الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إشغال العرب بالحرب وزجهم في مضمار الفتح ليأنسوا بأصول الاجتماع والحضارة وتتبدل أخلاقهم الجافية وتزول من نفوسهم أسباب التنافر والانتماء إلى العصبية الداعية إلى الشقاق والفرقة.
بسط المسلمون على عهده يد السلطة على الشرق واستفتحوا أغلاق الكنوز وملكوا ما ملكوا من البلاد ومع هذا فلم تأخذهم الدنيا بزخارفها ولم يغرهم الغنى والسلطان بالنعيم ولم يبطرهم المال ولم تخط بهم الحضارة إلا خطى قليلة إلى الأمام فكانوا وسطاً في المعيشة في كل الأمور لأن عمر رضي الله عنه يريدهم على البطء في السير في طريق الترقي ويحملهم على التوسط في العيش فلا يمنعهم منعاً ولا يدفعهم دفعاً اللهم إلا الأمراء والعمال فإنه كان يحملهم على طريقته في التقشف وشظف العيش. وبالجملة فإن الحالة الاجتماعية على عهد عمر رضي الله عنه على حداثة عهد أهلها في تسنم ذرى الارتقاء تمثلها سيرته في قالب الجد والاستقامة والعزيمة وتظهرها لديك في مظهر النهوض إلى ارتقاء قمم المجد التي انتهى إليها المسلمون فيما بعد بسيرهم سيراً حثيثاً مدة تزيد عن جيلين وقفوا بعدها وقفة المستريح من وعثاء السفر الشاق المتلذذ بجني ثمرات الجد والنشاط والعمل وهكذا حتى تغير الحال وانقلب الجد والنشاط إلى فتور وإهمال.
فضائل عثمان رضي الله عنه
هو الخليفة الثالث أمير المؤمنين سيدنا عثمان بن عفان القرشي الأموي. تقدم ذكر نسبه في صدر المقصد يكنى أبا عمرو وأبا عبد الله لم يختلف في صحة خلافته وكان من حديثها ما هو مسطر في كتب السنة وغيرها في البخاري في باب قصة البيعة والاتفاق على عثمان بن عفان عن عمرو بن ميمون ونص محل الحاجة منه قال: قال عمر رضي الله عنه لابنه عبد الله: انطلق إلى عائشة أم المؤمنين فقل: يقرأ عليك عمر السلام ولا تقل أمير المؤمنين فإني لست اليوم للمؤمنين أميراً وقيل: يستأذن عمر بن الخطاب أن يدفن مع صاحبيه فسلم واستأذن ثم دخل عليها فوجدها قاعدة تبكي فقال: يقرأ عليك عمر بن الخطاب السلام ويستأذن أن يدفن مع صاحبيه، فقالت: كنت أريده لنفسي ولأؤثرنه به اليوم على نفسي. فلما أقفل قيل:
هذا عبد الله بن عمر قد جاء، قال: ارفعوني، فأسنده رجل إليه فقال: ما لديك؟ فقال: الذي تحب يا أمير المؤمنين أذنت، قال: الحمد لله ما كان شيء أهم إلى من ذلك فإذا أنا قُبضت فاحملوني ثم سلم فقل: يستأذن عمر بن الخطاب فإن أذنت فأدخلوني وإن ردتني ردوني إلى مقابر المسلمين، وجاءت أم المؤمنين حفصة والنساء تسير معها فلما رأيناها قمنا فولجت عليه فبكت عنده ساعة واستأذن الرجل فولجت داخلاً لهم "أي مدخلاً كان في الدار" فسمعنا بكاءها من الداخل فقالوا: أوصِ يا أمير المؤمنين استخلف، قال: ما أجد أحق بهذا الأمر من هؤلاء النفر أو الرهط الذين توفي رسول الله وهو عنهم راض. فسمى علياً وعثمان والزبير وطلحة وسعداً وعبد الرحمن وقال: يشهدكم عبد الله بن عمر وليس له من الأمر شيء كهيئة التعزية له فإن أصابت الإمرة سعداً فهو ذلك وإلا فليستعن به أيكم ما أمر فإني لم أعزله عن عجز ولا خيانة. وقال: أوصى الخليفة من بعدي بالمهاجرين الأولين أن يعرف لهم حقهم ويحفظ لهم حرمتهم وأوصيه بالأنصار خيراً الذين تبوأوا الدار والإيمان من قبلهم أن يقبل من محسنهم وأن يعفو عن مسيئهم وأوصيه بأهل الأمصار خيراً فإنهم ردء الإِسلام وجباة المال وغيظ العدو وأن لا يأخذ منهم إلا فضلهم عن رضاهم وأوصيه بالأعراب خيراً فإنهم أصل العرب ومادة الإِسلام أن يأخذ من حواشي