الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحرب. سعدت المملكة وأهلها به وامتلأت أيديهم بالمكاسب فأثاروا الأرض وعمروها وأغرى عن العمل ما قوي به الأمل ووقع التنافس في الصنائع وغيرها مما هو محمود والناس على دين ملوكهم، وفي أيامه كان سوق العلم نافقاً والعلماء الفحول كثيرون منهم الشيخ محمد زيتونة المذكور كان يبعث إليه ويستشيره فكان إذا أتاه يخرج إليه لتلقيه خارج البيت ويأخذ بيده ويقوده ويجلس حذوه ولا يحضر معهما ثالث في الغالب، ومن مآثره الجليلة إحياء مدينة القيروان ومساجدها وزواياها وبناء مدرسة النخلة والمدرسة الحسينية وجامعه الشهير، وأول صلاة أقيمت به ظهر يوم الأحد رابع عشر شوال سنة 1129هـ وأنشأ مدارس بصفاقس ونفطة والقيروان وفسقية الملاسين وغير ذلك مما هو كثير وقد ذكرت ترجمته مفردة ومضافة وأتى على أكثرها أبو عبد الله محمد سعادة في كتابه المسمى بقرة العين في فضائل الأمير حسين والمؤرخ الشيخ حسين خوجة المتوفى سنة 1169هـ في تاريخه بشائر أهل الإيمان والشيخ عبد الرحمن الجامعي في الدرر المديحية في الدولة الحسينية والوزير حمودة بن عبد العزيز في باشيه قال فيه: قد ألمّ أبو عبد الله محمد الوزير السراج في حلله السندسية بأخبار المولى حسين بن علي باي بلغ فيه إلى سنة 1144هـ غير أن الجزء الرابع أحرقه علي باشا لما اشتمل عليه من أن القصد منه في قيامه على عمه بجبل وسلات فلا يوجد منه عين ولا أثر. انتهى.
وفي الاستطلاعات البريزية اتفق لي أني تذاكرت مع أحد علماء باريز في التواريخ العربية المختصة بالمملكة التونسية ومنها تاريخ الوزير السراج وأنه لا توجد منه نسخة كاملة عندنا لوقوع إحراق الجزء الأخير ولما ذكرت له ذلك أطلعني على ديوان كتب مكتبة المونيك في البافرة من ألمانية فإذا به نسخة تامة مؤلفة من أربع مجلدات.
تنبيه:
من أعيان العلماء المعاصرين لهؤلاء الأمراء سعيد الشريف ومحمد قويسم ومحمد الغماد ومحمد فتاتة وعلي النوري وعبد العزيز الفوراتي وإبراهيم الجمني ومحمد زيتونة والوزير السراج ومحمد الخضراوي.
الطبقة الرابعة والعشرون
لما بلغ أهل الحاضرة انهزام الأمير الباشا حسين في الواقعة التي قدمنا ذكرها بايعوا ابن أخيه الأمير الباشا علي باي في صفر سنة 1148هـ ولما استقل بالأمر أرهف الحد وحكم السيف في شيعة عمه واشتدت سطوته وعظم سلطانه وصادر
الأمة بالمال الكثير وعرضت في مدته محاربات فاز فيها بالظفر ووقعت بينه وبين دولة فرنسا وحشة آلت إلى صلح، وفي سنة 1159هـ قدم الإخوة أبناء الأمير حسين من الجزائر ومعهم محلة أميرها باي قسنطينة إلى الكاف وامتدت أعناق الآمال إلى الإسعاف ووافتهم نجوع العرب بالمدد وبالرجال والعدد لولا ما غدر به أمير المحلة فردها بدون كبير قتال وغره في ذلك ما وصله من المال وتفرقت جموع الحاشدين وأسفوا من شماتة الحاسدين ومات من شدة الأسف أحد أبناء الأمير محمود وكان بطلاً مقداماً شهماً هماماً ثم تفرقت كلمة أبناء علي باشا بسبب الحسد وأدت هاته التفرقة إلى حصول وحشة بين الأمير يونس ووالده وبسبب ذلك باشر لسعي بنفسه بمعاضدة ابنه سليمان ويونس نبذ بالعراء ثم قام على أبيه وانقسم الناس إلى