المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

فهرس الكتاب

- ‌الجزء الثامن

- ‌وداع المحكمة الشرعية

- ‌في محكمة النقض في القاهرة

- ‌أشتات من الذكريات

- ‌زياراتي القديمة لمكة

- ‌حجة 1381: خواطر وأفكار

- ‌أبو الحسن النَّدْوي ومذكّراته (1)

- ‌أبو الحسن النَّدْوي (2)

- ‌أبو الحسن الندوي (3)

- ‌في مطلع العام 1987

- ‌مؤتمر القمة الإسلامي

- ‌الفقيدان الوزير والمدير،ومن قبلهما فقدنا الأمير

- ‌تعليق على الحلقة السابقة: لبّيكَ اللهمّ لبّيكَ

- ‌كيف جئتُ المملكة

- ‌وقفة على المخيَّمات

- ‌منزلي في الرياض

- ‌لمّا كنت أستاذاً في الكلّيات والمعاهد

- ‌تفسير بعض الآيات

- ‌من المستشفى المركزي في الرياضإلى مستشفى المواساة في دمشق

- ‌في مكة سنة 1384ه

- ‌في كلية التربية في مكة

- ‌يوم الجلاء عن سوريا

- ‌لمّا علّمتُ البنات

- ‌خواطر ومشاهدات عن تعليم البنات

- ‌لغتكم يا أيها العرب (1)

- ‌لغتكم يا أيها العرب (2)

- ‌ذكريات العطلة الصيفية في دمشق (1)

- ‌ذكريات العطلة الصيفية في دمشق (2)

- ‌هذه الحلقة من الذكريات مسروقة

- ‌عندكم نابغون فتّشوا عنهم بين الطلاب

- ‌عزمتُ أن أطوي أوراقيوآوي إلى عزلة فكرية

- ‌رسائل الإصلاح وسيف الإسلامانتقدت الشيوخ الجامدينوالشبان الجاحدين

- ‌الخاتمة

الفصل: ‌كيف جئت المملكة

-227 -

‌كيف جئتُ المملكة

؟

هل زرتم مرّة متحف الشمع؟ حيث ترى الناس على هيئاتهم في بيوتهم وأسواقهم ومجامعهم، بألوان جلودهم وملامح وجوههم وحركات أيديهم، حتى إنك لَتهمّ أن تدنو منهم فتمدّ يدك إليهم وتُلقي بأذنك إليهم لتسمع كلامهم! ترى الرجل في بيته مع أهله أو مع ضيوفه، والمرأة في غرفتها مع زائراتها والخادمة تدور بالقهوة أو بالشراب عليهن، أو ترى الأسرة حول طعامها تمدّ إليه أيديها وتملأ به أفواهها، وتُبصِر صاحب القهوة مع روّادها وصبيانها، والطبيب في مستشفاه مع مرضاه، وتُبصِر الحياة كلها بمشاهدها أمامك، ولكن ما ثَمّ حياة ولا فيما ترى روح؛ إنما هي أشباح بلا أرواح، ترى المحدّث ولكن لا تسمع الحديث ولا تطرق أذنيك نبراتُه ورنّاته، ولو رُكّبت في هذه التماثيل مسجّلات فسمعت حديث أصحابها لَما سمعت إلاّ أصواتاً ميتة من جسد ميت.

هذا مثال ذكرياتي التي نشرتها، وهذا ما تجدونه في ذكريات الأدباء مهما بلغوا من العلوّ في سلّم الأدب؛ إن الذي يضعونه فيها تماثيل الشمع. وهَبْني وصفت المكان حتى كأنك فيه والأشخاصَ

ص: 173

حتى كأنك معهم والحديثَ كأنك تسمعه، فأين ما وراءه من خَطَرات الأفكار ونزعات النفوس، وأين المشاعر التي نشأت عنه والعواطف التي دفعت إليه؟ وهَبْني أوتيتُ بياناً عبقرياً وصوّرتها تصويراً، فهل تَذَكُّر ما كان كالشعور بما هو كائن؟