أموالهم وترد على فقرائهم وأوصيه بذمة الله وذمة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يوفي لهم بعهدهم وأن يقاتل من ورائهم ولا يكلفوا إلا طاقتهم. فلما قبض خرجنا به فانطلقنا نمشي فسلّم عبد الله بن عمر قال: يستأذن عمر بن الخطاب، قالت: أدخلوه، فوضع هناك مع صاحبيه فلما فرغ من دفنه اجتمع هؤلاء الرهط فقال عبد الرحمن: اجعلوا إلى ثلاثة منكم، فقال الزبير: جعلت أمري إلى علي، فقال طلحة: قد جعلت أمري إلى عثمان، وقال سعد: قد جعلت أمري إلى عبد الرحمن بن عوف فقال عبد الرحمن: أيكما تبرأ من هذا الأمر فنجعله إليه والله عليه -أي رقيب- وكذا الإِسلام لينظرن أفضلهم في نفسه فسكت الشيخان فقال عبد الرحمن: أتجعلونه إلى والله على أن لا آلو عن أفضلكم قالا نعم فأخذ بيد أحدهما فقال: لك قرابة من رسول الله صلى الله عليه وسلم والقدم في الإِسلام ما قد علمت بالله عليك لئن أمرتك لتعدلن ولئن أمرت عثمان لتسمعن ولتطيعن. ثم خلا بالآخر فقال له مثل ذلك. فلما أخذ الميثاق فقال: ارفع يدك يا عثمان فبايعه وبايع له عليّ وولج أهل الدار فبايعوه.
كان رضي الله عنه من السابقين للإسلام هاجر الهجرتين وصلى القبلتين يقال له ذو النورين لأنه تزوج ابنتي رسول الله صلى الله عليه وسلم رقية فلما ماتت زوّجه أم كلثوم فلما ماتت قال: لو كان عندي ثالثة لزوجتكها وهو أحد العشرين المبشَّرين بالجنة ومن أصحاب
النبي صلى الله عليه وسلم الذين توفي وهو عنهم راض وكان في قريش يوصون إليه ويعظمونه وكانت المرأة في العرب لترفع صبيها وهي تقول:
أحبك والرحمن
…
حب قريش عثمان
وكان عادلاً في بيت المال لا يأخذ لنفسه منه شيئاً لأنه كان غنياً وغناه مشهور في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وبعده كثير الإنفاق في نهاية الجود والسماحة والبذل في القريب والبعيد وكان من أكبر المساعدين للنبي صلى الله عليه وسلم بكثير من ماله عند شدة احتياج الإِسلام إليه ومآثره في ذلك مشهورة جهز في جيش العسرة ثلاثمائة بعير بأسلاحها وأقتابها وأنزل الله فيه {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (262)} [البقرة: 262] روى الحكم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: اشترى عثمان الجنة من النبي صلى الله عليه وسلم مرتين حين حفر بئر رومة وحين جهز جيش العسرة ولما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة لم يكن بها ماء مستعذب غير بئر رومة فقال صلى الله عليه وسلم: مَن يشتر بئر رومة يجعل دلوه مع دلاء المسلمين بخير له منها في الجنة؟ فاشتراها عثمان رضي الله عنه بخمسة وثلاثين ألف درهم وجعلها للمسلمين وكانت بقعة إلى جنب المسجد فقال النبي صلى الله عليه وسلم: مَن يشترها ويوسعها في المسجد فله مثلها في الجنة. فاشتراها عثمان رضي الله عنه بعد ذلك فوسعها في المسجد وقال صلى الله عليه وسلم: رحم الله عثمان تستحيه الملائكة وكان كثير العتق للرقاب وجملة ما أعتقه ألفان وأربعمائة وكان يطعم طعام الإمارة ويدخل بيته ويأكل الخل والزيت وينام في المسجد ورداؤه تحت رأسه ويخطب الناس وعليه رداء غليظ ثمنه أربعة دراهم أو خمسة يصوم النهار ويقوم الليل ويختم القرآن في ليلة. كان ذا عقل رصين وشرف أثيل وعلم غزير ولم ينقل عنه الكثير منها لاشتغاله بغير ذلك شديد الحياء والحلم مائلاً إلى السلم زاهداً في الدنيا فقد صحّ عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "رحمك الله يا عثمان ما أصبت من الدنيا ولا أصابت منك".
