الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فريدة
في الاعتصام أن الله بعث إلينا محمداً صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين حسبما أخبر في كتابه، وقد كنا قبل طلوع ذلك النور الأعظم لا نهتدي سبيلاً ولا نعرف من مصالحنا الدنياوية إلا قليلاً على غير كمال ولا من مصالحنا الأخروية كثيراً ولا قليلاً، بل كان كل أحد يركب هواه وإن كان فيه ما فيه ويطرح هوى غيره فلا يلتفت إليه فلا يزال الاختلاف بينهم والفساد فيهم يخص ويعم حتى بعث الله نبيه صلى الله عليه وسلم لزوال الريب والالتباس وارتفاع الخلاف بين الناس كما قال تعالى:{كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ} إلى قوله: {فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ} [البقرة: 213] وقوله: {وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا} [يونس: 19] ولم يكن حاكم بينهم فيما اختلفوا فيه إلا وقد جاءهم بما ينظم به شملهم وتجتمع به كلمتهم وذلك راجع إلى الجهة التي من أجلها اختلفوا وهو مما يعود عليهم بالصلاح في العاجل والآجل ويدرأ عنهم الفساد على الإطلاق فاحتفظت الأديان والدماء والعقول والإنساب والأموال من طريق يعرف مأخذها العلماء وذلك القرآن العظيم بل المنزل على النبي صلى الله عليه وسلم قولاً وعملاً وإقراراً، ولم يردوا إلى تدبير أنفسهم للعلم بأنهم لا يستطيعون ذلك ولا يستقلون بدرك مصالحهم ولا تدبير أنفسهم، فإذا ترك المبتدع هذه المهمات العظيمة والعطايا الجزيلة وأخذ في استصلاح نفسه ودنياه بما لم يجعل الشرع عليه دليلاً فكيف له بالعصمة والدخول تحت هذه الرحمة وقد حلّ يده من حبل العصمة إلى تدبير نفسه فهو حقيق بالبعد عن الرحمة. قال تعالى:{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103] بعد قوله: {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} [آل عمران: 102] فاشعر أن الاعتصام بحبل الله هو تقوى الله حقاً وأن ما سوى ذلك تفرقة لقوله: {وَلَا تَفَرَّقُوا} والفرقة من أحسن أوصاف المبتدعة لأنه خرج عن حكم الله وباين جماعة الإِسلام. روى عبد الله بن حميد عن عبد الله: أن حبل الله الجماعة. وعن قتادة: حبل الله المتين هو القرآن وسننه وعهده إلى عباده الذي أمر أن يعتصم بما فيه من الخير والثقة وأن يتمسكوا به ويعتصموا بحبله ومن ذلك قوله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ} [الحج: 78] اهـ. وفيه لولا أن منَ الله على الخلق ببعثة الأنبياء لم تستقم لهم حياة ولا جرت أحوالهم على كمال مصالحهم وهذا معلوم بالنظر في أخبار الأولين والآخرين. وفيه أيضاً الشريعة موضوعة لإخراج المكلف عن داعية هواه حتى يكون عبداً لله، وهي حجة على الخلق كبيرهم وصغيرهم مطيعهم وعاصيهم برهم وفاجرهم بل إن المرسلين بها صلوات الله عليهم
داخلون تحت أحكامها، فأنت ترى أن نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم مخاطب بها في جميع أحواله وتقلباته مما اختص به دون أمته أو كان عاماً له ولأمته كقوله تعالى:{إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ} إلى قوله: {خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب: 50] إلى سائر التكاليف التي وردت على كل مكلف والنبي فيهم فالشريعة هي الحاكمة على الإطلاق والعموم عليه وعلى جميع المرسلين وهي الطريق الموصل والهادي الأعظم. ألا ترى إلى قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} [الشورى: 52] فهو عليه الصلاة والسلام أول من هداه الله بالكتاب والإيمان ثم من اتبعه فيه والكتاب هو الهادي والوحي المنزل عليه مرشد ومبين لذلك الهدى والخلق مهتدون بالجميع. ولما استنار قلبه وجوارحه عليه السلام وظاهره وباطنه بنور الحق علماً وعملاً صار هو الهادي الأول لهذه الأمة والمرشد الأعظم حيث خصه الله دون الخلق بإنزال ذلك النور عليه واصطفاه من جملة مَن كان مثله في الخلقة البشرية اصطفاءً أولياً لا من جهة كونه بشراً عاقلاً مثلاً لاشتراكه مع غيره في هذه الأوصاف ولا لكونه من قريش مثلاً دون غيرهم وإلا لزم ذلك في كل قريش، ولا لكونه من بني عبد المطلب ولا لكونه عربياً ولا لغير ذلك بل من جهة اختصاصه بالوحي الذي استنار به قلبه وجوارحه فصار خلقه القرآن حتى نزل فيه:{وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)} [القلم: 4] وإنما كان خلقه القرآن لأنه حكم الوحي على نفسه حتي صار في علمه وعمله على وفقه فكان للوحي موافقاً قائلاً مذعناً ملبياً نداءه واقفاً عند حكمه، وهذه الخاصة كانت من أعظم الأدلة على صدقه فيما جاء به إذ قد جاء بالأمر وهو مؤتمر وبالنهي وهو منته وبالوعظ وهو متعظ وبالتخويف وهو أول الخائفين وبالترجية وهو سائق دابة الراجين، وحقيقة ذلك كله جعله الشريعة المنزلة عليه حجة حاكمة عليه ودلالة له على الصراط المستقيم الذي سار عليه صلى الله عليه وسلم ولذا صار عبداً لله حقاً وهو أشرف اسم تسمى به العباد. قال تعالى:{سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [الإسراء: 1]{تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ} [الفرقان:1]{وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} [البقرة: 23] وما أشبه ذلك من الآيات التي وقع مدحه فيها بصفة العبودية، وإذا كان ذلك فسائر الخلق حريون بأن تكون الشريعة حاكمة عليهم ومناراً يهتدون بها إلى الحق وشرفهم إنما يثبت بحسب ما اتصفوا به من الدخول تحت أحكامها والعمل بها قولًا واعتقاداً وعملاً لا بحسب عقولهم فقط ولا بحسب شرفهم في قومهم فقط لأن الله تعالى إنما أثبت الشرف بالتقوى لا غير لقوله:{إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13] فمَن كان أشد محافظة على اتباع الشريعة فهو أولى