الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والزجر على معاصي وجنايات لم ينص الشارع فيها على حد معين بل فوّض الأمر في ذلك لرأي الإِمام فليس ذلك من المحادة لله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم في شيء بل فيه استيفاء حق الله تعالى على أتم وجه لما فيه من الزجر على المعاصي وهو أمر مهم للشارع عليه الصلاة والسلام ويرشد إليه ما في تحفة المحتاج للإمام أن يستوفي التعزير إذا عفا صاحب الحق لأن الساقط بالعفو هو حق الآدمي والذي يستوفيه الإِمام هو حق الله تعالى للمصلحة وفي كتاب الخراج لأبي يوسف إشارة إلى ذلك أيضاً ولا يعكر على ذلك ونحوه قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} لأن المراد كماله من حيث تضمنه ما يدل على حكمة الله تعالى خصوصاً أو عموماً ويرشد لهذا عدم النكير على أحد من المجتهدين إذا قال بشيء لم يكن منصوصاً عليه بخصوصه ومن ذلك ما ثبت بالقياس بأقسامه نعم القانون الذي يكون وراء ذلك فإن كان مصادماً لما نطقت به الشريعة الغراء زائغاً عن سنن المحجة البيضاء فيه ما فيه كما لا يخفى على العارف النبيه والآية نزلت في كفار قريش اهـ.
صلة بها أن القرآن هو الحكمة البالغة والحجة الكاملة مع الإبانة عن فضل المعنى الذي به باين سائر الكلام
اعلم أن في آي القرآن العبرة لمن اعتبر، والذكرى لمن اذكر، والبيان لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد. في تفسير الإِمام المفسر المجتهد أبي جعفر محمَّد بن جرير الطبري عند تفسير الفاتحة ما نصه:
مسألة يسأل عنها أهل الإلحاد الطاعنون في القرآن إن سألنا منهم سائل فقال إنك قد قدمت في أول كتابك هذا في وصف البيان بأن أعلاه درجة وأشرفه مرتبة أبلغه في الإبانة عن حاجة المبين به عن نفسه وأبينه عن مراد قائله وأقربه من فهم سامعه. وقلت مع ذلك أن أولى البيان بأن يكون كذلك كلام الله جلّ ثناؤه بفضله على سائر الكلام وبارتفاع درجته على أعلى درجات البيان. فما الوجه إذ كان الأمر على ما وصفت في إطالة الكلام بمثل سورة أم القرآن بسبع آيات وقد حوت معاني جميعها منها آيتان وذلك قوله: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} إذ كان لا شك أن من عرف {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4)} فقد عرفه
بأسمائه الحسنى وصفاته المثلى وأن من كان لله مطيعاً فلا شك أنه لسبيل من أنعم الله عليه في دينه متبع، وعن سبيل من غضب عليه وضلّ معتدل. فما في زيادة الآيات الخمس الباقية من الحكمة التي لم تحوها الآيتان اللتان ذكرنا. قيل له إن الله تعالى جمع لنبينا محمَّد صلى الله عليه وسلم ولأمته بما أنزل إليه من كتابه معاني لم يجمعهن بكتاب أنزله إلى نبي قبله ولا لأمة من الأمم قبلهم وذلك أن كل كتاب أنزله جلّ ذكره على نبي من أنبيائه قبله فإنما أنزله ببعض المعاني التي يحوي جميعها كتابه الذي أنزله إلى نبينا محمَّد صلى الله عليه وسلم كالتوراة التي هي مواعظ وتفصيل والزبور الذي هو تحميد وتمجيد والإنجيل الذي هو مواعظ وتذكير لا معجزة في واحد منها تشهد لمن أنزل إليه بالتصديق والكتاب الذي أنزل على نبينا محمَّد صلى الله عليه وسلم يحوي معاني ذلك كله ويزيد عليه كثيراً من المعاني التي سائر الكتب غيره منها خال وقد قدمنا ذكرها فيما مضى من هذا الكتاب. ومن أشرف تلك المعاني التي فضّل بها كتابنا سائر الكتب قبله نظمه العجيب ووصفه الغريب وتأليفه البديع الذي عجزت عن نظم مثل أصغر سورة منه الخطباء، وكلّت عن وصف شكل بعضه البلغاء، وتحيرت في تأليفه الشعراء، وتبلدت قصوراً عن أن تأتي بمثله لديه أفهام الفهماء. فلم يجدوا له إلا التسليم والإقرار بأنه من عند الواحد القهار مع ما يحوي مع ذلك من المعاني التي هي ترغيب وترهيب وأمر وزجر وقصص وجدل ومثل وما أشبه ذلك من المعاني التي لم تجتمع في كتاب أنزل إلى الأرض من السماء فمهما يكن فيه من إطالة على نحو ما في أم القرآن فلما وصفت قبل من أن الله جلّ ذكره أراد أن يجمع بوصفه العجيب ونظمه الغريب المنعدل على أوزان الأشعار وسجع الكهان وخطب الخطباء ورسائل البلغاء العاجز عن وصف مثله جميع الأنام وعن نظم نظيره كل العباد الدلالة على نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وبما فيه من تحميد وتمجيد ثناء عليه تنبيه للعبادعلى عظمته وسلطانه وقدرته وعظم مملكته ليذكروه بآلائه ويحمدوه على نعمائه فيستحقوا به منه المزيد ويستوجبوا عليه الثواب الجزيل وبما فيه من نعت من أنعم عليه بمعرفته وتفضل عليه بتوفيقه لطاعته تعريف عباده أن كل ما بهم من نعمة في دينهم ودنياهم فمنه ليصرفوا رغبتهم إليه ويبتغوا حاجاتهم من عنده دون ما سواه من الآلهة والانداد وبما فيه من ذكره ما حل بمن عصاه من مثلاته وأنزل بمن خالف أمره من عقوباته ترهيب عباده من ركوب معاصيه والتعرض لما لا قبل لهم به من سخطه فيسلك بهم في النكال والنقمات سبيل من ركب ذلك من الهلاك فذلك وجه إطالة البيان في سورة أم القرآن وفيما كان نظيراً لها من سائر سور القرآن وذلك هو الحكمة البالغة والحجة الكاملة. انتهى.