ومن أعظم آثاره جمعه الناس على مصحف واحد بعد أن تعددت القراءات واختلف فيها أهل الأمصار. وفضله في ذلك كفضل أبي بكر رضي الله عنه في جمع القرآن وقد مرّ بيان ذلك في مقدمة هذا المؤلف وكثرت الفتوحات في مدته فقد فتح إفريقية وسواحل الأردن وسواحل الروم وإصطخر وطبرستان وسجستان والقوقاز وغير
ذلك من الأقطار والأمصار وكثرت أموال الصحابة في خلافته حتى بيعت جارية بوزنها وفرس بمائة ألف ونخلة بألف. قال الحسن البصري: كانت الأرزاق في زمن عثمان وافرة وكان الخير كثيراً وظهر الرفه الكثير في الأمة بما لم ير مثله، لم يحضر بدراً بإذن من النبي صلى الله عليه وسلم ولا بيعة الرضوان وذلك لما أرسله رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهل مكة رسولاً ليخلوا بينه وبين العمرة وجاءه الخبر الكاذب بأن عثمان قتل فجمع أصحابه فدعاهم إلى البيعة فبايعوه على قتال أهل مكة يومئذ ثم جاءه الخبر بأن عثمان لم يقتل وهذا يدل على مكانته عنده وحبه له. أخرج الترمذي عن أنس قال: لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ببيعة الرضوان كان عثمان بن عفان رسولَ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهل مكة فبايع الناس. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن عثمان في حاجة الله وحاجة رسوله" فضرب بإحدى يديه على الأخرى فكانت يد رسول الله صلى الله عليه وسلم خيراً من أيديهم لأنفسهم.
إلا أنه رضي الله عنه كبر سنه وضعف جسمه وكان له ثقة في قرابته بني أمية فتغلبوا على أمره وتولوا أعظم الولايات وانتفعوا وراء ذلك بسعة العيش ووجاهة في الدولة حسدها عليهم غيرهم، فوجدت الجمعيات السرية التي كانت تكيد الإسلام بالطعن فيه مع استغنائه ببني أمية عن مشاورة أكابر المهاجرين والأنصار ونقم الطاعنون عليه أشياء بعضها لها مخرج وبعضها مكذوب عليه ذكرها الأبي في شرح مسلم؛ ولجماعة من العلماء كلام طويل الذيل في الاعتذار عن عثمان منهم حافظ الحجاز المحب الطبري في كتباه الرياض النضرة في فضائل العشرة ومنهم محمد بن يحيى الأشعري المعروف بابن بكر في كتابه التمهيد والبيان في مقتل عثمان استوفى فيه الكلام على ما نسب لعثمان من الأحداث وبين كل ما يمكن الاعتذار عنه من تلك الأحداث التي تسبب عنها حصره في داره وطلبوا منه التخلي عن الخلافة فامتنع واستشهد رضي الله عنه لثمان عشرة خلت من ذي الحجة سنة خمس وثلاثين وكانت خلافته ثنتي عشر سنة إلا اثني عشر يوماً وكان عمره اثنين وثمانين على أحد الأقوال. أخرج الترمذي عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم فتنة يقتل فيها هذا مظلوماً لعثمان رضي الله عنه. وأخرج أيضاً: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال