الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الأول
1/ 1/ 1 - عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إنما الأعمال بالنية -وفي رواية: (بالنيات) - وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه"(1).
الكلام عليه من وجوه:
يحضرنا منها اثنان وثلاثون وجهًا -ولله الحمد على ذلك وعلى جميع نعمه-:
أحدها: بدأ المصنف بهذا الحديث لأمور:
أحدها: أنه ترجم بكتاب الطهارة فقدمه لاشتماله على النية التي هي شرطها.
(1) رواه البخاري في الصحيح (1، 54، 2529، 5070، 6689) صحيح مسلم برقم (1907)، النسائى (75، 3437، 3494) ابن ماجه (4227)، الموطأ برواية محمد بن الحسن (983)، أبو داود (6/ 284)، الحميدي (1/ 16، 17)، الترمذي (5/ 283)، الطيالسي (9)، ابن خزيمة (1/ 73).
ثانيها: اقتداء بقول الأئمة، كما نقله الخطابي عنهم: ينبغي لمن صنف كتابًا أن يبتدىء بهذا الحديث تنبيهًا للطالب على تصحيح النيّة.
وقال ابن مهدي (1) الحافظ: من أراد أن يصنف كتابًا فليبدأ بهذا الحديث. وقال: لو صنفت كتابًا لبدأت في كل باب منه بهذا
الحديث.
ثالثها: اقتداء بفعلهم فإنّ البخاري وغيره من المصنفين، ابتدأوا به وقد ذكره البخاري في سبعة مواضع من صحيحه في أول كتابه، ثم في الإيمان، ثم في العتق، ثم في الهجرة، ثم [في النكاح](2)، ثم في ترك الحيل، ثم في الأيمان والنذور. وتقديم البخاري له في أول صحيحه لا مناسبة له على ما ترجمه [من](3) باب بدء الوحي وإنما قصد به إصلاح النية في تأليفه وليقتدى به، وامتثالًا لقول عبد الرحمن بن مهدي السالف، فجعله فاتحة كتابه وأقامه مقام الخطبة لأبوابه (4).
(1) هو الحافظ الكبير عبد الرحمن بن مهدي أبو سعيد ولد ستة خمس وثلاثين ومائة ومات سنة ثمان وتسعين ومائة. تذكرة الحفاظ (1/ 329).
(2)
فى الأصل (العتيق)، والصحيح من صحيح البخاري ون ب، أما ما بعده ففيه تقديم وتأخير بين الحيل وبين الأيمان
…
إلخ.
(3)
فى ن ب (في).
(4)
قال ابن حجر فى فتح الباري (1/ 11):
مناسبة الحديث لترجمة أن بدء الوحي كان بالنية. لأن الله تعالى فطر محمدًا على التوحيد وبغض إليه الأوثان، ووهب له أسباب النبوة وهي =
ثانيها: في التعريف براويه قبل الكلام عليه: هو أمير المؤمنين أبو حفص، وأول من كناه بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما رواه ابن الجوزي عنه. والحفص في اللغة: الأسد، عمر بن الخطاب بن نُفَيل بضم النون وفتح الفاء [بن](1) عبد العزى بن رياح بكسر الراء ثم مثناة تحت -وأبعد من قال بباء موحدة- بن عبد الله بن قُرط بضم القاف ثم راء ثم طاء مهملتين بن رزاح -بفتح الراء وبالزاي- بن عدي بن كعب بن لؤي -بالهمز وتركه- بن غالب بن فهر العدوي القرشي يجتمع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في كعب بن لؤي.
واتفقوا على تسميته بالفاروق لفرقانه بين الحق والباطل بإسلامه، وظهور ذلك، فقيل: سمّاه الله تعالى بذلك، روته عائشة رضي الله عنها وإسناده ضعيف (2) كما قال ابن دحية، وقال ابن شهاب: سمّاه بذلك أهل الكتاب، ذكره الطبري، وقيل: رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذه ثلاثة أقوال (3)، وهو أول من سمّي أمير المؤمنين عمومًا، وسمي [قبله به](4) خصوصًا
عبد الله بن جحش على سرية في اثني عشر رجلًا، وقيل:
= الرؤيا الصالحة، فلما رأى ذلك أخلص إلى الله في ذلك فكان يتعبد بغار حراء فقبل الله عمله وأتم له النعمة. اهـ وقد ذكر أقوالًا كثيرة.
(1)
مكررة في ن أ.
(2)
انظر: طبقات ابن سعد (3/ 270، 271).
(3)
المرجع السابق؛ تاريخ عمر لابن الجوزي (30) فقد ذكرها. وانظر: فتح الباري (7/ 44) وقد تكلم على الكنية ايضًا.
(4)
في ن ب به (قبله).
ثمانية، وقد كان مسيلمة الكذاب تسمى بذلك أيضًا كما ثبت في صحيح البخاري في قصة قتله.
وأم عمر رضي الله [عنه](1): اسمها حنتمة بالحاء المهملة [ثم](2) نون ثم مثناة فوق، بنت هاشم، ويعرف بذي الرمحين، ابن المغيرة المخزومي، قال أبو عمرو: من قال حنتمة بنت [هشام](3) فقد أخطأ ولو كانت كذلك لكانت أخت أبي جهل بن هشام وإنَّما هي ابنة عمه، وقد وقع هذا الخطأ ابن قتيبة في "معارفه"، وقبله ابن منده في "المعرفة" وقال: هي أخت أبي جهل، وهو وهم (4).
وُلد رضي الله عنه بعد الفيل بثلاث عشرة سنة، وإليه كانت السفارة في الجاهلية.
وأسلم بعد ست من النبوة، وقيل: خمس، بعد أربعين رجلًا وإحدى عشرة امرأة، وذكر ابن الجوزي أن عمر لما أسلم نزل جبريل عليه السلام فقال: استبشر أهل السماء بإسلامه. وكان إسلامه عزًا ظهر به الإسلام بدعوة النبي صلى الله عليه وسلم، وفي "صحيح البخاري" (5):
(1) في ن ب (عنها).
(2)
في ن ب (واو).
(3)
في الأصل (هاشم)، والتصويب من ب ج.
(4)
نبه ابن عبد البر في الاستيعاب (3/ 1144) على هذا التصحيف ويين أنها ابنة هاشم، وقال: لو كانت ابنة هشام لكانت أخت أبي جهل والحارث، للاستزادة، راجع: فتح البارى (7/ 44)، وأسد الغابة (4/ 145)، وطبقات ابن سعد (3/ 265)، وتاريخ عمر لابن الجوزي (19).
(5)
صحيح البخاري (3684، 3863).
"ما زلنا أعزة منذ أسلم عمر".
بويع له بالخلافة يوم موت الصديق وهو يوم الثلاثاء لثمان بقين من جمادي الآخرة سنة ثلاث عشرة من الهجرة بوصاية الصديق إليه، فسار بأحسن سيرة وزين الإسلام [بعدله](1).
وفتح الله به الفتوح الكثيرة كبيت المقدس وجميع الشام، ودون الدواوين في العطاء ورتب الناس فيه، وكان لا يخاف في الله لومة لائم وهو أول من ضرب بالدرة وحملها، ومصّر الأمصار وكسّر الأكاسرة وقصّر بالقياصرة، وأخّر المقام إلى موضعه الآن وكان
ملصقًا بالبيت، ونوّر المساجد بصلاة التراويح.
وأوّل من أرّخ التاريخ من الهجرة، وأوّل قاضٍ في الإسلام (2) ولّاه الصدِّيق القضاء، وأول من جمع القرآن في المصحف، وآخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينه وبين الصدِّيق [و](3) حج بالناس عشر سنين متوالية، وزهده ومناقبه كثيرة ومشهورة، وهل كان أدم أو أبيض؟ قولان والجمهور على الثاني كما قاله النووي، وكان من محدثي هذه الأمة، وفي الصحيح أنه عليه السلام قال له:"والذي نفسي بيده [مالقيك] (4) الشيطان سالكلًا فجًا قط إلَّا سلك فجًا غير فجك"(5)
(1) فى ن ب ساقطة، ومثبتة في ن ج.
(2)
في ن ب زيادة (واو).
(3)
(الواو) غير موجودة في الأصل.
(4)
في الأصل (ما لقيت)، والتصويب من ب ج.
(5)
البخاري رقم (3683) -قط- غير موجودة في جميع النسخ، وما أثبت من الصحيح.
وشهد له بالشهادة والجنة، ونزل القرآن بموافقته في أسرى بدر، وفي الحجاب، وفي تحريم الخمر، وفي مقام إبراهيم، وغير ذلك كما أوضحته فيما أفردته في الكلام على رجال هذا الكتاب فسارع إليه، قال ابن دحية في كتابه "مرج البحرين":[وكان](1) أعسر يسر أي قوة يديه سواء قال: وكان يأخذ بيده اليمنى أذنه اليسرى ثم يجمع جراميزه -أي أطرافه- ويثب فكأنما خلق على ظهر فرسه (2).
روي له عن النبي صلى الله عليه وسلم خمس مائة حديث وتسعة وثلاثون حديثًا اتفق البخارى ومسلم [منها على ستة وعشرين حديثًا وانفرد البخارى بأربعة وثلاثين ومسلم بأحد وعشرين](3).
ولي الخلافة عشر سنين ونصف، واستشهد يوم الأربعاء لأربع أو لثلاث أو لسبع بقين من ذي الحجة [سنة](4) ثلاث وعشرين من الهجرة، وقال الفلاس: سنة أربع، وهو ابن ثلاث وستين على الصحيح، وغسّله ابنه الزاهد أبو عبد الرحمن عبد الله وكفّنه في ثوبين سحوليين وصلى عليه صهيب بن سنان الرومي، ودفن في الحجرة
(1) مثبتة من ن ب ج.
(2)
الذي في معرفة الصحابة لأبي نعيم (1/ 207)، عن زيد بن اسلم قال: كان عمر يأخذ بأذنه يعني نفسه ثم يثب على الفرس، والذى في ابن سعد (3/ 393): رأيت عمر بن الخطاب يأخذ بأذن الفرس ويأخذ بيده الأخرى أذنه ثم ينزُو على متن الفرس. وهي في المعجم الكبير للطبراني (1/ 20).
(3)
زيادة من ن ب ج.
(4)
في ن ب ساقطة.
النبوية على ساكنها أفضل الصلاة والسلام، قتله أبو لؤلؤة المجوسي فيروز غلام نصراني -وقيل: مجوسي- للمغيرة بن شعبة، وهو في صلاة الصبح، طعنه ثلاث طعنات بسكين مسموم ذات طرفين، فقال:[قتلني](1) أو أكلمني الكلب، وطعن معه ثلاثة عشر رجلًا مات منهم تسعة، وفي رواية سبعة، فلما رأى ذلك رجل من المسلمين طرح عليه برنسًا فلمَّا ظنَّ أنه مأخوذ نحر نفسه فصار إلى لعنة الله وغضبه (2)، ثم حمل [عمر](3) رضي الله عنه إلى منزله وبقي ثلاثة أيام، وقيل: سبعة، ومات. قال [عمرو] (4) بن علي: مات يوم السبت غرة المحرم، وروي عنه أنه قال حين احتضر ورأسه في حجر ابنه عبد الله:
ظلوم لنفسي غير أني مسلم
…
أصلي الصلاة كلها وأصوم
ومن كراماته المشهورة أنه قال في خطبته يوم الجمعة: يا سارية الجبل الجبل. فالتفت الناس بعضهم لبعض فلم يفهموا مراده،
فلما قضى الصلاة، قال له علي: ما هذا الذي قلته؛ قال: وسمعته؟ قال: نعم وكل أهل المسجد، قال: وقع في خلدي أن المشركين هزموا إخواننا وركبوا أكتافهم وهم يمرون بجبل فإن عدلوا إليه قاتلوا من وجدوا وظفروا وإن جازوا هلكوا فخرج مني هذا الكلام. فجاء
(1) في ن ب ساقطة.
(2)
طبقات ابن سعد (3/ 337).
(3)
في ن ب ساقطة.
(4)
في ن ب (عمر).
البشير بعد شهر فذكر أنهم سمعوا في ذلك اليوم وتلك الساعة حين جاوزوا الجبل صوتًا يشبه صوت عمر، قال: فعدلنا إليه ففتح الله. رواه ابن عساكر بسند كل رواته ثقات، وكانت هذه الوقعة [نهاوند](1) من بلاد العراق.
وقد قيل: إن عمر رضي الله عنه[كان أطاع الله](2) في العناصر الأربعة: الرياح، دليله هذه القصة، والماء [دليله] (3): قصة نيل مصر المشهورة عنه (4)، والتراب، دليله: ما روي إن الأرض زلزلت على عهده فضربها بالدرة فقال: ألم أعدل عليك؟ فسكنت (5)؟ والنار، دليله أن رجلًا جاءه فقال له: ما اسمك؛ فقال: جمرة، قال: ابن من؟ فقال: جذوة، فقال: أين مسكنك؟ فقال: حرة النار. فقال: بأيها؟ فقال: بذات لظى، فقال: أدرك أهلك فقد احترقوا (6).
(1) في ن ب (بنهاوند) - البداية والنهاية (7/ 130، 131)، وقال ابن كثير بعد سياقه القصة: وهذا إسناد جيد حسن، وقال بعد إسناد آخر: فهذه طرق يشد بعضها بعضًا.
(2)
في الأصل (كان له تأثير)، وما أثبت من ن ب.
(3)
في الأصل (دليل)، وما أثبت من ن ب.
(4)
البداية والنهاية (7/ 100) رواية ابن كثير من طريق ابن لهيعة عن قيس بن الحجاج عمن حدَّثه.
(5)
أورد السيوطى في كشف الصلصلة عن وصف الزلزلة (ص 66)، ولم يذكر آخره بل ذكر أنه ضربها بالدرة.
(6)
رواه مالك في الموطأ (ص 973). سألت سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز حفظه الله مشافهة عن هذا، فقال: إن صحت أسانيد هذه الآثار فلا بأس، ولكن العبارة غير صحيحة -أي له تأثير على العناصر الأربع-.
الوجه الثالث: فيمن وافق اسم راويه من الرواة وينبغي أن يعلم أن في الرواة عمر بن الخطاب سبعة أولهم: أمير المؤمنين هذا، وثانيهم: كوفي روى عنه خالد بن عبد الله الواسطي، وثالثهم: راسبي روى عنه سويد بن أبي حاتم، ورابعهم:[الأ](1) سكندري حدَّث عن ضمام بن إسماعيل، [و] (2) خامسهم: عنبري روى عن أبيه عن يحيى بن سعيد الأنصاري، وسادسهم: سجستاني روى عن محمد بن يوسف الفريابي، وسابعهم:[سدوسي](3) بصري روى عن معتمر بن سليمان.
فائدة: عمر اسمه معدول عن عامر [كزُفر وقثم وزُحَل وحسم ودُلف، فهذه كلها معدولة، عمر معدول عن عامر](4)، وقثم عن قاثم، وكذلك سائرها لكنها يوقف [بها](5) على المسموع، لا يجوز أن يعدل عن نافع ولا عن رافع فيقول: نفع ورفع، ولا ينصرف لاجتماع أمرين فيه: العدل والتعريف، وعمر معدود من الأسماء المرتجلة، نبّه على ذلك كله ابن دحية رحمه الله ثم قال: فإن قلت: قد قيل رجل عمر إذا وإن كثير الاعتمار، وقالوا عمرة الحج [وجمعها](6) عُمُر، فما الذي يمنع أن يكون منقولًا عن أحدهما؟ ثم
(1) زيادة من تهذيب التهذيب (7/ 442).