لقد قدّمت في هذه المذكّرات قصة ردّي على أستاذنا في كلية الآداب، شاعر الشام شفيق جبري رحمه الله، لمّا كتب في كتابه «المتنبي» أن الأدب أُلهِيّة شريفة، وأنشأت في الردّ عليه فصولاً ونشرت في ذلك رسالة مطبوعة تلقّفَتها أيدي القارئين، وكان ذلك سنة 1930 (1348هـ)، وهأنذا أعود بعد نحو ستّين سنة فأعتذر إليك ياأستاذي، وأقول بأن من الأدب ما هو أُلهِية يتلهّى الكاتب الأديب بما يتخيّل فيها عمّا يرى من حقائق الحياة، وأعني بذلك الأدب الشخصي أو أدب العواطف والذكريات والأماني. فصول جميلة مَن أنعم النظر إليها سُرّ بها، ولكن لم يبقَ في يده شيء منها. فأنا أُلهي نفسي بكتابتها عن الإحساس بفقدها، كالأم تودّع ولدها الذي ركب الطيارة وترك معطفه عندها، فهي تشمّ المعطف وتضمّه كأن صاحبه فيه، وصاحبه قد طار.

هذا ما وجدته لمّا عُدت أقرأ هذه الذكريات؛ لم أجد من الأحداث إلاّ ما يجده الأب الذي يفقد ولده حين يرى أمامه جسده، جسداً كاملاً ولكن بلا روح، ومظهراً ولكن بلا جوهر. حتى هذا القدر الضئيل الذي قدرتُ عليه لم أستوفِه كله، فلقد تركت مما قصصت من ذكريات فجوات أرجأتُ ملأها، ثم بعدتُ في سيري عنها فلم أعُد إليها، وأشياء لم أتحدّث عنها.

ص: 174

تكلمت عن الفقيدَين الكريمَين الشيخ حسن بن عبد الله وزير المعارف والشيخ عبد الرحمن التونسي مدير مدارس الثغر، ولكني لم أستوفِ الكلام عنهما. وأمامي الآن ظرف كبير فيه رسائل خاصة منهما وكتب رسمية وقرارات وزارية في مشروعات كنت اقترحتها، منها «مشروع تأهيل النابغين» ، وأنا أرى الآن العناية بالنابغين وتكريمهم وتشجيعهم، ومشروع «مدرسة التلفزيون» الذي انتهى أمره بعد مراسلات استمرّت شهوراً إلى أن صدر فيه قرار وزاري باسم «مشروع التثقيف التلفزيوني» ، تَقرّر فيه تفريغي من عملي في الجامعة لأكون المشرف عليه. واقتراح رفعتُه إلى الوزارة من قديم بتحويل كلية التربية إلى جامعة لا تكلّف الدولة قرشاً، بأن توسَّع الأقسام حتى تصير كلّيات، حتى إنني اقترحت من ذلك اليوم أن تُسمّى «جامعة أم القرى» ، قبل إنشاء جامعة أم القرى بسنوات طوال.

وسأكتب إن شاء الله عن ذلك كله بمقدار ما تتّسع له صفحات الجريدة وصدور قُرّائها.

ولكن عليّ أن أذكر قبل ذلك كيف جئتُ المملكة لأعمل فيها، فامتدّت فيها أيامي وطال فيها مقامي، حتى لم أعُد أزور دمشق إلاّ لماماً، مرة في السنوات ذوات العدد، ثم حِيلَ بيني وبينها، فمرت الآن ثماني سنوات ودخلَت التاسعة وأنا لم أرَها، بل أنا لم أجاوز في هذه السنين كلها حدود مكة وجدة. فكيف كان ذلك؟

* * *

كنت كلما زرت المملكة وقابلت من أعرف من أعلامها

ص: 175

رأيت منهم دعوة صادقة بأن أقيم فيها وأن أكون عاملاً صغيراً بين العوامل الكبار جداً على نهضتها، وكنت أجيب بالشكر ولا يخطر على بالي يوماً أن ذلك سيتحقق.

فلما ضاق العراق بأخينا الشيخ الصوّاف على عهد عبدالكريم قاسم وكثرت الإساءات إليه، وامتدّت الأيدي للعدوان عليه حتى شاع خبر مقتله، وكأن الذي ركّب قصة هذه الشائعة كان أديباً موهوباً وقصصياً حاذقاً فجاءت قصة تستدرّ الدمع من عيون الصخر. وسمعتُها، وكان لي يومئذ حديث دائم في إذاعة دمشق فجعلت حلقة منه في رثائه، فبكيت وأبكيت السامعين. فلما هرب من العراق استقرّ حيناً في الشام أيام الوحدة، فضايقوه فذهب إلى مكة فاستقرّ فيها، وصار يعرض عليّ أن أعمل فيها معه.

ولكني كنت مستريحاً في عملي مكتفياً في رزقي، ما أجد ما أشكو منه، وإن كانوا وكلوا أيام عبد الناصر مَن يلازمني في ذهابي وإيابي، لا يفارقني إذا خرجت من منزلي حتى يصل معي إلى محكمتي، فإذا دخلتها بقي على بابها يلازمه لا يبتعد عنه حتى أخرج فيعود معي، واستمرّ ذلك حتى عرفته وعرفني وألفته وألفني، وصرت أكلّمه وأنصحه فيسمع مني، فلما رأوه قد مال إليّ بدّلوه. وما كان ذلك ليضرّني، وإن كان يؤذيني ويثقل على نفسي.

وعاد الصواف يُلِحّ عليّ بالعمل في المملكة، فكنت أشكره وأُفهِمه أنني غير مفارق بلدي، حتى جاءتني يوماً برقية بأن الملك سعوداً رحمة الله على روحه وافق على أن أعمل في مكة أستاذاً في كلية الشريعة. وما كان في تلك الأيام -على ما أعلم- من كلية

ص: 176

عالية في المملكة سواها. ثم جاءني بعد حين بطريق رسميّ صورة من كتاب أرسله معالي وزير المعارف الشيخ حسن رحمه الله وأسكنه بفضله ورحمته جنّته) إلى الصوّاف يستقدمني فيه.

وسارت الأوراق في طريقها تدفعها السفارة في دمشق، وأنا أسير معها كأنني أمشي مغمض العينين أو كأنني شاربٌ مخدّراً! فأنا أمشي حيث يمشون بي، حتى لم يبقَ إلاّ أن أُعطى ما يُدعى «أمر الإركاب» ، أي الكتاب الرسمي إلى شركة الطيران السعودي لتحملني إلى مكة.

واتفق أن قدم الشام في تلك الأيام وكيل وزارة المعارف، وأذكر أن اسمه الأستاذ الدمنهوري رحمه الله. فذهبت أزوره في الفندق أسلّم عليه وأتعرف إليه، وإذا أنا أواجه فكرة طرأت على ذهني فجأة، ليس لها مقدّمات ظاهرة ولا أسباب معروفة، عجبت منها أنا قبل أن يعجب منها غيري، هي أن أعتذر عن السفر وأعود إلى القصر العدلي، إلى المحكمة التي ودّعت أهلها آنفاً. وخبّرت سعادة الوكيل بذلك وقلت له: لا تعجب ياسيدي، فأنا والله في عجب من ذلك، ولكن القلوب بيد الله والله يحول بين المرء وقلبه، لذلك أمرَنا فقال:{وَلا تَقولَنَّ لشيءٍ إنّي فاعلٌ ذلكَ غداً إلاّ أنْ يَشاءَ اللهُ} . إن المرء ربما استطاع أن يحكم بعقله على يومه، أمّا غده فباب مُغلَق ليس معه مفتاحه ولا يُبصِر ما وراءه.

وحاول الوكيل رحمه الله أن يثنيني عن هذا الذي عزمت عليه، ولكن الخاطر كان أقوى من أن يردّني عنه شيء، فقبِل ذلك آسفاً كما قال.

ص: 177

وأذكر بوضوح أنني هبطت سلّم الفندق وأنا أتعجب من نفسي: ما الذي دفعني إلى هذا القرار الذي جاءني مفاجئاً فملأ عليّ جوانب نفسي وأمسك بزمام إرادتي وقادني إلى الاعتذار؟ وصدّقوا أني لم أعرف ذلك إلى الآن، ولكنني أعرف أني ما ندمت عليه بل كنت مسروراً به، أحسّ كأن حملاً ثقيلاً كان على كتفي وأُلقيَ عنه. وذهبتُ إلى المحكمة ولقيت الإخوان كأن شيئاً ما كان.

ومن يعمل مستشاراً في محكمة النقض لا يحسّ أنه مرتبط بزمان أو بمكان، بل يشعر أن حوله مدى واسعاً يتصرف فيه بحرّيته، ما عليه إلاّ أن يدقّق في القضايا التي تُحال عليه يدرسها وحده في مكتبه إن شاء في المحكمة (ولكل مستشار غرفة ومكتب) أو يأخذها إلى داره، وذلك أمر متعارَف، وإن كان الأَولى ألاّ تخرج القضايا من باب المحكمة.