وقد وصف البيان، في أول كتابه بأبين بيان. ومحل الحاجة منه:
لا شك أن أعلى منازل البيان درجة وأسنى مراتبه مرتبة أبلغه في حاجة المبين نفسه وأبينه عن مراد قائله وأقربه من فهم سامعه فإن تجاوز ذلك المقدار وارتفع عن وسع الأنام وعجز عن أن يأتي بمثله جميع العباد كان حجة وعلماً لرسل الواحد القهار كما كان حجة وعلماً لها إحياء الموتى وإبراء الأبرص وذوي العمى بارتفاع ذلك عن مقادير أعلى منازل طب المتطببين وأرفع مراتب علاج المعالجين إلى ما يعجز عنه جميع العالمين وكالذي كان لها حجة وعلماً قطع مسافة شهرين في الليلة الواحدة بارتفاع ذلك عن وسع الأنام وتعذر مثله على جميع العباد وإن كانوا على قطع القليل من المسافة قادرين واليسير منه فاعلين فإذا كان ما وصفنا من ذلك كالذي وصفنا فبين أن لا بيان أبين ولا حكمة أبلغ ولا منطق أعلى ولا كلام أشرف من بيان ومنطق تحدى به امرؤ قوماً في زمان هم فيه رؤساء صناعة الخطب والبلاغة وقيل الشعر والفصاحة والسجع والكهانة كل خطيب منهم وبليغ وشاعر منهم وفصيح وكل ذي سجع وكهانة فسفه أحلامهم وقصر معقولهم وتبرأ من دينهم ودعا جميعهم إلى اتباعه والقبول منه والتصديق به والإقرار بأنه رسول إليهم من ربهم وأخبرهم أن دلالته على صدق مقالته وحجته على حقيقة نبوته ما أتاهم به من البيان والحكمة والفرقان بلسان مثل ألسنتهم ومنطق موافقة معانيه معاني منطقهم ثم أنبأ جميعهم أنهم عن أن يأتوا بمثل بعضه عجزة ومن المقدرة عليه نقصة فأقر جميعهم بالعجز وأذعنوا له بالتصديق وشهدوا على أنفسهم بالنقص. انتهى من تفسير أبي جعفر بن جرير الطبري.
وفي خلاصة تاريخ العرب أشهر معجزاته صلى الله عليه وسلم القرآن الكريم لاشتهار البلاغة والفصاحة في زمنه عند قريش الذين كانوا يفتخرون بحسن الكلام ويتغالون فيه كما كان إحياء الموتى لعيسى والثعبان لموسى زمن اشتهار السحر والنفس الطيب لداود زمن اشتهار الموسيقى وتلا صلى الله عليه وسلم على عباد الأصنام أول سورة فصلت وبلغ: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا} [فصلت: 9] إلى أن قال: {وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31) نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (32)} [فصلت: 31، 32] وكان من أراد الله هدايته يسمع القرآن فيسلم كعمر رضي الله عنه فإنه توجه بسيفه لقتل النبي صلى الله عليه وسلم فقيل له: لا تفعل لئلا يقتلك بنو عبد مناف ولكن اردع خباباً وأختك وابن عمك سعيد بن زيد فإنهم أسلموا فقصدهم وهم يتلون سورة طه فسكتوا فسألهم عما سمعه فأنكروه فضرب أخته فشجها قائلاً: أريني ما كنتم تقرأونه وخافت على الصحيفة فعاهدها على أن يردها إليها فدفعتها وقرأها وقال ما أحسن هذا وأكرمه، ثم توجه إلى النبي فأسلم اهـ.