الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الدنياوية ومقاصدهم ونسوا ما كان عليه سلفهم من تحري القصد فيها واعتماد الحق في مذاهبها فكان ذلك مما دعا الناس إلى أن نقموا عليهم بأفعالهم وأدلوا بالدعوة العباسية وتولى رجالها الأمر فكانوا من العدالة بمكان وصرفوا الملك في وجوه الحق ومذاهبه ما استطاعوا حتى جاء بنو الرشيد بعدهم فكان منهم الصالح والطالح ثم أفضى الأمر إلى بنيهم فأعطوا الملك والترف حقه وانغمسوا في الدنيا وباطلها ونبذوا الدين وراءهم ظهرياً فتأذن الله بحربهم وانتزاع الأمر من أيدي العرب جملة والله لا يظلم مثقال ذرة. اهـ.
في سراج الملوك: إن أدعى خصال السلطان صلاح الرعية وأقواها تمسكهم بأديانم وحفظهم لمروءتهم وإصلاح السلطان نفسه وتنزيهه عن سفاسف الأخلاق وبُعده عن مواضع الريب وترفيع نفسه عن استصحاب أهل البطالة والمجون واللهو والإعلان بالفسوق.
إذا ما غدا ملك باللهو مشتغلا
…
فاحكم على ملكه بالويل والحرب
أما ترى الشمس في الميزان طالعة
…
لما غدا وهو برج اللهو والطرب
وقد كانت صحبة محمَّد الأمين لأبي نواس الشاعر وصمة عظيمة عليه أوهى بها سلطانه ووضع عند العامة والخاصة قدره وأطلق لسان الخلف بالشتم والثناء القبيح عليه فخلفه بذلك أخوه المأمون على الولاية وأبو نواس هذا هو القائل:
ألا فاسقني خمراً وقيل لي هي الخمر
…
ولا تسقني سراً إذا أمكن الجهر
وبح باسم من أهوى ودعني من الكنى
…
فلا خير في اللذات من دونها ستر
فريدة أذكر فيها نبذة من حضارة بغداد في عهد المنصور والرشيد وابنه المأمون
اعلم أن بغداد وصلت في عهد هؤلاء الأمراء إلى قمة مجدها ومنتهى فخارها. أما من حيث العمارة فقد فاقت كل حاضرة عرفت لعهدها: بنيت فيها القصور الفخمة التي أنفق علي بناء بعضها مئات الألوف من الدنانير وتأنق مهندسوها في إحكام قواعدها وتنظيم أمكنتها وتشييد بنيانها وصارت قصور الجانب الشرقي بالرصافة تناطح قصور الجانب الغربي كان في الشرق قصور البرامكة وما أنشأوه هناك من الأسواق والجوامع والحمامات وبالجانب الغربي كانت قصور الخلافة التي كانت تبهر الناظرين اتساعاً وجمالاً وامتدت الأبنية امتداداً عظيماً حتى صارت بغداد كأنها مدن متلاصقة تبلغ الأربعين علي جانبي دجلة واستبحر العمران فيها لما جاءها
من الثناء وصار سكانها نحو ألفي ألف نسمة حتى ازدحمت بساكنيها. وكانت متاجر البلدان القاصية تصلها براً وبحراً تجيئها من خراسان وما وراءها والهند والصين والشام والجزيرة، والطرق إذ ذاك آمنة والسبل مطمئنة.
وأما من حيث ثروة الدولة فقد كان يرد على الخليفة ببغداد ما يبقى من خراج الأقاليم الإِسلامية ويدخل بيت مال الخليفة يصرف منه مرتبات الوزراء والمساعدين له والباقي يتصرف فيه حسبما يرى وهو شيء جسيم وكان الرشيد أسمح خلفاء بني العباس بالمال يعطي عطاء من لا يخشى فقراً للقصاد والشعراء والفقهاء والمنجمين والكتّاب وجرى على سننه كبار وزرائه وشيوخ دولته ورؤساء قواده حتى امتلأت الأسفار بذكر عطاياهم التي يتردد الإنسان في صحتها وراجت التجارة واشتد الترف وتغالى الناس في حاجاتهم وتأنقوا في معايشهم وأنغمسوا في الملاذ واللهو والخلاعة وذلك شأن كل أمة سالت عليها سيول الثروة.
وأما العلم فإن بغداد صارت قبلة لطلاب العلم من جميع الأمصار الإِسلامية يرحلون إليها ليتمموا ما بدأوا فيه من العلوم والفنون فهي المدرسة العليا لطلاب العلوم الدينية والعربية على اختلافها فقد كان فيها كبار المحدثين والفقهاء وحفاظ اللغة وآداب العرب والنحويين وكلهم قائمون بالدروس والإفادة لتلاميذهم في المساجد الجامعة التي كانت تعتبر مدارس عليا لتلقي هذه العلوم وقلما كان يتم لإنسان وصف عالم أو فقيه أو محدث أو كاتب إلا إذا رحل إلى بغداد وأخذ عن علمائها وجميع هؤلاء العلماء كانوا يعيشون عيشاً رغداً مما كان يفيضه عليهم الرشيد والبرامكة ومن دونهم من الخير الواسع والبر العميم ولم تكن بغداد بالمقصرة في علوم الدنيا كالطب والحكمة وغيرها من سائر الصناعات فقد حشد إليها الأطباء والمهندسون وسائر الصناع من الأقاليم المختلفة وحصل بذلك نعيم عظيم ونهضة علمية بقي أثرها خالداً.
أما الدولة الأموية فلم يكن في عهدها لترجمة الكتب كبير حظ ولا عظيم أثر لأنها أقرب إلى من قبلها في السذاجة الصناعية فلما جاءت الدولة العباسية وكان لها اختلاط كبير بالفرس وهذا الاختلاط قد جعل نفوس العباسيين تصبو إلى الاطلاع على شيء مما عند الفرس واليونان من آثار مقدميهم من العلماء والحكماء والفلاسفة وأول مَن عني بترجمة تلك الكتب أبو جعفر المنصور ثم الرشيد. أما أوروبا في ذلك الوقت فكانت مهد جهالة لأنه بانقراض الرومانيين وغفلة الأمم المتبربرة على أوروبا انطفأ مصباح العلم وأما الحال في البلاد الإِسلامية فكانت على العكس من
ذلك علماً وعملاً ببغداد وقرطبة فسعى شارلمان في إصلاح قوانين دولته مقلداً الرشيد وبعث وفداً إليه مصحوباً بهدايا ثم رجع الوفد ومعه هدايا منها ساعة وفيل وشطرنج وبعض أقمشة نفيسة فلما نظرها رجال شارلمان ظنوها من الأمور السحرية وأوقعهم في حيرة حتى همُّوا بكسر الساعة. كانت العلوم في عهد المأمون أرقى عهود العلم في العصر العباسي وظهر في وقته جمهور من فطاحل العلماء توغلوا في البحث عن أصول الدين والعقائد وكان المأمون محباً للعلم ولزيادة نشره ومغرى بعلوم الأوائل وتحقيقها وله جولة في العلوم الدينية كما كانت له جولة في العلوم الصناعية وكان أثره في هذا أظهر من أثره في تلك وكانت له حركة قوية ونشاط عظيم بترجمة الكتب اليونانية وغيرها إلى اللسان العربي وكان لعهده جماعة ذوو يسار اعتنوا بنقلها إلى اللسان العربي وبذلوا الرغائب وأنفذوا جماعة إلى بلاد الروم فجاؤوهم بطريف الكتب وغرائب المصنفات في الفلسفة والهندسة والموسيقى والطب والنجوم فكثرت الكتب المترجمة في جميع العلوم الصناعية ولما نقلت إلى العربية اشتغل بها ناس كثيرون علماً وعملاً ووجد منهم فلاسفة عظام ألّفوا كتباً عظيمة في هاته العلوم وكانت الأمة في استعداد تام لتلقي هاته العلوم والتصرف فيها والبناء عليها والزيادة فنفقت بسبب ذلك هذه العلوم وكان المأمون المساعد الأكبر في نفاقها والفضل له في ذلك مع حفظ الفضل لمَن سبقه كأبيه الرشيد وجده المنصور فإنهما وضعا الأساس اهـ. من محاضرات الخضري.
