الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الثاني
(1)
15/ 2/ 2 - عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أتيتم الغائط فلا تستقبلوا القبلة بغائط ولا بول ولا تستدبروها ولكن شرِّقوا أو غرِّبوا"(2).
قال أبو أيوب: فقدما الشام فوجدنا مراحيض قد بنيت نحو الكعبة فننحرف عنها ونستغفر الله عز وجل.
[قال المصنف](3): الغائط: [الموضع](4) المطمئن من الأرض، كانوا ينتابونه للحاجة، فكنوا به عن نفس الحدث كراهة
لذكره بخاص اسمه، والمراحيض جمع مرحاض وهو المغتسل، وهو أيضًا كناية عن موضع التخلي.
(1) في متن العمدة رقمه (14).
(2)
رواه البخاري برقم (144) في الصلاة، ومسلم برقم (264) في الطهارة، باب: الاستطابة، وأبو داود برقم (9) في الطهارة، والترمذي برقم (8) في الطهارة، والنسائي (1/ 21، 22) في الطهارة، ومالك في الموطأ (1/ 193)، والدرامي (1/ 170) في الصلاة.
(3)
غير موجود في المتن ولا في إحكام الأحكام.
(4)
في ن ب ج ساقطة.
الكلام عليه من خمسة عشر وجهًا:
الأول: في التعريف براويه وهو: أبو أيوب خالد بن زيد بن كليب بن ثعلبة الأنصاري الخزرجي النجاري، غلبت عليه كنيته، شهد بدرًا والمشاهد كلها، وهو أحد السبعين الذين بايعوا النبي صلى الله عليه وسلم بالعقبة الثانية، [وعليه](1) نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة شهرًا حتى بني مسجده ومساكنه، قال أبو أيوب: لما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي نزل في السفل وأنا وأم أيوب في العلو، قال: فقلت له: بأبي أنت وأمي إني أكره وأعظم أن أكون فوقك وتكون [تحتي](2) فكن أنت في العلو وننزل نحن فنكون في [أسفل](3) فقال: "يا أبا أيوب إنه أرفق بنا [ومن] (4) يغشانا أن نكون في أسفل البيت" قال: فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفله وكنا فوقه في المسكن فلقد انكسر حب لنا فيه ماء فقمت أنا وأم أيوب بقطيفة لنا ما لنا لحاف [غيره](5) ننشف بها الفاء تخوفًا أن يقطر على [رأس](6) رسول الله صلى الله عليه وسلم شيء، وفي رواية: فنزلت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأنا [مشفق](7) فقلت: يا رسول الله
(1) في ن ب (عليه).
(2)
في ن ب (تحتك).
(3)
في ن ب (السفل).
(4)
في ن ب (وبمن).
(5)
في الأصل (وعليها)، والتصحيح من ن ب ج.
(6)
في ن ب ساقطة.
(7)
زيادة من ن ب ج.
[إنه](1) ليس ينبغي أن نكون فوقك، انتقل إلى الغرفة، فأمر بمتاعه فنقل ومتاعه قليل، وفي رواية: لما قدم علينا نزل في دارنا
[فقلنا](2): العلو يا رسول الله، فقال:" [السفل] (3) أهون علينا وعلى من يغشانا" فقالت أم أيوب حين أمسينا: يا أبا أيوب ننام ورسول الله صلى الله عليه وسلم أسفل منا؟ فلم ننم حتى أصبحنا، فنزلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت الذي قالت أم أيوب.
آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم[بينه](4) وبين مصعب بن عمير، وقيل: بينه وبين طلحة.
وهو أحد الصحابة الذين وافقت كنيتهم كنية زوجهم، فإن كنية زوجه أم أيوب. وقد أفرد ذلك الحافظ أبو الحسن محمد بن
عبد الله بن حيوية النيسابوري، وعددهم اثنى عشر: أولهم أبو أيوب، وثانيهم أبو أسيد الساعدي، ثالثهم أبو الدحداح، ورابعهم: أبو بكر الصديق كنية زوجته أم بكر، خامسهم: أبو الدرداء، سادسهم: أبو ذر، سابعهم: أبو رافع الأسلمي، ثامنهم: أبو سلمة المخزومي زوجته أم سلمة هند بنت أبي أمية المخزومية، تاسعهم: أبو سيف القين، عاشرهم: أبو طَلِيْق، الحادي عشر: أبو الفضل العباس بن عبد المطلب، الثاني عشر: أبو مَعْقِل الأسدي.
