الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
-222 -
أبو الحسن الندوي (3)
أمّا دمشق فلأنها التي أبصرتُ الدنيا أول مرة من خلالها وأول أرض مسّ جسمي ترابها.
نقّلْ فؤادَكَ حيثُ شئتَ مِنَ الهوى
ما الحبُّ إلاّ للحبيبِ الأوّلِ
ولولا ما ركّب الله في النفوس من حبّ الأوطان لهُجر كثير من البلدان، واجتمع الناس كلهم حيث الحياض والرياض وأماكن الجمال أو الكسب والربح وجمع المال، ولَما رأيت شامياً يهاجر إلى نيويورك فيبقى فيها عشرين سنة لا يرى نفسه فيها إلاّ غريباً مسافراً نازلاً في فندق كبير، يحنّ أبداً إلى قريته قد اجتمعَت أمانيه في العودة إليها، وما قريته إلاّ عشرون بيتاً من الحجر حول نبع في رأس جبل دون بلوغها تسلُّق الصخر وسلوك الوعر، ما فيها سوق عامرة ولا عمارة عالية ولا تسليه عنها أسواق نيويورك ولا عماراتها، وإذا عاد إليها ألقى عصاه واستقرّ به نواه.
لذلك قرن الله في القرآن القتل بالإخراج من الديار. وإذا كان
فراق الدنيا هو الموت فإن دنيا الإنسان الصغرى وطنه، وإن فارقه وأُخرجَ منه فقد مات الموت الأصغر.
ولكن إذا جاء الدين هان في سبيله كل شيء حتى حبّ الديار، لذلك يؤثر كل مسلم حرم الله في مكة على بلده، وإن رآه قد حاق به المكروه افتداه ببلده وآثر أن يسلم بيت الله ولو كان ثمن سلامته خراب بيته.
أمّا لكنو التي فيها ندوة العلماء فلقد حلَت صورتها في عيني لمّا رأيتها، فلما خبرتها ازدادت حلاوة على حلاوتها. ولست أدري هل الصورة التي في ذهني هي صورتها حقيقة أم هي كاللوحة الفنية، لا تصف الحقيقة كما تصفها الصورة الشمسية (الفوتوغرافية) ولكنها على ذلك أثمن منها، تُباع بالآلاف على حين لا تُشترى الشمسية بأكثر من العشرات، ذلك لأنها لا تنقل للمشاهد الواقع وحده بل تنقل إليه عواطف الذي صوّرها وخياله وأمانيه ونظره إلى الكون. وأنا لست بالمصوّر البارع الفنان، ولكني أحاول أن أصف بالقلم واللسان بعض ما يصفه بالخطوط والألوان.
ولم يرغّبني في دار الندوة جمال منظرها وحده، ففي الأرض مناظر كثيرة فيها ما ليس في لكنو من ألوان الجمال، بل لأن المثُل العليا التي يطمح البشر إليها والدنوّ منها من قديم الأزمان إلى الآن هي الحقّ والخير والجمال، والثلاثة فيها: الجمال في موقعها، والخير في أهلها، والحقّ في الغاية التي تعمل لها وتسعى إليها.
يقول الناس (ونقول معهم) إن الدعوة الإسلامية المنظَّمة
بدأت بإنشاء جمعية الشبان المسلمين في مصر سنة 1346هـ، وقد كنت يومئذ أحدَ الشبان الذين كان لهم شرف شهودها، والذين بقي منهم أطال الله أعمارهم الإخوة الأساتذة عبد السلام هارون وعبد المنعم خلاف ومحمود شاكر.
وإنشاء الجمعيات الإسلامية والعمل المنظَّم في الدعوة خير لأنه من باب التعاون على الخير، والله قال لنا في آية واحدة {وتعاوَنوا} وقال {ولا تعاوَنوا}:{وتَعاوَنوا على البِرِّ والتَّقْوى ولا تَعاوَنوا على الإثمِ والعُدوانِ} . وأنا لا أذمّ الاجتماع ولا آباه، ولكن الذي آباه وأذمّه هو أن يُتّبع في العمل الإسلامي أسلوب الأحزاب السياسية. ولقد كان قبل إنشاء جمعية الشبان وقبل ظهور جماعة الإخوان، كان حول الشيخ تلاميذ مرتبطون به، يعمل ويعملون غالباً على ما يُرضي الله، يمشون (إلاّ من انحرف منهم) على المحجّة البيضاء، يحسب كل من تلاميذه أنه أخصّهم به وأقربهم إليه.