* * *

ومرّت السنة وأنا مستريح في عملي، لا يضايقني إلاّ ما كان يضايق الناسَ كلهم في ذلك العهد. حتى إذا جاءت العطلة الصيفية خُبّرت أن لجنة سعودية لاختبار الأساتذة قد نزلت دمشق، ولعلّكم تعجبون إن عرفتم أن رئيس اللجنة التي أخذَتني إلى المملكة هو صديقنا الشيخ عبد العزيز المسند، وكان يومئذ شيخاً بالاسم ولكنه كان شاباً بالفعل.

ولم يأخذني إلى مكة أستاذاً في كلية الشريعة كما كان مقرَّراً من قبل، ولكن إلى «الكلّيات والمعاهد» في الرياض. وكنت قد زرت الرياض قبل ذلك مرتين، مرة سنة 1353، أي قبل أربع

ص: 178

وخمسين سنة من كتابة هذه الحلقة، يوم كانت الرياض شبه قرية حولها سور له أبواب، وكان موضع شارع الوزير صحراء، وكانت البطحاء بطحاء حقيقة، وكان بين الرياض ومنفوحة فضاء ما فيه عمارة. ومن يعرف الرياض الآن لا يستطيع أن يتصور كيف كانت في ذلك الزمان.

أما الزيارة الثانية فكنت قد رتّبتها مع سعادة السفير الشيخ عبد العزيز بعد ذلك بنحو اثنتين وعشرين سنة، حين دعا جماعة من القضاة لزيارة المملكة زيارة رسمية، فذهبنا ثلاثة: رئيس المحكمة العليا الأستاذ عبد القادر الأسود، وزميلنا المستشار في محكمة النقض الأستاذ نورس الجندي، وأنا. وكانت الرياض قد اتسعت قليلاً وخرجت من السور، وظهر شارع الوزير، وإن كان البناء فيه قليلاً، وأُقيمَ فيها فندق أظنّ أن اسمه فندق زهرة الرياض (أو لعلّي أخطأت الاسم وأنسانيه طول المدى).

جئنا الرياض عن طريق جدة بعد أن أقمنا في جدة أياماً، كان مقامنا خلالها في فرع لفندق الكَنْدَرة. وكنا نقضي أكثر يومنا عند وجيه جدة الأفندي الشيخ محمد نصيف، نجلس إلى مائدته ونستفيد من مكتبته ونأخذ من حديثه، وحديثه تاريخ ناطق وفوائد مجتمعة رحمة الله عليه. ثم زرنا مكة، ولم يكن قد تمّ تجديد الحرم ولا اكتملت توسعته، ثم ذهبنا بالطيارة إلى الرياض، ثم ركبنا القطار إلى الظهران وعُدنا منها إلى الشام.

وقد وجدت في الرياض لمّا جئتها للعمل فيها في زيارتي الثالثة لها سنة 1963 (1383هـ) جماعة من إخواننا المدرّسين

ص: 179

السوريين، منهم الأستاذ الدكتور محمد الصبّاغ والشيخ الدكتور مصطفى الخَن والأستاذ عمر عودة الخطيب والأستاذ عبدالقدوس أبو صالح، ومنهم من غاب الآن اسمه عن بالي ولكن ما غاب فضله وكرمه عن صفحة قلبي. واستأجرت داراً، كانت دارَ مجلة راية الإسلام، تواجه دار الإفتاء وتجاور المسجد الثاني في الرياض والمكتبة الكبيرة الملحَقة به. وسرّني أنها دار ليس فوقها ولا تحتها مسكن لأحد، فأنا أنام آمناً أن يوقظني أحد بقرع الجدار إلى جنبي أو رفع الصوت من تحتي أو الدقّ على السقف من فوقي، ولكن ساءني منها أنني أصبحت ففتحت باب الشرفة أنظر منها، فإذا أنا أطلّ على خربة يدخل إليها الناس ليقضوا فيها حاجاتهم! فلا تسأل عن قبح الرائحة ولا عن سوء المنظر. ففتّشت عن دار غيرها بعد أن أقمت فيها أياماً، كان الناس يسألونني فيها: أين نزلت؟ فأقول: في «المَشَخّ» ، على وزن «المَلَزّ» ، وشتّان ما بينهما! والملزّ كلمة فصيحة. قال جرير:

وابنُ اللَّبونِ إذا ما لَزّ في قَرَنٍ

لم يستطعْ صولةَ البُزْلِ القَناعيسِ

والكلمة من عامي الشام الفصيح، وما أكثر الفصيح في العامية الشامية على قبح لهجتها وعلى رخاوة النطق بها؛ فيقول المعلم عندنا لتلاميذه:"لزّوا السطور"، أي قاربوا بعضها من بعض. فكلمة «المَلَزّ» لسباق الخيل عربية فصحية، كما أن الكلمة التي وضعتُها مازحاً (كلمة المشخّ) فصيحة أيضاً، وما كل صحيح فصيح ولا كل فصيح مليح.

* * *

ص: 180

وأخذني الإخوان إلى مكان العمل، إلى «الكلّيات والمعاهد» ، وكان هذا هو اسمها، وقد صارت اليوم «جامعة الإمام محمد بن سعود» . وكانت في عمارة إلى جنب البلدية تجتمع فيها الكلّيتان، وخُبّرت الآن أن الدولة بنت لها بناءً كبيراً واسعاً لا أعرف أين يقع.

وكان المشرف على «الكليات والمعاهد» هو الشيخ عبداللطيف بن إبراهيم، نائباً عن أخيه المفتي الأكبر الشيخ محمد بن إبراهيم الذي كان المفتي وكان رئيس الكليات والمعاهد ورئيس الجامعة الإسلامية في المدينة ورئيس رابطة العالَم الإسلامي، وكانت له رياسات أخرى، رحمة الله عليه وعلى الشيخ عبداللطيف وعلى كل من ذكرت وأذكر في هذه الفصول. وكنت قد عرفته من قبلُ، وعرفت الشيخ عبد العزيز بن باز طوّل الله عمره وقوّاه ووفّقه، فلقد لمست منه العلم الواسع والخلق الرضي والإخلاص لله في العمل.

رحّب بي الشيخان الأخوان رحمة الله عليهما، وكان المشرف الفعلي على الكليات هو صديقنا الشيخ عبد العزيز المسند، ومعرفتكم به تُغنيكم عن وصفي له.

وكان مدير الكلّيتين رجلاً فاضلاً سمح الخلق، يحب الجميع ويحبه الجميع، وكان بابه مفتوحاً دائماً يدخل عليه من شاء، فكنت أجلس عنده كل يوم سُوَيعة آنس به. وكان يجتمع عليه الطلاب في فرصة الظهر يستأذنونه في الخروج، ولم يكن يُسمَح بالخروج من الباب إلاّ لمن يحمل ورقة موقَّعة منه، فكان

ص: 181

إذا جاءه الطالب أخذ ورقة الإذن بيده وشرع ينصحه بلسانه، يقول: إن الخروج ياولدي ممنوع إلاّ في حالة الضرورة، فلماذا تضيع وقتك وتُتعِب نفسك؟ ثم يقول له: ما اسمك؟ فيكتب اسمه في الورقة، ويرجع فيقول: ولماذا لا تبقى في الكلية؟ ويسأله: في أي كلية أنت؟ ويكتب ذلك في الورقة. وكنت أعجب من طول باله وسعة قلبه وحسن خلقه، وأعتذر لأني نسيت اسمه.

وعطشت يوماً وأنا عنده فقلت له مازحاً: متى تكون صلاة الاستسقاء؟ قال: ولماذا السؤال؟ قلت: لأنني أرجو أن يأتي الله بالمطر فإنني عطشان. فضحك وقال لرجل يتربّع على كرسي إلى يساره (وكنت أنا على الكرسي على يمينه) قال: يافلان، هات ماءً للشيخ.

فإذا هو فرّاش، وإذا الفرّاشون يجلسون مع الرئيس في مكتبه! وجدت ذلك في كل دائرة كنت أدخلها، وقد وجدته أولاً عند صديق الشباب والكهولة الدكتور منير العجلاني لمّا كان كبير المستشارين في وزارة المعارف، وكنت أزوره كل يوم أو يومين.

