمعهم؛ هنالك تصير الآلام في الله لذّة، والجوع في الله شبعاً، والمرض صحّة، والموت هو الحياة السرمدية الخالدة. هنالك لا يبالي الإنسان أن لا يكون معه أحد، لأنه يكون مع الله.
* * *
ولكن هل بلغت أنا هذه المنزلة؟ ياأسفي! إني لأقرأ هذا الكلام الذي كتبته من خمسين سنة شمسية فأراه حقاً، ولكن أرى نفسي عنه بعيداً؛ أراني لا أزال أفتّش عمّن أضيع بالحديث معه عمري أو عن كتاب أو مجلة أمزّق بها حياتي، وأنا أعلم أن هذا العمر هو رأس مالي.
ولقد فسّرت سورة العصر من زمن بعيد، بعيد جداً، تفسيراً
ما نقلتُه من كتاب، ولعلّ غيري قال مثله، ولكني لم أنقله عنه. وفهمت لماذا قال الشافعي رحمه الله:"لو لم يُنزِل الله من القرآن إلاّ هذه السورة لكفت الناس". سورة من أربع عشرة كلمة فقط جمعت فلسفة هذه الحياة وقوّمتها (ولا تقُل قيّمتها)، فقدرَت قيمتها وبيّنَت أن الخسران مآل كل من يحياها، ووضّحَت الطريق إلى اجتناب هذا الخسران. وكانت دستوراً للفرد وللجماعة وقانوناً للدنيا وللآخرة.
كل ذلك في أربع عشرة كلمة فقط، فهل تأذنون لي أن أقطع سرد ذكرياتي، وأن أقف وقفة قصيرة لعلّها أنفع لكم وأجدى عليكم من تلكم الذكريات؟ أقف لألخّص في كلمات ما كنت شرحته من قبلُ مرات عن هذه السورة، وإن لم يكن الكلام فيها من صميم الذكريات.
أقسم الله بالعصر. ونحن إنما نُقسِم بالشيء الذي نبالغ في تعظيمه وتقديسه، لذلك لم يَجُزْ لنا القسم بغير اسم الله وصفاته. ولكن الله يقسم ببعض مخلوقاته، لا تعظيماً لها بل تنبيهاً إلى بعض خصائصها ومزاياها لنستفيد منها. أَقسَم بالضحى والليل إذا سجى، لمّا انقطع الوحي عن رسول الله ‘ فثَقُل انقطاعه عليه واستعجل عودته إليه، فأفهمه الله بهذا القسم أن الله جعل لكل شيء موعداً، فالليل لا يأتي مع الضحى بل لا بدّ من انتظار موعد الليل. وأقسم بالتين والزيتون. لا اللذين نأكلهما كما قال بعض المفسّرين، فما شأن التين والزيتون اللذين نأكلهما بجبل الطور وهما ثمرتان وهذا جبل؟ ولكن الله أقسم بهما رداً على الكفّار الذين عجبوا أن يبعث الله محمداً في مكة ولم يعجبوا أن يبعث
موسى وعيسى في الشام وفلسطين (1) وهما بلد التين والزيتون، ولا أن يكلّم الله موسى عند جبل الطور، فأفهمهم أن بلد التين والزيتون وأن طور سينين كمكة البلد الأمين، فما يجوز أن يكون في تلك يجوز أن يكون في مكة.
و «العصر» هنا كما أفهمه مُطلَق الزمان، فالإنسان الذي قُدّر له أن يعيش تسعين سنة إنما تكون تسعين يوم مولده، كعطلة الشهر للموظف لا تكون شهراً إلاّ حين بدايتها، فكلما مرّ الزمان عليها نقص شيء منها. والمليون إن كنت تسحب منه واحداً بعد واحد جاء وقت فرأيت أن المليون صفر، وهنالك الخسر.
تذهب الحياة بذهاب العمر، ويذهب معها ما فيها من المال والبنين والذهب والفضة والجاه والسلطان، ويحوزه كلَّه هذا القبر الضيق، ثم يُهال عليه التراب، ثم يلفّه النسيان، فكأنه ما كان. فما الذي يبقى إذن؟ يبقى الإيمان والعمل الصالح:{إلاّ الذينَ آمَنوا وعَمِلُوا الصّالحاتِ} .
