الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تنبيه:
من أعيان العلماء المعاصرين لهؤلاء الأمراء ابن أبي زيد والقابسي والخشني وابن التبان وابن مسرور ومسرة والجبنياني ومحرز بن خلف.
الطبقة التاسعة
لما توفي باديس بويع لابنه المعز بالمهدية وعمره ثماني حجج وذلك في ذي الحجة سنة 406 هـ وباشرت جدته أمور الدولة إلى أن توفيت وسنذكر خبرها في الخاتمة. والمعز هذا هو واسطة عقد ملوك بني زيري توفرت في أيامه أسباب العز والثروة والعمران وكان حسن السيرة محمود الآثار أديباً مجتنباً سفك الدماء إلا في حق. حديد الذهن. له معرفة بكثير من الصنائع وله شعر جيد محباً للعلماء معظماً لأرباب الفضائل حتى قصدته الشعراء من الآفاق على بُعد الدار يجيز الجوائز السنية ويعطي العطاء الجزيل. ومن شعراء دولته ابن شرف وابن رشيق. هاداه ملوك السودان والروم واستقامت أموره وكانت بإفريقية مذاهب الشيعة والصفرية والأباضية والنكارية والمعتزلة وكانت بها من مذاهب أهل السنة مذهب أبي حنيفة النعمان ومذهب مالك فظهر له حمل الناس على التمسك بمذهب مالك وقطع ما عداه حسماً لمادة الخلاف بالمذاهب واستمر بذلك الحال إلى احتلال العساكر العثمانية إفريقية وسنذكره في محله إن شاء الله. وفي أيامه اشتدت شوكة زناتة وكانت له معهم حروب ثم إن المعز قطع العلائق مع دولة بني عبيد بمصر ودعا وخطب باسم دولة بني العباس ولذلك أضمر بنو عبيد الشر والانتقام منه فوجهوا في سنة 441 هـ قبائل من عرب الصعيد كبني هلال وبني سليم وغيرهم معروفين بالطيش وشدة البطش للتشفي من المعز وإفريقية وانتشروا كالجراد ودخلوا إفريقية وعثوا فيها بالبغي والفساد وأذاقوا أهلها لباس الجوع والخوف بما لم يعهد. قال ابن خلدون: وصارت خراباً كلها بعد أن كانت ما بين السودان والبحر الرومي كلها عمراناً تشهد بذلك آثار العمران فيه من المعالم وتماثيل البناء وشواهد القرى والمدائن. وقال البكري: كان بالقيروان ثمانية وأربعون حماماً وأحصى ما ذبح بالقيروان في بعض أيام عاشوراء خاصة فانتهى تسعمائة وخمسين رأساً من البقر وجباية سواحل القيروان سوسة والمهدية وصفاقس وتونس لبيت المال خاصة غير الدخل والخرج الذي لغير بيت المال ثمانون ألف مثقال من الذهب وفي سنة 452 هـ سبيت القيروان وأخليت ولم يبق فيها إلا ضعفاء أهلها. انتهى. وقال ابن عذاري: كانت القيروان من أعظم مدن المغرب طراً وأكثرها بشراً وأيسرها أموالاً وأوسعها أحوالاً وكان الغالب على أهلها التمسك بالخير والتخلي عن الشبهات واجتناب المحرمات إلى أن توالت
الجوائح عليها بدخول العرب لها على ما يأتي ذكره فلم يبق فيها إلا أطلال دارسة وآثار طامسة، وقال: تولى المعز وهو ابن سبع أو ثمان سنين وتربى في حجر وزيره أبي الحسن بن أبي الرجال وكان عالماً ورعاً زاهداً وكانت إفريقية أكثرها على مذهب الشيعة وخلاف السنة والجماعة فحرض ابن أبي الرجال المعز وأدّبه وأدله على مذهب مالك وعلى السنة والجماعة والشيعة لا يعلمون ذلك ولا أهل القيروان فخرج المعز في بعض الأعياد إلى المصلى وهو في زينته وحشوده وهو غلام فكبا به فرسه فقال عند ذلك أبو بكر وعمر فسمعته الشيعة التي كانت بعسكره فبادروا إليه ليقتلوه فجاءه عبيده ورجاله ومَن كان يكتم السنة من أهل القيروان ووضعوا السيف في الشيعة. قال أبو الصلت: فصاح بهم في ذلك الوقت صائح الموت فقتلوا في سائر بلاد إفريقية ولم يزل المعز يعمل فكره في قطع دعوتهم وفي سنة 440 هـ قطع المعز الخطبة لصاحب مصر. قال ابن شرف: أمر المعز بأن يدعى على منابر إفريقية للعباس بن عبد المطلب وتقطع دعوة العبيديين وأمر بلعنهم في الخطب وسبهم بأشنع السب وأمر بتبديل السكة على أسماء بني عبيد فنقش الوجه الواحد: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85)} وفي الوجه الآخر: "لا إله إلا الله محمَّد رسول الله" وأمر بسبك ما كان عنده من الدنانير التي عليها أسماء بني عبيد وكانت أموالاً عظيمة ثم بعث في الناس من قطع سكتهم وزوال أسمائهم من جميع الدنانير والدراهم وغيرها وتم الأمر بذلك سنة 441 هـ ولما آل الأمر إلى التصريح بلعنة بني عبيد على المنابر وأمر المعز بقتل أشياعهم أباح بنو عبيد للعرب بمجاز النيل وكان قبل ذلك ممنوعاً لا يجوزه أحد من العرب ثم أمر لكل جائز منهم بدينار فجاز منهم خلق عظيم من غير أن بأمرهم بشيء لعلمه أنهم لا يحتاجون لوصية فجازوا أفواجاً ووصلوا إفريقية وكان وصولهم الداعية العظمى والمصيبة الكبرى وبعد حروب وأهوال في أخبار طوال فرّ المعز بما خف إلى المهدية. انتهى ابن عذاري. وقال ابن خلدون: إن ملوك صنهاجة فسدت طباعهم أواسط المائة الخامسة واستمرت لهم الدولة متقلصة الظل بالمهدية حتى تأذن الله بانقراضهم وجاء الموحدون بقوة قوية من المصامدة فمحوا آثارهم انتهى.