وفي خلاصة تاريخ العرب أن الصدر الأول من خلفاء بني العباس استعملوا شوكتهم في تزكية العقول وتنمية المعاش فأحدثوا كثيراً من المكاتب والمدارس التعليمية والإكمالات الإحسانية وحضُّوا على اكتساب التجارة وسائر الفنون واختص المنصور منهم بأنه أول مَن حثّ على الاشتغال بالعلوم واقتدى به من بعده في نشرها وتوسعتها بجلبهم من الأقاليم التي فتحوها علماء لترجمة أعظم كتب اليونان وإنشائهم كتبخانات ومدارس يتعلم فيها الخاص والعام العلوم الفلكية والرياضية والطبية والفلسفية مع تعلم القرآن العظيم وتدريس تفسيره وخصصوا مدرسة رتبوا لها خمسة عشر ألف دينار يتعلم بها مجاناً ستة آلاف تلميذ من الفقراء والأغنياء وانتشرت اللغة العربية في كثير من الجهات واعتاد المأمون ومَن اقتدى به حضور الدروس العامة التي يلقيها المدرسون ويمتحن مَن أراد أن يوظف عدة امتحانات وصرف مبالغ من النقود على ذلك وعلى جميع العلماء لحل مشكلات المسائل ومهر في زمنه كثير من العلماء في العلوم والفنون على اختلاف أنواعها واطلعوا شموس العلوم الرياضية وبنوا الأرصاد التي بها آلات عجيبة للاستكشاف الفلكي ومستشفيات
ومعامل كيماوية لاستكشاف النباتات ومكثت تلك المدرسة على رونقها الباهر نحو مائتي سنة فكان للعباسيين في ذلك أسعد حظ واستخرجوا معادن الحديد ونسجوا الأقمشة في كثير من المدن واستخرجوا الغاز والنفط وطينة الأواني الصينية والملح الأندراني والكبريت وتقدموا في فنون النقش والعمارة والجبر والموسيقى والمنطق وظهر بين أولئك العلماء مؤلفات كثيرة بارعة في فنون شتى وأظهر دور الفنون الميكانيكية تقدمات يشهد بها ما بعثه لرشيد إلى شرلمانية ملك الفرنسيين من الساعة الكبيرة الدقاقة التي تعجب منها أهل ديوانه ولم يمكنهم معرفة كيفية تركيبها ومع ذلك لم يكن في عصر العباسية أهم من صناعة الفلاحة ولما حصلت التوسعة في الممالك مع غزارة المحصول وتنوع الأقطار توجه النظر إلى رواج التجارة تتميماً للتمدن وامتثالاً لأمر الشارع بالتكسب فاجتهدوا في أمن الطرق وحفر الآبار والصهاريج في محطات القوافل فانتشرت التجارة فكانت غلات الأندلس والبربر ومصر والحبشة والفرس والروس والهند والصين وغير ذلك من الممالك تأتي إلى مكة والمدينة والشام والعراق ويستبدلون البضائع الموجودة في جهة بالبضائع المفقودة بها وكان بينهم بسبب ذلك علائق تعارف وكذلك اتسعت بالسواحل الشمالية من إفريقية دائرة التجارة وكان بها معامل كثيرة وكانت القوافل التجارية تسافر من طرابلس إلى الأقيانوس الإطلنطيقي غير خاشية من سيرها في وسط الصحراء الكبرى اهـ. وفيه قد حفظ العرب مؤلفات اليونان واستعدوا لتجديد المعارف في أوروبا فكانوا رباطة بين هذين الزمنين وبذا يثبت فضل العرب على الفرنج الذين حاول بعضهم خفض فضائل العرب الواضحة كالشمس في رابعة النهار ويعلم أن لا موقع لافتخار المتأخرين من أهل أوروبا بتصورات أكثرها للعرب وسبق لك ما كان لعلماء المدرسة البغدادية من التحكم النافذ بالمشرق والمغرب اهـ.
وزبدة القول إن الحضارة اتسعت في عصر هؤلاء الخلفاء وتمت العلوم الدينية والصناعية والاقتصادية نمواً باهراً فهو عصر النهضة العلمية وتزكية العقول فقد أسس أبو جعفر المنصور مدينة بغداد وتعاون علي بنايتها العقل العربي والفارسي والرومي وتأنق في ذلك بوجه جعلتها تفوق جميع مدن العالم في ذلك العصر وحشر لها العلماء من جميع الأمصار والتجار والصناع وإذا أطللت على منتهى المملكة الإِسلامية من جهة الغرب وجدت مدينة قرطبة تستعد إلى مساماة بغداد وتجد في إفريقية مدينة القيروان التي ورثت عظمة المدن الإفريقية الرومانية وانتقل إليها جمالها وتجد مدينة الفسطاط حاضرة مصر وقد جمع مسجدها الأعظم حلقات العلماء الذين أبقوا أكبر الآثار في الاجتهاد والاستنباط والذين أظهروا للناس كافة فقه الأئمة