وعطشت مرة أخرى فقلت للقاعد على هذا الكرسي: من فضلك هات لي كأس ماء. فدُهش المدير وقال: ألا تعرف الشيخ فلاناً؟ وإذا هو رجل رفيع المنزلة عالي القدر! فصرت بعدها إذا مِتُّ من العطش لم أطلب ماء لأنني لا أعرف الفرّاش من أمير المؤمنين.

وهذه هي الطبيعة العربية الإسلامية، وهذه التي يسمّونها

ص: 182

الديمقراطية (وهي كلمة يونانية مؤلَّفة من كلمتين: «ديموس» أي الشعب و «كراسي» أي الحُكم، ومعناها «حكم الشعب»). فالديمقراطية عندنا حقيقة مشاهَدة صارت طبيعة فينا، وهي عند غيرنا دعاية تكاد تكون لفظاً بلا معنى. وكان الأعرابي يدخل مجلس رسول الله ‘ فيسأل: أيكم محمد؟ لأنه عليه الصلاة والسلام لم يكن يمتاز منهم في لباس ولا مجلس ولا شارة خاصة به تدلّ عليه.

وجاءني مرة الفرّاش وأنا ألقي محاضراتي، فوقف في الباب وقال على مسمع من الطلاب: المدير يريدك. فكبر ذلك عليّ وأبَته نفسي، وسمع ذلك أخي، بل ولدي وابن شيخي، الأستاذ عاصم ابن الشيخ محمد بهجة البيطار، وكان يدرّس في الغرفة التي تجاورني، فخرج وقال لي: لا تنزعج يا أستاذ فهذه هي عادتهم، إنهم على السليقة الصافية، فقُل له: تعالَ أنت.

فقلتها، فإذا هو يجيء والله حافياً مسرعاً يقول لي: إنهم يطلبونك على الهاتف من قصر وليّ العهد. فخجلت منه واعتذرت إليه. وكان لهذا الهاتف قصة ربما ذكرتها يوماً.

ولي مع المديرين والعمداء أمثال لهذه الواقعة، منها واحدة مع مدير ثانوية البصرة أيام حكمة سليمان بعد الانقلاب العربي الأول الذي قام به بكر صدقي سنة 1937، وأخرى مع عميد كلية التربية في مكة. وكنت في تلك الأيام شديد الاعتزاز بالكرامة، آبى أموراً لا يأبى مثلَها الناس وأُنكِرها ولا يُنكِرونها، كنت أظن أنها تخدش كرامتي، ثم علّمتني الأيام أن ذلك كله من الأوهام،

ص: 183

وأن الكرامة ليست بناء واهياً تُسقِطه نفخة فم أو لمسة يد كالبيت الذي يبنيه الأطفال من قطع الخشب أو من فارغ العلب، ولكن الكرامة عند الكِرام أسطوانة من الصخر لو هبّت الرياح الأربع لَما زعزعَتها، وأن الذي يهتمّ بهذه الصغائر لا يكون كبيراً، فلم أعُد بعدُ أباليها ولا أهتمّ بها، إلاّ إن أحسست نيّة متعمَّدة في الإساءة إليّ أو قصداً إلى تحقيري، هنالك يعاودني الداء القديم فلا أقبل ذلك من أحد مهما كان.

ووجدت غرفة الأساتذة في الكلية واحدة تجمع أساتذة الكلّيتين (كلّية الشريعة وكلّية اللغة العربية) وكانت واسعة جداً فيها طاولة كبيرة جداً وحولها أكثر من ثلاثين كرسياً، يجتمع فيها الأساتذة، لكن يقعد النجديون في جهة منها والمعاقِدون (أي المتعاقدون) في جانب، وقلما يكون بينهم حديث مشترَك. فكرهت هذا التفريق من أول يوم، وقعدت مع الشيوخ النجديين تارة ومع إخواننا من الشاميين والمصريين تارة أخرى، ووجدت من الفريقَين أحسن الاستقبال وأجمل الترحيب. ووجدت جوّ الكليتين في الجملة جوّ صفاء ومحبّة، وإذا وُجد الإسلام فلن تجدوا إلاّ المحبّة والصفاء.

وأمّا الطلاب فأشهد (وأنا أعلّم من سنة 1345هـ، من قبل أن أكمل تعليمي) بأنهم من أكثر مَن رأيت من الطلاّب أدباً مع المدرسين ورغبة في الاستفادة منهم، وتكريماً للمُسِنّين منهم.

* * *

ص: 184