الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وإلا رجعنا إلى ما كنا عليه. ثم اجتمع عمرو بالمقوقس وكتبوا الصلح بأن يعطوا الأمان للمصريين وهم يدفعون الجزية. ولما استتب لعمرو الأمر بمصر صار إلى برقة وتسمى قديماً أنطابلس وهي واقعة بين مصر وطرابلس الغرب ومن فرضها الشهيرة بنغازي فصالحه أهلها على الجزية وصار إلى طرابلس الغرب ففتحها وكتب إلى الخليفة عمر رضي الله عنه: أما بعد، إنا قد بلغنا طرابلس وبينها وبين إفريقية تسعة أيام فإن رأى أمير المؤمنين أن يأذن لنا في غزوها فعل. فنهاه عمر وولى على برقة عقبة بن نافع الفهري. هاته خلاصة أخبار هذا الفتح في خلافة عمر رضي الله عنه.
تنبيه:
اعلم أن العرب أمة حربية قل أن يماثلها في ذلك العصر شعب من الشعوب في الشجاعة والإقدام والتعود على أساليب القتال لدأب أفرادها منذ نعومة الأظفار على الفروسية وتعلم فنون الحرب وائتلافهم للقتال وحبهم للغارة التي تقتضيها حالهم الاجتماعية وعوائدهم البدوية إلا أنه كانت تنقصهم الجامعة والعدة أي آلات الحرب فكانوا مع كونهم أمة واحدة من جنس واحد قبائل متفرقة الأهواء والمنازع يقاتل بعضهم بعضاً ويثب بعضهم على بعض ولم يكن عندهم من آلات الحرب والقتال وأنواع السلاح إلا الرمح والسيف والدرع والسهم ولم يكن لعامتهم حظ بالجيد من أنواع هذا السلاح لفقرهم وربما كان أجودهم سلاحاً أهل اليمن لخصب أرضهم وتقدم بلادهم في الحضارة وعراقتهم في الملك من عصور التبابعة ولذلك كان الفرس في واقعة القادسية يشبهون سهام العرب بالمغازل لدقتها وسذاجة صنعها، ولما جاء الإسلام جمع هذه الأمة على كلمته وضم قبائلها إلى رايته فلم يلبثوا أن دبّ فيهم روح الاجتماع وشعروا بالحاجة إلى الطاعة والانقياد والتكاتف والاتحاد وكان من ذلك أن خضدوا شوكة الدولتين فارس والروم لما دفعهم أبو بكر وعمر إلى قتال الأمم وفتح الممالك وأظهروا في قتال جنود الدولتين من التفنن في أساليب الحرب والتعود على الطعن والضرب ما رأيت فيما تقدم مما جعل النصر حليفهم والقوة رائدهم في كل مكان.
فمن ذلك أنهم كانوا لا يقتحمون جنداً ولا يمعنون في داخل البلاد ما لم يجعلوا وراءهم ردءاً أي مدداً يحمي ظهورهم ويؤمن طريق الرجعة ولا يمكن العدو من أن يقطع على موادهم.
ومنها أنهم كانوا لا يحاصرون مدينة ما لم يقطعوا عنها طرق المواصلة مع جيش العدو.
ومنها أنهم كانوا يبدأون العدو بالقتال في أطراف بلاده التي تلي البادية حتى إذا أصابتهم هزيمة تكون جزيرة العرب من ورائهم فلا يسع جيش العدو تتبع أثرهم واقتحام صحارى بلادهم.
ومنها براعتهم في إقامة خطوط الدفاع على طول البلاد إذا أراد مهاجمتها العدو.
ومنها اليقظة الدائمة لحركات العدو والاستعداد لصد غاراته.
ومنها توهينهم قوة العدو بإشغال جيوشه بالحرب عن أن يمد بعضها بعضاً عند
الحاجة.
هذا وأشباهه من مكائد الحرب التي مرّ ذكرها في غضون أخبار الفتح كما تدل على براعة القواد المسلمين يومئذ، وتفوقهم في أساليب الحرب وأصول القيادة على قواد جيوش الروم والفرس لا سيما الخليفة عمر رضي الله عنه الذي كان مع بعده عن مواقف القتال يصدر أوامره إلى القواد في الأعمال الحربية وكيفية الهجوم والدفاع على وجه يدل على أنه من أعاظم قواد الجيوش في العالم، هذا فضلاً عما كان يوصي به القواد من الرفق وحسن المعاملة مع المغلوبين وعدم التسلط بالإيذاء عليهم وبدوام اليقظة والسهر والرفق بجيوش المسلمين وعدم إلقائهم في المهالك والترتيب في الحرب والتبصر في أمور القتال إلى غير ذلك.