(1) في ن ب زيادة (والله).
(2)
في ن ب (فعلوا).
(3)
في ن ب (أسفل).
(4)
في ن ب ساقطة.
ولمَّا تُحُدِّث في الإِفك وقالت له أم أيوب: ألم تسمع ما يتحدث به الناس؟ [وأخبرته](1)، فقال رضي الله عنه: ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم، فأنزل الله الآية:{لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ} (2) إلى آخرها.
روى عنه البراء بن عازب وخلق، وكان من نجباء الصحابة، وأمه [هند](3) بنت قيس بن عمرو بن امرئ القيس، قاله ابن حبان في ثقاته. روي له عن النبي صلى الله عليه وسلم مائة وخمسون حديثًا، اتفقا منها على سبعة وانفرد البخاري بحديث ومسلم بخمسة، وقال البرقي:
حُفظ عنه نحو من خمسين حديثًا.
شهد مع علي حروبه كلها ثم سكن دمشق.
ولم يزل يغزو الروم حتى قبض في غزوة غزاها يزيد بن معاوية في خلافة معاوية بالقسطنطينية سنة خمسين، وقال أبو زرعة: سنة خمس وخمسين، وقال الواقدي وجماعة: سنة اثنين وخمسين، وقل: إنه المشهور، وقيل: سنة إحدى، وكان يقول: قال الله عز وجل: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا} (4) فلا أجدني إلَّا خفيفًا أو ثقيلًا، وكذلك كان المقداد بن الأسود وأبو طلحة يتأولان هذه الآية،
[وروى ابن سيرين أنه غزا زمن معاوية فمرض فقال لهم: قدموني في
(1) في ن ب (وأخبر به).
(2)
سورة النور: آية 12.
(3)
زيادة من ن ب.
(4)
سورة التوبة: آية 41.
أرض الروم ما استطعتم] (1).
وروى المدائني أنه دخل عليه يزيد بن معاوية فقال: ما حاجتك؟ قال: تعمق قبري وتوسعه، وقال ابن حبان في ثقاته: إن أبا أيوب قال لهم: إذا أنا مت فقدموني في بلاد الروم ما استطعتم ثم ادفنوني فمات، وكان المسلمون على حصار القسطنطينية فقدموه حتى دفن إلى جانب حائطها، وروى غيره عنه أنه قال: إذا قبضت فلتركب الخيل [ثم القوا](2) العدو [فيردنكم](3) حتى لا تجدوا متقدمًا فاحفروا حينئذ لي قبرًا ثم سووه وليطأ الخيل والرجال عليه حتى لا يعرف. وروى أنهم لما أصبحوا أشرف عليهم الروم فقالوا: يا معشر العرب قد كان لكم الليلة شأن، فقالوا: مات رجل من أكابر أصحاب نبينا صلى الله عليه وسلم والله لئن نبش لأضربن بناقوس في بلاد العرب، فكانوا إذا قحطوا كشفوا عن قبره فأمطروا، وبنى الروم على قبره بناء وعلقوا عليه أربعة قناديل بسرج (4)، قال [الواقدي] (5): وصلى عليه يزيد. وكان قد أتى ابن عباس بالبصرة وقد وليها لعلي، فقال: يا أبا أيوب إني أخرج عن [مسكني](6) كما خرجت عنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر أهله فخرجوا وأعطاه كل شيء أغلق عليه الدار فلما كان انطلاقه قال: حاجتك، قال: حاجتي عطائي وثمانية أعبد يعملون في
(1) زيادة من ن ب ج.
(2)
في ن ب ساقطة.
(3)
في ن (فليرونكم).
(4)
هذا لا يجوز لأن النبي صلى الله عليه وسلم لعن المتخذين عليها المساجد والسرج.
(5)
الأصل (الواحدي)، والتصحيح من ن ب ج.
(6)
في ن ب (مسكن).
أرضي، وكان عطاؤه أربعة آلاف فأضعفها له مرات فأعطاه عشرين ألفًا وأربعين عبدًا. وقدم على معاوية فأجلسه معه على السرير، فجعل معاوية يتحدث ويقول: فعلنا وفعلنا، وأهل الشام حوله، فقال: يا أبا أيوب من قتل صاحب الفرس البلقاء يوم كذا؟ فقال أبو أيوب: أنا قتلته إذ أنت وأبوك على الجمل الأحمر معكما لواء الكفر، فنكّس معاوية وتنمر أهل الشام، فرفع معاوية رأسه وقال: مه مه وإلَّا فلعمري ما عن هذا سألتك ولا هذا أردنا منك.
الثاني: أبو أيوب رضي الله عنه أنصاري كما نسبه المصنف، وهو نسبة إلى الأنصار، واحدهم نصير كشريف وأشراف،
وقيل: ناصر كصاحب وأصحاب، قبيلتان: الأوس، والخزرج، والخزرج أشرفهما لكون أخوال النبي صلى الله عليه وسلم منهم وهو وصف لهم [إسلامي](1).
وقيل لهم ذلك: لنصرتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، روى البخاري في صحيحه عن غيلان بن جرير قال: قلت لأنس بن مالك رضي الله عنه "أرأيت اسم الأنصار أكنتم تسمون به، أم سماكم الله به، قال: بل سمانا الله تعالى". وقد ذكرت جملة من فضائلهم في "الإِشارات لغات المنهاج"(2)، واعلم أن الأوس والخزرج هما أبناء حارثة بن ثعلبة العنقاء (3) بن عمرو مُزَيْقَياءَ بن عامر ماء السماء بن حارثة الغِطْريف بن
(1) في ن ب (إسلام).
(2)
الإِشارات إلى ما وقع في المنهاج من الأسماء والمعاني واللغات.
(3)
العنقاء، ومزيقياء، وماء السماء، والغطريف: هي ألقاب أتت بعد الأسماء.
[قيس](1) ابن امرئ القيس بن ثعلبة بن مازن بن الأزد بن الغوث بن نَبْت بن مالك بن زيد بن [كهلان](2) بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان بن عامر بن شالخ (3) بن أَرفَخْشَدَ بن سام بن نوح عليه السلام، وقحطان أصل عرب اليمن وهو يقطن، وقيل: يقطان، وسمي قحطان؛ لأنه كان أول من تجبر وظلم وقحط أموال الناس من ملوك العرب، قال ابن ماكولا: اسمه مهرم.
وأما عرب الحجاز: وهم العرب المستعربة: فمن ذرية إسماعيل، وأما العرب العاربة:[فهم](4) عاد وثمود وجرهم والعماليق [وأميم](5)، وقيل: إن جميع العرب ينتسبون إلى إسماعيل، والمشهور ما ذكرنا.
فائدة: أيوب في الرواة يشتبه بأثوب بالمثلثة بدل المثناة تحت، وهو [أثوب](6) بن عتبة (7)، ذكره ابن قانع في الصحابة؛
(1) لم يرد في جمهرة أنساب قبائل العرب (332 - 484) ابن حزم.
(2)
في الأصل (كهان)، والصحيح من جمهرة أنساب العرب لابن حزم، وفي ن ب (كهلان).
(3)
في الأصل (عابر بن شامخ)، وفي التعليق على جمهرة العرب: عابر بن شالح، وما أثبت من الجمهرة (ص 8).
(4)
في ن ب (فهو).
(5)
في الأصل (أمم)، وفي ن ب (واهم)، والتصحيح من جمهرة أنساب العرب لابن حزم رحمه الله (ص 9).
(6)
في ن ب (أيوب).
(7)
قال في مشتبه النسبة للذهبي (36): ورد ذكره في الديك الأبيض، ولا يصح.
والحارث بن [أَثوَبَ (1)](2)، تابعي، كذا قاله عبد الغني، والصواب: ثوب بوزن صوغ [وأثوب بن أزهر](3)(4).
الثالث: قوله عليه السلام: "إذا أتيتم الغائط". استعمل في قضاء الحاجة كيف كان؛ لأن [هذا](5) الحكم عام في جميع صور قضاء الحاجة وهو إشارة إلى استعمال هذه اللفظة مجازًا، وقد [سبق](6) كلام المصنف في تفسير الغائط.
وفي (المحكم) الغائط والغوط: المتسع من الأرض مع طمأنينة، وجمعه أغواط وغياط وغيطان، وكل ما انحدر من الأرض فقد غاط، ومن بواطن الأرض الميتة: الغيطان، الواحد منها غائط، وزعموا أن الغائط ربما كان فرسخًا. والغائط: اسم العذرة نفسها؛ لأنهم كانوا يلقونها بالغيطان، وقيل: لأنهم كانوا إذا أرادوا ذلك أتوا الغائط، وتغوط الرجل: كناية عن الخرأة، والغوط أغمض من الغائط وأبعده.
وفي (الصحاح) جمع الغائط: غوط، وفي (المخصص)(7) أن
(1) في ن ب (أيوب).
(2)
قالا في مشتبه النسبة للذهبي: وصوابه (بن ثوب) بلا ريب، وهم فيه عبد الغني، وشفى فيه الأمير.
(3)
في ن ب (أتوب بن الدهر)، وفي ن ج (أيوب بن أزهر).
(4)
التصحيح من المؤتلف والمختلف لعبد الغني (ص 5)، قال في حديث قيلة: وهو زوج قيلة بنت مخرمة.
(5)
في ن ب ساقطة.
(6)
في ن ب (سلف).
(7)
(5/ 59).
قراءة الزهري: (أو جاء أحد منكم من [الغيط] (1)) (2) مخففة الياء وأصله الغوط. وقال الشيخ تقي الدين (3): الغائط في الأصل: [المطمئن](4) من الأرض، كانوا يقصدون لقضاء الحاجة، ثم استعمل في الخارج وغلب على الحقيقة الوضعية فصار حقيقة عرفية، لكن لا يقصد به إلَّا الخارج من الدبر فقط لتفرقته بينهما، وقد تكلموا في أن قوله تعالى:{أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} (5) لما كانت العادة أن يقصد لأجله وهو الخارج من الدبر (6)، ولم يكونوا يقصدون الغائط للريح مثلًا، أو يقال: إنه يقصد به الخارج من القبل والدبر كيف كان.
الرابع: الحديث دال عل المنع من استقبال القبلة واستدبارها، وللفقهاء في ذلك أربعة مذاهب:
أحدها: المنع المطلق في البنيان والصحراء، وهو قول أبي أيوب الأنصاري راوي هذا الحديث، ومجاهد (7) وإبراهيم النخعي (8)
(1) زيادة من ن ب ج.
(2)
في الأصل (الغائط)، والتصحيح من ن ب ج.
(3)
إحكام الأحكام مع الحاشية (1/ 238).
(4)
في ن ب (المطهر).
(5)
سورة المائدة: آية 6.
(6)
في ن ج زيادة (فقط).
(7)
ابن أبي شيبة (1/ 150)، والأوسط (1/ 325).
(8)
المرجع السابق.
التابعيين، وسفيان الثوري (1)، وأبو ثور (2) وأحمد في رواية (3)، وهؤلاء حملوا النهي على العموم وجعلوا العلة فيه التعظيم والاحترام للقبلة؛ لأنه معنى مناسب ورد النهي [على](4) وفقه فيكون علة له، وقد روي من حديث سلمة بن وهرام عن سراقة مرفوعًا:"إذا أتى أحدكم البراز فليكرم قبلة الله عز وجل"(5). وهذا ظاهر قوي في هذا التعليل فلا فرق فيه بين الصحراء والبنيان، ولو كان الحائل كافيًا في جوازه في البنيان لكان في الصحراء من الجبال والأودية ما هو أكفى.
وفي الدارقطني عن الشعبي من قوله بإسناد ضعيف أنه علل ذلك: "إن لله تعالى خلقًا من عباده يصلون في الصحراء فلا تستقبلوهم ولا تستدبروهم". [وأما بيوتكم هذه الي تتخذونها للنتن فإنه لا قبلة لها، عيسى بن أبي الخياط وهو عيسى بن ميسرة وهو ضعيف](6).
(1) التمهيد (1/ 309)، وشرح السنة لبغوي (1/ 358)، والأوسط لابن المنذر (1/ 325).
(2)
التمهيد (1/ 309)، والأوسط (1/ 327).
(3)
انظر: التمهيد (1/ 309)، والأوسط (1/ 325).
(4)
في ن ج (عن).
(5)
أخرجه الدارقطني (1/ 57)، وقال الدارقطني: لم يروه غير مبشر بن عبيد وهو متروك الحديث، وحكم عليه الغساني بالضعف في تخريج الأحاديث الضعاف من الدارقطني برقم (16)، وقال ابن حجر في تلخيص الحبير (1/ 105): أخرجه الدارمي وغيره، وإسناده ضعيف.
(6)
زيادة من سنن الدارقطني (1/ 61)، فقد ظهر بهذه الزيادة الحكم على الحديث. سنن البيهقى (1/ 93)، ورواه ابن ماجه مختصرًا (1/ 117). =
وينبني على هذا الخلاف في التعليل اختلافهم فيما إذا كان بالصحراء واستتر بشيء فمن علل باحترام القبلة منع الاستقبال
والاستدبار، ومن علل برؤية المصلين أباح، وضعف صاحب القبس (1) التعليل بذلك، وقال: لم يتعبدنا [به](2) الله إلَّا بما نرى.
قلت: ثم هذا كله مبنيٌّ على أن العلة المستنبطة معتبرة أما إذا لم [يعتبرها](3) فلا كلام.
المذهب الثاني: أنهما جائزان مطلقًا وهو قول عروة بن الزبير، وربيعة الرأي شيخ مالك، وداود الظاهري (4) ورأى هؤلاء حديث أبي أيوب منسوخًا، وزعموا أن ناسخه حديث مجاهد عن جابر رضي الله عنه قال:"نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نستقبل القبلة أو نستدبرها ببول ثم رأيته قبل أن يقبض بعام يستقبلها". حسنه الترمذي مع الغرابة (5)، ونقل عن البخاري تصحيحه كما نقله البيهقي في (خلافياته) عنه (6)، وصححه أيضًا
= انظر: تهذيب التهذيب (8/ 224، 225)، والمجروحين (2/ 117) للاطلاع على ترجمة عيسى بن ميسرة.
(1)
القبس (1/ 394) وذكر معناه في عارضة الأحوذي (1/ 24).
(2)
زيادة من ن ب.
(3)
في ن ب (تعتبرها).
(4)
في الأصل زيادة (وهو). انظر: الأوسط لابن المنذر (1/ 326)، وابن عبد البر في التمهيد (1/ 311)، والحازمي في الاعتبار (38).
(5)
الترمذي برقم (13).
(6)
تحفة الأحوذي (1/ 64) برقم (10).
ابن حبان (1)، وشيخه ابن خزيمة (2)، والحاكم وصححه على شرط مسلم (3)، واستدلالهم بالنسخ ضعيف لأنه لا يصار إليه إلَّا بعد تعذر الجمع وهو ممكن كما ستعلمه.
المذهب الثالث: أنه لا يجوز الاستقبال فيهما ويجوز الاستدبار فيهما، وهو إحدى الروايتين عن أبي حنيفة وهو ضعيف جدًا، ويكفي في الرد عليه حديث أبي أيوب هذا.
المذهب الرابع: وهو قول الجمهور وبه قال مالك (4) والشافعي (5) وإسحاق (6)، وأحمد في إحدى الروايتين، أنه يحرم
الاستقبال في الصحراء دون البنيان، وهو مروي عن اللباس وابن عمر، ورأى هؤلاء الجمع بين الأحاديث وأنه لا يصار إلى النسخ إلَّا بالتصريح به أو بمعرفة تاريخه، وأن الجمع أولى من إلغاء بعض الأحاديث، واستدلوا بحديث ابن عمر الآتي وبأحاديث أخر، ولما
(1) ابن حبان برقم (1417).
(2)
ابن خزيمة برقم (58).
(3)
المستدرك (154)، ووافقه الذهبي، وأبو داود (13) في كتاب الطهارة، باب: الرخصة في ذلك، وابن ماجه (325)، والدارقطني (2/ 58)، والبيهقي (1/ 92)، وقال النووي في شرح مسلم (3/ 155): إسناده حسن.
(4)
المدونة الكبرى (1/ 7).
(5)
روضة الطالبين (1/ 65).
(6)
البغوي في شرح السنة (1/ 359)، والحازمي في الاعتبار (40)، والتمهيد (1/ 309).
في المنع [في](1) البنيان من المشقة والتكلف لترك القبلة بخلاف الصحراء، [ويتعلق](2) بذلك فروع يأتي بعضها في الحديث الآتي مختصره، ومحل بسطها كتب الفروع وقد بسطتها فيها ولله الحمد.
فرع: هل الجماع كقضاء الحاجة أم لا؟ يبني على محل [العلة](3) أيضًا، هل هو الخارج؛ فيجوز الجماع إذ لا خارج، أو كشف العورة؟ فيمتنع إذا كشف وقد حكى الخلاف الشيخ تقي الدين (4) أيضًا، وتبعه الفاكهي. ونقل النووي (5) عن ابن القاسم الجواز. وعن [ابن](6) حبيب الكراهة. وبعض المالكية منعه على العلتين جميعًا لأجل الكشف وخروج المني فإنه نجس عندهم، وصرَّح أصحابنا بأنه لا يكره فضلًا عن الجواز، وبجوازه قال أبو حنيفة وأحمد وداود، وهو الصواب؛ لأن التحريم إنما [ثبت](7) بالشرع ولم يرد فيه نهي.
الخامس: قوله عليه السلام: "ولكن شرقوا أو غربوا". هذا الخطاب لأهل المدينة ومن في معناهم كأهل الشام واليمن وغيرهم
(1) في ن ب (من).
(2)
في ن ب (وما يتعلق).
(3)
في ن ب (العلتين).
(4)
إحكام الأحكام مع الحاشية (1/ 237).
(5)
شرح مسلم (3/ 156).
(6)
في ن ج أبي.
(7)
في ن ب (يثبت).
ممن قبلته على هذا السمت، فأما من كانت قبلته من جهة المشرق أو المغرب فإنه يتيامن أو يتشأم.
السادس: الشأم: مهموز ويجوز تسهيله، ويقال: الشام بالمد وفتح الشين في لغة قليلة، وهو يُذكّر وقد يؤنث فيقال: الشام مبارك ومباركة، وسمي به لأن سام بن نوح سكنه أولًا فعرف بالسين. وقيل: لكثرة قراه ودنو بعضها من بعض كالشامات. وقيل: لأن باب الكعبة مستقبل مطلع النفس فمن استقبله كان اليمن عن يمينه والشام عن شماله، وهي السوما (1) فسميا بذلك. وحَدُّهُ في الطول: من [العريش](2) إلى الفرات، وقيل:[من](3) بالسن، وفي العرض قال السمعاني: هو بلاد بين الجزيرة و [الغور](4) إلى الساحل.
وقوله: "فقدمنا الشام" وهو منصوب على الظرفية لا على المفعولية.
السابع: قوله: "قد بنيت" يعني في الجاهلية وبناؤها نحو الكعبة ليس قصدًا لها، ولا لقبلة أهل الشام إذ ذاك وهي بيت المقدس، وإنما هو مجرد جهل ومصادفة.
الثامن: الكعبة: سميت بذلك لاستدارتها، من التكعب وهو الاستدارة، وهذا مما يدل على أن القبلة التي روي النهي عنها هي
(1) في معجم البدان (3/ 312): وكان اسم الشام الأول "سُوري".
(2)
في ن ب (العراش).
(3)
في ن ب (إلى).
(4)
في الأصل (الغول)، والتصحيح من ن ب ج.
الكعبة، وفي حديث مالك (1):"فوجدنا مراحيض قد بنيت قبل القبلة" فالألف واللام فيها للعهد ولا يجوز أن تكون للجنس.
وإن كان ورد النهي عن استقبال بيت المقدس في مسند أحمد وسنن أبي داود وابن ماجه (2) من حديث معقل بن أبي [معقل](3) الأسدي، وزعم ابن حزم أنه لا يصح (4)، ولأن القبلة عند الإطلاق تصرف إلى الكعبة في شرعنا لا على القبلة المنسوخة، ولأن النهي في الكعبة عن الاستقبال والاستدبار، وذلك إنما ورد في الاستقبال فقط، على أن مذهبنا أنه يكره الاستقبال والاستدبار وفي بيت المقدس أيضًا، وأغرب ابن أبي الدم فحكى وجهًا أنه يحرم، وهو قول ابن سيرين والحسن والنخعي (5).
التاسع: قول أبي أيوب "فقدمنا الشام" إلى آخره ففيه دلالة على أن للعموم صيغة عند العرب وأهل الشرع على خلاف ما ذهب إليه بعض الأصوليين، والمعنى به استعمال صيغة العموم في بعض أفراده كما فعله الجمهور في حديث أبي أيوب هذا.
قال الشيخ تقي الدين: وأولى بعض أهل العصر، وما يقرب
(1) البخاري (144)، والحميدي (378)، ومسلم (59/ 264).
(2)
أحمد (4/ 210)، وسنن ابن ماجه رقم (319)، قيل: أبو زيد مجهول الحال فالحديث ضعيف به. ولفظه "نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن نستقبل القبلتين
…
" الحديث، القبلة الأولى بيت المقدس.
(3)
في ن ب (مغفل).
(4)
المحلي (1/ 194).
(5)
الذي في الاستذكار عنهم الكراهة (7/ 177).
به، [بأن] (1) قالوا: صيغة العموم إذا وردت على الذوات مثلًا أو على الأفعال كانت عامة في ذلك مطلقة في الزمان والمكان، والأحوال والمتعلقات. ثم [يقال] (2): المطلق يكفي في العمل [به](3) صورة واحدة فلا يكون حجة فيما عداه.
وأكثروا من هذا السؤال [فيما لا](4) يحصى من ألفاظ الكتاب والسنة وصار ذلك ديدنًا لهم في الجدال، وهذا عندي باطل، بل الواجب أن ما دل على العموم في الذوات مثلًا يكون، وإلا على ثبوت الحكم في كل ذات تناولها اللفظ، ولا يخرج عنها ذات إلَّا بدليل يخصه، فمن أخرج شيئًا من تلك الذوات فقد خالف مقتضى العموم، نعم يكفي في العمل بالمطلق مرة كما قالوه، ونحن لا نقول بالعموم في هذه المواضع من حيث الإِطلاق، وإنما قلنا به من حيث المحافظة على ما تقتضيه صيغة العموم في كل ذات، فإن كان المطلق لا يقتضي العمل به مرة مخالفة لمقتضى صيغة العموم اكتفينا [في العمل](5) به بمرة واحدة، [وإن](6) كان العمل به مرة واحدة مما يخالف مقتضى صيغة العموم قلنا بالعموم محافظة على مقتضى صيغته لا من حيث أن المطلق يعم، مثال ذلك: إذا قال: من دخل
(1) في الأصل (فإن)، وما أثبت من ن ب ج وإحكام الأحكام (1/ 240).
(2)
في ن ب (قالوا).
(3)
زيادة من ن ب ج، وموجودة في إحكام الأحكام.
(4)
في الأصل (فلا)، والتصحيح من ن ب ج.
(5)
في ن ب (بالعمل).
(6)
في ن ب (فإن).
داري فأعطه درهمًا، فمقتضى الصيغة العموم في كل [ذات](1) صدق عليها أنها الداخلة.
فإذا قال قائل: هو مطلق في الأزمان فأعمل به في الذوات الداخلة في أول النهار مثلًا، ولا أعمل به في غير ذلك الوقت؛ لأنه
مطلق في الزمان وقد عملت به مرة فلا يلزم أن أعمل به أخرى لعدم عموم المطلق.
قلنا له: لما دلت الصيغة على العموم في كل ذات، دخلت الدار ومن جملتها الذوات الداخلة في آخر النهار، فإذا أخرجت تلك الذوات فقد أخرجت ما دلت الصيغة على دخوله وهي كل ذات. وهذا الحديث أحد ما يستدل به على ما قلناه فإن أبا أيوب من أهل اللسان والشرع، وقد استعمل قوله:"لا تستقبلوا القبلة ولا تستدبروها" عامًا في الأماكن وهو مطلق فيها، وعلى ما قاله هؤلاء المتأخرون لا يلزم العموم، وعلى ما قلناه يعم؛ لأنه إذا خرج عنه بعض الأماكن خالف صيغة العموم في النهي عن الاستقبال والاستدبار، هذا آخر كلامه، وهو نفيس.
وكأن كلامه مع القرافي فإنه كان يناظره وهو المكثر من ذلك.
وقوى بعضهم كلام القرافي من أوجه:
أحدها: من القرآن: قوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} (2) فلو كان العام في المشركين عامًا في المكان لكان
(1) في الأصل (دار)، والتصحيح من ن ب ج.
(2)
سورة التوبة: آية 5.
قوله (حيث وجدتموهم) تكرارًا، و (حيث) من صيغ العموم في المكان، قاله القاضي عبد الوهاب.
[و](1) ثانيها: من هذا الحديث نفسه، [فإن](2) المكان هو الغائط معرف بالألف واللام، فعم جميع الأماكن، ونزاع القرافي إنما هو فيما إذا لم يكن العموم إلَّا في الأشخاص أو [في](3) الأفعال، وأما إذا كان في اللفظ ما يدل على العموم في المكان والزمان مثلًا فإنه ليس محل النزاع، وكذا نص عليه في تصانيفه، فالحديث حجة له؛ لأنه لو كان عموم الفعل في سياق النهي يقتضي العموم في المكان لما كان لتعريف المكان بالألف واللام فائدة.
ثالثها: أن الشيخ تقي الدين قال في حديث بيع الخيار: إن الخيار عام [ومتعلقه](4) -وهو ما يكون فيه الخيار- مطلق، فيحمل على خيار [الفسخ](5) وهذا اعتراف.
[و](6) رابعها: أن أبا حنيفة في مسألة الفعل في سياق النفي يقول بعدم العموم في المفعول في الزمان والمكان، ووافقه الشافعي على عدم العموم في الزمان والمكان، وخالفه في المفعول به، واحتج عليه أبو حنيفة بقياس المفعول به على الزمان والمكان الذي
(1) في ن ب ساقطة.
(2)
في ن ب (فكان).
(3)
في ن ب ساقطة.
(4)
ن ب (ومنطقه).
(5)
في ن ب (النسخ).
(6)
زيادة من ن ب.
[سلَّم](1) الشافعي عدم العموم فيهما، وهذا مثل مقالة القرافي.
العاشر: قوله: "ونستغفر الله عز وجل" قال صاحب المفهم (2): هذا دليل على أنه لم يبلغه حديث ابن عمر -يعني الآتي- أو لم يره مخصصًا، وحمل ما رواه على العموم. انتهى، فإن صح هذا الثاني فهو يضعف المقالة السالفة إن العموم في الذوات مطلق في الزمان والمكان والأحوال والمتعلقات.
قال الفاكهي: وهو قول بعض الأصوليين، والراجح عند جماعة من المحققين خلافه.
قال الشيخ تقي الدين: وهذا الاستغفار قيل: لباني الكنيف على الصفة الممنوعة [عنده](3)، وحملهم على هذا التأويل أنه إذا انحرف عنها لم يفعل ممنوعًا فلا يحتاج إلى الاستغفار، والأقرب أنه استغفار لنفسه أي [فالذنب](4) يذكر بالذنب؛ ولعل ذلك لأنه بسبب موافقته لمقتضى البناء سهوًا أو غلطًا فيتذكر وينحرف ويستغفر الله.
فإن قلت: فالغالط والساهي لم يفعل إثمًا فلا حاجة للاستغفار.
فالجواب: أن أهل الورع والمناصب العلية في التقوى قد
(1) في ن ب (سلمة).
(2)
(2/ 608).
(3)
في ن ب (عندهم). انظر: إحكام الأحكام مع الحاشية (1/ 247).
(4)
في ن ج (فالذي).
يفعلون مثل هذا بناء على نسبتهم [التقصير](1) إلى أنفسهم في التحفظ ابتداءً.
وقال غيره: استغفار أبي أيوب؛ لأن مذهبه تحريم الاستقبال في البنيان كما سلف، ولا يتأتى له الانحراف الكامل في قعوده إلَّا
بحسب إمكانه، فاستغفر احتياطًا، ولا يظن به أنه كان يفعل ما يعتقد تحريمه.
ومن قال: إن استغفاره لبانيها، ففيه بُعد لوجهين:
أحدهما: أن تعقيب الوصف بالفاء والعطف عليه يشعر [بالعلة](2) فالحكم المنع من الجلوس إلى القبلة، والوصف الانحراف المتعقب بالفاء، والعطف عليه الاستغفار.
ثانيهما: [أن الظاهر](3) أن المراحيض بناء الكفار في الجاهلية فكيف يجوز الاستغفار لهم؟
ويحتمل أن استغفاره لمن بناها من المسلمين جاهلًا على اعتقاده.
الحادي عشر: [في الحديث](4): ما كان عليه صلى الله عليه وسلم من القيام بالبيان والإِيضاح لأمته.
(1) في ن ج ساقطة.
(2)
في الأصل (العلية)، والتصحيح من ن ب.
(3)
في ن ج ساقطة.
(4)
في ن ب ساقطة.
الثاني عشر: فيه أيضًا ابتداء العالم أصحابه بالعلم خصوصًا إذا علم أنه بهم حاجة إلى العمل به.
الثالث عشر: فيه أيضًا أنه ينبغي للعالم التنبيه على الوقائع المخالفة للعلم والرجوع عنها، أو الاستغفار والتوبة منها. [إن كان
تلبس بها ملتبس] (1).
الرابع عشر: فيه الكناية عن المستقذرات بألفاظ غير [شنعة النطق بها](2).
الخامس عشر: فيه أيضًا تعظيم جهة القبلة وتكريمها والنهي عما يلزم منه عدم ذلك كما في الاستدبار.
(1) ساقط من ن ج.
(2)
في ن ب (شعة المنطق بها).