فلما اتبعَت بعض الجماعات أسلوب الأحزاب وجعلوا لها رئيساً وجعلوا لها وكيلاً، وأنشؤوا لها مجالس وكانت مناصب وألقاب، ازدحموا على هذه المناصب وتسابقوا إلى هذه الألقاب، فجرّ ذلك إلى ما تعرفون من الانشقاقات والاختلافات. ثم إن بعضها مال إلى السياسة كل الميل. والإسلام لا ينفصل عن السياسة إلاّ إن انفصلت سورة الأنفال وسورة براءة (وهما في السياسة الدولية) عن القرآن، ولكن السياسة في الإسلام كمَن يرى ميدان المعركة من نافذة الطيّارة، يُحيط بصره بها وربما أدارها بالهاتف ووجّهها، ولكنه لا ينزل إلى أرضها ولا يشارك
فيها لا يسابق إلى غنائمها. ولعلّي لم أحسن التمثيل، فلا تناقشوني فيه، «فليس من دأب المحصِّل المناقشة في المثال» كما كان يقول مشايخنا.
ومنها جماعات جعلت كلّ همّها في دعوى تهذيب النفس وتصفيتها بالمراقبة والمجاهدة وتركَت العلم فلم تُقبِل عليه، مع أن العلم بالشريعة هو المصباح الذي يُنير لنا طريقنا، فإن أطفأناه وزعمنا -كما زعموا- أن الله يهدينا بغيرها ضللنا كما ضلّوا. إنهم يحتجّون على عادتهم دائماً بجملة من آية، يُغمِضون عيونهم وآذانهم عن سباقها وعن سياقها، عمّا جاء قبلها وبعدها، فلا يرونه ولا يسمعونه. أخذوا من قوله تعالى جملة {واتّقُوا اللهَ ويعلّمُكمُ اللهُ} فاحتجّوا بها على ترك العلم، ونسوا أن التقوى بامتثال أمر الله وأمر رسوله، واللهُ ورسولُه أمَرا بطلب العلم وجعلا طلب بعضه فرضاً كفرض الصلاة، وأن الله يقبل من الأعمال ما خلص له على أن يكون موافقاً لما شرعه.
وآخرون اقتصروا على العلم وحده بلا تقوى، فكان سلوكهم عقلياً خالصاً خالياً من الروح. وإذا ذهبَت الروح ذهبت الحياة، والعلم بلا تقوى علم ميت ربما رمى صاحبه في جهنم، لأن إبليس كان عالِماً فلم ينفعه علمه لمّا عصى ربه!
أمّا جماعة أبي الحسن من النَّدْويين فقد أخذوا بالحسنيَين، بالعلم الذي ينمّي العقل ويُرشِد إلى الطريق، وبالتقوى التي تخلّص الروح وتُنجي في الآخرة. والدنيا اليوم مقبلة على المذاهب الروحية ما كان حقاً منها وما كان باطلاً، وذلك ثمرة هذه الحضارة
المنغمسة في المادة القائمة عليها، أو هو «ردّ فعل» كما يعبّرون في هذا الأيام، وأكثر تصرفات البشر من باب ردود الفعل.
والناس إنما يطلبون ما يفقدون ويزهدون فيما يجدون. ولقد جاءنا في مكة من اثنتي عشرة سنة وفد كبير من الأميركيين المسلمين من البيض منهم ومن السود، قعدوا معي في الحرم ساعات طوالاً، كان يترجم بيني وبينهم الدكتور مجاهد الصوّاف، ابن أخي الأستاذ الشيخ محمد محمود الصواف. فكان مما قالوه لي: إنكم تقولون في الدعوة إلى الإسلام إنه دين العلم وإنه دين النظافة وإنه دين التنظيم، ونحن أوسع منكم علماً ومدننا أشدّ نظافة ومجتمعنا أكثر تنظيماً، فما هذا الذي نحتاج إليه ولا هذا الذي نريده؛ إنما نريد ما يُنعِش أرواحنا، نريد الجانب الروحي من الإسلام.
والذي قالوه حق نبّهوني إليه وقد كنت غافلاً عنه؛ إن الإسلام للحياة كلها يُصلِحها ويسدّد خُطاها، والحياة مادة وشيء وراء المادة. والإسلام للناس جميعاً، والناس مؤلَّفون من جسم ونفس وروح. والدعوة الصحيحة إلى الإسلام هي التي تجمع الحسنيَين، على أن يكون هذا المزج بين مطالب الروح وحاجات الجسد مزجاً شرعياً. والله جعل كل شيء بقدَر، فكما تتّحد العناصر بنسب معيّنة فلا تأتلف ذرّة الأوكسجين إلاّ مع ذرتين من الأيدروجين، كذلك جعل توازناً دقيقاً مُحكَماً بين الروحيات والمادّيات. ومن الناس من يميل ميزانه إلى إحدى الكفّتَين.
فتكون دعوة للعقل ودعوة للقلب من غير أن ننحرف مع
الصوفية أو غيرها، وعلى أن نلزم طريق الكتاب والسنّة، وفي الكتاب والسنّة غَناء.
* * *
وهذا ما عليه جماعة الندوة: اشتغال بالعلم مع تثبيت الإيمان وإصلاح القلب، وترفُّع عن المعارك السياسية التي لا غاية لها إلاّ الوصول إلى كراسي الحكم والتي يسلك أصحابها إلى ذلك كل طريق، المستقيم منه والملتوي، ويتخذون كلّ ذريعة، الطيبة والخبيثة. والإسلام يريد أن تكون الغاية حسنة وأن يكون الطريق إليها مستقيماً آمناً، بعيداً عن أساليب الأحزاب السياسية التي فيها المناصب والألقاب وفيها التزاحم عليها والتسابق إليها.
وفي أبي الحسن والندويين -مع ذلك كله- عناية بالأدب. والدعوة لا تكون إلاّ باللسان والقلم، وقوام اللسان والقلم الأدب، وإذا كان من الأدباء الذين يُعرفون اليوم بالإسلاميين من يكتب ويقول غير ما يعمل، ومنهم من لا يؤدّي الفرائض ولا يدع المحرَّمات ولا يلتزم بالسلوك الإسلامي، ومنهم من كتب في الإسلام لمّا رأى الكتب الإسلامية مقصودة وبضاعتها رائجة فجعل يسوق ما يُعجِب السوق، حتى إني لقيت في المكتبة العربية عند الأستاذ العالِم الشاعر أحمد عبيد من أكثر من أربعين سنة أديباً معروفاً يدعوه الناس أديباً إسلامياً، له اسم ذائع وله ذكر شائع. وطال المجلس فكان من حديثه أنه متمسك بالإسلام يدافع عنه ويحامي دونه، ولكنه قد يُضطرّ إلى القعود إلى موائد الخمر مسايرةً لأهلها، وربما شرب القليل منها! وأنه ربما ترك الصلاة أو
أخّرها، ولكنه مسلم متمسك بالإسلام يدافع عنه ويحامي دونه! وأنه ربما خرج مع نسائه وهنّ كاشفات الأعناق والصدور مبديات السيقان والنحور يساير بذلك زمانه، ولكنه متمسك بالإسلام يدافع عنه ويحامي دونه! وما زال يسرد من أمثال ذلك ما فضح به نفسه وبيّن أنه مؤمن بلسانه بعيد بفعله وسلوكه عن الإسلام. أما أبو الحسن وجماعته فإنهم ملتزمون بالإسلام قولاً وعملاً، كتاباً وسلوكاً؛ يعمل ما يعمل ابتغاء رضا الله لا رضا الناس.