وأما تعبية العرب للجيوش في إبان الفتح الذي مر ذكره في هذا الكتاب فقد بلغ الغاية في الترتيب وحسن النظام والانتظام، ولنذكر لك كيفية تعبيتهم للجيوش في وقائعهم الشهيرة وهي وقعة اليرموك ووقعة القادسية ومنهما تظهر لك مرتبتهم في فنون الحرب ومكانهم من البصيرة في تعبئة الجيوش التي تشبهها من كل الوجوه تعبئة الجيوش في هذا العصر كالطلائع والمجردات (الكشاف) والميمنة والميسرة (الجناحين) والقلب والساقة والردء والمدد والرجل (المشاة) والركبان (الفرسان) وكان الغالب على العرب قبل الإسلام حب المبارزة والمهاجمة عند الالتقاء مع العدو وصاروا في الإسلام يفضلون الزحف صفوفاً (كراديس) لقوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ (4)} وكان الأمراء والقواد يتفاوتون في المراتب فمنهم الأمير العام (المشير الآن) ويليه خليفته (الفريق الآن) ويليهما أمراء التعبئة كأمير الميمنة والميسرة والقلب وغيره (وهم الألوية الآن) ويليهم خلفاؤهم (الأمير الآيات الآن) ويليهم أمراء الكراديس (الصفوف) ويليهم العرفاء وأمراء الأعشار (الجاويش والنقباء) ولعلهم رؤساء المائة. وفضلاً عن هذا
فقد كان يكون مع الجيش الرائد يرتاد المواضع الموافقة لنزول الجيش والقاضي وأمير الأقباض الذي ينتهي إليه حفظ الغنائم وقسمة الفيء والترجمان والكاتب والأطباء لمداواة الجرحى.
روى الطبري في تاريخه أن خالد بن الوليد عبى جيش المسلمين يوم اليرموك تعبئة لم تعب العرب مثلها فجعل القلب كراديس وأقام فيه أبا عبيدة وجحل الميمنة كراديس وجعل عليها عمرو بن العاص وفيها شرحبيل ابن حسنة وجعل الميسرة كراديس وجعل عليها يزيد بن أبي سفيان وجعل على كل كردوس من هذه الكراديس قائداً فجعل القعقاع عمرو على كردوس من كراديس أهل العراق ومذعوراً بن عدي على كردوس وجعل غير هذين بضعة وثلاثين قائداً كل قائد على كردوس منهم عياض بن غنم القرشي وحبيب بن مسلمة القرشي وسهيل بن عمرو القرشي وعكرمة بن أبي جهل القرشي في عدة مثلهم من قريش، وأما من كان من غير قريش فمنهم ذو الكلاع الحميري والسمط بن الأسود الكندي وضرار بن الأزور الأسدي وأضرابهم من صناديد العرب وكان القاضي أبو الدرداء وابن مسعود على الاقباض وكان أبو سفيان يسير فيقف على الكراديس ويحرض المسلمين على القتال. هكذا كانت تعبئة جيش اليرموك.
وأما القادسية فكانت أحسن من ذلك وأرقى نظاماً وترتيباً فقد ذكر الطبري أن سعد بن أبي وقاص قدر الناس وعبأهم كما أمره عمر رضي الله عنه فأمّر أمراء الأجناد وعرّف العرفاء على كل عشرة رجلاً كما كانت العرافات أزمان النبي صلى الله عليه وسلم. قال الطبري: وكذلك كانت إلى أن فرض العطاء وأمر على الرايات رجالاً من أهل السابقة وعشر الناس وأمر على الأعشار رجالاً من الناس لهم وسائل في الإِسلام وولى الحرب رجالاً فولى على مقدماتها ومجنباتها وساقتها ومجرداتها وطلائعها ورجلها وركبانها فلم يفصل (أي من شراف) إلا بتعبئة فأما أمراء التعبئة فاستعمل زهرة بن عبد الله بن قتادة الحوية من ملوك هجر فقدمه ففصل بالمقدمات من شراف حتى انتهى إلى العذيب واستعمل على الميمنة عبد الله بن المعتم واستعمل على الميسرة شرحبيل بن السمط الكندي وكان غلاماً شاباً وكان قاتل أهل الردة فعرف ذلك له وجعل خليفته خالد بن عُرْفُطة وجعل عاصم بن عامر التميمي على الساقة وسواد بن مالك التميمي على الطلائع وسلمان بن ربيعة الباهلي على المجردة وعلى الرجل حمال بن مالك الأسدي وعلى الركبان عبد الله بن ذي السهمين الخثعمي فكان أمراء التعبئة يلون الأمير - أي بعده في المرتبة - والذين يلون أمراء التعبئة أمراء الأعشار والذين يلون أمراء الأعشار أصحاب الرايات والذين يلون أصحاب الرايات