(2)
ساقطة من ب ج.
(3)
زيادة من ن ب وج.
(4)
في ن ب ساقطة.
(5)
في ن ب ساقطة.
(6)
في ن ب (فأجمعها).
أجاب: بأن المانع [من](1) ذلك أنه لو كان منهما لانصرف.
قال: "والخطاب" يجوز أن يكون فعالًا من الخِطبة والخُطبة معًا، وقد أسلفت الكلام على كنيته رضي الله عنه وأن الحفص في
اللغة: الأسد.
الوجه الرابع: هذا الحديث أحد أركان الإسلام وقواعد الإيمان، وهو صحيح جليل متفق على صحته، مجمع على عظم موقعه [وجلالته](2) وثبوته من حديث الإمام أبي سعيد يحيى بن سعيد بن قيس الأنصاري رواه عنه حفاظ الإسلام، وأعلام الأئمة: إمام دار الهجرة مالك بن أنس، وشعبة بن الحجاج، و [الحمادان] (3): حماد بن زيد، وحماد بن سلمة، والسفيانان: سفيان الثوري وسفيان بن عيينة، والليث بن سعد، ويحيى بن سعيد القطان، وعبد الله بن المبارك، وخلائق لا يحصون كثرة، قال أبو سعيد محمد بن علي الخشاب الحافظ: روى هذا الحديث عن يحيى بن سعيد نحو مائتين وخمسين رجلًا، قلت: وبلغهم ابن منده في مستخرجه فوق الثلاثمائة، وقال الحافظ أبو موسى الأصبهاني: سمعت الحافظ أبا مسعود عبد الجليل بن أحمد يقول في المذاكرة: قال الإمام عبد الله الأنصاري: كتبت هذا الحديث عن سبعمائة نفر من أصحاب يحيى بن سعيد. أخرجه الإمام أبو عبد الله أحمد بن
(1) في ن ب ساقطة.
(2)
في الأصل (وحالاته)، وما أثبت من ن ب.
(3)
في الأصل (الحمادين)، وما أثبت من ب ج.
حنبل في مسنده، وأبو عبد الله البخاري في سبعة مواضعٍ من صحيحه كما أسلفتها، ورواه مسلم في الجهاد من طرق ثمانية، وأخرجه أيضًا أصحاب السنن الأربعة: أبو داود في الطلاق، والترمذي في الحدود، والنسائي (1) في الأيمان والطهارة و [الرقائق](2) والطلاق، وابن ماجه في الزهد (3)، ولم يبق من أصحاب الكتب المعتمد عليها من لم يخرجه سوى مالك فإنه لم يخرجه في الموطأ، نعم رواه خارجها (4) وأخرجه الشيخان في صحيحيهما من حديثه، ووهم ابن دحية فقال في كلامه على هذا الحديث: إن مالكًا أخرجه في موطئه وأن الشافعي رواه [عنه](5) وهو عجيب منه.
وتنبَّه لقولتين ساقطتين:
الأولى: ما رأيته في أول كتاب (تهذيب مستمر الأوهام) لابن ماكولا أنه يقال: إن يحيى بن سعيد لم يسمعه من التيمي (6).
(1) الذي فى النسائى برقم (75، 3437، 3794)، الوضوء، الأيمان، الطلاق، والرقائق لم أجده فيه فلعله في السنن الكبرى، كما سيأتى بعده.
(2)
في الأصل (الرقاق)، والتصحيح من تحفة الأشراف للمزي (8/ 92).
(3)
ابن ماجه (4227).
(4)
أخرجه مالك في الموطأ رواية محمد بن الحسن برقم (983)، وقد ذكره السيوطى في كتابه منتهى الآمال شرح حديث إنما الأعمال (ص 13).
(5)
في ن ب ساقطة.
(6)
في ن ب (الأنصاري)، وفي ج (التيمي)، وكتب في الهامش (الأنصاري)، والصحيح ما أثبت كما في تهذيب التهذيب لابن حجر (ج 12). انظر: تهذيب مستمر الأوهام (61).
الثانية: ما ذكرها هو في موضع آخر أنه يقال لم يسمعه محمد بن إبراهيم التيمي من علقمة وبيان وهن هاتين المقالتين أن في أول صحيح البخاري: حدثنا الحميدي حدثنا سفيان حدثنا يحيى بن سعيد الأنصاري أخبرني محمد بن إبراهيم التيمي أنه سمع علقمة بن وقاص فذكره، وفي كتاب الأيمان والنذور منه: حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا عبد الوهاب قال: سمعت يحيى بن سعيد يقول: أخبرني محمد بن إبراهيم أنه سمع علقمة يقول: سمعت عمر فذكره، وإنما ذكرت هاتين المقالتين لأنبه على وهنهما وشذوذهما وأنهما [لا يقدحان](1) في الإجماع (2) السالف على صحته، ومثلهما في الوهن قول ابن جرير الطبري في (تهذيب الآثار): إن هذا الحديث قد يكون عند بعضهم مردودًا؛ لأنه حديث فرد.
الوجه الخامس: هذا الحديث قد رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم من الصحابة غير عمر بن الخطاب رضي الله عنهم نحو عشرين صحابيًا، وإن كان البزار قال: لا نعلم يروى هذا الكلام إلَّا عن عمر بن الخطاب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا الإسناد، وكذا ابن السكن في كتابه المسمى (بالسنن الصحاح) حيث قال: ولم يروه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم[بإسناد غير عمر بن الخطاب، وكذا الأمام أبو عبد الله محمد بن غياث حيث قال: لم يروه عن النبي صلى الله عليه وسلم غير
(1) في الأصل (لا يندرجان)، والتصحيح من ن ب ج.
(2)
في ن ب زيادة (واو)، وهي غير صحيحة.
عمر] (1)، [و](2) ذكره الحافظ أبو يعلى القزويني في كتابه [الإرشاد](3) من رواية مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم "الأعمال بالنية" ثم قال: هذا حديث غير محفوظ عن زيد بن أسلم بوجه فهذا ما أخطأ فيه الثقة عن الثقة، ورواه الدارقطني في (أحاديث مالك التي ليست في الموطأ) ولفظه:"إنما الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى" إلى آخره ثم قال: تفرد به عبد المجيد عن مالك ولا يعلم حدث به عن عبد المجيد غير نوح بن حبيب وإبراهيم بن محمد العتيقي، وقال ابن منده الحافظ في جمعه لطرق هذا الحديث: رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم غير عمر: سعد بن أبي وقاص وعلي بن أبي طالب وأبو سعيد الخدري وعبد الله بن مسعود [وعبد الله بن عمر](4) وأنس وابن عباس ومعاوية وأبو هريرة وعبادة بن الصامت وعتبة بن عبد السلمي [وهلال](5) بن سويد وعقبة بن عامر وجابر بن عبد الله
(1) ساقطة من ن ب.
(2)
زيادة من ن ب.
(3)
(1/ 233)، وأخرجه ابن أبي حاتم فى العلل (1/ 131)، والقضاعي فى مسند الشهاب (2/ 196)، وقال القزويني فى الإرشاد: هو غير محفوظ من حديث زيد بن أسلم بوجه
…
إلخ (1/ 167)، وقال الخطابي في الأعلام (1/ 110): وقد غلط بعض الرواة فرواه من طريق أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم.
(4)
زيادة من ب خ.
(5)
في ن ب (هذال)، وما أثبت يوافق ما في عمدة القاري (1/ 20).
و [أبو ذر](1) وعتبة بن [المنذر](2) وعقبة بن مسلم، رضي الله عنهم.
قال [الخطابي](3) في كتاب (الأعلام)(4): لا أعلم خلافًا بين أهل الحديث أن هذا الحديث لا يصح مسندًا إلَّا من رواية عمر رضي الله عنه [وسيأتى قريبًا نقل ذلك عن الحفاظ أيضًا](5)، وكذا قال المحب الطبري في "أحكامه": وقد عدد بعض هؤلاء ما لا يصح مسندًا إلَّا من حديث عمر.
الوجه السادس: هذا الحديث فرد غريب باعتبار، مشهور باعتبار آخر، وليس بمتواتر بخلاف ما يظنه بعض الناس، فإن مداره
على يحيى بن سعيد الأنصاري كما سلف، قال الحفاظ: لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم إلَّا من [جهة](6) عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ولا عن عمر إلَّا من جهة علقمة ولا عن علقمة إلَّا من جهة محمد بن إبراهيم التيمي ولا عن محمد إلَّا من جهة يحيى بن سعيد الأنصاري، وعن يحيى اشتهر، ورواه جماعات لا يحصون كما سلف وأكثرهم أئمة معروفون. ونبهنا على هذا؛ لأنه قد يخفى على بعض من لا يعاني الحديث فيتوهم تواتره لشدة شهرته عند الخاصة
(1) في ن ب (وأبو كثير)، وما أثبت يوافق ما في عمدة القاري (1/ 20).
(2)
في الأصل (الندري)، والتصحيح من ن ب ج، وعمدة القاري (1/ 20).
(3)
زيادة من ن ب.
(4)
(1/ 110).
(5)
في ن ب: متأخرة هذه الجملة أي بعد عمر.
(6)
فى ن ب ج (حديث).
والعامة، وعدم معرفته بفقد شرط التواتر في أوله، وقد صرح الائمة بأنه لا يوصف بالتواتر لما قلناه.
قلت: وقد تُوبع علقمة والتيمي ويحيى بن سعيد على روايتهم، قال الحافظ أبو عبد الله بن منده (1): هذا الحديث رواه عن
عمر غير علقمة: ابنه عبد الله، وجابر، وأبو جحيفة، وعبد الله بن عامر بن ربيعة، وذو الكلاع، وعطاء بن يسار، وياسرة بن سمي، وواصل بن عمرو الجذامي، ومحمد بن المنكدر، ورواه عن علقمة غير التيمي: سعيد بن المسيب، ونافع مولى ابن عمر.
وتابع يحيى بن سعيد على روايته عن التيمي محمد بن محمد بن علقمة أبو الحسن الليثي، وداود بن أبي الفرات. ومحمد بن إسحاق بن يسار، وحجاج بن أرطاة وعبد ربه بن [قيس (2) الأنصاري.
تنبيهات:
الأول: ادعى الحاكم أبو عبد الله أن شرط البخاري ومسلم أن [لا](3) يذكرا فى كتابيهما إلَّا ما رواه [صحابي](4) مشهور له راويان
(1) هو أبو القاسم بن منده عبد الرحمن صاحب المستخرج على الصحيحين تذكرة الحفاظ (3/ 1165)، والتقييد والإيضاح للعراقي (226).
(2)
في ن ب (سعيد).
(3)
في ن ب ساقطة.
(4)
ساقطة من (ب)، وذكرت في الهامش. انظر: معرفة علوم الحديث (62).
نقتان فأكثر [ثم يرويه عنه تابعي مشهور بالرواية عن الصحابة له راويان ثقتان فأكثر](1). [ثم](2) يرويه عنه من أتباع الأتباع الحافظ المتقن المشهور على ذلك الشرط. وما ادعاه ينتقض بأحاديث من جملتها هذا الحديث الذي بدأ به البخاري كتابه فإنه لا يصح إلَّا فردًا كما قررناه، وأغرب من هذا قول [الميانشي] (3): أن شرطهما أن لا يدخلان فيه إلَّا ما صح عندهما وذلك ما رواه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم اثنان فصاعدًا وما نقله عن كل واحد من الصحابة أربعة من التابعين فأكثر، وأن يكون [عن] (4) كل واحد من التابعين أكثر من أربعة. قال ابن دحية في كلامه على هذا الحديث: وإنما اشترط الشيخان الثقة
والاشتهار بالطلب.
الثاني: ادعى [الخليلي](5) أن الذي عليه الحفاظ: أن الشاذ ما ليس له الَّا إسناد واحد يشد به ثقة أو غيره، فما كان عن غير ثقة فمتروك وما كان عن ثقة توقف فيه [فلا](6) يحتج به، وقال الحاكم: انه ما انفرد به ثقة وليس [له](7) أصل متابع، وما ذكراه يشكل بما
(1) ساقطة من الأصل، وهي مثبتة في ب، ج، إلَّا أن في ج (راويان تقيان) بياء مثناة تحتانية.
(2)
ساقطة من ب.
(3)
في الأصل وفي ج السين مهملة، وفي ب معجمة.
(4)
زيادة من ن ب.
(5)
فى ن ب (الخليل)، وفي ن ج كما في الأصل. انظر: الإرشاد (1/ 176).
(6)
في ن ب (ولا).
(7)
في ن ب ساقطة.
ينفرد به العدل الحافظ الضابط. [كهذا](1) الحديث فإنه لا يصح إلَّا فردًا كما قدمناه وهو أول حديث استفتح به البخاري [كتابه](2) كما أسلفناه.
الثالث: هذ الحديث فيه طرفة [من](3) طرف الإسناد وهي رواية ثلاثة تابعين بعضهم عن بعض يحيى ومحمد وعلقمة، وقد
اعتني بجمع نظائر ذلك في جزء.
الوجه السابع: هذا الحديث أحد الأحاديث التي عليها مدار الإسلام، وقد اختلف في عدها على عشرة أقوال، يسر الله جمعها. أحدها: أنها ثلاثة: هذا الحديث، وحديث " [من] (4) حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه"(5) وحديث "الحلال بيّن والحرام بيِّن"(6).
قال الحافظ حمزة بن محمد الكناني (7): سمعت أهل العلم
(1) في الأصل (هكذا)، والتصحيح من ن ب ج.
(2)
في ن ب ساقطة.
(3)
في ن ب ساقطة.
(4)
زيادة من ن ب ج.
(5)
أخرجه الترمذي من رواية أبي هريرة (2317)، ومن رواية علي بن الحسين قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه" ابن ماجه من رواية أبي هريرة (3976).
(6)
البخاري (52)(2051)، ومسلم (107)، وأبو داود (3329)، والترمذى (1205) والنسائي (7/ 342)، وابن ماجه (3984).
(7)
هو أبو القاسم الكناني حمزة بن محمد توفي سنة (357)، تذكرة الحفاظ (3/ 932).
يقولون: هذه الثلاثة أحاديث هي الإسلام، وكل حديث منها ثلث الإسلام.
الثاني: أنها أربعة قاله أبو داود والدارقطني وغيرهما، بزيادة حديثًا "وازهد في الدنيا يحبك الله"، وقال عثمان بن سعيد الدارمي: أمهات الحديث أربعة هذا أحدها، وقد نظمها أبو الحسن المعرور (1) رحمه الله تعالى فقال:
عمدة الدين عندنا كلمات
…
أربع من كلام خير البرية
اتق الشبهات وازهد
…
ودع ما ليس يعنيك واعملن بنية
الثالث: أنها اثنان.
الرابع: أنها واحد.