والرسول عليه الصلاة والسلام كره التكلّف، وأنا لم أرَ فيمن عرفت من الناس من هو أبعد عن التكلّف وأقرب إلى البساطة من أبي الحسن، فهو يلبس أيسر لباس وأرخصه وأبعده عن الزهو والتعالي، قميص طويل تحته سراويل واسعة. وهو لباس أكثر مَن عرفت من علماء الهند.
قرأت له أولاً ثم عرفته واتصل حبلي بحبله، في الهند ثم في موسم حجّ سنة 1381هـ، وكان من قبلُ قد قدم دمشق أستاذاً زائراً في جامعتها وما كُتب لي أن ألقاه لأنني معتزل بعيد عن مجامع الناس، أمضيت شبابي في ذلك وامتدّ معي إلى شيخوختي، فأنا لا أكاد أخرج من داري ولا ألقى إلاّ نفراً من إخواني ومن أصحابي. فلما عرفت أبا الحسن في لكنو من قرب صار أحد الذين اصطفيتهم وأحببتهم واحترمتهم.
والناس عندي أصناف ثلاثة: منهم من أحبه وأحترمه، ومنهم من أحترمه لعلمه وفضله ولكني قد لا أحبه لغلظته وثقل ظله، ومنهم من أحبه ولكني لا أحترمه. فكان أبو الحسن من
النفر القليل الذين أوليتهم حبي واحترامي، والذين أنطلق حين أكون معهم على سجيّتي، أظهر ما أُخفيه وما أكتمه عن الناس أبديه، أقول ما يخطر على بالي، أكون آمناً معهم مطمئناً إليهم واثقاً بهم. من هؤلاء الأستاذ الزيات والدكتور عبد الوهاب عزام والشيخ شلتوت، ومنهم بل من أوائلهم الشيخ بهجة البيطار، وممن كان هذا حالي معه لمّا تشرّفت بلقائه -على ندرة ما ألقى من أمثاله- الأمير عبد الله بن عبد الرحمن آل سعود، وناس أمثالهم لا أُحصيهم منهم السيد الخضر حسين، ومنهم الآن الأمير ماجد، ومنهم أستاذنا محمد كرد علي، والأستاذ عارف النكدي، والأستاذ النشاشيبي، بعد خلاف كان بيني وبينه أول الأمر ومنازلة في الصحف من أجل كتابه «الإسلام الصحيح» الذي لم أجده صحيحاً فكتبت في نقده، رحم الله مَن مات ممن ذكرت وأطال حياة من بقي وأسعده فيها.
وقد جمعني الحج سنة 1381هـ وأنا مقيم في مكة بأبي الحسن، وبالشيخ المعمَّر الصالح الشيخ مخلوف مفتي مصر الأسبق، والشيخ القلقيلي الذي كان مفتي الأردن وكان صديقاً عزيزاً. فدُعينا إلى القصر الملكي في الأبطح (أي في المعابدة)، فاعتذرت على عادتي، ولكن المفتيَين وأخي وصديقي الأستاذ الصوّاف ألزموني الحضور. وكانت جلسة مباركة، حضر أولها الملك سعود رحمة الله عليه، ثم تولّى رياستها المفتي الشيخ محمد بن إبراهيم رحمة الله عليه، فولّى إدارتَها عنه أخانا أباالحسن، فبدا لي في ذلك المجلس جانبٌ جديد من عبقريته المتعددة الجنبات لم أكن أعرفه من قبل، وهو أسلوبه في الإدارة.
وهو أسلوب زياد، تَشبّه فيه بالرجل الذي دعاه رسول الله بالعبقري ولم يَدعُ بذلك غيرَه، عمر بن الخطاب: شدة من غير عنف ولين من غير ضعف.
وأنا أقول من قديم إن القوة قد تكون مع اللين أكثرَ مما تكون مع الخشونة؛ فالفأس على لينها ونعومتها تقطع الحَطَبة على خشونتها. وكانت هذه الجلسةُ نواةَ رابطة العالَم الإسلامي، وكان هؤلاء الأعضاء هم المؤسسين الأولين لها، وكنت واحداً منهم، ولكنني لعلمي أنني لا أصلح لها اعتذرت عنها.
