المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌لغتكم يا أيها العرب (1) - ذكريات - علي الطنطاوي - جـ ٨

[علي الطنطاوي]

فهرس الكتاب

- ‌الجزء الثامن

- ‌وداع المحكمة الشرعية

- ‌في محكمة النقض في القاهرة

- ‌أشتات من الذكريات

- ‌زياراتي القديمة لمكة

- ‌حجة 1381: خواطر وأفكار

- ‌أبو الحسن النَّدْوي ومذكّراته (1)

- ‌أبو الحسن النَّدْوي (2)

- ‌أبو الحسن الندوي (3)

- ‌في مطلع العام 1987

- ‌مؤتمر القمة الإسلامي

- ‌الفقيدان الوزير والمدير،ومن قبلهما فقدنا الأمير

- ‌تعليق على الحلقة السابقة: لبّيكَ اللهمّ لبّيكَ

- ‌كيف جئتُ المملكة

- ‌وقفة على المخيَّمات

- ‌منزلي في الرياض

- ‌لمّا كنت أستاذاً في الكلّيات والمعاهد

- ‌تفسير بعض الآيات

- ‌من المستشفى المركزي في الرياضإلى مستشفى المواساة في دمشق

- ‌في مكة سنة 1384ه

- ‌في كلية التربية في مكة

- ‌يوم الجلاء عن سوريا

- ‌لمّا علّمتُ البنات

- ‌خواطر ومشاهدات عن تعليم البنات

- ‌لغتكم يا أيها العرب (1)

- ‌لغتكم يا أيها العرب (2)

- ‌ذكريات العطلة الصيفية في دمشق (1)

- ‌ذكريات العطلة الصيفية في دمشق (2)

- ‌هذه الحلقة من الذكريات مسروقة

- ‌عندكم نابغون فتّشوا عنهم بين الطلاب

- ‌عزمتُ أن أطوي أوراقيوآوي إلى عزلة فكرية

- ‌رسائل الإصلاح وسيف الإسلامانتقدت الشيوخ الجامدينوالشبان الجاحدين

- ‌الخاتمة

الفصل: ‌لغتكم يا أيها العرب (1)

-238 -

‌لغتكم يا أيها العرب (1)

أعود إليكم بعدما انقطعت عنكم، فمَن سرّته عودتي فأنا أحمد الله إليه على أن أعادني، ومَن ظن أنه استراح مني وسرّه فراقي فأسألُ الله أن يصبّره عليّ وعلى مصائب الدهر، فما يخلو الدهر من مصائب. ولو كانت هذه الدنيا مسرات كلها كانت جنة.

أما الذي شغلني فأحاديث رمضان في الرائي (التلفزيون). وأنا أجزع من قدوم رمضان في كل سنة، لا خوفاً من صيامه ولا هرباً من قيامه ولا إشفاقاً من شدة حرّه وطول أيامه، فكل ذلك محتمَل إن وطّنتُ النفس على احتماله، تراه في أوله شهراً طويلاً وتنظر إليه الآن بعدما انقضى فتبصره ساعة واحدة. وكذلك الحياة كلها، فإذا كان يوم البعث وسُئل الناس: كم لبثتم؟ قالوا: لبثنا يوماً أو بعض يوم.

لكن جزعي وإشفاقي من أحاديث رمضان؛ فالكاتب حين يهمّ بإنشاء فصل يوجّه همَّه كله إليه ويضع فكره كله فيه، فإن كلّفتَه بكتابة فصلين معاً انشعب ذهنه وتَقسّم بينهما فكره، فلم يستقرّ على واحد منهما. وأنا أُكلَّف كل سنة بإعداد ثلاثين حديثاً

ص: 309

معاً لأيام رمضان الثلاثين، وتسجيلها كلها في يومين أو ثلاثة. وإن تقاعست أو تردّدت سلّطوا عليّ مخرج البرنامج، ولدي عبدالله رَوّاس، فطوّقني وسدّ عليّ السبل بأدبه ولطفه، وأعانه ابن أخ له كاتب أديب وإذاعي ناجح، هو عصام الروّاس. لا ينفع معهما اعتذار ولا يمكن منهما الفرار! فلا أفرغ من تسجيلها حتى أشعر كأني خارج من معركة، أو كأن عربة صغيرة مرّت عجلاتُها على جسدي فحطّمت أضلاعي.