وفي المعجب كانت القيروان دار ملك المسلمين بإفريقية منذ الفتح لم يزل الخلفاء من بني أمية وبني العباس يولون عليهم الأمراء من قبلهم إلى أن اضطرب أمر بني العباس واستبد الأغالبة بملك إفريقية بعض الاستبداد فاتخذوا القيروان دار ملكهم فلم يزالوا بها إلى أن أخرجهم عنه ابن وعبيد وملوكها ثم ولوا عليها حين ارتحلوا زيري بن مناد الصنهاجي فلم يزل زيري وبنوه ملوكاً عليها إلى أن كان
آخرهم تميم بن المعز فانتهبتها الأعراب وخربتها وكانت منذ الفتح إلى أن خربت دار العلم بالمغرب إليها ينسب أكابر علمائه وإليها كانت رحلة أهله في طلب العلم وقد ألف الناس في أخبار القيروان ومناقبه. وذكر علمائه ومن كان به من الزهاد والصالحين والفضلاء المتبتلين كتباً مشهورة ككتاب أبي محمَّد بن عبيد وكتاب ابن زيادة الله الطبني فلما استولى عليها الخراب تفرق أهلها في كل ناحية كمصر وصقلية والأندلس ومنهم طائفة عظيمة قصدت المغرب ونزلوا مدينة فاس اهـ باختصار. وفيه كانت العمارة متصلة من مدينة الإسكندرية إلى مدينة القيروان تمشي فيها القوافل ليلاً ونهاراً وكان فيما بين الإسكندرية وطرابلس الغرب حصون متقاربة جداً فإذا ظهر في البحر عدو نوّر كل حصن للحصن الذي يليه واتصل التنوير فينتهي خبر العدو من طرابلس إلى الإسكندرية والعكس في ثلاث ساعات أو أربع من الليل فيأخذ الناس أهبتهم ويحذرون عدوهم ولم يزل هذا معروفاً إلى أن خربت الأعراب تلك الحصون ونفت عنها أهلها أيام خلى بنو عبيد بينهم وبين الطريق للمغرب وذلك في حدود سنة 440 هـ حين تغير ما بينهم وبين المعز الصنهاجي وقطع الدعاء لهم على المنابر ودعا لبني العباس. اهـ. معجب والحاصل أن مقدار ما وصلت إليه القيروان في أوائل ملوك بني زيري ومن قبلهم فوق ما يذكر من الحضارة والتمدن والبهجة والعمران والاستبحار في العلوم والصنائع والتجارة والفلاحة وكثرة الأدباء والشعراء والأطباء والمهندسين فما بالك بغيرهم من الفقهاء والمحدثين من علماء الدين ثم كانت على القيروان الطامة الكبرى التي صيرتها خراباً بهؤلاء الأعراب وانحدرت في تيار الانحطاط السريع وانتقل كرسي ملكها البديع إلى المهدية وتقلص ظل الدولة الصنهاجية المؤذن بالفناء والملك لله الواحد القهار الذي لا يزول ملكه ولا يفنى وصارت مرسح الفتن ومسرح الإحن خالية عن السكان فضلاً على العلماء وآخر علمائها على هذا العهد السيوري والتونسي. ولهاته الأسباب خرج غالب مَن في البلد ومنهم المعز ونجا بنفسه للمهدية بعد مشاق وعاملها يومئذ ابنه تميم فتلقاه بالمبرة والتكريم وبقي بها إلى أن توفي سنة 454 هـ ودفن برباط المنستير وفي معالم الإيمان لم يبق بالقيروان بعد المائة الخامسة من له اعتناء بالتاريخ وغيره لتخريبها على يد المفسدين الأعراب وبقيت على ذلك إلى ظهور دولة الموحدين انتهى. قلت: ورغماً عما حل بها من النوائب فلم يزل بها من المشاهد والمعالم الإِسلامية الخالدة إلى هذا العهد مما لا يوجد بغيرها من بقية مدن إفريقية كجامع سيدنا عقبة العتيق ومنبره البديع الشكل والصنع الوثيق وهذه المعاهد أكسبت شهرة مطبقة بالعالم الأروباوي وبعد الصيت وجميل الذكر في العالم الإِسلامي ولم تجد شيئاً يبقى خالداً إلا الذكر حسناً كان أو قبيحاً.