واجتمعت به في تلك السنة في المجلس الأعلى في الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة، وخرجت منه أيضاً، وإن بقيت فيه وفي الرابطة وفي كل عمل إسلامي جندياً يعاون على كل ما ينفع المسلمين. لكنني لا أربط نفسي بأحد، فأنا أمشي في طريقي لا أبدّله، فمن وجدته يمشي فيه رافقته وأعنته -على ضعفي وعجزي- على ما يريد من الخير، وإن انحرف عنه أو سلك غيره لم أمشِ معه.
* * *
عرفت أبا الحسن من قريب في مكة وفي المدينة وفي دمشق، وعرفته قبل ذلك في الهند لمّا زرت لكنو سنة 1954، فوجدته في الأحوال كلها مستقيماً على الحقّ عاملاً لله، متواضعاً زاهداً زُهداً حقيقياً؛ لا زهد المغفَّلين الذين يعيشون وراء أسوار الحياة لا يدرون ما الدنيا ولا يعرفون ماذا فيها، بل زهد العالِم العارف بالدنيا وأهلها. فقد رأى الشرق والغرب وزار الأمصار
والحواضر ولقي الكبار والصغار، وعاش صدر حياته في قصر صدّيق حسن خان العالِم السلفي الأمير الكبير، أسكنوه فيه بعد موت أبيه، فذاق حياة الترف والنعيم ولكنه زهد فيها، فزُهده ليس زهد الحرمان، ليس زهد الجائع الذي لم يجد الطعام فوطّن نفسه على فقده، بل زهد الذي فقد شهوة الأكل والأكلُ أمامه؛ يحضر المؤتمرات، ولكنه يجتنب الفنادق الكبار التي يُنزِلون فيها الوفود وينزل في بيوت تلاميذه، وما أكثر هؤلاء التلاميذ.
وإذا كان مَن بنى حصناً أو قاد جيشاً عُدّ من العظماء، فأبو الحسن بنى للإسلام من نفوس تلاميذه حصوناً أقوى وأمتن من حصون الحجر، بنى أمة صغيرة من العلماء الصالحين والدعاة المخلصين. لقد تمنيت إن لم يُكتب لي أن أعود إلى دمشق، ودمشق وطني:
وحَبّبَ أوطانَ الرجالِ إليهِمُ
…
مآربُ قضّاها الشبابُ هنالكا
وإن لم يُكتب لي أن أستمرّ بجوار بيت الله الحرام، أن أذهب إلى لكنو؛ لأنني عشت فيها أياماً قصيرة لكن ذكراها بقيَت عميقة في نفسي لا يمحوها كرّ السنين. مرّ عليها الآن ثلاث وثلاثون سنة ولا أزال أحسّ حلاوتها تحت لساني وطيبها في نفسي، لأني وجدت فيها الدين والدنيا، وجدت فيها أنس النفس وراحة الروح، وجدت المحبة تجمع بين أفرادها، ووجدت أبا الحسن قد أكرمه الله فاستكمل مزايا الداعية الإسلامي الذي نطلبه ونفتّش عنه.
وتحت يدي وأنا أكتب هذه المقدّمة محاضرة لي ألقيتها في مكة في موسم حجّ سنة 1373هـ. وأنا في العادة لا أكتب
محاضراتي فتضيع عند الناس، وأسال الله أن لا تضيع عنده، لكن هذه المحاضرة كتبها إخوان ودوّنوها فبقيَت لديّ. كان موضوعها «طرق الدعوة إلى الله» (1)، ركّزت ذهني فيها على ما أعرف من طرق الدعاة، من السّرهندي الذي دُعي مجدّد الألف الثاني، لأنه عمد إلى صرح الكفر الذي شاده الإمبراطور أكبر في الهند، فجاءه من القواعد بلين وهدوء، كهدوء الماء ولينه إذ يتسرّب إلى أساس البناء حتى إذا تشرّبه ألانه ثم جرفه فهدّه. لقد هوى بناء الكفر وقام من أحفاده الإمبراطور الذي قبس من نور الشيخ، بل من ضياء الإسلام، فسار على هذه الطريق، وهو أورنك زيب. فأقام صرح الإيمان، والإيمان معه دائماً العزّ والنصر وله الدوام إلى آخر الدهر، ولو قامت في سبيله العقبات واعترضته الموانع فإن النصر له والعاقبة للمتقين. ثم تكلّمتُ عن طريقة الشيخ محمد بن عبد الوهاب التي كان من نتيجتها ومن تحالفه مع الإمام محمد بن سعود أن وحّد الله الجزيرة ونقلها من حال إلى حال. ومن الدعاة من كان أسلوبه في الدعوة بثّ الأفكار وتنبيه الناس، ومَن عمد إلى الصحف والمجلات يدعو فيها إلى الإسلام.