ثم لخّص بأربع كلمات المنهج الكامل للواحد وللجماعة؛ الكلمة الأولى هي «الحقّ» ، فالمناهج والمذاهب والنِّحَل والمبادئ منها الحقّ ومنها الباطل، فالمؤمن يختار ما كان منها حقاً، ولكنه قد لا يقوى على تنفيذه وقد يشقّ عليه، فلا بدّ من «الصبر» على هذه المشقّة.
فالحق هو اختيار الطريق الصحيح، والصبر هو سلوك هذا
(1) وفلسطين جزء من الشام، والشام عند العرب تشمل سوريا وفلسطين ولبنان والأردن.
الطريق وتجنُّب الخروج عليه. هذا كله للفرد، فأين شموله للجماعة؟ إنه بكلمة «تواصَوا» ، كلمة واحدة حوّلته منهاجاً عاماً، يوصي به كل مسلم أخاه وأخوه يوصيه به، وهذا هو التواصي وهذا هو التعاون والاجتماع على اختيار الصحيح من المناهج وعلى تطبيقه التطبيق الكامل.
فما الذي تركته هذه السورة التي هي أقصر سور القرآن ولم تذكره؟ وهل إيجازٌ بعد هذا الإيجاز؟ وهل إعجاز بعد هذا الإعجاز؟ وهل طريق أقوم من هذا الطريق؟ (1)
* * *
نعم؛ لقد خرجت عن خطّ الذكريات، ولكن ما خرجت لاضطجع على كتف طريقها فأستريح ولا لألعب وألهو، ولكن تركته لأقطف لكم من جوانبه باقة من أغلى الأزهار ولآتيكم بسلّة من أنفس الثمار.
ثَقُلَت عليّ الوحدة في الرياض. وكنت من قبلُ أمضي بعضَ يومي في الكلية، ثم لمّا ألِفت الطلاب وألفوني صاروا
(1) ما ورد هنا في تفسير «العصر» إيجازٌ له تفصيل سيطّلع عليه القرّاء حين يصدر -بعون الله- كتاب «نور من القرآن» ، وفيه مع تفسير سورة العصر تفسير سور أخرى من قصار السور كالإخلاص والمعوَّذتين والتكاثر، وفيه تفسيرٌ طويل للفاتحة وتفسيرٌ لآيات مختارة قليلة من القرآن. على أن نشر هذا الكتاب قد يتأخر لبعض الوقت لأنه ما زال بحاجة إلى عمل كثير وإلى بحث في بعض المواد المسجَّلة، فاسألوا الله لي العون والتيسير (مجاهد).
يجتمعون عليّ، يحسبون أن عندي علماً فهم يسألونني وأنا أجيبهم بالقليل الذي أعرف جوابه من سؤالاتهم. وكنت أجالسهم فأطيل مجالستهم، ويزداد إقبالهم عليّ فأزداد حباً لهم ودنواً منهم.
أمّا الأساتذة فلم يُكتَب لي أن أخالطهم، ولم تجاوز صلتي بهم صلة الكرة بالكرة في كومة من الكرات، تجاورها وتلامسها ولكن لا تداخلها ولا تخالطها. إلاّ واحداً منهم شاباً ذكياً مكفوفاً كان من صغار المدرّسين في الكلية، ولي معه قصتان: الأولى أنه كان يجادلني في بعض ما كتبت في تأويل ما لا بدّ من تأويله وما لا يمكن أبداً حمله على ظاهره كقوله تعالى {نَسُوا اللهَ فنسيَهم} مع قوله تعالى {وَمَا كانَ ربُّكَ نَسِيّاً} وقوله {لا يضِلُّ ربّي ولا ينسى} ، ويشتدّ أحياناً في نقدي وتدفعه حماسة الشباب إلى الهجوم الشديد عليّ.