لذلك قررت وأعلنت أني إن مدّ الله في الأجل فلن أعود إليها في رمضان المقبل، ولو جاء مع الرواس وابن أخيه كل أصحاب الرؤوس جميعاً (1).

وأنا في هذا البلاء من أكثر من خمسين سنة؛ كنت أكتب في الجرائد، وتُرجم بعض ما أكتب وصدر في كتاب بالفارسية بقلم أديب بليغ اسمه أحمد آرام، وعنوان الكتاب «كفتار رمضان» . ثم صرت أُذيع من إذاعة دمشق، ثم جاءنا هذا الرائي من نحو ثلاثين سنة فكان أشدّ علينا وأقسى، لأني كنت متوارياً لا أُرى، وربما قرأت من ورقة أو رجعت إلى مذكّرة، فصرت الآن كالذي يخرج إلى الشارع بلا ثياب، إن تحركت حركة أو سرقت من ورقة نظرة رأوها مني وسجّلوها عليّ!

ولقد أبصرت مرة في السينما من قديم في «جريدة الأخبار» ، قبل أن يكون هذا الرائي، مناظر لامتحانات التلاميذ، فرأيت

(1) قلت هذا سنة 1407، فلما جاء رمضان سنة 1408 حملوني على المجيء فجئت معهم.

ص: 310

تلميذاً صغيراً في الابتدائية، نظر في ورقة جاره فأخذ بعينه منها ما نقله إلى ورقته، وحسب أنه لم يرَه أحد، فسجّلَتها عليه عين السينما، ثم عرضَتها في كل دار عرض فرآها الملايين، وافتُضح المسكين فضيحة ما كان يحسب حسبانها (1).

هذا في الدنيا بهذه الآلات التي وفّقَنا الله إليها، فكيف بالفضيحة الكبرى يوم العرض على الله، يوم يُنشَر المَطويّ من الصحف ويُعلَن المَخفيّ مما دُوّن فيها، وهي لا تغادر صغيرة ولا كبيرة إلاّ أحصتها.

يا ربّ أيقظ قلوبنا لنتوب فتغفر لنا، فإني امرؤ قسا قلبه حتى لتمرّ به المواعظ فلا يتعظ ويمر هو بالعِبَر فلا يعتبر، وقد صرت على أبواب القبر، قد جاوزت الثمانين، فيا ربّ متى يستيقظ ضميري وينتبه إيماني فأعود إليك، ولا مفرّ من العودة إليك؟ ويا أحبائي القراء أسألكم الدعاء، فما لي عمل أُقبِل به على الله إلاّ رجائي بكرمه ثم بدعائكم لي -إن كنتم تحبونني- بظهر الغيب.

* * *

قلت لكم إنها شغلتني أحاديث رمضان. ولقد مرّ بي من نحو عشرة أعوام أو تزيد رمضان أعددتُ فيه تسعين حديثاً معاً: ثلاثون منها للرائي هنا وثلاثون للإذاعة وثلاثون للأردن. لذلك أسرع فيها حتى أفرغ منها، أسلقها سلقاً، فإذا سمعتها بعد ذلك

(1) انظر مقالة «أين التائبون» في كتاب «نور وهداية» الذي أرجو أن يصدر في وقت قريب من صدور هذه الطبعة من الذكريات (مجاهد).

ص: 311

مُذاعة قلت: ياأسفاه! ليتني قلت كذا، ليتني لم أقُل كذا، ليتني وسّعت ما ضيّقت وفصّلت ما أجملت!

وأخرى لا أقول إنها مصيبة، فليست مصائب حقيقية أجارنا الله من المصائب، هي أنني تعودت من سنين طوال أن لا أكتب أحاديثي ولا محاضراتي. وأنا كجميع من أدمن قراءة كتب الأدب العربي القديمة، لا سيما كتب الجاحظ، مُولَع بالاستطراد، ولعلّ من أسباب ذلك أنني أجد في ذهني بحمد الله الكثير وأنني أحب أن أقدّم للقارئ كل ما أجد في ذهني، فتجرّني المسألة إلى مسألة تشبهها أو تتصل بها، فلا أزال أبتعد عن الطريق الذي كنت أمشي فيه حتى أنتهي من هذه الأفكار العارضة، فأقف وأريد أن أعود إلى الموضوع الأصلي، إلى الجادة التي كنت أمشي فيها فلا أدري من أين خرجت عنها ولا كيف أعود إليها، فأقف كما وقف حمار الشيخ في العقبة، وأنظر فاتح الفم كالأبله أرقب النجدة ولا من منجد. وقد وقع لي ذلك مرات في أحاديث رمضان هذه السنة (على مائدة الإفطار)، وقد وقع لي قبل ذلك مرات.