قسمين قسم مع الباشا وقسم مع ابنه يونس وقامت الحرب على ساق داخل الحاضرة وصوبت المدافع على الدور والمساجد والجوامع ونال الناس الرعب من كور المدافع وأصابت قنبلة سارية من سواري جامع الزيتونة وعظم الخطب وآل الأمر إلى انخذال يونس وفراره إلى قسنطينة ثم إن ثالث الإخوة محمد فوق سهمه لأخيه سليمان لما خشي من وراثته الملك بعد أبيه لما يرى لأبيه من إيثاره عليه لما فيه من الأهلية فعاجله بالإطعام فمرض أسبوعاً وفاضت نفسه على حين لم يكن والده متوقعاً ذلك فتوفي مسموماً سنة 1168هـ وأعلم أبوه بصنيعه بأخيه وتحقق أن الله أذاقه بأس ولده محمد لإعدامه لعضدي نصرته يونس بالفرار وسليمان بالممات وكان ذلك من مبادئ انتقام الله منه والله عزيز ذو انتقام ولازمه الأسف. وهذا الباشا كان مع سفكه للدماء وامتهانه للخاصة وإضراره للمملكة بمظالمه معدوداً من العلماء وله شرح مهم على تسهيل ابن مالك ويقال إن شيخه أبا عبد الله الخضراوي كانت له يد في تأليفه وقرظه علماء عصره منهم أبو الحسن علي البارع بقوله:
لله شرح للأمير موضح
…
لم يتصف بصعوبة التلويح
سهل التناول بالخفاء مصرح
…
قد فاق في التسهيل والتصريح
فإذا افتقرت إلى كتاب موضح
…
فكتابه المغني عن التصريح
وله ولوع بجمع الكتب واكتسابها وله مآثر جليلة منها تربته التي بالقشاشين ومدرسته الباشية والسليمانية نسبة لولده سليمان وقدم لمشيختها الشيخ محمد الغرياني وهاته الأبنية حول الجامع الأعظم ومدرسة بير الأحجار ومدرسة حوانيت عاشور وقدم لمشيختها الشيخ عبد الله السوسي وأوقف على جميع ذلك أوقافاً وجعل جرايات للشيوخ والتلامذة إعانة على طلب العلم الشريف واعتنى بتحصين البلاد
وجهز الثغور وأجرى السقايات العظيمة النفع وهدم الحانات ومنع بيع العنب لمن يعصره خمراً وبنى مباني ضخمة بباردو ولما امتلأ مكياله ولاقى من عقوق بنيه ما صنعه لعمه جزاء وفاقاً وقيدته هموم فقد ولديه وصارت النفوس شعاعاً من تصرفات ابنه محمد باي حنوا إلى بني ملكهم حنين الغريب إلى الوطن وكاتبهم الكثير من أهل الحل والعقد يحثونهم على القدوم للقيام بشأنهم فقدموا ومعهم محلة من الجزائر بما انضم إليهم من العشائر حتى نزلوا قبلي الحاضرة ولج الباشا وابنه محمد في القتال حتى انهزما معاً وقتل محمد قرب الملاسين وأسر الباشا ثم قتل بعد أيام في ذي الحجة سنة 1169هـ وقد استكمل استقصاء خبره وخبر عمه وأبناء عمه المؤرخ الشيخ محمد بن يوسف الحنفي الباجي في تاريخه المسمى المشرع المكي بدولة أبناء علي تركي ودفن بتربته ورثاه كاتبه الشاعر المفلق محمد الورغي بقوله:
مضت دولة الباشا علي كانه
…
من الدهر يوماً في البرية ما عاشا
أتته المنايا وهو في عظم قوة
…
وجيش كثيف مثله قط ما جاشا
فصار دفيناً بعد ما كان دافناً
…
فقلت وقد أرخته دفن الباشا
وبأثر ذلك دخل الحاضرة الأمير الباشا محمد بن حسين باي وأخوه علي في يوم مشهود خفقت فيه الرايات والبنود في ذي الحجة سنة 1169هـ فهرعت الخاصة والعامة إلى بيعتهما واطمأنت الأنفس وقرت العيون بعود الدر إلى معدنه وجلس محمد على كرسي المملكة فزانه بعدله وإحسانه وكان من سمحاء الملوك وصدور الأدباء وفحول الشعراء له ديوان شعر بديع وقصائد نبوية وتوسلية تدل على حسن وثوقه بالله وأوليائه أما قصيدتاه الميمية والقافية فهما غاية في الإبداع وقد سمى أولاهما محركات السواكن إلى أشرف الأماكن ومطلعها:
هل زورة تشفي فؤاد متيم
…
يا أهل مكة والحطيم وزمزم
وشرحها قاضي محلته وأستاذه الشيخ محمد بن محمد الشافعي الشريف بجزأين ضخمين التزم في شرح كل بيت منها خمس فنون اللغة والنحو والمعاني والبيان والبديع فهو شرح مشحون علماً وأدباً وأما القصيدة القافية فشرحها الشيخ صالح الكواش وقيل ابنه محمد الكواش وكانت أيامه على قصرها مواسم بواسم وتوفي في جمادى الثانية سنة 1172هـ ورثاه الشيخ محمد الورغي المذكور بقصيدة مطلعها:
هذا ضريح للإمام الأمجد
…
فخر الملوك السيد ابن السيد
وآخرها:
بشرى له إذ جاء في تاريخه
…
يا حسن حور زينت لمحمد
وأطال الثناء عليه الوزير حمودة بن عبد العزيز في باشية بما هو أهله وبعد انتقاله للدار الآخرة اجتمع أهل الحل والعقد على بيعة أخيه الأمير الباشا علي ولما تمت له أقر رجال دولة أخيه على مناصبهم وقرر الأمور على ما كانت عليه واستعمل من الرفق والحنان ما جلب به جمع القلوب واصطفى بمجلسه العلماء ودخل في زمرتهم ما يوسعهم براً وإكراماً مؤدياً لحقوق احترامهم الواجب مع ما له من الذكاء والمشاركة في العلوم وحب المحاورة وملازمة صحيح البخاري بنفسه وحصل على إجازات عامة من الشيخ عبد الحفيظ تلميذ الشيخ أحمد بن نصر وغيره وبالجملة فإنه كان ملكاً شجاعاً عاقلاً ذا صيانة وعفاف ونجدة وحلم وكرم أقام في دولته سوق العلم والأدب فكثرت فيه الشعراء وتنافسوا في مدائحه بدواوين من الشعر وأولاهم من الجوائز والصلات ما هو كثير أفرد له وزيره أبو محمد حمودة بن عبد العزيز تأليفه الباشي في مجلد ضخم جمع فيه مفاخر مملكته ودولته واستوفى من خصاله الحميدة وقصائد مديحه ما لم يخطه غيره من المؤرخين وفي سنة 1173هـ ثار عليه إسماعيل ابن الأمير يونس وتحصن بجمال شيعتهم من قبل وكانت له حروب معه شاقة بجمال ووسلات وآل الأمر إلى فراره وانحلال عرى عصابة أهل وسلات وبعدما دانوا له بالطاعة فرقهم على قرى إفريقية وأصبح جبلهم خاوياً على عروشه من يومئذ إلى هذا العهد وأما إسماعيل المذكور فإنه فر إلى الجزائر وتوفي هناك سنة 1184هـ ووقع بينه وبين دولة فرنسا حرب ثم وقع صلح بينهما، من مآثره الأثيرة الخالدة مدرسته الشهيرة وتربته حذوها وهي مدفن آل هذا البيت إلى هذا العهد ومنها تكيتان مشهورتان للفقراء والمساكين وبناء المحكمة الشرعية والمياه العذبة التي أجراها للحاضرة وبناء سور القيروان ونظم مكتبة بالكتب أنيقة بمسجد دار الباشا حصل بها النفع وغير ذلك ومن مآثره بالمنستير الإصلاحات بالجامع الأعظم وتأسيس الجامع الحنفي وبناء سور الربط لجوفي وبناء مقام الإمام المازري بعد نقله من مدفنه الأول وإقامة مدرس به وبناء مقام أبي علي يونس بن السماط بعد نقله أيضًا من مدفنه الأول وفي أيامه وقع إبطال تولية القضاء من الحضرة العلية ونصب قاضياً حنفياً من الحاضرة وقاضياً مالكياً يفصلان ما خف من القضايا ويراسلان بما أشكل عليهما المفتين من المذهبين ويعقد في كل أسبوع مجلساً لفصل تلك القضايا