وقد وجدت عند أبي الحسن وندوة العلماء النافعَ من هذه الطرق كلها؛ فهم يتخذون وسيلة التعليم، وهي أصدق الوسائل التي يتوسل بها الدعاة، وإن كان ثمرها قد يتأخر في الظهور ولكنه مضمون. وما قيمة عشر سنين في تاريخ الأمم التي تمتدّ أجيالاً
(1) سبقت الإشارة إليها في الحلقة 218 في هذا الجزء، وهي في كتاب «فصول إسلامية» وعنوانها «طرق الدعوة إلى الإسلام» (مجاهد).
وأجيالاً؟ فأولى ما يقوم به الدعاة إلى الله هو أن يُعنَوا بالتعليم لإعداد جنود لمعركة الكفر والإيمان ولو بَعُدَ موعدها، فلقد أضعنا عشرات وعشرات من السنين. أنا شهدت في حياتي سبع عشرات من يوم كنت يافعاً وأدركت ما حولي ضاعت علينا، ولو أننا سلكنا فيها هذا الطريق الواضح لوصلنا. أليس هذا هو طريق رسول الله عليه الصلاة والسلام؟ ألم تنتقل الدعوة الإسلامية من واحد إلى واحد؟ لقد دعا الرسول ‘ إلى ما يشبه المحاضرة مرة واحدة لمّا جمع الناس عند الصفا، فانبرى له أبو لهب بتلك الكلمة الفاجرة، فلم يدعُ الناسَ بعدُ إلى مثلها، بل كان إذا دهم المسلمين أمرٌ دعاهم وحدهم إلى الصلاة الجامعة في المسجد.
* * *
فيا أخي أبا الحسن، اثبت أنت وجماعتك على ما أنتم عليه، فإنني لا أعرف اليوم في أساليب الدعاة من هو أصحّ منكم أسلوباً، واعذرني إذا لم أكتب المقدّمة التي أمرتني بها.
إن المقدّمات إنما تكون للتعريف بمؤلّف مجهول، وأنت أعرف مني ومثلك لا يحتاج إلى مَن يقدّمه للناس. على أني أستطيع أن أكتب مثل ما كتبتُ عنك وأن أكتب عن أخيك الدكتور رحمة الله عليه، الذي وجدت عنده لمّا ذهبت مُستشفِياً إلى عيادته ثلاثةَ ألوان من الطب لا تكاد تُعرف في غير الهند: الطب الذي درسه ويدرسه الناس في الجامعات، والطب الذي يدعونه الطب العربي القديم أو الطب اليوناني، وله كلّيات ولأدويته معامل أذكر منها معمل همدرد في باكستان (إن لم أكن نسيت الاسم أو حرّفته)،
والطب الهملوباتي الذي عرفته منه، ولي معه قصة طريفة سيأتي إن شاء الله خبرها في ذكرياتي عند الكلام عن زيارتي للهند.
وبعد ياأخي أبا الحسن، لقد امتثلتُ أمرك وكتبت، ولكن هذا الذي كتبته كله لا حاجة إليه ولا محلّ له من الإعراب، فعمَّ أُعرِب وأنت مستغنٍ بمعرفة الناس إياك وبما احتواه كتابك، فاقبل معذرتي، وأسأل الله أن يشدّ من أزرك وأزري وأن يوفقك ويوفقني، وأن ينفع الناس بعلمك وفضلك وجهادك. والسلام عليك ورحمة الله.
* * *