الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عند حد الإنسانية والخارجي هو الوازع وفي مطاوعتها للوازع مطاوعة للشرع وخضوع للقانون وليس في كلا القيدين معنى العبودية أو منع للحرية وإنما هو إمساك النفس عن الاندفاع في تيار الهوى الذي يلحق الإنسان بالبهائم فهاته الفضيلة وسط وطرفاها رذيلة إفراط وتفريط وكلاهما رجوع للبهيمية فالحرية بالقيد المذكور فضيلة معناها تخلص الإنسان من الأسر وتخلصه من ضيق الحجر وجواز تصرفه في كل حق من حقوق الإنسانية التي سوّغها العقل وقفت بها أصول الاجتماع والتعاون بحيث يكون الإنسان مالكاً لإرادته لا بهيمة تتحرك بإرادة سواه مالكاً لثمرة عمله لا حق لآخر بحرمانه منها مالكاً لا منه لا لسلطان آخر يسلب منه ذلك، ومتى فقد الشخص واحدة من هذه الثلاث سلب منه معنى الحرية وصار كالحيوان يتعب ليأكل سواه ويشقى ليسعد غيره ويسعى ليموت هو ويحيى مَن عداه.
البشارة بالسعادة والنذارة بالشقاوة
والبشارة المطلقة لا تكون إلا بخير والإنذار الإبلاغ ولا يكون إلا في التخويف. إذا علمت ذلك فاعلم أن الشريعة جاءت بها الرسل لتدعو الناس إلى السعادة والنجاة من الشقاوة، قال تعالى:{وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ} [الأنعام: 48]، فالسعادة تكون بالإقرار لله تعالى بالوحدانية ولمحمد بالرسالة والاتباع لما جاء به وسنة من فعل المأمورات واستجلاب الفضائل واجتناب الرذائل وجمع الكلمة وبسط العدل ورفع مقام العلم واستعمال غاية الجهد في اتخاذ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. قال عزّ كماله:{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران: 110]، وقال:({إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90)} [النحل: 90] ما من شيء يحتاج إليه الناس في أمر دينهم مما يجب أن يترك أو يؤتى إلا وقد اشتملت عليه هذه الآية. في روح المعاني أن الآية كما أخرج البخاري في الأدب والبيهقي في شعب الإيمان والحاكم وصححه عن ابن مسعود: أجمعُ آية للخير والشر. وأخرج أبو نعيم عن عبد الملك بن عمير قال: بلغ أكثم بن صيفي مخرج النبي صلى الله عليه وسلم فأراد أن يأتيه فأتى قومه فانتدب رجلين فأتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالا: نحن رسل أكثم يسألك مَن أنت وما جئت به؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أنا محمَّد بن عبد الله عبد الله ورسوله" ثم تلا عليهم هذه الآية. قالوا: ردِّد علينا هذا القول، فردّد عليه الصلاة والسلام حتى حفظوه فأتيا أكثم فأخبراه، فلما سمع الآية قال: إني لأراه يأمر بمكارم الأخلاق وينهي عن مذامها فكونوا في
هذا الأمر رأسآ ولا تكونوا فيه أذناباً. وروي عن ابن عباس أن هذه الآية كانت سبب استقرار الإيمان في قلب عثمان بن مظعون بعد أن أسلم محبة في النبي صلى الله عليه وسلم ولجمعها ما جمعت أقامها عمر بن عبد العزيز حين آلت الخلافة إليه مقام ما كان بنو أمية يجعلونه في أواخر خطبهم من سب علي كرّم الله وجهه وكان ذلك من أعظم مآثره رضي الله عنه. وقال غير واحد: لو لم يكن في القرآن غير هذه الآية الكريمة لكفت في كونه تبياناً لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين. ولعل إيرادها عقب قوله تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا} [النحل: 89] للتنبيه عليه. انتهى باختصار.
أما الشقاوة فإنها تكون باجتناب المأمورات وارتكاب الرذائل والمحرمات واتباع البدع والشهوات وإيثار اللذات كالفجور وقول الزور وشرب الخمور وحب الظهور والدخول تحت معاصي الله ومساخطه جهلاً باستدراج الله وأمناً لمكره. قال جلّ ذكره: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (112)} [النحل: 112]، وقال:{وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال: 25] في روح المعاني: المراد بالفتنة الذنب. وفسر بنحو إقرار المنكر والمداهنة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وافتراق الكلمة وظهور البدع. وفيه عند قوله عز من قائل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} [يونس: 23] أخرج أبو الشيخ وأبو نعيم والخطيب والديلمي وغيرهم عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله: "ثلاث هن رواجع: المكر والنكث والبغي" ثم تلا عليه الصلاة والسلام: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} {وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} [فاطر: 43]{فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ} [الفتح: 10] وأخرج ابن مندويه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو بغى جبل على جبل لدك الباغي" والبغي هو الظلم الظاهر الذي لا يخفى قبحه على أحد. وفي ذلك من الزجر ما لا يخفى اهـ.
لا يأمن الدهرَ ذو بغي ولو ملكا
…
جنوده ضاق عنها السهل والجبل
فصدور مثل تلك المخالفات سالبة للنعم جالبة للنقم وإثارة الفتن والمصائب والإحن وفقد الراحة والهوان وقلة العمران وخراب الديار والمنازل والفناء في الشعوب والقبائل. قال تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ (117)} والخلاصة أن السعادة والشقاوة مقترنتان بالعمل الفاسد والصالح وتترتب عليهما في الدنيا ما قد علم وفي الآخرة الجنة وجهنم.