كانوا يدعونني إلى المواسم الثقافية التي تُقام في الأردن، ولا سيما على عهد الدكتور إسحاق الفرحان، وهو مِن خير أو هو خير من ولي الوزارة من الإسلاميين، فيدورون بي على البلاد. وقد كنت مرة في جَرَش في حشد عظيم في رحبة واسعة صُفَّت فيها الكراسيّ واجتمع فيها الآلاف، فوقفت مثل هذه الوقفة، فقلت للناس: ماذا كنت أقول؟ أسألهم العون حتى أعود إليه، فما ردّ عليّ أحد، فقلت لهم: السلام عليكم. وأدرت ظهري لأنزل من فوق المنبر، فصاحوا من جوانب المكان يطلبون أن أعود،

ص: 312

فقلت: إذا كنتم لا تنتبهون إليّ ولا تدركون ماذا أقول فما فائدة القول؟ فقام واحد منهم فذكّرني بما كنت أقول، فقلت له: جزاك الله خيراً، لقد أنقذتني وأنقذت المجلس فبارك الله فيك. فضحكوا جميعاً.

ومن هذه المتاعب أنني كنت أكتب الحلقة من هذه الذكريات وأنا لا أدري ماذا سأكتب بعدها، فإذا تصوّرت الذي أكتبه ودوّنت عنوانه أو سجّلت فقرات منه وضعتُها إلى جنبي، فإذا مرّت أيام جرفها السيل وضاعت فيه، في سيل الجرائد والمجلات التي تَرِد عليّ فيما يحمله البريد إليّ، وما أستخرجه من أوراقي ثم لا أردّه إلى موضعه، ثم أحتاج إليه فلا أعرف مكانه. ويطالبني ولدي الكريم السيد طاهر أبو بكر الذي يتلقى هذه الحلقات بالهاتف فيسجّلها ويطبعها، ثم يسلّمها إلى صهري الأستاذ محمد نادر حتاحت أو إلى حفيدي المهندس الأديب مجاهد ديرانية ليقرأها عليّ (1).

ولطالما تولّت بنتي (وهي محاضرة في جامعة عبد العزيز) وحفيدي هذا ترتيب أوراقي وكتبي مرات ومرات، واشتريا لي خزائن فيها نحو خمسين من الأدراج ووضعا على كل دُرْج منها عنواناً لما فيها، وخزائن أخرى في كل واحدة عشرون رفاً ضيقاً، لأضع في كل درج وعلى كل رفّ مجموعة من هذه الأوراق. واتخذ حفيدي مجاهد، ومن قبله أخوه الطبيب مؤمن، دفاترَ

(1) انقطعت الفقرة قبل تمام المعنى. ولعله أراد أن يقول إن طاهراً يطالبه بالحلقة الجديدة ليطبعها، فلا يكاد يعثر عليها وسط هذا الركام الذي أشار إليه من الصحف والأوراق (مجاهد).

ص: 313

فيها فهارسُ مرتَّبةٌ على الحروف، حتى إذا طلبتُ ورقة وجدتها. فيستمرّ هذا النظام أياماً ثم تعود إلى ما كانت عليه، لأنه «لا يُصلِحُ العطّارُ ما أفسدَ الدهرُ». ولأنهم قالوا من القديم:

متى يَبلُغُ البُنيانُ يوماً تَمامَهُ

إذا كُنتَ تَبنيهِ وغيرُكَ يهدِمُ؟

* * *

كتبت هذا كله وشغلت به أذهانكم وأضعت به من أوقاتكم وما استفدتم منه شيئاً، لأقول إنه لا يزال لديّ من الذكريات التي لم أنشرها الكثير الكثير، ولكن ليس لديّ شيء مكتوب منها، لذلك أتصيّد المناسبات فأدخل منها إلى ما نسيت من هذه الذكريات.

ومن هذه المناسبات أن جماعة خبّروني عن إمام في بلد من بلدان المملكة لا أحبّ أن أدلّ عليه لئلاّ أفضح هذا الإمام الذي أتكلم عنه، كان يصلّي بهم صلاة التراويح فقرأ:«ألف لام ميم نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَك» ، فصاح الناس من جوانب المسجد:«ألَمْ ألَمْ» ، فلم ينتبه وكادت تفسد الصلاة. وعلمت -بعدُ- أن هذا الإمام شابّ طالب في الدراسات العليا في جامعة من الجامعات، وأنه يُعِدّ رسالة لينال بها شهادة الدكتوراة.

وأنا لا أذمّ الشهادات ولا أحقّر الدكتوراة، ولكنها كلما كثرت وانتشرت رخصت بعد عزّ وهَزُلت حتى سامها كل مفلس. ولكني لم أكن أتصور أنها تنزل إلى هذه الدركة الدنيا! وأنا أعلم أن من الدكاترة علماء نالوها بحقّ وكانت شهادة عدل لا شهادة

ص: 314

زور، ومنهم من نالها ببعض الباطل، أعدّ بحثاً عن شاعر مثلاً، فألمّ بجوانب حياته ودرَس شعره وجمع أخباره وأورد ما قيل فيه وما قاله، ولكنه لم يعرف من شعراء عصره غيره، بل هو لا يستطيع أن يُقيم لسانه بأبيات له، وإن هو قرأها لم يفهمها، وإن هو فهمها لم يقدر أن يشرحها!

ولقد رأيت مسوَّدات رسائل ماجستير ودكتوراة نالت بعد ذلك الدرجة العالية، فكنت أجد فيها من الغلط والخبط والأخطاء والجهالات ما لا أرتضيه من طالب المدرسة المتوسطة. ولقد رأيت من حرص الدول على الشهادات واعتبارها وحدَها مقياس العلم عجائب وغرائب، حتى إنني كنت أُسأل هذا السؤال الرسمي وأنا أدرّس في الجامعة هنا، السؤال الذي يقول: ما هي مؤهّلاتك؟ فكنت أتهرب منه لأنني إن اكتفيت بما قرأته في الجامعة وفي المدارس قبلها أظلم نفسي، فالذي قرأته فيها لا يبلغ واحداً من ألف مما قرأته بعدها. ثم إن عملي في حياتي الذي انقطعت إليه واشتغلت به وكتبت فيه هو الأدب وعلوم الدين، وليس عندي مؤهّل رسمي في واحد منهما. ولمّا ذهبنا لوضع نظام الدراسات العليا يوم دعا إليها وعمل على إنشائها أخونا الدكتور محمد أمين المصري، وحقّق له ما يريد حتى افتتح أول قسم للدراسات العليا في مكة معالي الشيخ حسن بن عبد الله آل الشيخ، رحمه الله ورحم المصري وجزاهما خيراً.

كنا جماعة، فرجعوا إلى أعمالهم وبقيتُ هناك أجادل أطلب أن لا تكون الشهادة وحدها هي مقياس الأستاذية في الجامعة. وكان مما قلته لهم: خبّروني عن الذي حمل أول شهادة دكتوراة

ص: 315

في الدنيا، مَن الذي منحه إياها؟ إن قلت إنه دكتور دخلنا في متاهات الدور والتسلسل الذي لا يوصل إلى غاية، وإن اعترفتم بأن الذي منح أول دكتوراة كان لا يحملها (وهذا هو الواقع) أقررتم معي بأن الشهادة ليست وحدها مقياس العلم.

وكان مما قلت لمعالي الشيخ حسن رحمة الله عليه: خبّرني ياسيدي، لو بعث الله جدّك الشيخ محمد بن عبد الوهاب أو الإمام أحمد بن حنبل، هل كنت تستطيع أن تعيّن واحداً منهما معلّماً في مدرسة ابتدائية وأنت لا تعترف بمقياس إلاّ مقياس الشهادة وحدها؟ وأنا أعرف سيدة تدرّس من سنوات طوال في جامعة من جامعات المملكة، درّسَت النحو والصرف ودرّست البلاغة ودرّست الثقافة الإسلامية وأصول النقد ودرّست الأدب العباسي والأندلسي، وكانت في ذلك كله بشهادة الجميع من أنجح المدرّسات، تحمل شهادة الماجستير وهي تحاول من سنوات أن تُقبَل في امتحان الدكتوراة، وطرقَت أبواب جامعات المملكة كلها فلم تُقبَل فيها. كأن تدريسها هذه المواد طوال هذه السنين لا يعدل الدراسة المطلوبة سنة أو سنتين! هذا مثال على التقيّد الكامل بنظام الشهادات.

ثم إنه جاءنا الآن مقياس آخر أبعد من العقل وإن كان أقربَ إلى الدقّة، وهو الكمبيوتر (1). عرضوا مرة على الكمبيوتر ساعتين اثنتين، إحداهما واقفة لا تمشي أبداً والثانية تؤخّر دقيقة واحدة،

(1) الذي سمّيتُه «المِحْساب» ، لأن اشتقاق اسم الكمبيوتر في الفرنسية والإنكليزية من مادة «حسب» .

ص: 316

فكان جواب المحساب أن الواقفة التي لا تمشي أبداً أضبط من التي تؤخّر دقيقة! لا تعجبوا، فالواقفة تُعطي -كما قال الكمبيوتر- الوقتَ المضبوط مرتين كل أربع وعشرين ساعة، والثانية لا تُعطي الرقمَ المضبوط إلاّ كل سبعمئة وستة وثمانين ألفاً ومئتين وثلاث وأربعين سنة

أو غير ذلك فاحسبوها.

* * *

على أنه ليس يعنيني من هذا الكلام كله إلاّ هذا الضعف الذي نراه في اللغة العربية، حتى حاق الخطر بها وكاد الناشئون يبتعدون عنها ويجهلونها. ولقد كتبت في العدد الذي صدر يوم 30 شوّال سنة 1366هـ (1947م) من مجلة «الرسالة» مقالة مضى عليها الآن إحدى وأربعون سنة ولكنها لا تزال تصوّر حقيقة قائمة، فاسمحوا لي أن أسرقها من كاتبها وأن أُثبِتها هنا، وأحسب أن كاتبها يأذن لي بأن أنقلها. كان عنوان المقالة «مستقبل الأدب» (1)، قلت فيها:

تزدحم المساجد قُبَيل الامتحان في مصر بجماعات الطلاب، يتحلّقون فيها حِلَقاً يطالعون ويقرؤون. وقد مررت بحلقة فيها نفر فهمت من كلامهم أنهم من طلبة العربية والأدب في المدارس العالية، فقعدت قريباً منهم أستمع إليهم، وكان واحدٌ منهم يقرأ في كتاب، فما رأيته سلِمَت له خمسة أسطر متتابعات، وما مرّ على خمسة أسطر إلاّ رفع فيها منخفضاً وخفض مرتفعاً وحرّف

(1) وهي منشورة في كتاب «في سبيل الإصلاح» (مجاهد).

ص: 317

الكَلِم عن مواضعها وأزالها عن منازلها، ولم يدع لغوياً ولا نحوياً ولا عالِماً بالعربية من لَدُن أبي عمرو بأول الدهر إلى الأشموني في آخره، إلاّ نبش قبره وبعثر عظمه وشتم -بجهله- أباه وأمه! أمّا الطلاب الحاضرون فكان منهم من يتنبّه للّحنة الظاهرة فيردّه عنها ويغفل عن الخفيّة، وسائرهم (أي باقيهم) يغفل عن ظاهرها وخفيّها. فضاق صدري حتى خفت أن يتفجّر بغَضْبَة للعربية لا أدري ما عاقبتها، فحملت نعلَيّ وخرجت هارباً أسعى.