الخامس: قال أبو بكر الخفاف (2) من قدماء أصحابنا في كتابه "الخصال" ومنه نقلت: روي عن الشافعى رضي الله عنه أنه قال: مدار الإسلام على أربعمائة حديث، كذا رأيته أربعمائة، ثم رأيت في "أصول الفقه" لابن سراقة العامرى من أصحابنا [يذكر](3) أربعة أحاديث، وكأنه أصوب.
السادس: قال الخفاف أيضًا لما نقل هذا: وقال علي بن
(1) أبو الحسن طاهر بن معرور الأشبيلي: (المعوز) في الأصل، وب (بالغين)، و (بالفاء) في ج.
(2)
هو أحمد بن عمر بن يوسف. انظر ترجمته: طبقات الفقهاء للعبادي (90)، وطبقات الأسنوى (165).
(3)
في ن ب (بدله).
المديني وعبد الرحمن بن مهدي: أن مداره على أربعة أحاديث "الأعمال بالنيات"، و"لا يحل دم امرئ مسلم إلَّا بإحدى ثلاث"(1)، و"بني الإِسلام على خمس"(2)، و"البينة على المدعي واليمين على من أنكر"(3)، وحكاه أيضًا ابن سراقة المذكور.
السابع: قال أيضًا بعد ذلك عن إسحاق أن مداره على ثلاثة: "إنما الأعمال بالنيات"، وحديث عائشة:"من أدخل في أمرنا ما ليس منه فهو رد"(4)، وحديث النعمان:"الحلال بين والحرام بين"، ونقله غيره عن الإمام أحمد.
الثامن: قال أبو داود: الفقه يدور على خمسة أحاديث: "الأعمال بالنيات"، و"الحلال بيِّن والحرام بيِّن"، و"ما نهيتكم عنه
فانتهوا وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم"، و"لا ضرر ولا ضرار".
التاسع: أسند ابن دحية عن أبي داود (5) من طريق ابن داسة أنه قال: كتبت عن رسول الله - صلى الله عليه ومسلم - خمسمائة ألف حديث انتخبت منها
(1) من رواية ابن مسعود عن البخاري (6878)، ومسلم (25، 26)، وأبو داود (4352).
(2)
من رواية ابن عمر عند البخاري (21)، والنسائى (8/ 107)، والترمذي (2619).
(3)
الترمذي (1341)، قال الترمذي: هذا حديث في إسناده مقال. اهـ.
(4)
البخاري (2697)، ومسلم (17)، وابن ماجه (14)، وأبو داود (4606).
(5)
مقدمة سنن أبي داود (1/ 6).
ما ضمنته هذا الكتاب -يعني كتاب السنن- جمعت فيه أربعة آلاف حديث وثمانمائة حديث، ذكرت الصحيح وما يشبهه ويقاربه، ويكفي الإنسان لدينه من ذلك أربعة أحاديث أحدها:"الأعمال بالنيات"، ثانيها:"من حسن إسلام [المرء] (1) تركه ما لا يعنيه"، ثالثها:"لا يكون المؤمن مؤمنًا حتى لا يرضى لأخيه إلَّا ما يرضى لنفسه"، ورابعها:"الحلال بيّن والحرام بيّن"، وحكاه القاضي عياض عن أبي داود ايضًا، ولفظه عنه: كتبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسمائة ألف حديث، الثابت منها أربعة آلاف حديث، وهي ترجع إلى أربعة أحاديث، فذكرهن.
العاشر: أسند ابن دحية أيضًا عن أبي داود من طريق أبي سعيد أحمد بن محمد بن زياد الأعرابي قال: أقمت بطرسوس عشرين سنة فاجتهدت في المسند فإذا هو أربعة آلاف حديث، ثم نظرت فإذا مدار الأربعة آلاف حديث على أربعة أحاديث لمن وفقه
الله، فأولها: حديث النعمان "الحلال بيّن والحرام بيِّن وشبهات بين ذلك" الحديث، قال: وهذا ربع العلم، ثانيها: حديث عمر بن
الخطاب: "الأعمال بالنيات ولكل أمرىء ما نوى" وهذا نصف العلم، ثالثها: حديث أبي هريرة: "إن الله طيب لا يقبل إلَّا طيبًا"
الحديث، وهذا ثلاثة أرباع العلم، ورابعها، حديث أبي هريرة أيضًا:"من حسن إسلام [المرء] (2) تركه ما لا يعنيه"، فهذه أربعة
(1) في ن ب ساقطة.
(2)
في ن ب ساقطة.
أحاديث من أخذها ووفقه الله تجزي عن الأربعة آلاف، وقال ابن أبي زيد في آخر رسالته: جماع أبواب الخير وأزمته تتفرع على أربعة أحاديث: حديث: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه"، وحديث:"من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه"،
وحديث: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت"، وحديث "لا تغضب". فتصير الأقوال إذن أحد عشر قولًا.
فائدة: مما نحن فيه ما حكاه الزناتي شارح "الرسالة" عن بعضهم أنه كتب إلى ابن عمر رضي الله عنهما أن اكتب لي بالعلم
كله [وكتب](1) إليه: العلم كثير ولكن إن استطعت أن تلقى الله تعالى خميص البطن من أموال الناس، خفيف الظهر من دنياهم، كافّ اللسان عن أعراضهم، ملازمًا لجماعاتهم؛ فافعل. فكانوا يقولون: جمع العلم في أربع كلمات.
وفي "إقليد التقليد" لابن أبي جمرة، نفعنا الله به، على المدونة: أن رجلًا صحب بعض ملوك العجم، فرأى معه سبعين بعيرًا تحمل كتبًا، فردها إلى سبعة أبعرة، ثم ردها إلى أربعة أبعرة، ثم ردها إلى أربع كلمات: لا تأكل إلَّا عن شهوة، ولا تنظر المرأة إلَّا
إلى زوجها، ولا يصلح الملك إلَّا الطاعة، ولا يصلح الرعية إلَّا العدل.
الوجه الثامن: هذا الحديث عظيم الموقع، كبير الفائدة، أصل
(1) في ن ب (فكتب).
من أصول الدين، وقد خطب به النبي صلى الله عليه وسلم فقال:"يا أيها الناس إنما الأعمال بالنية" كما رواه البخاري في أحد المواضع السبعة السالفة (1)، وخطب به عمر أيضًا على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم كما أخرجه [أيضًا](2) وقد أسلفنا عن أبي داود أنه نصف الفقه.
وقال الشافعي فيما رواه البويطي [عنه](3): يدخل في هذا الحديث ثلث العلم.
وقال في رواية الربيع: هذا الحديث ثلث العلم ويدخل في شعين بابًا من الفقه (4)، وكذا قال الإمام أحمد وغيره: إنه ثلث
العلم (5).
وسببه، كما قال البيهقي وغيره: أن كسب العبد بقلبه ولسانه وجوارحه، فالنية أحد أقسامها الثلاثة وأرجحها؛ لأنه يكون عبادة
(1) في صحيح البخاري في باب ترك الحيل وفي كتاب كيف بدء الوحي (1/ 10) قال ابن حجر: حكى المهلب أن النبي - صلى الله عليه ومسلم - خطب بهذا الحديث حين قدم المدينة، فلهذا بدأ به البخاري في أول صحيحه، وقد اعترض ابن حجر من كونه خطب به أول ما هاجر؛ لأنه لم يره منقولًا. قال السيوطي في (منتهى الآمال شرح حديث إنما الأعمال) (ص 39): قال الزبير بن بكار في اخبار المدينة -بعد سياق الإسناد- ثم قال: فهذه الطريق صرّح فيها بذكر سبب الحديث، وبكون خطب به حين قدم المدينة. واستفدنا منه تاريخ الحديث، وهو أحد علوم فن الحديث.
(2)
في ن ب ساقطة.
(3)
في ن ب (عندي).
(4)
معرفة السنن للبيهقي (1/ 191).
(5)
فتح البارى (1/ 11).
بانفرادها بخلاف القممين الآخرين، ولهذا كانت "نية المؤمن خيرًا من عمله"(1) ولأن القول والعمل يدخلهما [الفساد](2) بالرياء ونحوه بخلاف النية.
وقال عبد الرحمن بن مهدي: [يدخل](3) هذا الحديث في ثلاثين بابًا من الإِرادات والنيات. وقال أبو عبيد: ليس شيء من
أخبار النبي صلى الله عليه وسلم حديثًا أجمع وأغنى وأكثر فائدة وأبلغ من هذا الحديث (4). وقال البخاري فيما نقله ابن دحية عنه: قوله عليه السلام: "وإنما لكل امرئ ما نوى". يدخل فيه الإيمان والوضوء والصلاة والزكاة والحج والصوم والأحكام، وقال ابن دحية: لم أجد فيما أرويه من الدينيات أنفع من قوله: "إنما الأعمال بالنيات"، إذ
(1) أخرجه الديلمي في مسند الفردوس عن أبي موسى الأشعري بلفظ: "نية المؤمن خير من عمله وإن الله عز وجل ليعطي العبد على نيته ما يعطيه على عمله، وذلك أن النية لا رياء فيها والعمل يخالطه الرياء". وأخرجه العسكري في الأمثال عن النواس بن سمعان بلفظ: "نية المؤمن خير من عمله، ونية الفاجر شر من عمله". وكذلك الطبراني في المعجم الكبير (6/ 228) عن سهل بن سعد الساعدى. قال الهيثمى في مجمع الزوائد (1/ 61) رجاله موثقون إلَّا حاتم بن عباد بن ديار الحرشى، لم أرَ من ذكر له ترجمة. وضعف العراقي روايتي الطبراني من حديث سهل والنواس. راجع تخريج المؤلف في (ص 193) ت (1) وص (194) ت (3).
(2)
في ن ب ساقطة.
(3)
فى ن ب ساقطة. انظر: فتح الباري (1/ 11).
(4)
فتح البارى (1/ 11).
مدار العلم عليه وهو نور يسعى بين يديه.
قلت: وقول إمامنا الشافعى رضي الله عنه السالف: إن هذا الحديث يدخل في سبعين بابًا من الفقه، مراده الأبواب الكلية كالطهارة بأنواعها، والصلاة بأقسامها، والزكاة، والصيام، والاعتكاف، والحج والعمرة، والأيمان، والنذور، والأضحية والهدي، والكفارة، والجهاد، والطلاق، والخلع، والظهار، والعتق، والكتابة، والتدبير، والابراء ونحوها، والبيع، والإجارة، وسائر المعاملات، والرجعة والوقف، والهبة وكناية الطلاق وغيرها عند من يقول كنايتها مع النية كالصريح وهو الصحيح، وكذلك إذا كان عليه ألفان بأحدهما رهن دون الآخر فلو وفاه ألفًا صرفه إلى ما نواه منهما وشبه ذلك، وذكر القاضي حسين من أصحابنا في آخر حد الخمر أنه لا بد للإمام في إقامة الحدود من النية حتى لو ضربه لمصادرة أو لمعنى آخر، وعليه حدود لا تحتسب عنه، وأما المسائل الجزئية فلا [تحصى](1)، ثم يحتمل أن يكون أراد بالسبعين التحديد ويحتمل أن يكون أراد المبالغة في التكثير؛ لأن العرب تستعمل السبعين في ذلك ومنه قوله تعالى:{إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً} (2).
ومن المسائل الجزئية التي ينبغي استحضار النية فيها: الصدقات، وقضاء حوائج الناس، وعيادة المرضى، واتباع الجنائز،
وابتداء السلام ورده، وتشميت العاطس، وجوابه، والأمر
(1) في ن ب (تحصر).
(2)
سورة التوبة: آية 80.
بالمعروف، والنهي عن المنكر، وإجابة الدعوة، وحضور مجلس العلم والأذكار، وزيارة الأخيار والقبور، والنفقة على الأهل
والضيفان، وإكرام أهل الود والفضل وذوي الأرحام، ومذاكرة العلم والمناظرة فيه وتكراره وتدريسه، وتعليمه، وتعلمه، ومطالعته
وكتابته، وتصنيفه، والفتوى، والقضاء وإماطة الأذى [من](1) الطريق، والنصيحة، والإِعانة على البر والتقوى، وقبول الأمانات وأدائها، وما أشبه ذلك، حتى ينبغي استحضارها عند إرادة الأكل والشرب والنوم ويقصد بها التقوّي على الطاعة وإراحة البدن لينشط لها، وكذا إذا جامع موطوءته بقصد المعاشرة بالمعروف، وإيصالها حقها، وتحصيل ولد صالح يعبد الله، وإعفاف الزوجة، وإعفاف نفسه وصيانتها من التطلع إلى [حرام](2) أو الفكر فيه أو مكابدة [العشاق](3) بالصبر، وهذا معنى قوله عليه السلام، "وفي بُضع أحدكم صدقة"، وكذا ينبغي لمن عمل حرفة للمسلمين مما هو فرض كفاية أن يقصد إقامة فرض الكفاية ونفع المسلمين كالزراعة وغيرها من الحرف التي هي قوام عيش المسلمين.
والضابط لحصول النية: أنه متى قصد بالعمل امتثال أمر الشرع، وبتركه الانتهاء بنهي الشرع؛ كانت حاصلة مُثابًا عليها وإلَّا فلا، وإن لم يقصد ذلك كان عملًا بهميًّا، ولهذا قال السلف: الأعمال البهيمية ما عملت بغير نية.
(1) في ن ب (عن)،
(2)
في ن ب (الحرام).
(3)
في ب ج (المشاق).
الوجه التاسع: هذا الحديث من أجل أعمال القلوب والطاعة المتعلقة بها، وعليه مدارها وهو قاعدتها، فهو قاعدة الدين لتضمنه حكم النيات التي محلها القلب بخلاف الذكر الذي محله اللسان ولهذا نشر نوى الصلاة بلسانه دون قلبه لم تصح، ولو قرأ الفاتحة بقلبه دون لسانه لم تصح فهو أصل في وجوب النية في سائر العبادات كما سيأتي عن الجمهور قال الحافظ أبو الحسن علي بن المفضل المقدسي (في أربعينه): هذ الحديث أصل كبير في صحة الأعمال الدينية وأنها موقوفة على خلوص النية وهي بالإضافة إلى الأفعال والأقوال بمنزلة الأرواح للأشباح، [والأعمال](1) كالأجسام الموات، والنية [الصالحة](2) لها كالحياة، فمتى لم يقصد العامل بعمله وجه الله دون ما سواه كان سعيه خائبًا وأمله كاذبًا، قال تعالى:{وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} (3).
العاشر: هذا الحديث [أصل](4) في الإخلاص أيضًا وهو إرادة عمل الفعل إلى وجه الله تعالى وحده خالصًا.
والنية: هي القصد المتعلق بتمييل الفعل إلى وجه الله تعالى، قاله القرافي.
والإخلاص يرجع إلى الكتاب والسنة، أما الكتاب: فكل آية
(1) في ج (فالأعمال).
(2)
في ن ب (الخالصة).
(3)
سورة البينة: آية 5.
(4)
في ن ب ساقطة.
تضمنت [مدح](1) الإخلاص وذم الرياء، نحو:{وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} (2)، {إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} (3)، {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا} (4)، {كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ} (5)، {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ} (6)، {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ} (7). الآية، فأخبر الله تعالى إنه لا يكون في الآخرة نصيب إلَّا لمن قصدها بالعمل، وأما السنة فقوله عليه السلام:"إن الله لا ينظر إلى صوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم"(8). وقوله: "لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية"(9). وقوله: "إذا أنفق الرجل على أهله وهو يحتسبها فهي له صدقة". وقوله في حديث سعد: "إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلَّا أُجرت عليها حتى [ما تجعل] (10) في فيّ امرأتك"(11). وقوله: "يقول الله عز وجل: أنا
(1) في ن ب (معنى).