وأنا ما لم أكن غضبانَ أحتمل أشدّ النقد، بل إنني أقرأ في الرائي (التلفزيون) رسائل تَرِد عليّ فيها سبّي وشتمي وأرى الجرائد وفيها مقالات كلها نقد لي وسبّ وشتم فلا أبالي بها. ومرّت عليّ أيامٌ كانت جرائد دمشق كلها تهجم عليّ فيها، ومنها واحدة نسبَ إليّ كاتبٌ فيها ما لو نُسب عُشره إلى غيري لَما استطاع أن ينام في الليل ولا أن يلقى الناسَ في النهار، إنه جمع من صفات الشر ما لم يكَد يجتمع في إبليس! فما حرّك شعرة من جسدي، بل كتبتُ أنصحه وأدلّه على أسلوب الهجاء وأقول له: لو أخذتَ بعض ما نَسَبْتَ إليّ لربما صدّقه الناس، لكنك جمعتها كلّها فلم تجد من يصدّقها!
جمع هذا المدرّس الشابّ كثيراً من الأقوال التي كتبتُها
في أوقات مختلفة (1)، منها ما لا أقول به الآن ولا أرتضيه. وأنا رجل مرّ بمراحل، فقد كانت نشأتي الأولى على يد مشايخ كلهم صوفي، فكان من ثمرات ذلك أن كرّهوا إليّ ابن تيميّة مثلاً وابن عبد الوهاب. ثم سافرت إلى مصر سنة 1347هـ لأدرس فيها، وأنا ابن عشرين سنة متفتح القلب للتلقّي، فحوّل خالي محب الدين ومَن عنده من روّاد المطبعة السلفية وجهتي، وجعلوني أحب ابن تيميّة وابن عبد الوهاب بعد أن كنت أكرههما. ثم دنوت حيناً من الشيخ زاهد الكوثري عن طريق صديقنا حسام الدين القدسي، ونشرا لي أول ما أصدرت من مطبوعات وهو «رسائل الإصلاح» التي نُشرت سنة 1348هـ وأقامت الدنيا عليّ، وردّ عليها كثير كان أشدَّهم الشيخ أحمد الصابوني الحلبي. ثم صحبتُ الشيخ بهجة البيطار فرجعت إلى ما كنت عليه مع خالي محب الدين الخطيب، وانتهيت الآن بحمد الله إلى طريق الصواب، فلا ألتزم التزاماً كاملاً إلاّ بما صحّ عن المعصوم الذي هو الرسول عليه الصلاة والسلام، وما جاء في كتاب الله الذي لا يدانيه الباطل ولا يقاربه.
(1) قال في الصفحة السابقة إن له مع هذا المدرّس قصتين، وبدأ بالأولى منهما لكنه لم يتمّها، شغله عنها الاستطراد ثم انتقل إلى الثانية في هذه الفقرة. وأذكر أنني سمعت القصة من جدّي رحمه الله، فأنا أكملها هنا مما سمعت حتى لا تبقى بغير تتمة: كان هذا المدرّس يرفض التأويل ويجادل في بعض ما كتب علي الطنطاوي في تأويل ما لا بدّ من تأويله كقوله تعالى {نَسُوا اللهَ فنسيَهم} ، إلخ، وكان كفيفاً كما علمتم، فبرم به جدي يوماً فقال له: أنت تنفي التأويل مطلقاً، فماذا تصنع بقوله تعالى:{وَمَن كانَ في هذه أعْمَى فَهُوَ في الآخِرةِ أعْمَى وأضَلُّ سَبيلاً} ؟ فانقطع عن مجادلته في هذه المسألة (مجاهد).
كان هذا المدرّس الشابّ يطيل مناقشتي في كتاباتي القديمة، ولا يصدّق أني مررت بها ولم أقف عليها وأني رجعت عن كثير منها، فقلت له: اكتب رسالة تردّ بها عليّ. فتعجّب وقال: ألا تغضب؟ قلت: لا. فكتب رسالة طبعها له بعض أهل الخير ووُزّعت مجاناً.
وكان من خبر هذا المدرّس الشابّ أنه تزوّج فدعا كل من في الكلية من مدرّسين وموظفين إلى وليمة ضخمة أقامها، ولم أذهب إليها كما أنني لا أذهب إلى أمثالها، فلما لقيتُه بعدها (وكنت أعرفه فقيراً) سألتُه: لماذا أقمتَ هذه الوليمة؟ فقال: إنها الوليمة الثالثة التي لا بدّ منها، واحدة لأهلي وأهل العروس، والثانية نسيت أنا لمن، وهذه الثالثة. قلت: لا تؤاخذني إن سألتك: من أين أتيت بالنفقات؟ فضحك ضحكاً كالبكاء، بل لقد كان يبكي فعلاً ويقطر الدمع من عينيه المطفأتين، قال: كان لي بيت فبعته!
فعلّقت على ذلك في الرائي (التلفزيون) أنقد هذه العادات وأدعو الناس إلى تركها وأقول لهم: إن الزواج هو عمارة بيت، فهل صيّرتم الزواج بعاداتكم خراب البيت؟
* * *
لم يكن لي في الرياض مَن أزوره إلاّ معالي الشيخ محمد عمر، وكان أخي عنده، ووكيل الوزارة وهو معالي وزير المواصلات الآن، والدكتور منير العجلاني في وزارة المعارف. والبيوت التي كنت أغشاها، وكنت أفتّش عن مبرّرات لزياراتها لأنني كنت أرغب فيها وأخاف أن أُزعِج أهلها، وربما مررت أحياناً
من أمام الباب ثم رجعت فمررت أمامه خمس مرات وأنا لا أجرؤ أن أقرع الباب خشية أن أضايق مَن وراءه، منها دار الشيخ محمد الصبّاغ، وكنت أجد فيها أنس النفس وراحة القلب، وكان معه جاره الأستاذ تيسير العيتي، وهو مدرّس فاضل، وزوجته بنت شيخ مدرّسي الرياضيات في سوريا الذي أحسبه قارب اليوم مئة عام من عمره أو زاد عليها، هو الأستاذ درويش القصاص. ودار الأستاذ عمر عودة الخطيب، ودار الأستاذ سليمان الحافظ الذي كان يسكن معه حَمُوه صديقنا الأستاذ عبد الرؤوف الحنّاوي، رحمة الله عليه وعلى من توفّاه من كل من ذكرت في هذه الحلقة.
ومن طرائف ما وقع لي أننا كنا في دمشق تعوّدنا على الاجتماع في المدرسة الأمينية عقب صلاة الجمعة، واستمررنا على ذلك أكثر من أربعين سنة، نتغدى فيها ويشتري لنا الآذن (أي الفرّاش) ما نريد ويسقينا مديرها الشيخ شريف الخطيب رحمه الله أيضاً الشاي الأخضر. فانقطعتُ في الرياض عن هذا الاجتماع، فجدّدناه في دار الأستاذ السعدي، وهو شابّ رضيّ الخلق كريم النفس سكنت معه مدة قليلة. ونجتمع أحياناً في غيره من الدور.
وكنت يوماً خارجاً من صلاة الجمعة فرأيت الأستاذ سليمان الحافظ وحماه (أعني أبا زوجته) الأستاذ الحنّاوي، فقالوا: هلمّ معنا إلى الغداء. فقلت: لا إلاّ أن يكون عندكم صَفيحة (و «الصَفيحة» أكلة شامية كان يتعذّر، بل يستحيل أن تكون في تلك الأيام موجودة في الرياض) فضحكا وقالا: نعم، عندنا صفيحة. ومرّا على جزّار شاميّ قد صنعها لهما فأخذاني معهما إلى دارهما!
وطالما أنِستُ بهذه الدار كما كنت آنس بدار الشيخ محمد الصباغ الذي صار الآن دكتوراً، ولا أدري أيّ اللقبَين أحَبّ إليه: الشيخ أم الدكتور؟
وكان الطلاّب يسألونني في اجتماعي بهم في غير وقت الكلية، فسألني واحد منهم مرة عن قوله تعالى:{الرحمنُ على العرشِ استوى} ، فقلت له: أليس القرآن قد نزل بلسان عربيّ مبين؟ قال: بلى. قلت: فالعربية إذن وُضعت قبل نزول القرآن؟ قال: نعم. قلت: ووُضعت لمعانٍ أرضية مادية، لأشياء رآها الإنسان من نبات وحيوان وجماد فوضع لها أسماء، بل إنها من تعليم الله لآدم حين علّمه الأسماء كلها؟ قال: نعم. قلت: حتى الكلمات التي تدلّ على معنى مجرّد لا تخرج من كونها أرضية مادية. فلما خبّر ربُّنا بأنه استوى على العرش لم نستطع أن نقول إنه ما استوى فننفي ما أثبته الله، ولا نرجع إلى المعنى القاموسي فنقول إنه استوى، أي قعد على العرش كما يقعد المخلوقات، لأن الله ليس كمثله شيء والخالق لا يُشبِه المخلوق. فلم يبقَ إلاّ أن نقول إننا نؤمن بأن الله استوى على العرش لا كما يستوي المخلوق على كرسيه، فلا ننفي ما أثبت الله، ولا نشبّه الله بخلقه، ولا نعدل عن المعنى الذي يفهمه العربي الأصيل لهذه الكلمة إلى معنى غيره، إلى آخر ما كان.