وذهبت فسألت إخواني من المدرّسين، فعلمت أن هذا القارئ ليس بدعاً في الطلاب وليس المتفرّد في هذه العبقرية في الجهل وهذا النبوغ فيه، وإنما هي النموذج الصادق لأكثر طلاب المدارس في مثل هذه الأيام. واجتمعتُ بعد ذلك بكثير من طلاب المدارس العالية، فما كدت أجد في أكثرهم من يشبه أو يداني أصحابَنا يوم كنا في أوائل الدراسة الثانوية. لا أقول هذا فخراً بأصحابنا، ولكن تَذْكِرة لهؤلاء وحثّاً لهم على الجِدّ في طلب العلم وبياناً لِما هبطوا إليه وما رضوه لأنفسهم من ترك العلم اعتماداً على شهادات ينالونها، أي كراسيّ في المستقبل يركبونها أو وظائف (أي رواتب) يقبضونها، حتى صارت الشكوى من الضعف في العربية عامة في مصر والشام والعراق وكل بلد عربي، وحتى صار من أبواب التسلية للأدباء أن يفكّروا في تيسير تعلُّم العربية بقلب قواعدها وتنكيس أوضاعها وابتداع البِدَع في نحوها وصرفها، أو بهدم بنيانها وصرم نظامها بتسكين أواخر كلماتها وترك إعرابها، أو بنسفها من أساسها وقلعها من جذورها واستعمال الحروف اللاتينية أولاً والكلمات العامية ثانياً، وما

ص: 318

لا يعرفه إلاّ الله ثالثاً ورابعاً. وما إلى شيء من ذلك حاجة ولا له فائدة، وما باللّغة تعسير حتى نبتغي لها أوجه التيسير (1)، ولكنْ في العزائم خَوَر وفي الهمم ضعف وفي الشباب انصراف عن العلم.

هذه هي الحقيقة، وإلاّ فهل صَلُحَت العربية برسمها، أي بكتابتها وخطّها وعلومها، هذه القرون الأربعة عشر، وصبرَت على حكم التُّرك أولاً، ثم الفرس، ثم المغول، ثم الأتراك أخيراً، ورأت عصور الانحطاط وعهود التخلّف، وكانت في كل ذلك طاهرة ظاهرة، حتى لم يخلُ عصرٌ من مؤلّفين في النحو والصرف والبلاغة والأدب، وحتى أُلِّف «القاموس» أشهر معاجمنا في عهد العثمانيين وأُلّف شرحه الجليل بعد الألف للهجرة (2)، وحتى كان الطلبة في الدهور كلها عاكفين على النحو والصرف والبلاغة، إن لم ينالوا ثمرتها فقد حفظوا قواعدها، وإن لم يحصّلوا سليقة العرب فقد أحاطوا بعلوم الأدب

هل صَلُحَت العربية في هذه القرون وبدا الآن فسادها؟ وهل استسهلها الفرس والروم والأتراك والهنود المسلمون (والإسلام لا يفضّل عربياً في ذاته على غير العربي، ولكن الكلام في اللغة) هل استسهلها هؤلاء كلهم حتى ظهر منهم علماء أجلاّء فيها، ولم تصعب إلاّ على أبناء العرب

(1) على أن جدي رحمه الله دعا من قديم، من قبل هذه المقالة باثنتي عشرة سنة، إلى إصلاح النحو وتيسيره ونَعَى عليه تعقيدَه واضطرابه وبُعدَه عن الغاية. انظر مقالة «آفةُ اللغة هذا النحو» في كتاب «فِكَر ومباحث» ، وقد نُشرت سنة 1935 (مجاهد).

(2)

«تاج العروس» للزَّبيدي المُتوفّى سنة 1205هـ، واقرأ قصته في مقالة «شارح القاموس» ، وهي في كتاب «رجال من التاريخ» (مجاهد).

ص: 319

الأقحاح بعدما طلع فجر النهضة وبدا نور النهار؟

وما لشبابنا وحدهم -دون شباب العرب في كل العصور- هم الذين عجزوا عن تعلّمها والتمكّن منها؟ أهُم أقلّ ذكاء وأضعف عقلاً منهم جميعاً، بل ومنا لمّا كنا في مثل أسنانهم قبل عشرين سنة؟ إنهم في الحقيقة أذكى منا، ووسائل التعليم في هذه الأيام أكثر مما كانت على أيامنا وطريقته أسهل، ورُبّ بحث كنا نتصيد مسائله من متفرقات الكتب يُرى الآن مجموعاً في كتاب واحد ينادي: مَن يقرأ فيّ؟!