(2)
سورة البينة: آية 5.
(3)
سورة يوسف: آية 24.
(4)
سورة الكهف: آيه 110.
(5)
سورة البقرة: آية 264.
(6)
سورة البقرة: آية 266.
(7)
سورة الشورى: آية 20.
(8)
مسلم، كتاب البر.
(9)
أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب الإيمان باب (41)، وكتاب الصيد باب (10)، ومسلم في صحيحه كتاب الإِمارة حديث (85، 86).
(10)
في ن ب (اللقمة).
(11)
البخاري رقم (56)، والفتح (1/ 136).
أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملًا أشرك فيه غيري فإني بريء منه وهو للذي أشرك". وفي رواية "تركته وشركه" (1). وقوله:"من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله"(2).
وإخلاص النية لله تعالى لم تزل شرعًا لمن كان قبلنا ثم لنا من بعدهم، قال تعالى:{شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا} (3). قال أبو العالية: وصاهم بالإخلاص لله تعالى وعبادته لا شريك له، وترجم البخاري على قوله تعالى:{قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ} (4) قال: على نيته.
فائدة: لما عزم مالك [رحمه الله](5) على تصنيف الموطأ فعل من كان [بالمدينة يومئذ](6)[من العلماء](7) الموطآت فقيل لمالك: شغلت نفسك بعمل هذا الكتاب وقد شركك فيه الناس وعملوا أمثاله، فقال (8): ائتوني بما عملوا، فأُتي بذلك فنظر فيه ثم نبذه، وقال: لتعلمن أنه لا يرتفع من هذا إلَّا ما أريد به وجه الله. قال الفضل بن محمد بن حرب: فكأنما ألقيت تلك الكتب في الآبار وما
(1) مسلم (4/ 2289) عن أبي هريرة.
(2)
متفق عليه.
(3)
سورة الشورى: آية 13.
(4)
سورة الإسراء: آية 84.
(5)
في ن ب (حافظة).
(6)
في الأصل وج (يومئذ بالمدينة).
(7)
زيادة من التمهيد.
(8)
في ن ب زيادة رضي الله عنه.
سمع بشيء منها بعد ذلك يذكر (1).
الحادي عشر: ومن هنا وقع الكلام على ألفاظ الحديث فوائده:
قوله: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول) اختلف النحاة في (سمعت) هل تتعدى إلى مفعولين؛ فقيل: نعم، وهو مذهب أبي علي الفارسي في إيضاحه (2)، قال: لكن لا بد أن يكون الثاني مما سمع، كقولك: سمعت زيدًا يقول كذا، ولو قلت: سمعت زيدًا [يضرب](3) أخاك؛ لم يجز.
والصحيح أنه لا يتعدى إلَّا إلى مفعول واحد، والفعل الواقع بعد المفعول في موضع الحال، أي سمعت حال قوله كذا.
وأما ابن دحية فقال في كلامه على هذا الحديث: نجد أن إعراب (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم) فعلًا وفاعلًا ومفعولًا، قال بعضهم: فمن يسلك التعليل ويتكلف المجاهيل يجب أن يكون في الكلام مضاف محذوف كأنه قال: سمعت قول الناس؛ لأن الأشخاص لا يسمع إنما يسمع أصواتها وكلامها، فإذا قلت: سمعت زيدًا يقول كذا وكذا، فإنما التقدير: سمعت كلام زيد ويقول جملة موضعها نصب على الحال ثم ذكر مقالة أبي علي الفارسي، فقال: وزعم الفارسي في الإيضاح أن سمع يتعدى إلى: [مفعول واحد إذا كان مما يسمع كقولك: سمعت كلام زيد وإن كان مما لا يسمع تعدى
(1) التمهد لابن عبد البر (1/ 86) مع الزيادة في أوله.
(2)
الإيضاح (1/ 197).
(3)
زيادة من الإِيضاح.
إلى مفعولين] (1) كقولك: (سمعت زيدًا يقول) فتقديره عنده في موضع المفعول الثاني [حال](2) قال: وهذا من مسائِله التي غلط فيها [لأن سمعت لو كان](3) مما يتعدى إلى مفعولين لم يخل من أن يكون من باب ما يتعدى إلى مفعولين لا يجوز السكوت على أحدهما وهو ظننت وأخواتها، أو يكون، وليس في العربية باب آخر له حكم ثالث ولا يجوز أن تكون من باب ظننت؛ لأنهم عدوه إلى مفعول واحد فقالوا: سمعت كلام زيد، ولا يجوز أن تكون من باب أعطيت؛ لأن بابه لا يجوز أن يكون المفعول الثاني فيه إلَّا اسمًا محضًا ولا يجوز أن يقع موقع فعل ولا جملة، وأنت تقول: سمعت زيدًا يتكلم وسمعت زيدًا وهو يتكلم، فتأتي بعده بفعل وبجملة فإذا بطل أن يكون من هذين البابين ثبت أنه مما تعدى إلى مفعول واحد، وإنك إذا قلت: سمعت زيدًا يقول فيقول في موضع الحال، كقولك: أبصرت الرجل ونحوه. وأهل شيراز يقلدون الفارسي في مقالته وهو خطأ عند النحويين، قاله البطليوسي.
الثانى عشر: أجمعوا على أن الإسناد المتصل بالصحابي لا فرق فيه بين أن يأتي بلفظ "سمعت"، أو بلفظ "عن"، أو بلفظ
"أن"، أو بلفظ "قال".
(1) في نسخة ج: (مفعولين إذا كان مما يسمع كقولك سمعت كلام زيد، وإن كان مما لا يسمع تعدى إلى مفعول واحد) وهذا على خلاف ما في الأصل ون (ب).
(2)
زيادة من ن ج، وفي ن ب (قال).
(3)
العبارة في ن ب غير مستقيمة.
وإنما وقع الاختلاف فيمن دونه إذا قال: عن فلان، فقيل: إنه من قبيل المرسل والمنقطع حتى يتبين اتصاله بغيره، والصحيح أنه
من قبيل المتصل بشرط أن لا يكون المعنعن مدلسًا، وبشرط إمكان لقاء بعضهم بعضًا، وفي اشتراط ثبوت اللقاء وطول الصحبة ومعرفته بالرواية عنه مذاهب أربعة:
أحدها: لايشترط شيء من ذلك، ونقل مسلم في مقدمة صحيحه الإجماع عليه.
وثانيها: يشترط ثبوت اللقاء وحده، وهو قول البخاري والمحققين.
ثالثها: يشترط طول الصحبة.
ورابعها: يشترط معرفته بالرواية عنه، والأصح أنَّ: أنَّ كَعَن بالشرط المذكور، وقال أحمد وجماعة: يكون منقطعًا حتى يتبين
السماع.
الثالث عشر: أرفع الأقسام عند الجماهير: السماع من لفظ المُسْمِع، قال الخطيب: وأرفع العبارات سمعت، ثم حدثنا وحدثني، فإنه لا يكاد أحد يقول في الإجازة والكتابة سمعت؛ لأنه تدليس ما لم يسمعه. وقال ابن الصلاح: حدثنا وأخبرنا أرفع من سمعت؛ إذ ليس في سمعت دلالة أن الشيخ خاطبه بخلافهما، كما وقع للبَرقاني (1) مع شيخه أبي القاسم
(1) هو أبو بكر أحمد بن محمد بن محمد بن غالب الخوارزمي ترجمته في سير أعلام النبلاء (17/ 464).
الأبندوني (1) فإنه وإن عسر الرواية وكان البرقاني يجلس بحيث لا يراه أبو القاسم ولا يعلم بحضوره فيسمع منه ما يحدث به فكان يقول: سمعت، ولا يقول: حدثنا وأخبرنا؛ لأن قصده الرواية للداخل عليه.
قلت: ولك أن تقول سمعت صريحة في سماعه بخلاف [حدثنا](2) لاستعمالها في الإِجازة عند بعضهم، ففيما ذكره ابن
الصلاح نظر من هذا الوجه.
الرابع عشر: تقدم الكلام على لفظ "الرسول" في الخطبة والفرق بينه وبين "النبي" واختلف المحدثون: هل يجوز تغيير قال
النبي إلى قال الرسول أو عكسه؟ فقال ابن الصلاح: الظاهر أنه لا يجوز وإن جازت الرواية بالمعنى لاختلاف معنى الرسالة والنبوة، وسهّل في ذلك الإمام أحمد وحماد بن سلمة والخطيب، وقال النووي: إنه الصواب؛ لأنه لا يختلف به ها هنا معنى، وقال غيره: لو قيل يجوز تغيير النبي إلى الرسول دون عكسه لما بعد؛ لأن في الرسول معنى زائدًا على النبي وهو الرسالة فإن كل رسول نبي من غير عكس.
الخامس عشر: لفظة "إنما" موضوعة للحصر تثبت المذكور وتنفي ما عداه، هذا مذهب الجمهور من أهل اللغة والأصول (3)
(1) هو عبد الله بن إبراهيم بن يوسف أبو القاسم الجرجاني. ترجمته في سير أعلام النبلاء (16/ 261).
(2)
في ن ب (أخبرنا).
(3)
انظر: المحصول (1/ 535).
وغيرهم، وعلى هذا: هل هو بالمنطوق أو بالمفهوم؛ فيه مذهبان حكاهما ابن الحاجب ومعنى كلام الإمام وأتباعه أنه بالمنطوق واختار الآمدي: أنها لا تفيد الحصر بل تفيد تأكيد الإِثبات وهو الصحيح عند النحويين، وقيل: تقتضيه عرفًا لا وصفًا، حكاه بعض المتأخرين، ومحل بسط المسألة كتب الأصول، وعبر بعض الفضلاء عن إفادتها الحصر بعبارة لطيفة فقال: لفظة (إنما) موضوعة لتحقيق المتصل وتمحيق المنفصل يعني أنها تحمل تركها نفيًا وإثباتًا فتثبت ما اتصل بها وتنفى ما انفصل عنها، وقد فهم ابن عباس رضي الله عنه أنها للحصر من قوله عليه الصلاة والسلام:"إنما الربا في النسيئة"(1) وعورض بدليل آخر يقتضي تحريم ربا الفضل ولم يعارض فى فهمه للحصر، وفي ذلك اتفاق على أنها للحصر، وقال أبو علي الفارسي: يقول ناس من النحويين في قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} (2) أن المعنى ما حرم ربي إلَّا الفواحش، قال: ويؤيده قول الفرزدق:
أنا الذائد الحامي الذمار وإنما
…
يدافع عن أحسابهم أنا أو مثلي (3)
(1) أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب البيوع، ومسلم في وصحيحه في المساقاة حديث أحمد في المسند (5/ 200، 202، 204، 206، 209).
(2)
سورة الأعراف: آية 33.
(3)
ورد في ديوان الفرزدق (2/ 712) بلفظ:
أنا الضامن الراعي عليهم وإنما
…
يدافع عن أحسابهم انا أو مثْلي
والفرزدق: هو أبو فراس همام أو هميم بن غالب توفي ستة (110) أو (111)، الوفيات (2/ 201).
وقال الزجاج: الذي أختار في قوله تعالى: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ} (1) أن تكون "ما" هي التي تمنع، ويكون المعنى:
ما حرَّم عليكم إلَّا الميتة؛ لأن "إنما" تأتي إثباتًا لما يذكر بعدها ونفيًا لما سواه، وقال أبو علي: التقدير في البيت: وما يدافع عن أحسابهم إلَاّ أنا أو مثلي.
وقال ابن عطية: إنما: لفظ لا تفارقه المبالغة والتأكيد حيث وقع، ويصلح مع ذلك للحصر، فإذا دخل في قصة وساعد معناها على الانحصار صح ذلك وترتب، مثل قوله تعالى:{إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ} (2) وغير ذلك من الأمثلة وإذا كانت القصة لا يتأتي فيها الانحصار بقيت "إنما" للمبالغة والتأكيد فقط لقوله عليه السلام: "إنما الربا في النسيئة"(3)، وكقولهم: إنما الشجاع [عنترة](4)، قال: وأما من قال: إن "إنما" لبيان الموصوف فهي عبارة [جائزة](5). إذ بيان الموصوف يكون في مجرد الإِخبار دون إنما.
وقال الشيخ تقي الدين: تارة تقتضي الحصر المطلق، وتارة تقتضي حصرًا مخصوصًا، ويفهم ذلك بالقرائن والسياق، أي فالأول
كقوله تعالى: {إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ} . الحصر ها هنا على إطلاقه لشهادة العقول والنقول بوحدانيته تعالى، والثانى كقوله تعالى: {إِنَّمَا أَنْتَ
(1) سورة البقرة: آية 173، وفي ن ب زيادة (والدم ولحم الخنزير).
(2)
سورة النساء: آية 171.
(3)
سبق تخريجه في (ص 169).
(4)
في ن ب (غيره)، وج توافق الأصل.
(5)
في الأصل (فاترة)، والتصويب من ن ب.
مُنْذِرٌ} (1) أي بالنسبة لمن لا يؤمن وإلَّا فصفاته الجميلة [لا تحصر بالبشارة](2) والشجاعة والكرم وغير ذلك، وكذا قوله عليه السلام:"إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إليَّ"(3) معناه حصر في البشرية بالنسبة إلى الاطلاع على مواطن الخصوم لا بالنسبة إلى كل شيء وكذا قوله تعالى: {إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} (4) باعتبار (5) أثرها، والله أعلم، وإلَّا فقد تكون سبيلًا إلى الخيرات أو يكون ذلك من باب التغليب بحال الأكثر أو الواقع كذلك، فاعتبر هذا الأصل فحيث دل السياق على الحصر في شيء مخصوص فقل به وإلَّا فالأصل الإطلاق، ومن هذا قوله عليه السلام:"إنما الأعمال بالنيات".
وقال السماكي في "إعجازه": الحصر في الحديث ليس عامًا فإن القاعدة أن المبتدأ والخبر إذا وقعا بعد "إنما" فالمحصور الثاني
كيف كان، فإذا قلت: إنما المال لك، [فالمحصور المال لك] (6) وتقديره: لا لغيرك، وإذا قلت: إنما لك المال، فالمحصور المال وتقديره: لا غيره، فتأمله.
(1) سورة الرعد: آيه 7.
(2)
في ن ب (انحصرت في البشارة)، وفي إحكام الأحكام (1/ 65)(جميلة كثيرة، كالبشارة وغيرها).
(3)
متفق عليه.
(4)
سورة محمد: آيه 36.
(5)
في ن ب زيادة (من).
(6)
ما بين القوسين زيادة من ن ب وج.
تنبيهات:
أحدها: الأصل في "إنما"[أن](1) تجيء بخبر لا يجهله المخاطب أو لما هو متنزل منزلته، كما نبه عليه ابن خطيب زملكان، مثال الأول قوله تعالى:{إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا (45)} (2)، وقوله:{إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ} (3) فإن كل عاقل يعلم أنه لا يكون استجابة إلَّا ممن يسمع، وأن الإِنذار إنما يجدي إذا كان مع من يصدق بالبعث، ومثال الثاني قوله:
إنما مصعب شهاب من الله
…
تجلت عن وجهه الظلماء
ثانيها: (أنما) بالفتح كأنما كما قاله الزمخشري في قوله تعالي: {يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} (4).