فلما كثرت الأسئلة، وكان قد جاء موعد المحاضرات، كُلّفت بمحاضرة فجعلت عنوانها «طريقة جديدة في تثبيت العقيدة» حضرها جمعٌ كبير من المشايخ والعلماء وأساتذة الكلية وطلاّبها كلهم، ولا أعمد إليها باختصار أو تلخيص فإنها نواة ما وضعته بعد ذلك في كتاب «تعريف عامّ بدين الإسلام» (الذي طُبع منه إلى
الآن بإذن مني وطُبع سرقة من وراء ظهري نحواً من ثلاثين طبعة، وتُرجم إلى الإنكليزية وإلى الأردية، واستأذنني ولدي الأستاذ طارق الحاج إبراهيم، وله أخ يعمل في إسبانيا، في ترجمته إلى الإسبانية فأذنت له. وعلمت أنه تُرجم بقلم بليغ بأسلوب رفيع في لغة الإسبان، وقدّم له أستاذ يُعَدّ هناك من أكبر الأساتيذ) (1).
وخرج الطلاب من المحاضرة يتساءلون، وتساءل معم كثير من غيرهم، يقولون: هل مال إلى التأويل؟ هل قال بالتشبيه والتمثيل؟ هل جنح إلى التعطيل؟ فقالوا بأنهم ما سمعوني أقول شيئاً من ذلك. فتبيّن لي وجوب تجديد أسلوب تدريس العقيدة.
إن الذين ألّفوا كتب العقيدة الصحيحة إنما ردّوا على الشُّبَه التي كانت على أيامهم، فكانت كتبهم دفعاً لها وحماية للمسلمين منها، كما كانت قلعة أجياد في مكة في يوم من الأيام تحمي البلد، فلما جدّت أسلحة لم تكن على عهد مَن بناها وبنى أمثالها صارت تحفة أثرية وعمارة تاريخية. لقد تبدّلَت طرق الهجوم على الإسلام فوجب أن نجدّد طرق الذَّبّ عنه ودفع الأعداء عن حِماه.
إنه لم يعُد ينفعنا أن نردّ على الفِرَق التي بادت وفني أهلها
(1) ثم تُرجم وطُبع بالفارسية والأندونيسية والتركية والبوسنية والألبانية والفرنسية والبرتغالية والدنمركية واليونانية والروسية والرومانية، وهو يُترجَم الآن إلى الألمانية والفلبينية. وقد نشرت دار المنارة مقدمة الكتاب منفردة في رسالة صغيرة باسم «تعريف موجز بدين الإسلام» ، وتُرجمت هذه الرسالة إلى الألمانية والأرومية (وهي اللغة التي يتحدث بها نحو خمسة وثلاثين مليوناً في الصومال والقرن الإفريقي)(مجاهد).
ولم يبقَ منها إلاّ ما رُوي في الكتب من عقائدها، وأن نشتغل بالمذاهب الجديدة التي تكيد للإسلام كيداً أشدّ من كيد الأولين. إن محاربة الإسلام اليوم تقوم على مخطّطات مُحكَمة، تضعها عقول كبيرة جداً شريرة جداً وتؤيّدها جهات قوية جداً وتُنفَق عليها أموال كثيرة جداً، ودرسُ التوحيد في مدارسنا لا يقوى على ردّ هذه الشُّبَه، لا لأن الإسلام ضعيف يخشى هجومها، بل لأن التقصير ممّن يضع المناهج وممّن يؤلّف الكتب وممّن يُلقي الدروس. إنه ليس في الإسلام قصور، ولكنّا نحن المقصرون.
* * *