وما لهم يستصعبون العربية؟ وهل العربية أصعب عليهم من الكيمياء والجبر والهندسة؟ وهذه الألسن التي يَزحم بعضُها في رأس الطالب بعضاً من تعدُّدها، وما لأكثرها من فائدة تُلمَس أو عائدة تُحَسّ: اللاتينية (كتبتُ المقالة ونشرتها في مصر) التي أخذناها تقليداً بلا علم، والسريانية والعبرية والفارسية والتركية، ثم الفرنسية والإنكليزية وما لست أدري ماذا أيضاً

أهذه العلوم وهذه الألسن كلها سهل جميل، كأنها قصة من قصص الغرام يشربها الطالب مع الماء ويأكلها مع الحلوى، والصعوبة كلها في العربية؟! وإذا كانت هذه العلوم وهذه الألسن صعبة كلها فما هو السهل الذي يذهب الطالب إلى المدرسة ليتعلمه؟ ولماذا نفتح المدارس ونُرهِق الأمة بنفقاتها، ونحمل المتخرجين فيها على أعناق الناس حملاً بما حصّلوا من العلم وما نالوا من الشهادة؟

لا، ليس في العربية صعوبة ولا في كتابتها وعلومها عسر، هذه ضلالة يجب أن ينتهي حديثها وأن لا نعود إلى إضاعة الوقت وإفساد النشء في الكلام فيها، ويجب أن نحبّبها إلى الطلاب

ص: 320

ونرغّبهم في مطالعة كتبها حتى يألفوها ويسهل عليهم فهمها. ولقد كنا في المدارس الابتدائية نقرأ الكتب الكبيرة، حتى إنني قرأت كتاب الأغاني كله (متخطياً إسناده والكثير الذي لا أفهمه منه) في عطلة الصيف التي أمضيتها بعد السنة الثانوية الأولى. وكنا يومئذ نُحسِن المراجعة في حاشية الخضري وفي المغني لابن هشام، وكان فينا من يَنْظم ويكتب، وعندي مقالات كتبتها في تلك الأيام قد لا تُرضيني أفكارها ولكن أسلوبها في الجملة يُرضيني اليوم.

وكنا نختلف إلى بعض العلماء، نسمع دروسهم العامة في المساجد ودروسهم الخاصة في البيوت، فما أكملنا الدراسة الثانوية حتى أتقنّا قراءة النحو على المشايخ وقراءة البلاغة والفقه والأصول والحديث، وحضرنا كتباً في التفسير والكلام، وعرفنا عشرات من أمّات كتب العلم وقرأنا فيها وتصفّحناها أو رجعنا إليها، وحفظنا أسماء مئات (مئات حقاً) من أعلام الإسلام من الصحابة والتابعين والفقهاء والمحدّثين والمفسّرين والفلاسفة والقُوّاد والأدباء والشعراء، حتى صارت أسناد الحديث والأدب مألوفة لنا لكثرة مَن عرفنا من رجالها، ومن لا نعرفه نرجع إلى ترجمته، وكنا في الثانوية نرجع إلى الإصابة وأسد الغابة والاستيعاب وتهذيب التهذيب وتهذيب الأسماء واللغات وابن خَلِّكان والفَوَات (فَوَات الوَفَيات) ومعجم الأدباء وطبقات السّبكي وتاريخ الخطيب وابن عساكر والديباج المُذهَّب وطبقات الحنفية وبغية الوعاة وتاريخ الخلفاء وابن أبي أُصَيْبعة

وكانت هذه الكتب كلها وأخرى مثلها في مكتبة أبي، وكانت تحت يدي من تلك الأيام.

ص: 321

وقد نبغ في صفّنا (أي فصلنا) جماعة من الأعلام، كسعيد الأفغاني وجميل سلطان وأنور العطّار وزكي المحاسني وعبدالكريم الكَرْمي ووجيه السمّان وجمال الفَرّا، وما كانت تمرّ سنة لا ينبغ فيها نابغون في الأدب والعلم، وممن نبغ في صفّنا في كلية الحقوق مصطفى الزرقا ويونس السّبْعاوي وصِدّيق شَنْشَل وعادل العَلْواني، وممن كان في الصف الذي بعده معروف الدّواليبي.

(لم ينته الكلام والبقية في الحلقة الآتية إن شاء الله).

* * *

ص: 322