قال شيخنا أبو حيان: وهذا شيء انفرد به، ودعوى الحصر هنا ممنوع؛ لاقتضائه أنه لم يوح إليه غير التوحيد. وفيما ذكره نظر فإن الخطاب مع المشركين، فالمعنى: ما أوحى إليَّ في أمر الربوبية إلَّا التوحيد لا الإِشراك.
ثالثها: للحصر أدوات أخر:
منها: حصر المبتدأ في الخبر، نحو: العالم زيد وصديقي زيد.
(1) في الأصل (هل)، والتصحيح من ن ج.
(2)
سورة النازعات: آية 45.
(3)
سورة الأنعام: آية 36، وبعده في ن ب (فإنه).
(4)
سورة فصلت: آية 6.
ومنها: إلَّا، على اختلاف فيها.
ومنها: تقديم المعمولات، على ما قاله الزمخشري وجماعة نحو:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ} (1).
ومها: لام كي، كقوله تعالى:{وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} (2) قاله الباجي.
ومنها: السَّبر والتقسيم، نحو إن لم يكن زيد متحركًا فهو ساكن.
رابعها: في الحديث صيغتا [حصر](3) وهما (إنما، والمبتدأ والخبر الواقع بعده) وقد ورد بإسقاط (إنما) في رواية صحيحة كما سيأتي، فكل منهما إذا انفرد يفيد ما أفاده الآخر، واجتماعهما آكد.
السادس عشر: وقع في كتاب الشهاب للقضاعي: "الأعمال بالنيات" بجمع "الأعمال" و"النيات" وحذف "إنما"، قال النووي في كتابه بستان العارفين (4)، وفي إملائه على هذا الحديث أيضًا ولم يكملهما، نقلًا عن الحافظ أبي موسى الأصبهاني أنه قال:"لا يصح إسناد هذا الحديث"، وأقره عليه. وفيما قاله نظر، فقد رواه كذلك حافظان وحكما بصحته: ابن حبان في صحيحه، والحاكم في
(1) سورة الفاتحة: آية 5.
(2)
سورة النحل: آية 8.
(3)
في الأصل (خبر)، وما أثبت من ب ج.
(4)
قال النووي رحمه الله تعالى في بستان العارفين (25): وأما الذي وقع في أول كتاب الشهاب للقضاعي (الأعمال بالنيات) وحذف (إنما)، فقال الحافظ أبو موسى (الأصبهاني): لا يصح إسناد هذا- اهـ.
أربعينه، ثم حكم بصحته، وقد ذكرت إسنادهما إليه في تخريجي لأحاديث الرافعي فراجعه (1) منه، وكذا ساقه ابن دحية في كلامه على هذا الحديث من طريق النسائي عن ابن راهويه عن أبي خالد الأحمر عن يحيى بن سعيد به، ورواه ابن الجارود في المنتقى (2) بلفظ آخر:"إن الأعمال بالنية وإن لكل امرئ ما نوى". وفي رواية للبخاري: "العمل بالنية". وفي رواية له: "الأعمال بالنية". وفي رواية له: "يا أيها الناس إنما الأعمال بالنية".
السابع عشر: الأعمال: حركات البدن، ويتجوز بها عن حركات النفس وإنما عبَّر بالأعمال دون الأفعال؛ لئلا يتناول أفعال
القلوب، ومنها النية ومعرفة الله تعالى، فكان يلزم أن لا يصحان إلَّا بنية لكن النية فيهما محال، أما النية فلأنها لو توقفت على نية أخرى لتوقفت الأخرى على أخرى ولزم التسلسل أو الدور وهما محالان، وأما معرفة الله تعالى فإنها لو توقفت على النية مع أن النية قصد
(1) قال الحافظ ابن الملقن في البدر المنير (3/ 10): فيه نظر، فقد أخرجه كذلك حافظان وحكما بصحته: أحدهما: أبو حاتم ابن حبان فإنه أورده في وصحيحه (380)،الثانى: الحاكم أبو عبد الله، فإنه أورده في كتاب "الأربعين في شعار أهل الحديث" عن أبي بكر بن خزيمة، ثنا أبو مسلم، ثنا القعنبي، ثنا مالك، عن يحيى بن سعيد، كما ذكره ابن حبان سواء، ثم حكم بصحته، وهو في البخاري بلفظ "الأعمال بالنية" بحذف إنما، لكن بإفراد النية، انظر أيضًا الفتح (1/ 12) وأقره ابن حجر في تلخيص الحبير (1/ 55).
(2)
(31/ 64).
المنوى بالقلب لزم أن يكون الإنسان عارفًا بالله قبل معرفته وهو محال؛ ولأن المعرفة وكذا الخوف والرجاء مستمرة لله تعالى
بصورتها، وكذا التسبيح وسائر الأذكار والأذان والتلاوة لا يحتاج شيء منها إلى نية التقرب به بل إلى مجرد القصد له، ولهذا لما كان الركوع والسجود في الصلاة غير ملتبس بغيرها لم تجب فيها ذكر، بخلاف القيام والقعود في التشهد فإن كلا منهما ملتبس بالعادة فوجب في القيام القراءة وفي القعود التشهد؛ ليتميز عن العادة، ثم اعلم أن الأعمال ثلاثة: بدني، وقلبي، ومركب منهما.
فالأول: كل عمل لا يشترط فيه النية كرد الغصوب والعواري والودائع والنفقات وإزالة النجاسات ونحو ذلك.
والثاني: كالاعتقادات والتوبة والحب في الله والبغض في الله، وما أشبه ذلك.
والثالث: كالوضوء والصلاة والحج وكل عبادة بدنية، فيشترط في حصولها النية قولًا كانت أو فعلًا كما سيأتي، وبعض الخلافيين يخصص العمل [بما](1) لا يكون قولًا، وفيه نظر للشيخ تقي الدين؛ لأن القول عمل خارجي أيضًا أما الأفعال فقد استعملت مقابلة للأقوال ولا شك أن هذا الحديث يتناول الأقوال.
الثامن عشر: النيات: جمع نية بالتشديد والتخفيف، فمن شدد وهو المشهور كانت من نوى ينوي إذا قصد وأصله نِوْية قلبت الواو ياء ثم أدغمت في الياء بعدها لتقاربهما، وانقلاب الواو [إلى
(1) في ن ب (لما)، وفي (ج) كالأصل.
الياء] (1) بطريقين:
أحدهما: انكسار ما قبلها فإنه يوجب قلبها إلى الياء.
والثاني: أن من أصلهم أنه متى اجتمع واو وياء وأرادوا الإدغام قلبوا الواو إلى لفظ الياء لأنه أخف اعتلال من الواو والياء، وسواء كان [المتحرك هو الواو والياء وسواء كان] (2) المتقدم أو المتأخر قالوا: طويت طيًّا ولويته ليًّا أصله طويًا ولويًا [فتقدمت الواو](3) ساكنة وقلبوها. وقالوا سيد وميت وأصله سيود وميوت؛ لأنه من ساد يسود ومات يموت فتأخرت الواو وتحركت ومع ذلك
قلبوها إلى الياء ولم يقلبوا الياء إليها لما ذكرناه، ومن خفف الياء كانت من وَنِى يَني إذا أبطأ وتأخر، لأن النية تحتاج في توجيهها
وتصحيحها إلى إبطاء وتأخر يقال: نويت فلانًا وأنويته بمعنًى، ثم إنهم جعلوا مصدر نوى (نية) وَقَلّ ما يقولون نيًا كما قالوا شَوَى
شَيًّا جآؤوا بالمصدر على الفعلة التي هي من نيا الهيئات، إذ القصد المعتمد هنا إنما هو صادر عن القلب فله هيئة متميزة فمن
ها هنا جاء مصدرها على نيا الهيئات، نبّه عليه ابن دحية.
فائدة: الباء في قوله "بالنيات" يحتمل أن تكون (باء) السبب ويحتمل أن تكون (باء) المصاحبة وينبني على ذلك: أن النية جزء من العبادة أم شرط؟ وستعلم ما فيه قريبًا.
(1) في ن ب ساقطة.
(2)
زيادة من ن ب.
(3)
مكرر في ن أ.
التاسع عشر: وجه إفراد (النية) على الرواية الأولى كونها مصدرًا وجمعت في الثانية (بالنيات) لاختلاف أنواعها ومعانيها؛ لأن
المصدر إذا اختلفت أنواعه جمع، فمتى أريد مطلق النية من غير نظر لأنواعها تعين الإفراد ومتى أريد ذلك جمعت.
تنبيه: أفردت "النية" في الرواية الأولى وجمعت (1)"الأعمال" لأن المفرد المعرف عام، وجمعًا في الثانية، والمراد: أن كل عمل
على انفراده يعتبر فيه نية مفردة ويحتمل أن العمل الواحد يحتاج إلى نيات إذا قصد كمال العمل كمن قصد بالأكل دفع الجوع وحفظ الصحة والتقوي على العبادة وما أشبه ذلك وبسبب تعدد النيات بتعدد الثواب.
العشرون: أصل النية: القصد، تقول العرب: نواك الله بحفظه، أي قصدك الله بحفظه، كذا نقله عنهم جماعة من الفقهاء،
واعترض ابن الصلاح فقال: هذه عبارة منكرة؛ لأن المقصود مخصوص بالحادث فلا يضاف إلى الله تعالى، قال: وفي ثبوت
ذلك عن العرب نظر؛ لأن الذي في الصحاح: نواك الله: أي: صحبك في السفر وحفظك. وقال الأزهري: يقال نواه الله أي
حفظه، وهذا الذي أنكره عليهم غير منكر بل صحيح (2)، وقد قال هو في القطعة التي شرحها في أول صحيح مسلم: وقد ورد عن العرب أنها قالت: "نواك الله بحفظه" فقال فيه بعض الأئمة: معناه
(1) في الأصل زيادة (واو)، وهي غير موجودة في ن ب ج.
(2)
انظر: معجم المناهي اللفظية للشيخ بكر أبو زيد (ص 324).
قصدك [الله](1) بحفظه، هذا كلامه، ومعلوم أن من أطلق القصد لم يرد القصد الذي هو من:[صفة الحادث](2) بل أراد الإرادة.
إذا تقرر هذا فالمراد هنا: قصد الشيء المأمور به تقربًا إلى الله تعالى مقترنًا بفعله، فإن قصد وتراخى عنه فهو عزم، وكذا حدها
الماوردي من أصحابنا في كتاب الأيمان، [وجعل الحافظ أبو الحسن علي بن المفضل المقدسي (3) في أربعينه: النية والإِرادة والقصد والعزم بمعنى، قال: وكذا أزمعت على النبلاء وعمدت إليه.
قال: وتطلق الإرادة على الله تعالى ولا يطلق عليه غيرها (4) مما ذكرناه، وقد علم بعد ذلك أن] (5) محلها القلب عند الجمهور كما جزمت به في الوجه التاسع لا اللسان؛ لقوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا
(1) في ن ب ساقطة، ومثبتة كذلك في ج.
(2)
بياض بالأصل، والتصحيح من ن ب ج.
(3)
هو علي بن المفضل بن حاتم أبو الحسين مولده في سنة أربع وأربعين وخسمائة وتوفي في مستهل شعبان سنة إحدى عشرة وستمائة. ترجمته في حسن المحاضرة (1/ 165)، والتاج المكلل (82)، والعبر (5/ 38، 39).
(4)
قال الشيخ بكر في المعجم (ص 324)، على لفظ النية:"لا يجوز إطلاقها على الله تعالى، فلا يقال: ناوٍ. ولكن يقال: يريد، طردًا لقاعدة التوقيف -أي في الأسماء الحسنى- على ما ورد به النص، والله أعلم" اهـ. وسيأتى كلام شيخ الإِسلام رحمنا الله وإياه بعد في -فائدة-.
(5)
في ن ب ساقطة، ومثبتة في الأصل، وفي ج، إلَّا أن في ج آخرها (ثم اعلم بعد ذلك).
إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} (1) والإخلاص إنما يكون بالقلب، وقال تعالى:{وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} (2)، وقال صلى الله عليه وسلم:"التقوى ها هنا، ويشير إلى صدره ثلات مرات"(3) رواه مسلم من حديث أبي هريرة.
إذا تقرر أن محلها القلب فإن اقتصر عليه جاز، إلَّا في الصلاة على وجه ضعيف للشافعية لا يعبأ به (4)، وإن اقتصر على
(1) سورة البينة: آية 5.
"فائدة": قال شيخ الإِسلام رحمه الله في الفتاوى (18/ 251): "لفظ النية في كلام العرب من جنس لفظ القصد والإِرادة ونحو ذلك، تقول العرب: نواك الله بخير، أي أرادك بخير ويقولون: نوى منوية، وهو المكان الذي ينويه، يسمونه نوى، كما يقولون: قبض بمعنى مقبوض، والنية يعبر بها عن نوع من إرادة ويعبر بها عن نفى المراد، كقول العرب: هذه نيتي، يعني: هذه البقعة هي الي نويت إتيانها. ويقولون: نيته قريبة أو بعيدة، أي: البقعة التي نوى قصدها، لكن من الناس من يقول: إنها اخص من الإرادة، فإن إرادة الإنسان تتعلق بعمله، وعمل غيره، والنية لا تكون إلَّا لعمله، فإنك تقول: أردت من فلان كذا، ولا تقول: نويت من فلان كذا" اهـ.
(2)
سورة الحج: آية 37.
(3)
مسلم والترمذي برقم (1927) من حديث أبي هريرة.
(4)
قال شيخ الإسلام رحمه الله في الفتاوى (18/ 262): "والنية محلها القلب باتفاق العلماء، فإن نوى بقلبه ولم يتكلم بلسانه أجزأته النية باتفاقهم. وقد خرج بعض أصحاب الشافعي وجهًا من كلام الشافعي غلط فيه على الشافعي، فإن الشافعي إنما ذكر الفرق بين الصلاة والإِحرام، بأن الصلاة في أولها كلام، فظن بعض الغالطين أنه أراد التكلم بالنية، وإنما أراد التكبير" اهـ.
اللسان لم يجز إلَّا في الزكاة [على وجه لهم شاذ، ومثله قول الأوزاعي: لا تجب النية في الزكاة](1) وإن جمع بينهما فهو آكد.
وعند المالكية: الأفضل أن ينوي العبادة بقلبه من غير نطق بلسانه إذ اللسان ليس محلًا للنية على ما تقرر، ونقل التلمساني منهم عن صاحب "الاستلحاق": استحباب النطق، وهو غير المعروف من مذهبهم.
تنبيهات:
الأول: جميع النيات المعتبرة في العبادات يشترط فيها المقارنة، إلَّا الصوم؛ للمشقة، وإلَّا الزكاة فإنه يجوز تقديمها قبل وقت إعطائها، قيل: والكفارات فإنه يجوز تقديمها على الفعل والشروع.
الثاني. ينبغي لمن أراد شيئًا من الطاعات أن يستحضر النية فينوي به وجه الله تعالى، وهل يشترط ذلك أول كل عمل وإن قلّ
وتكرر فعله مقارنًا لأوله؟ فيه مذاهب:
أحدها: نعم.
وثانيها: يشترط ذلك في أوله ولا يشترط إذا تكرر، بل يكفيه أن ينوي أول كل عمل ولا يشترط تكرارها فيما بعد [ولا مقارنتها](2) ولا الاتصال.
(1) في ن ب ساقطة، ومثبتة في الأصل وج.
(2)
في ن ب زيادة (ولا بقاء زمنها).
وثالثها: يشترط المقارنة دون الاتصال.
ورابعها: يشترط الاتصال وهو أخف من المقارنة.
وكأن هذه المذاهب راجعة إلى أن النية جزء من العبادة أم شرط لصحتها؟
مذهب الجمهور أنها جزء منها، ولأصحابنا وجه أنها شرط، والشرط لا يجب مقارنته ولا اتصاله ولا تكراره للمشروط، بل متى
وجد ما يرفعه أو ينفيه وجب فعله.
وقال الحارث بن أسد المحاسبي (1): الراجح عند أكثر السلف الاكتفاء بنية عامة ولا يحتاج إليها في كل جزء لما فيه من
[الحرج](2)، والمشقة.
الثالث: النية وسيلة للمقاصد، والأعمال قد تكون وسيلة [وقد تكون](3) مقصودة وقد يجتمعان.
الرابع: الغرض المهم من النية: تمييز العبادات عن العادات، وتمييز رتب العبادات بعضها عن بعض، فمن أمثلة الأول: الوضوء
والغسل والإمساك عن المفطرات ودفع المال إلى الغير [والذبح](4)، ومن أمثلة الثاني: الصلاة.
(1) هو الحارث بن أسد البغدادي المحاسبى مات سنة ثلات وأربعين ومئتين ترجمته في سير أعلام النبلاء (12/ 110).
(2)
في الأصل (الخروج)، والتصويب من ن ج.
(3)
في ن ب ساقطة، ومثبتة في الأصل وج.
(4)
زيادة من ن، ب.
الخامس: قد أسلفنا أن معنى النية القصد، وذلك لا يؤثر إلَّا إذا كان جازمًا بالمقصود بصفته الخاصة وإلَّا لم يكن قصدًا، فلو كان شاكًّا في وجود شرط ذلك الفعل أو علق النية على شرط لم يصح المنوي، نعم لو كان جازمًا بالوجوب ناسيًا صفته كمن تحقق أن عليه صومًا ولم يدر أنه من قضاء رمضان أو نذر أو كفارة فقد حكى صاحب (البيان) (1) عن الصيمري (2): أنه يصح إذا نوى الصوم الواجب عليه؛ قياسًا على من نسي صلاة من الخمس ولم يدر عينها فإنه يعذر في جزم النية للضرورة، ولو علق كما إذا قال: أصوم غدًا إن شاء الله تعالى، فالأصح أنه إن قصد الشك أو التعليق لم يصح، وإن قصد التبرك أو تعليق الحياة على مشيئة الله تعالى وتمكنه صح، ثم فى عدم الجزم بالنية صورٌ محلُّ الخوض فيها كتب الفروع.
الحادي والعشرون: قوله عليه السلام: "إنما الأعمال بالنيات" وهو متعلق بالخبر المحذوف، ولا جائز أن يقدر وجودها لوجود
العمل ولا نية، فتعين أن يقدر نفي الصحة أو نفي الكمال، وفيه مذهبان للأصوليين، والأظهر الأول؛ لأنه أقرب إلى حضوره بالذهن عند الإِطلاق فالحمل عليه أولى، وقد يقدرونه بالاعتبار أي اعتبار
(1) هو يحيى بن أبي الخير بن سالم بن أسعد أبو الخير العمراني اليماني ولد سنة (489) وتوفي سنة (558) صاحب (البيان) و (الزوائد) ترجمته في طبقات ابن قاضي شهبة (1/ 327)، ومرآة الجنان (3/ 318).
(2)
هو عبد الواحد بن الحسين أبو القاسم الصيمري، وكانت وفاته بعد سنة ست وثمانين وثلاثمائة تهذيب الأسماء واللغات (2/ 265)، وطبقات ابن قاضي شهبة (1/ 184).
الأعمال بالنيات، وقرب ذلك تمثيل قولهم:"إنما الملك بالرجال" أي قوامة وجوده، و"إنما الرجال بالمال" و"إنما الرعية بالعدل"
وكل ذلك يراد به أن قوام هذه الأشياء بهذه الأمور.
وقدَّر بعض المحدثين: القبول، وهو راجع إلى ثواب الآخرة وهو مرتب على الصحة والكمال، وقد تنفك الصحة عن القبول
بالنسبة إلى أحكام الدنيا فقط. وعلى تقدير إضمار الصحة أو الكمال وقع اختلاف الفقهاء.
فذهب الشافعى ومالك وأحمد وداود وجمهور أهل الحجاز إلى تقدير الصحة، أي: الأعمال مجزية أو معتبرة بالنيات أو إنما
صحتها أو اعتبارها بالنيات، فيكون قد حذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه، فلا يصح وضوء (1) ولا غسل ولا تيمم إلَّا بنية.
وذهب أبو حنيفة ومن وافقه: إلى تقدير الكمال، أي كمال الأعمال بالنيات، فيصح الوضوء والغسل بغير نية ولا يصح التيمم إلَّا بنية.
وذهب طائفة ثالثة: إلى أنه يصح الكل من غير نية حكاه ابن المنذر (2) عن الأوزاعي وغيره (3).
احتج الأولون بأدلة:
أحدها: هذا الحديث.
(1) في ب زيادة (ولا صلاة).
(2)
في الأوسط (1/ 370).
(3)
في ن ب زيادة (واو).
ثانيها: قوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} (1). والإخلاص عمل وهو النية فالأمر به يقتضي الوجوب.
ثالثها: قوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} (2) أي للصلاة، وهذا معنى النية، وقاسه الشافعى رضي الله عنه على التيمم بجامع أنها طهارة من حدث تستباح بها الصلاة.
فإن قيل: التيمم ليس طهارة.
فالجواب: أن الشرع سماه طهارة، فقال:"وتربتها طهورًا"(3).
فإن قيل: التيمم فرع للوضوء فلا يجوز أن يؤخذ حكم الأصل من الفرع.
فالجواب: أنه ليس فرعًا بل بدلًا.
فإن قيل: إن التيمم تارة يكون بسبب الحدث وتارة بسب الجنابة فوجب فيه النية.
فالجواب: أن الوضوء أيضًا تارة يكون عن نوم وتارة يكون عن بول.
فإن قيل: الوضوء وإن اختلفت أسبابه فالواجب شيء واحد.
(1) سورة البينة: آية 5.
(2)
سورة المائدة: آية 6.
(3)
سيأتي تخريجه تقريبًا.
فالجواب: أن التيمم كذلك فإن الواجب مسح الوجه واليدين في كل حال.
فإن قيل: التيمم بدل، وشأن البدل [أن يكون](1)[ضعف](2) من المبدل فافتقر إلى النية ككنايات الطلاق.
فالجواب: أن هذا ينتقض بصح الخف فإنه بدل أيضًا ولا [بد من مسح](3) يفتقر إلى النية وإنما [افتقرت](4) كنايات الطلاق إلى النية؛ لأنها تحتمل الطلاق وغيره احتمالًا واحدًا، والصريح ظاهر في الطلاق، وأما الوضوء والتيمم فمستويان بل التيمم أظهر في إرادة القربة؛ لأنه لا يكون عادة بخلاف صورة الوضوء، فإذا افتقر التيمم المختص بالعبادة إلى النية، فالوضوء المشترك أولى.
فإن قيل: التيمم نُص فيه على القصد وهو النية بخلاف الوضوء.
فالجواب: أن المراد قصد الصعيد وذلك غير النية.
فإن قيل: الماء مطهر بطبعه فاستغنى بقوته عن النية بخلاف التيمم.
فالجواب: بالمنع؛ لأن الطهارة عبادة لا تأثير فيها للطبع.
(1) زيادة من ن ب.
(2)
في ن ب ساقطة.
(3)
زيادة من ن ب.
(4)
في الأصل (افتقر).
فإن قيل: الوضوء ليس عبادة.
فالجواب: أن هذا وهم، فإن العبادة: الطاعة، أو ما ورد التعبد به قربة إلى الله تعالى، وهذا موجود في الوضوء، والشرع سماه شطر الإيمان، فقال:"والطهور شطر الإِيمان"(1). ومعنى كونه شطرًا أن الإيمان مطهر الباطن وهو مطهر الظاهر، والأحاديث في فضل الوضوء وسقوط الخطايا به كثيرة مشهورة في الصحيح، وكل هذا مصرح بأنه عبادة.
فإن قيل: المراد بالوضوء الذي يترتب عليه هذا الفضل الوضوء الذي فيه نية ولا يلزم من ذلك أن ما لا نية فيه ليس بوضوء.
فالجواب: أن الوضوء في هذه الأحاديث هو المراد بقوله عليه الصلاة والسلام: "لا يقبل الله صلاة بغير طهور"(2).
واحتج الآخرون بالكتاب والسنة والقياس، أما الكتاب فقوله تعالى:{إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} (3).
والجواب: أن هذه حجة للأولين كما سلف.
وجواب ثان: وهو أنها مطلقة مصرحة ببيان ما يجب غسله غير معترضة للنية وقد ثبت وجوبها بالآية الأخرى، وبالحديث الذي نحن فيه.
(1) مسلم (223) في الطهارة باب فضل الوضوء، والبغوي (1/ 319)، والدارمي (1/ 167)، وأحمد في المسند (5/ 342، 343).
(2)
مسلم (224) في الطهارة باب وجوب الطهارة في الصلاة، والبغوي (1/ 329) السنن الكبرى (1/ 230).
(3)
سورة المائدة آية 6.
وأما السنة: فأحاديث كثيرة في الأمر بالغسل من غير نية ولو وجبت لذكرت.
والجواب: عن مثل هذا ما سلف في الآية، ومن تلك الأحاديث حديث أم سلمة أنه عليه الصلاة والسلام قال لها. "إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات من ماء ثم تفيضي عليك الماء فإذا أنت قد طهرت"(1).
والجواب عنه: أن السؤال كان عن نقض الضفائر فقط.
وأما القياس فمن أوجه:
الأول: إزالة النجاسة.
الثاني: ستر العورة.
الثالث: غسل الكتابية عن الحيض لتحل للمسلم.
والجواب عن الأول: أنها من باب التروك ومن هنا تعلم أنه لا يشترط النية في ترك المعاصي، نعم إن نوى بإزالتها القربة لاداء
الصلوات ونحو ذلك أثيب، وكذا إذا خطر بباله معصية فكف نفسه عنها لله تعالى أثيب على ذلك (2).
(1) النووي شرح مسلم (4/ 11)، والترمذي حديث رقم (105).
(2)
البخاري فتح (5/ 160) في الحق.
قال ابن حجر في فتح البارى: (1/ 15): "والتحقيق أن الترك المجرد لا ثواب فيه، وإنما يحصل الثواب بالكف الذي هو فعل النفس، فمن لم تخطر بباله المعصية أصلًا ليس كمن خطرت فكف نفسه عنها خوفًا من الله تعالى، فرجع الحال أن الذي يحتاج إلى النية هو العمل بجميع وجوهه، لا الترك المجرد، والله أعلم"- اهـ.
ومن الفوائد الغريبة: حكاية وجه ثالث عندنا في النجاسة: أنها إن كانت على البدن وجبت النية في إزالتها، وإن كانت على الثوب فلا.
والجواب عن الثاني: أن المراد منها الصيانة عن العيون فليس عبادة محضة.
وعن الثالث: أنها إنما صحت بالنسبة للزوج للضرورة، إذ لو لم نقل به لتعذر وطئها ونكاحها، ولهذا لا تصح طهارتها في حق الله
فليس لها أن تصلي بتلك الطهارة إذا أسلمت.
فإن قلت: الحديث المذكور عام مخصوص فإن أداء الدين ورد الودائع والأذان والتلاوة والأذكار وهداية الطريق وإماطة الأذى: عبادات، فتصح بلا نية فتضعف دلالته حينئذٍ وتخص عدم اعتبارها في الوضوء أيضًا.
فالجواب: أن ما عُدَّ وادُّعِي فيه الصحة بلا نية إجماعًا ممنوع حتى يثبت الإِجماع ولن يقدر عليه، ثم نقول: النية تلازم هذه الأعمال فإن مُؤدّي الدين قصد براءة الذمة وذلك عبادة، وكذا الوديعة والأذكار والتلاوة والأذان بصورهن عبادة، ولا ينفك تعاطيهن عن القصد وذلك نية، ومتى خلون عن القصد لم يعتد بهن عبادة، والهداية والإِماطة مترددة بين القربة وغيرها وتتميز بالقصد، [وقد قال الرافعي في "الكفارات": وقول الغزالي في (الوجيز) يصح الإِعتاق والإِطعام من الذمي بغير نية القرب، فأما نية التمييز فتشبه أن يعتبر كما في قضاء الديون، وما قاله صحيح وقد
صرح به إمام الحرمين في باب صفة الوضوء في (نهايته) وكذا محمد بن يحيى (1) في كتاب الزكاة من (تعليقته في الخلاف)
فذكر ما حاصله: أن نية التمييز في الدين ونحوه لا بد منها بخلاف نية القرب، وذكر نحوه في كتاب الصيام فقال: النية
ضربان: تقربٌ وتمييز، أما التقرب فكما في العبادات من الصوم والصلاة وهو إخلاص العمل لله تعالى، وأما نية التمييز فكما
في أداء الدين فإنه يحتمل التمليك هبة وقرضًا فافتقر إلى قصد وتمييز، وصرح به الشيخ عز الدين في "قواعده" في النوع الخامس والعشرين في أثناء قاعدة: في مثال متعلقات (2) الأحكام، ومثله أيضًا القراءة ونحوها وقد صرح به أيضًا في "القواعد" قبل الموضوع المذكور نحو ثلاث كراريس قال: ولكن لا يشترط نية التقرب] (3).
وأما ابن دحية [فقال](4): الحديث عام مخصوص؛ لأن الأعمال المفتقرة إلى النية إنما هي [المتقرب](5) بها إلى الله
(1) محمد بن يحيى بن منصور الإمام الشهيد أبو سعيد تلميذ الغزالي (476 - 548) له تصانيف منها "المحيط في شرح الوسيط"، و"الإنصاف في مسائل الخلاف"، والإسنوي (2/ 559، 560)، وابن قاضي شهبة (1/ 325)، والنجوم الزاهرة (5/ 305).
(2)
قواعد الأحكلام (167).
(3)
زيادة من ن ب.
(4)
في ن ب ساقطة.
(5)
في ن ب ساقطة.
تعالى دون سائر الأعمال، فكأنه قال: لا عمل يتقرب [به](1) إلى الله وينتفع به إلَّا بنية، فالألف واللام مع ذلك لاستغراق هذا النوع من الأعمال خاصة.
تتمات تتعلق بالنية:
الأولى: لو وطئ امرأة يظنها أجنبية فإذا هي مباحة له أثم، ولو اعتقدها زوجته أو أمته فلا إثم، وكذا لو شرب مباحًا يعتقده حرامًا أثم، وبالعكس لا يأثم، ومثله ما إذا قتل من يعتقده معصومًا فبان أنه مستحق دمه، أو أتلف مالًا يظنه لغيره فكان ملكه.
قال الشيخ عز الدين في "قواعده"(2): ويجري عليه حكم الفاسق لجرأته على ربه تعالى، وأما مفاسد الآخرة فلا يعذب تعذيب زان ولا قاتل ولا آكلٍ مالًا حرامًا؛ لأن عذاب الآخرة مرتب على ترتب المفاسد في الغالب [كما أن ثوابها مرتب على ترتب المصالح في الغالب](3)، ثم قال: والظاهر أنه لا يعذب تعذيب من ارتكب صغيرة لأجل جرأته وانتهاكه الحرمة، بل عذابًا متوسطًا بين الصغيرة والكبيرة.
الثانية: لو قال لامرأته: أنت طالق، يظنها أجنبية، طلقت زوجته لمصادفته محله. وفي عكسه تردد لبعض العلماء مأخذه النظر
(1) في ن ب ساقطة.
(2)
قواعد الأحكام (21، 22).
(3)
في ن ب ساقطة، وأيضًا مثبت في القواعد.
إلى النية أو إلى فوات المحل، ولو قال لرقيق [له] (1): أنت حر، يظنه أجنبيًا، عتق، وفي عكسه التردد المذكور، وعلى هذا القياس في مسائل الشريعة والحقيقة والمعاملات الظاهرة والباطنة.
الثالثة: ذهب بعض العلماء إلى وقوع الطلاق بالنية المجردة ولزوم النذر بها اعتمادًا على هذا الحديث، ولا يرد على هذا الحديث "إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت [به نفسها] (2) ما لم تعمل به"(3)؛ لأن المعفو عنه في هذا الحديث هو الخطرات والهمم الضعيفة، بخلاف ما عقدت عليه العزائم، وهم إنما يوقعون الطلاق ونحوه بالنية إذا قويت وصارت عزيمة أكيدة.
الرابعة: إذا نذر إعتكاف مدة متتابعة لزمه، وأصح الوجهين عند الشافعية أنه لا يجب التتابع بلا شرط، فعلى هذا لو نوى التتابع بقلبه ففي لزومه وجهان: أصحهما: لا، كما لو نذر أصل الاعتكاف بقلبه، كذا نقله الرافعي عن تصحيح البغوي وغيره، قال
الروياني: وهو ظاهر نقل المزني، قال: والصحيح عندي: اللزوم؛ لأن النية إذا اقترنت باللفظ عملت، كما لو قال: أنت طالق، ونوى ثلاثًا.
الخامسة: في اشتراط نية الخطبة وجهان للشافعية كما في الأذان، قاله الروياني في "البحر"، وفي الرافعي في الجمعة أن
(1) زيادة من ن ب.
(2)
في ن ب (به نفوسها).
(3)
البخاري فتح (5/ 160) في العتق.
القاضي حسين حكى اشتراط نية الخطبة وفرضيتها كما في الصلاة، ونقله في "الشرح الصغير" عن بعضهم.
السادسة: قال الروياني: قال القاضي أبو الطيب: قال البويطي: قد قيل: من صرَّح بالطلاق والظهار والعتق، ولم يكن له نية في ذلك، لم يلزمه فيما بينه وبين الله تعالى طلاق ولا ظهار ولا عتق، ويلزمه في الحكم، وحجته هذا الحديث: و"رفع القلم عن ثلاثة"(1) والإجماع على أن المجنون والنائم إذا تلفظا بصريح لفظ الطلاق لا يلزمهما، وقال: قال مالك: من طلَّق أو أعتق أو ظاهر بلا نية، يلزمه ذلك في الحكم وفيما بينه وبين الله تعالى، والحجة فيه لمن ذهب إليه: ما ذكر الله من إتلاف المؤمن خطأ، وما أجمع عليه العلماء أن من أتلف مال آدمي خطأ فذلك عليه وإن لم ينوِ، وذلك من حقوق الآدميين، وللمرأة حق في منعها نفسها، وللعبد حق في حريته، وللمساكين حق في الظهار، ولم يتعرض البويطي لواحد منها، فالظاهر أنه قصد تخريجه على قولين.
السابعة: في مسند أبي يعلى عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:" يقول الله عز وجل للحفظة يوم القيامة: اكتبوا لعبدي كذا وكذا من الأجر،
(1) علقه البخاري في صحيحه (9/ 244) في الطلاق، باب: الطلاق في الإغلاق وهو حديث صحيح، وأبو داود (4399) في الحدود، باب في المجنون يسرق أو يصيب حدًا، والترمذي (1423) في الحدود، باب: ما جاء فيمن لا يجب عليه الحد، وابن ماجه (2042) في الطلاق، والحاكم (1/ 258)، والنسائي (6/ 156)، وأحمد (6/ 100، 101، 144).
فيقولون: ربنا لم نحفظ ذلك عنه ولا هو فى صحفنا فيقول: إنه نواه إنه نواه" (1). ولهذا المعنى ونحوه ورد [الحديث] (2) الآخر: "نية المؤمن خير من عمله" (3)، وللناس فيه تأويلات:
أحدها: أن نيته في الاجتهاد خير من خطئه فيه.
ثانيها: أن النية أوسع من العمل؛ لأنها تسبقه فيتعجل الثواب عليه.
ئالثها: أن نيته خير من خيرات عمله.
رابعها: أن النية المجردة عن العمل خير من العمل المجرد عن النية.
خامسها: ما أسلفناه عن البيهقي فى الوجه الثامن (4).
سادسها: أن معناه أن الإِنسان ينوي أن يعبد الله وإن عاش ألف سنة وأكثر فهو يثاب على ذلك وإن لم يدركه، فهو خير من عمل يسعه [ذلك](5) الزمن.
(1) قال العرافي: في "تخربج الإحياء"(4/ 363)، "أخرجه الدارقطني من حديث أنس بإسناد حسن". اهـ من حاشية "تطهير الطوية بتحسين النية"(30) للقاري، وهو في سنن الدارقطنى (1/ 51)، وجميع ألفاظ الحديث في المراجع المذكورة متقاربة، وأيضًا في حاشية مسند الفاروق لابن كثير (1/ 109).
(2)
زيادة من ن ب.
(3)
سبق تخريجه (ص 159) تعيق (1).
(4)
انظر: (ص 158).
(5)
في ن ب ساقطة.
سابعها: أنه ورد في رجل معين، وأنه عليه السلام قال:"من حفر بئرًا فله من الأجر كذا" فهمَّ رجل من المسلمين بحفرها فسبقه
يهودي إلى ذلك فقال عليه السلام: "نية المؤمن أبلغ من عمله"، أي من عمل اليهودي.
ثامنها: أن الأعمال المباحة إذا اقترنت بها نية جميلة بأن أكل ليتقوّى على الطاعة، ونكح ليستعف ونحو ذلك، كانت عبادة وقربة، فإذا خلت منها لم تكن عبادة، وكانت النية منفكة عنها خيرًا منها، حكاه المحب الطبري في أحكامه، وقال: إنه أحسن ما قيل فيه.
تاسعها: أن ينوي أداء العبادة على الوجه الأكمل ثم لا يتأتى له ذلك فيأتي به على وجه دون المنوي، فتكون النية خيرًا من [هذا](1) العمل.
عاشرها: أنه حديث ضعيف (2) قاله ابن دحية، رواه يوسف بن عطية عن ثابت عن أنس رفعه:"نية المؤمن أبلغ من عمله"، ويوسف ليس بشيء، ورواه عثمان بن عبد الله الشامي من طريق النواس بن سمعان، قال ابن عدي: عثمان هذا له أحاديث موضوعة وهذا من جملتها (3).
(1) في ن ب ساقطة.
(2)
انظر: (ص 159) ت (1).
(3)
سئل شيخ الإسلام فى الفتاوى (22/ 243) عن قوله صلى الله عليه وسلم: "نية المرء أبلغ من عمله". فأجاب: (هذا الكلام قاله غير واحد وبعضهم يذكره مرفوعًا، وبيانه من وجوه: أحدها: أن النية المجردة من العمل يثاب عليها، =
الثاني والعشرون: قوله عليه الصلاة والسلام: "وإنِّما لكل امرئ ما نوى"، يقال: امرؤ وَمَرْءٌ، قال الله تعالى:{وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} (1)، ويقول: هذا امرؤ، وهذان امرءان، ولا يجمع إلَّا قومًا ورجالًاَ، ومنهم من يقول: هذا مَرْآن، وأنثى [امرئ](2) امرأة، وأنثى مَرْء مَرْأة، ومَرَة بغير همز.
= والعمل المجرد عن النية لا يثاب عليه، فإنه قد ثبت بالكتاب والسنة واتفاق الأئمة أن من عمل الأعمال الصالحة بغير إخلاص لله لم يقبل منه ذلك -وهو الوجه الرابع هنا-، ثانيًا: أن من نوى الخير وعمل منه مقدوره وعجز عن إكماله كان له أجر عامل -وهو الوجه السادس هنا-، ثالثًا: أن القلب ملك البدن، والاعضاء جنوده، فإذا طاب الملك طابت جنوده، وإذا خبث الملك خبثت جنوده، والنية عمل الملك، بخلاف الأعمال الظاهرة فإنها عمل الجنود. رابعًا: أن توبة العاجز عن المعصية تصح عند أهل السنة كتوبة المجبوب عن الزنا، وكتوبة المقطوع اللسان عن القذف وغيره، وأصل التوبة: عزم القلب، وهذا حاصل مع
العجز. خامسًا: أن النيّة لا يدخلها فساد، بخلاف الأعمال الظاهرة، فإن السنة أصلها حب الله ورسوله، وإرادة وجهه، وهذا هو نفسه محبوب لله ورسوله، مرضي لله ورسوله، والأعمال الظاهرة تدخلها آفات كثيرة، وما لم تسلم منها لم تكن مقبولة؛ ولهذا كانت أعمال القلب أفضل من أعمال البدن المجردة، كما قال بعض السلف: قوة المؤمن في قلبه وضعفه في جمه، وقوة المنافق في جسمه، وضعفه في قلبه. وتفصيل هذا يطول)، والله أعلم.
فيكون مجموع ما فسر به هذا الحديث ثمانية.
(1)
سورة الانفال: آية 24.
(2)
ساقطة من ب.
"وما" بمعنى الذي، وصلته "نوى" والعائد محذوف أي نواه، فإن قدرت "ما" مصدرية لم يحتج إلى حذف؛ إذ ما المصدرية عند
سيبويه حرف، والحروف لا تعود عليها الضمائر، والتقدير: لكل امرئ نيته.
الثالث والعشرون: قوله: "وإنما لكل امرئ ما نوى" مقتضاه أن من نوى شيئًا يحصل له وما لم ينوه [لا](1) يحصل له، ولهذا عظموا هذا الحديث وجعلوه [ثلث](2) العلم، والمراد بالحصول وعدمه بالنسبة إلى الشرع، وإلَّا فالعمل قد حصل لكنه غير معتد به، وسياق الحديث يدل عليه بقوله:"ومن كانت هجرته إلى دنيا" إلي آخره.
فإن قلت: ما فائدة ذكر هذا بعد الأول وهو يقتضي التعميم؟ فالجواب: أن له ثلاث فوائد:
الأولى: اشتراط تعيين المنوي، "فمن"(3) كانت عليه مقضية لا يكفيه أن ينوي الصلاة الفائتة، بل لابد أن ينوي كونها ظهرًا أو عصرًا وغيرهما، ولولا اللفظ الثاني لاقتضى الأول صحة النية بلا تعيين أو أوهم ذلك، قاله الخطابي.
الثانية: منع الاستنابة في النية، فإن اللفظ الأول إنما يقتضي اشتراط النية لكل عمل وذلك لا يقتضي منع الاستنابة في النية، إذ لو
(1) في ن ج (لم).
(2)
في ن ب (ثبوت).
(3)
في ن ب ج (فيمن).
نوى واحد عن غيره لصدق عليه أنه عمل بنية وذلك ممتنع فأفاد بالثاني منع ذلك، وقد استثني من هذا نيَّة الولي عن الصبي في
الحج، والمسلم عن زوجته الذمية عند طهرها من الحيض على القول بذلك، وحج الإِنسان عن غيره، وكذا إذا وكله في تفرقة الزكاة وفوض إليه النية ونوى الوكيل فإنه يجزئه كما قاله الإمام الغزالي في "الحاوي الصغير".
الثالثة: أنه تأكيد لقوله: "إنما الأعمال بالنيات"، فنفى الحكم بالأول وأكده بالثاني.
تنبيهان:
الأول: إذا أُشْرِكَ في العبادة غيرها من أمر دنيوي أو رياء: فاختار الغزالي [اعتبار](1) الباعث على العمل، فإن كان القصد الدنيوي هو الأغلب [لم يكن فيه أجر، فإن كان القصد الديني هو الأغلب](2) كان له أجر بقدره، وإن تساويا تساقطا.
واختار الشيخ عز الدين بن عبد السلام (3): أنه لا أجر فيه مطلقًا سواء تساوى القصدان أو اختلفا.
الثانى: مقتضى قوله عليه السلام: "إنما [لكل] (4) امرئ ما نوى" أن من نوى شيئًا لم يحصل له غيره، ومن لم ينو شيئًا لم
(1) في ن ب ساقطة.
(2)
زيادة من ن ب ج.
(3)
في قواعد الأحكام (124).
(4)
ساقطة من الأصل ون ج.
يحصل [وهي](1) قاعدة [مطردة](2) في جميع مسائل النية، نعم شذ [عن](3) ذلك مسائل [يتأدى](4) الفرض فيها بنية النفل، محل الخوض فيها كتب الفروع وقد أوضحتها في كتاب "الأشباه والنظائر" فليراجع منه.
الرابع والعشرون: الهجرة في اللغة: الترك، والمراد بها هنا ترك الوطن والانتقال إلى غيره، وهي:
في الشرع: مفارقة دار الكفر إلى دار الإسلام خوفَ الفتنة وطلبَ إقامة الدين.
وفي الحقيقة: مفارقة ما يكره الله إلى ما يحب، ووقعت الهجرة في الإسلام على خمسة أوجه:
إحداها: إلى الحبشة عندما آذى الكفار الصحابة، وذكر الماوردي أن الهجرة من مكة إلى المدينة قبل هجرته عليه السلام كانت مباحةً لمن خاف على نفسه أودينه، معصيةً لمن أمن من ذلك، قال: وكانت الهجرة إلى الحبشة مباحة.
الثانية: من مكة إلى المدينة عند مهاجرة النبي صلى الله عليه وسلم إليها، وفي هذه الهجرة نزل قوله تعالى:{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا} (5) الآية، وقال
(1) في ج (وهذه).
(2)
في نسخة ب (مطولة).
(3)
في نسخة ب (على).
(4)
في ن ج (يتساوى).
(5)
سورة الأنفال: آية 72.
عليه السلام: "لولا الهجرة لكنت امرءًا من الأنصار"(1)، "وأشار"(2) إلى هذه الهجرة، وأفضل المسلمين أصحاب الهجرتين إلَّا ما خصه الدليل، وذكر الماوردي أن هذه الهجرة واجبة على من خاف على نفسه [ودينه](3) وهو قادر على الخروج بأهله وماله؛ للآية، ومستحبة على من آمن على نفسه كالعباس، وذكر أبو عبيد (4) في كتاب "الأموال" أن الهجرة كانت على غير أهل مكة من الرغائب ولم تكن فرضًا؛ لما في الصحيحين: "أن أعرابيًا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن الهجرة، فقال: ويحك، إن شأن الهجرة شديد فهل لك من إبل؟ قال: نعم، قال: فاعمل من وراء [البحار](5) فإن الله لن يترك من
عملك شيئًا" (6)، ولأنه عليه السلام لم يأمر الوفود بها.
الثالثة: هجرة القبائل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الفتح للاقتباس منه كوفد عبد القيس وغيرهم، ثم يرجعون إلى مواطنهم ويعلمون قومهم.
الرابعة: هجرة من أسلم من أهل مكة ليأتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم ثم يرجع إليها كفعل صفوان بن أمية ومهاجرة الفتح.
(1) البخاري (7/ 86)، وفضائل الصحابة، ومسلم (1061)، والمسند (2/ 410/ 419/ 469).
(2)
في ن ب (وأشاد في).
(3)
في الأصل وب (وابنه)، والتصحيح من ج.
(4)
كتاب الأموال لأبي عبيد (279)، ط محمد خليل هراس.
(5)
في ج (التجار)، والذي في الصحيحين ما هو مثبت.
(6)
النووي مع مسلم (8/ 79) الإمارة، البخاري في الأدب.
الخامسة: هجرة ما نهى الله عنه وهي المشار إليها بقوله عليه السلام: "المجاهد من جاهد نفسه والمهاجر من هجر ما نهى الله
عنه" (1)، قال بعض متأخري المالكية: وهي الهجرة العظمى التي اندرج جميع الأقسام تحتها، ففيه:
فائدة: ترجع للمهاجرين، لكيلا يتكلوا على نفس الهجرة، فبين لهم عليه السلام أن الهجرة التامة الكاملة هي هجران الفواحش، ففيه حض على التزام الطاعة وعدم الاغترار بالهجرة، وحث على الجد في الفضائل، وأن لا يعتمدوا على الهجرة ويتركوا العمل.
وفيه فائدة ثانية: ترجع إلى من لم يهاجر، وهو إيناس لهم وتبيين أن سبل الخير باقية، وأعمال [الطاعات](2) متلاحقة وأن اسم
الهجرة باقٍ لهم [مقول](3) عليهم عند هجران المحارم وجميع ما نهى الله عنه، بل هو أعظم هجرة وأكبر فضيلة.
قلت: والهجرة باقية إلى يوم القيامة من دار الكفر إذا لم يمكنه إظهار دينه إلى دار الإسلام وينبغي أن تعد.
سادسه (4): وحديث أنه عليه السلام قال يوم الفتح: "لا هجرة"
(1) أحمد في المسند (6/ 10)، وأبو داود (2500)، والترمذى (1621)، وقال الترمذى: حديث حسن صحيح.
(2)
في ب ج (الطاعة).
(3)
في ج (معول).
(4)
عدد المصنف رحمنا الله وإياه ستة من أنواع الهجرة ومن المناسب أن نأتي =
فأوِّل كما ستعلمه -في باب حرمة مكة حيث ذكره المصنف- إن شاء الله تعالى. ثم اعلم أن معنى الحديث وحكمه يتناول الجميع غير أن الحديث ورد على سبب كما سيأتي، والعبرة بعموم اللفظ.
الخامس والعشرون: قوله عليه السلام: "فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله" القاعدة عند أهل العربية أن الشرط والجزاء، والمبتدأ والخبر، لا بدَّ أن يتغايرا [وها هنا] (1) وقع الاتحاد في قوله:"فمن كانت هجرته" إلى آخره، فلا بدَّ أن يقدر له شيء وهو:"فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله" نية وعقدًا "فهجرته إلى الله ورسوله" حكمًا وشرعًا.
السادس والعشرون: قوله عليه السلام: "فمن كانت هجرته، إلى آخره، هو تفصيل لما سبق في قوله: "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى"، وإنما فرض الكلام في الهجرة لأنها السبب
= بنوعين: الهجرة الثانية إلى بلاد الحبشة فتكون السابعة، وكذا الهجرة إلى بلاد الشام في آخر الزمان عند ظهور الفتن، كما رواه أبو داود من حديث عبد الله بن عمرو، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "سيكون هجرة بعد هجرة فخيار أهل الأرض ألزمهم مهاجر إبراهيم ويبقى في الأرض شرار أهلها"، قال صاحب النهاية: يريد الشام؛ لأن إبراهيم لما خرج من العراق مضى إلى الشام وأقام به، وروى أبو داود من حديث أبي الدرداء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إن فسطاط المسلمين يوم الملحمة بالغوطة إلى جانب مدينة .. يقال لها: دمشق من خير مدائن الشام"!! فهذه ثمانية أقسام للهجرة. اهـ منتهى الآمال (157).
(1)
في ن ب (وهنا).
الباعث، وعلى هذا الحديث كما سيأتي وقوله:"فمن كانت هجرته" إلى آخره، هو على عمومه، لاختصاصها بالهجرة التي هي [من](1) العبادات وهي متوقفة على النية.
السابع والعشرون: قوله عليه السلام: "ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها". "الدنيا" بضم الدال على المشهور، وحكى ابن قتيبة وغيره كسرها وجمعها دنى ككبرى وكبر، وهي من دنوت، لدنوها وسبقها الدار الآخرة، وينسب إليها دنيوي ودُنْيِي وقال الجوهري وغيره: ودنياوي (2).
وقوله "دنيا" هو مقصور غير منون على المشهور وهو الذي جاءت به الرواية ويجوز في لغة عربية تنوينها، وقال ابن دحية في كلامه على هذا الحديث في الجزء الذي سماه "جمع العلوم الكليات في الكلام على حديث إنَّما الأعمال بالنيات": وأكثر ما يتكلم فيه على الإسناد، الدنيا: تأنيث الأدنى، وصرفها أبو الهيثم في أصله من صحيح البخاري، قال: وأبو الهيثم لم يكن من أهل العلم، ولم يكن بالقوي أيضًا، وكان الحافظ أبو [ذر](3) الهروي بآخرة يسقط أكثر روايته من كتابه لا سيما فيما انفرد به، قاله ابن مفوز الحافظ.
فالدنيا: تأنيث الأدنى مثل حبلى لا ينصرفان؛ لاجتماع الوصفية ولزوم حرف التأنيث آخره، ومعنى هذا أن الهمزة والألف
(1) زيادة من ب ج.
(2)
مختار الصحاح (95).
(3)
في ن ب (داود)، وهو تصحيف.
لا يفارقان الكلمة وهاء التأنيث تفارق الكلمة، ألا ترى أنك تقول في قائمة: قائم، ولا تقول في حمراء [حُمر](1)، ولا في حبلى: حُبلٌ، ولا في دنيا: دُنى (2).
فائدة: في حقيقة الدنيا قولان للمتكلمين.
أحدهما: ما على الأرض مع الجو والهواء.
وأظهرهما: كل المخلوقات من الجواهر والأعراض الموجودة قبل الدار الآخرة.
تنببه: المراد بالإصابة: الحصول، شَبَّه محصل الدنيا بإصابة الغرض بالسهم بجامع حصول المقصرد.
الثامن والعشرون: قوله عليه السلام: "أو امرأة يتزوجها"، أي ينكحها كما جاء في الرواية الأخرى، وقد يستعمل بمعنى الإِقران بالشيء ومنه قوله تعالى:{وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ} (3) أي قرناهم، قاله الأكثرون. وقال مجاهد والبخاري وطائفة: أنكحناهم.
التاسع والعشرون: إن قلت: كيف ذكرت "المرأة مع
(1) في ن ب (أحمر).
(2)
في حاشية ن ج: "قال بعضهم: في استعمال دنيا مؤنثًا مع كونه منكرًا إشكال؛ لأن دنيا مؤنث الأدنى وهو أفعل التفضيل، وهو إذا ذكر لزم الإِفراد والتذكير وامتنع تأنيثه وتثنيته وجمعه، لكن دنيا لما خلع عنه الوصفية غالبًا وأُجريت مجرى ما لم يكن قط وصفًا مما وزنه هذا الوزن". اهـ من لوحة (26 ب).
(3)
سورة الطور: آية 20.
الدنيا] (1) مع أنها داخلة فيها؟
فالجواب عنه من أوجه:
أحدها: أنه لا يلزم دخولها في هذه الصفة؛ لأن لفظ الدنيا نكرة وهي لا تعم في الإثبات فلا يلزم دخول المرأة فيها.
ثانيها: أن هذا الحديث ورد على سبب وهو أنه لما أُمر بالهجرة من مكة إلى المدينة تخلف جماعة عنها فذمهم الله بقوله: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ} (2) الآية، ولم يهاجر جماعة لفقد استطاعتهم فعذرهم واستثناهم بقوله:{إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ} (3)[الآية](4)، وهاجر المخلصون إليه فمدحهم في غير ما موضع في كتابه، وكان في المهاجرين جماعة خالفت نيتهم نية [المخلصين](5)، منهم من كانت نيته أن يتزوج امرأة كانت بالمدينة من المهاجرين يقال لها أم قيس -وقال ابن دحية في كتابه السالف قريبًا: اسمها قيلة- فسمي [بها](6): مهاجر أم قيس، ولا يعرف اسمه بعد البحث عنه ولعله للستر عليه، فكان قصده بالهجرة من مكة إلى المدينة نيته التزوج بها لا لقصد فضيلة الهجرة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم ذلك وبيَّن مراتب الأعمال والنيات، فلهذا
(1) في ن ب (تقديم وتأخير).
(2)
سورة النساء: آية 97.
(3)
سورة النساء: آية 98.
(4)
في ن ب ساقطة.
(5)
في الأصل (المخلفين)، والتصحيح من ن ب ج.
(6)
زيادة من ن ب.
خص ذكر المرأة دون سائر ما ينوي به الهجرة من أفراد الأغراض الدنيوية لأجل تبيين السبب، كان كانت أعظم أي أسباب فتنة الدنيا، قال النبي صلى الله عليه وسلم:"ما تركت بعدي فتنة هي أضر على الرجال من النساء"(1)، وذكر الدنيا معها من أسباب زيادة النص على السبب كما أنه [لما](2) سئل عن طهورية ماء البحر زاد "الحل ميتته"، ويحتمل أن يكون هاجر [لِمَالها](3) مع نكاحها، ويحتمل أنه هاجر لنكاحها وغيره ليحصل دنيا من جهة (4) تعرض بهما.
واعلم: أن بعض المتأخرين من أهل الحديث شرع في تصنيف في أسباب الحديث كما صنف في أسباب النزول للقرآن العزيز كالواحدي وغيره، كذا عزاه الشيخ تقي الدين لبعض المتأخرين، وعزاه ابن العطار في شرحه إلى ابن الجوزي وغيره، وسمعت من يذكر أن عبد الغني بن سعيد الحافظ صنف فيه تصنيفًا قدر "العمدة"[ومن تتبع الأحاديث](5) قدر على إخراج جملة منها وأرجو أن أتصدَّى له إن شاء الله تعالى.
ثالثها: أن ذكرها من أسباب التنبيه على زيادة التحذير منها كذكر الخاص بعد العام تنبيهًا على مزيته كما في ذكر جبريل وميكائيل بعد الملائكة، وذكر الصلاة الوسطى بعد الصلوات في المحافظة، وذكر
(1) متفق عليه.
(2)
في الأصل (لا)، والتصويب من ب ج.
(3)
في ن ب زيادة (لأجل مالها).
(4)
زيادة في ن ب (ما).
(5)
زيادة من ن ب ج.
محمد، ونوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى بحد ذكر النبيين في أخذ الميثاق عليهم، صلى الله عليهم أجمعين، وليس منه قوله تعالى:{وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} (1) بعد ذكر الفاكهة وإن كان قد غلط فيه بعض الناس فعده منه؛ لأن فاكهة نكرة في سياق الإِثبات فلا تعم، وقد جاء أيضًا في القرآن عكس هذا وهو ذكر العام بعد الخاص كقوله تعالى إخبارًا عن إبراهيم عليه السلام:{رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} (2)، وقوله تعالى إخبارًا عن نوح:{رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا} (3) الآية.
الثلاثون: إن قلت: لِمَ ذُمَّ على طلب الدنيا وهو أمر مباح، والمباح لا ذم فيه ولا مدح؟
فالجواب: أنه لم يخرج في الظاهر لطلب الدنيا وإنما خرج في صورة طلب فضيلة الهجرة، فأبطن خلاف ما أظهر فلذلك توجه عليه الذم.
الحادي والثلاثون: إن قلت: لم أعاد صلى الله عليه وسلم ما بعد الفاء الواقعة جوابًا للشرط بلفظ الأول، أعني قوله:"فهجرته إلى الله ورسوله" ولم يعده في قوله: "ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها"، بل قال:"فهجرته إلى ما هاجر إليه"؟
فالجواب: أن سر ذلك الإعراض عن تكرير ذكر الدنيا والغض
(1) سورة الرحمن: آية 68.
(2)
سورة إبراهيم: آية 41.
(3)
سورة نوح: آية 28.
منها وعدم الاحتفال بأمرها، وذلك مناسب لما قيل:"من أحب شيئًا أكثر من ذكره"، وهو أبعد الناس عن حبها وهذا معنى لطيف، لكن يخدشه رواية ابن الجارود في "المنتقى" (1):"فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى ما هاجر إليه ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه" ورواية البخاري في أول "صحيحه" مختصرة، ولفظه:"إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه" ولم يذكر القطعة الأولى.
الثاني والثلاثون: قال ابن الأنباري في كتاب "الورع": في الحديث دليل على أنه لا يجوز الاقدام على الفعل قبل معرفة حكمه، قال: ووجه الاستدلال منه أنه لا بدَّ للمكلف من الإِتيان بما أمر به على وجهه، وقد نفى صلى الله عليه وسلم أن يكون العمل منتفعًا به إلَّا بالنية أي نية التقرب لما طلبه الله من العبد، ولا يتصور ذلك إلَّا بعد معرفة المطلوب.
خاتمة: قال الخطابي: قد يستدل بهذا الحديث بعد العبادات في أحكام المعاملات كالإِكراه على الطلاق والعتاق، وفي باب الأيمان: حتى لو حلف والله ما رأيت زيدًا وهو ينوي أنه لم يصب [رئته](2)، وما كلمت محمدًا يريد ما جرحته، كان على ما نوى،
(1) ابن الجارودي (1/ 65).
(2)
التصحيح من أعلام الحديث (1/ 117) للخطابي، قال ابن السكيت: يقال من الرنة: رأيته فهو مرئى، إذا أصبته في رئته. لسان العرب- مادة أرى.
وكذلك يدل على أن من باع واشترى بغش وخلابة أو ربًا [بحيلة](1) فإنَّه محظور في حق الدين، فأما طلاق السكران فلا يدخل فيه؛ لأن صريح الطلاق لا يحتاج إلى النية إلَّا أن يكون [ذلك](2) بلفظ كناية.
وقال قوم: إن الاستدلال بهذا الحديث في غير العبادات لا يجوز لأنَّه غير ما قصد به.
(1) في ن ب (يحتمله).
(2)
في ن ب (كذلك).